الباحث القرآني

فالأسباب التى تقطعت بهم هى العلائق التى بغير الله ولغير الله، تقطعت بهم أحوج ما كانوا إليها، وذلك لأن تلك الغايات لما اضمحلت وبطلت اضمحلت أسبابها وبطلت، فإن الأسباب تبطل ببطلان غاياتها وتضمحل باضمحلالها، وكل شيء هالك إلا وجهه سبحانه، وكل عمل باطل إلا ما أُريد به وجهه. وكل سعى لغيره باطل ومضمحل، وهذا كما يشاهده الناس في الدنيا من اضمحلال السعى والعمل والكد والخدمة التى يفعلها العبد لمتولٍ أو أمير أو صاحب منصب أو مال، فإذا زال ذلك الذي عمل له عدم ذلك العمل وبطل ذلك السعى ولم يبق في يده سوى الحرمان، ولهذا يقول الله تعالى يوم القيامة: "أليس عدلًا مني أني أُولى كل رجل منكم ما كان يتولى في الدنيا". فيتولى عباد الأصنام والأوثان أصنامهم وأوثانهم فتتساقط بهم في النار، ويتولى عابدو الشمس والقمر آلهتهم، فإذا كوِّرت الشمس وانتثرت النجوم اضمحلت تلك العبادة وبطلت وصارت حسرة عليهم: ﴿كَذَلِكَ يُرِيهِمُ اللهُ أعْمالَهم حَسَراتٍ عَلَيْهِمْ وما هُم بِخارِجِينَ مِنَ النّارِ﴾ [البقرة: ١٦٧]، ولهذا كان المشرك من أخسر الناس صفقة وأغبنهم يوم معاده، فإنه يحال على مفلس كل الإفلاس بل على عدم، والموحد حوالته على المليء الكريم، فيا بُعدَ ما بين الحوالتين. قوله تعالى: ﴿وَتقَطّعَتْ بِهِمُ الأسْبابُ﴾ قال عطاء عن ابن عباس رضي الله عنهما: "المودة". وقال مجاهد: "تواصلهم في الدنيا". وقال الضحاك: "يعني تقطعت بهم الأرحام، وتفرقت بهم المنازل في النار". وقال أبو صالح: "الأعمال". والكل حق. فإن الأسباب هى الوُصَل التي كانت بينهم في الدنيا، تقطعت بهم أحوج ما كانوا إليها. وأما أسباب الموحدين المخلصين لله فاتصلت بهم ودام اتصالها بدوام معبودهم ومحبوبهم. فإن السبب تبع لغايته في البقاء والانقطاع. * فصل: [معركة الأتباع والمتبوعين] فهذا حكم الإتباع والمتبوعين المشركين في الضلالة. وأما الأتباع المخالفون لمتبوعيهم، العادلون عن طريقتهم الذين يزعمون أنهم لهم تبع وليسوا متبعين لطريقتهم، فهم المذكورون في قوله تعالى: ﴿إذْ تَبَرَّأ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا ورَأوُا العَذابَ وتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الأسْبابُ وقالَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا لَوْ أنَّ لَنا كَرَّةً فَنَتَبَرَّأ مِنهم كَما تَبَرَّأُوا مِنّا كَذَلِكَ يُرِيهِمُ اللَّهُ أعْمالَهم حَسَراتٍ عَلَيْهِمْ وما هم بِخارِجِينَ مِنَ النّارِ﴾، فهؤلاء المتبوعون كانوا على هدى وأتباعهم ادعوا أنهم كانوا على طريقتهم ومنهاجهم، وهم مخالفون لهم سالكون غير طريقتهم، يزعمون أنهم يحبونهم وأن محبتهم لهم تنفعهم مع مخالفتهم، فيتبرءون منهم يوم القيامة فإنهم اتخدوهم أولياء من دون الله وظنوا أن هذا الاتخاذ ينفعهم. وهذه حال كل من اتخد من دون الله ورسوله وليجة وأولياء، يوالي لهم ويعادي لهم، ويرضى لهم ويغضب لهم فان أعماله كلها باطلة يراها يوم القيامة حسرات عليه مع كثرتها وشدة تعبه فيها ونصبه، إذ لم يجرد موالاته ومعاداته، ومحبته وبغضه، وانتصاره وإيثاره لله ورسوله فأبطل الله عز وجل ذلك العمل كله وقطع تلك الأسباب، فينقطع يوم القيامة كل وصلة ووسيلة ومودة وموالاة كانت لغير الله تعالى، ولا يبقى إلا السبب الواصل بين العبد وربه وهو حظه من الهجرة إليه وإلى رسوله، وتجريد عبادته له وحده ولوازمها من الحب والبغض والعطاء والمنع والموالاة والمعاداة والتقريب والإبعاد وتجريده متابعة رسوله وترك أقوال غيره، وترك ما خالف ما جاء به والإعراض عنه وعدم الاعتناء به وتجريد متابعته تجريدا محضًا بريئًا من شوائب الالتفات إلى غيره، فضلا عن الشركة بينه وبين غيره، فضلا عن تقديم قول غيره عليه. فهذا هو السبب الذي لا ينقطع بصاحبه، وهذه هي النسبة التي بين العبد وبين ربه، وهي نسبة العبودية المحضة وهي آخيته التي يحول ما يحول ثم إليها مرجعة: ؎نقل فؤادك حيث شئت من الهوى ∗∗∗ ما الحب إلا للحبيب الأول ؎كم منزل في الأرض يألفه الفتى ∗∗∗ وحنينه أبدًا لأول منزل وهذه هي النسبة التي تنفع العبد، فلا ينفعه غيرها في الدور الثلاثة: أعني دار الدنيا، ودار البرزخ، ودار القرار، فلا قوام له ولا عيش ولا نعيم ولا فلاح إلا بهذه النسبة. وهي السبب الواصل بين العبد وبين الله ولقد أحسن القائل: ؎إذا تقطع حبل الوصل بينهم ∗∗∗ فللمحبين حبل غير منقطع ؎وإن تصدع شمل القوم بينهم ∗∗∗ فللمحبين شمل غير منصدع والمقصود أن الله سبحانه يقطع يوم القيامة الأسباب والعلق والوصلات التي كانت بين الخلق في الدنيا كلها، ولا يبقى إلا السبب والوصلة التي بين العبد وبين الله فقط وهو سبب العبودية المحضة التي لا وجود لها ولا تحقيق إلا بتجريد متابعة الرسل صلوات الله وسلامه عليهم إذ هذه العبودية إنما جاءت على ألسنتهم وما عرفت إلا بهم ولا سبيل إليها إلا بمتابعتهم وقد قال تعالى: ﴿وَقَدِمْنا إلى ما عَمِلُوا مِن عَمَلٍ فَجَعَلْناهُ هَباءً مَنثُورًا﴾، فهذه هي أعماله التي كانت في الدنيا على غير سنة رسله وطريقتهم ولغير وجهه يجعلها الله هباءًا منثورا. ولا ينتفع منها صاحبها بشيء أصلًا، وهذا من أعظم الحسرات على العبد يوم القيامة: أن يرى سعيه كله ضائعًا لم ينتفع منه بشيء وهو أحوج ما كان العامل إلى عمله، وقد سعد أهل السعي النافع بسعيهم.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب