الباحث القرآني
* (فائدة)
قال ابن القيم - بعد كلام طويل عن تَفْسِيرُ الإمامِ أحْمَدَ - رحمه الله - لِلْفِطْرَةِ وما يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ:
وَأمّا حَدِيثُ ابْنِ عَبّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُما - «فِي الغُلامِ الَّذِي قَتَلَهُ الخَضِرُ: " أنَّهُ طُبِعَ يَوْمَ طُبِعَ كافِرًا» " فَمِثْلُ ذَلِكَ سَواءً.
و" كافِرًا " حالٌ مُقَدَّرَةٌ لا مُقارَنَةٌ، أيْ طُبِعَ مُقَدَّرًا كُفْرُهُ، وإلّا فَهو في حالِ كَوْنِهِ جَنِينًا وطِفْلًا لا يَعْقِلُ كُفْرًا ولا إيمانًا.
فَإنْ قِيلَ: فَإذا كانَ هَكَذا فَلِمَ قَتَلَهُ الخَضِرُ؟ فالجَوابُ ما قالَهُ لِمُوسى: ﴿وَما فَعَلْتُهُ عَنْ أمْرِي﴾ [الكهف: ٨٢]، فاللَّهُ تَعالى أمَرَهُ بِقَتْلِ ذَلِكَ الغُلامِ لِمَصْلَحَةٍ، وأمَرَ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ بِالكَفِّ عَنْ قَتْلِ النِّساءِ، والذُّرِّيَّةِ لِمَصْلَحَةٍ، فَكانَ في كُلِّ ما أمَرَ بِهِ مَصْلَحَةٌ، وحِكْمَةٌ ورَحْمَةٌ يَشْهَدُها أُولُو الألْبابِ.
ثم قال:
وَأمّا قَوْلُهُ: " إنَّ الغُلامَ الَّذِي قَتَلَهُ الخَضِرُ طُبِعَ يَوْمَ طُبِعَ كافِرًا "، فالمُرادُ بِهِ كُتِبَ وخُتِمَ، ولَفْظُ الطَّبْعِ لَمّا كانَ يَسْتَعْمِلُهُ كَثِيرٌ مِنَ النّاسِ في الطَّبِيعَةِ الَّتِي هي بِمَعْنى الجِبِلَّةِ والخَلِيقَةِ ظَنَّ الظّانُّ أنَّ هَذا مُرادُ الحَدِيثِ.
وَهَذا الغُلامُ الَّذِي قَتَلَهُ الخَضِرُ يَحْتَمِلُ أنَّهُ كانَ بالِغًا مُطْلَقًا، وسُمِّيَ " غُلامًا " لِقُرْبِ عَهْدِهِ بِالبُلُوغِ، وعَلى هَذا فَلا إشْكالَ فِيهِ، ويُحْتَمَلُ أنْ يَكُونَ مُمَيِّزًا عاقِلًا، وإنْ لَمْ يَكُنْ بالِغًا، وعَلَيْهِ يَدُلُّ الحَدِيثُ، وهو قَوْلُهُ: " ولَوْ أدْرَكَ لَأرْهَقَ أبَوَيْهِ "، وعَلى هَذا فَلا يَمْتَنِعُ أنْ يَكُونَ مُكَلَّفًا في تِلْكَ الشَّرِيعَةِ إذِ اشْتِراطُ البُلُوغِ في التَّكْلِيفِ إنَّما عِلْمٌ بِشَرِيعَتِنا، ولا يَمْتَنِعُ تَكْلِيفُ المُراهِقِ العاقِلِ عَقْلًا، كَيْفَ وقَدْ قالَ جَماعَةٌ مِنَ العُلَماءِ: إنَّ المُمَيِّزِينَ يُكَلَّفُونَ بِالإيمانِ قَبْلَ الِاحْتِلامِ؟ كَما قالَتْ طائِفَةٌ مِن أصْحابِ أبِي حَنِيفَةَ، وأحْمَدَ، وهو اخْتِيارُ أبِي الخَطّابِ، وعَلَيْهِ جَماعَةٌ مِن أهْلِ الكَلامِ.
وَعَلى هَذا فَيُمْكِنُ أنْ يَكُونَ هَذا الغُلامُ مُكَلَّفًا بِالإيمانِ قَبْلَ البُلُوغِ، ولَوْ لَمْ يَكُنْ مُكَلَّفًا بِشَرائِعِهِ، فَكُفْرُ الصَّبِيِّ المُمَيِّزِ مُعْتَبَرٌ عِنْدَ أكْثَرِ العُلَماءِ، فَإذا ارْتَدَّ عِنْدَهم صارَ مُرْتَدًّا لَهُ أحْكامُ المُرْتَدِّينَ، وإنْ كانَ لا يُقْتَلُ حَتّى يَبْلُغَ فَيَثْبُتُ عَلَيْهِ كُفْرُهُ، واتَّفَقُوا عَلى أنَّهُ يُضْرَبُ، ويُؤَدَّبُ عَلى كُفْرِهِ أعْظَمَ مِمّا يُؤَدَّبُ عَلى تَرْكِ الصَّلاةِ، فَإنْ كانَ الغُلامُ الَّذِي قَتَلَهُ الخَضِرُ بالِغًا فَلا إشْكالَ، وإنْ كانَ مُراهِقًا غَيْرَ بالِغٍ فَقَتْلُهُ جائِزٌ في تِلْكَ الشَّرِيعَةِ لِأنَّهُ قَتَلَهُ بِأمْرِ اللَّهِ، كَيْفَ وهو إنَّما قَتَلَهُ دَفْعًا لِصَوْلِهِ عَلى أبَوَيْهِ في الدِّينِ؟ كَما قالَ: ﴿فَخَشِينا أنْ يُرْهِقَهُما طُغْيانًا وكُفْرًا﴾ [الكهف: ٨٠]، والصَّبِيُّ لَوْ صالَ عَلى المُسْلِمِ في بَدَنِهِ، أوْ مالِهِ ولَمْ يَنْدَفِعْ صِيالُهُ لِلْمُسْلِمِ إلّا بِقَتْلِهِ جازَ قَتْلُهُ، بَلِ الصَّبِيُّ إذا قاتَلَ المُسْلِمِينَ قُتِلَ، ولَكِنْ مِن أيْنَ يُعْلَمُ أنَّ هَذا الصَّبِيَّ اليَوْمَ يَصُولُ عَلى أبَوَيْهِ، أوْ غَيْرِهِما في دِينِهِما حَتّى يَفْتِنَهُما عَنْهُ؟ فَإنَّ هَذا غَيْبٌ لا سَبِيلَ لَنا إلى العِلْمِ بِهِ، ولِهَذا عَلَّقَ ابْنُ عَبّاسٍ الفُتْيا بِهِ فَقالَ لِنَجْدَةَ لَمّا اسْتَفْتاهُ في قَتْلِ الغِلْمانِ:
" إنْ عَلِمْتَ مِنهم ما عَلِمَ الخَضِرُ مِن ذَلِكَ الغُلامِ فاقْتُلْهُمْ، وإلّا فَلا "
رَواهُ مُسْلِمٌ في " صَحِيحِهِ ".
وَلَكِنْ يُقالُ: قاعِدَةُ الشَّرْعِ، والجَزاءِ أنَّ اللَّهَ سُبْحانَهُ لا يُعاقِبُ العِبادَ بِما سَيَعْلَمُ أنَّهم يَفْعَلُونَهُ، بَلْ لا يُعاقِبُهم إلّا بَعْدَ فِعْلِهِمْ ما يَعْلَمُونَ أنَّهُ نَهى عَنْهُ وتَقَدَّمَ إلَيْهِمْ بِالوَعِيدِ عَلى فِعْلِهِ، ولَيْسَ في قِصَّةِ الخَضِرِ شَيْءٌ مِن الِاطِّلاعِ عَلى الغَيْبِ الَّذِي لا يَعْلَمُهُ إلّا اللَّهُ، وإنَّما فِيها عِلْمُهُ بِأسْبابٍ تَقْتَضِي أحْكامَها، ولَمْ يَعْلَمْ مُوسى تِلْكَ الأسْبابَ مَثْلَ: عِلْمِهِ بِأنَّ السَّفِينَةَ كانَتْ لِمَساكِينَ، وأنَّ وراءَهم مَلِكًا ظالِمًا إنْ رَآها أخَذَها فَكانَ قَلْعُ لَوْحٍ مِنها لِتَسْلَمَ جَمِيعُها، ثُمَّ يُعِيدُهُ مِن أحْسَنِ الأحْكامِ، وهو مِن دَفْعِ أعْظَمِ الشَّرَّيْنِ بِاحْتِمالِ أيْسَرِهِما، وعَلى هَذا، فَإذا رَأى إنْسانٌ ظالِمًا يَسْتَأْصِلُ مالَ مُسْلِمٍ غائِبٍ فَدَفَعَهُ عَنْهُ بِبَعْضِهِ كانَ مُحْسِنًا، ولَمْ يَلْزَمْهُ ضَمانُ ما دَفَعَهُ إلى الظّالِمِ قَطْعًا، فَإنَّهُ مُحْسِنٌ وما عَلى المُحْسِنِينَ مِن سَبِيلٍ، وكَذَلِكَ لَوْ رَأى حَيَوانًا مَأْكُولًا لِغَيْرِهِ يَمُوتُ، فَذَكّاهُ لَكانَ مُحْسِنًا، ولَمْ يَلْزَمْهُ ضَمانُهُ، كَذَلِكَ كَوْنُ الجِدارِ لِغُلامَيْنِ يَتِيمَيْنِ، وأبُوهُما كانَ صالِحًا، أمْرٌ يَعْلَمُهُ النّاسُ، ولَكِنْ خَفِيَ عَلى مُوسى، وكَذَلِكَ كُفْرُ الصَّبِيِّ يُمْكِنُ أنْ يَعْلَمَهُ النّاسُ حَتّى أبَواهُ، ولَكِنْ لِحُبِّهِما إيّاهُ لا يُنْكِرانِ عَلَيْهِ، ولا يَقْبَلُ مِنهُما، وإذا كانَ الأمْرُ كَذَلِكَ فَلَيْسَ في الآيَةِ حُجَّةٌ عَلى أنَّهُ قُتِلَ لِما يُتَوَقَّعُ مِن كُفْرِهِ، ولَوْ قُدِّرَ أنَّ ذَلِكَ الغُلامَ لَمْ يَكْفُرْ أصْلًا، ولَكِنْ سَبَقَ في عِلْمِ اللَّهِ أنَّهُ إذا بَلَغَ يَكْفُرُ وأطْلَعَ اللَّهُ الخَضِرَ عَلى ذَلِكَ.
فَقَدْ يَقُولُ القائِلُ: قَتَلَهُ بِالفِعْلِ كَقَتْلِ نُوحٍ لِأطْفالِ الكُفّارِ بِالدَّعْوَةِ المُسْتَجابَةِ الَّتِي أغْرَقَتْ أهْلَ الأرْضِ لَمّا عَلِمَ أنَّ آباءَهم لا يَلِدُونَ إلّا فاجِرًا كَفّارًا، فَدَعا عَلَيْهِمْ بِالهَلاكِ العامِّ دَفْعًا لِشَرِّ أطْفالِهِمْ في المُسْتَقْبَلِ.
وَقَوْلُهُ: ﴿وَلا يَلِدُوا إلّا فاجِرًا كَفّارًا﴾ لا يُنافِي كَوْنَهم مَوْلُودِينَ عَلى الفِطْرَةِ الصَّحِيحَةِ، فَإنَّ قَوْلَهُ " ﴿فاجِرًا كَفّارًا﴾ " حالانِ مُقَدَّرَتانِ أيْ مَن سَيَفْجُرُ ويَكْفُرُ.
{"ayahs_start":80,"ayahs":["وَأَمَّا ٱلۡغُلَـٰمُ فَكَانَ أَبَوَاهُ مُؤۡمِنَیۡنِ فَخَشِینَاۤ أَن یُرۡهِقَهُمَا طُغۡیَـٰنࣰا وَكُفۡرࣰا","فَأَرَدۡنَاۤ أَن یُبۡدِلَهُمَا رَبُّهُمَا خَیۡرࣰا مِّنۡهُ زَكَوٰةࣰ وَأَقۡرَبَ رُحۡمࣰا"],"ayah":"وَأَمَّا ٱلۡغُلَـٰمُ فَكَانَ أَبَوَاهُ مُؤۡمِنَیۡنِ فَخَشِینَاۤ أَن یُرۡهِقَهُمَا طُغۡیَـٰنࣰا وَكُفۡرࣰا"}
- أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.
أمّهات
جامع البيان
تفسير الطبري
نحو ٢٨ مجلدًا
تفسير القرآن العظيم
تفسير ابن كثير
نحو ١٩ مجلدًا
الجامع لأحكام القرآن
تفسير القرطبي
نحو ٢٤ مجلدًا
معالم التنزيل
تفسير البغوي
نحو ١١ مجلدًا
جمع الأقوال
منتقاة
عامّة
عامّة
فتح البيان
فتح البيان للقنوجي
نحو ١٢ مجلدًا
فتح القدير
فتح القدير للشوكاني
نحو ١١ مجلدًا
التسهيل لعلوم التنزيل
تفسير ابن جزي
نحو ٣ مجلدات
موسوعات
أخرى
لغة وبلاغة
معاصرة
الميسر
نحو مجلد
المختصر
المختصر في التفسير
نحو مجلد
تيسير الكريم الرحمن
تفسير السعدي
نحو ٤ مجلدات
أيسر التفاسير
نحو ٣ مجلدات
القرآن – تدبّر وعمل
القرآن – تدبر وعمل
نحو ٣ مجلدات
تفسير القرآن الكريم
تفسير ابن عثيمين
نحو ١٥ مجلدًا
مركَّزة العبارة
تفسير الجلالين
نحو مجلد
جامع البيان
جامع البيان للإيجي
نحو ٣ مجلدات
أنوار التنزيل
تفسير البيضاوي
نحو ٣ مجلدات
مدارك التنزيل
تفسير النسفي
نحو ٣ مجلدات
الوجيز
الوجيز للواحدي
نحو مجلد
تفسير القرآن العزيز
تفسير ابن أبي زمنين
نحو مجلدين
آثار
غريب ومعاني
السراج في بيان غريب القرآن
غريب القرآن للخضيري
نحو مجلد
الميسر في غريب القرآن الكريم
الميسر في الغريب
نحو مجلد
تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن قتيبة
نحو مجلد
التبيان في تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن الهائم
نحو مجلد
معاني القرآن وإعرابه
معاني الزجاج
نحو ٤ مجلدات
معاني القرآن
معاني القرآن للنحاس
نحو مجلدين
معاني القرآن
معاني القرآن للفراء
نحو مجلدين
مجاز القرآن
مجاز القرآن لمعمر بن المثنى
نحو مجلد
معاني القرآن
معاني القرآن للأخفش
نحو مجلد
أسباب النزول
إعراب ولغة
الإعراب الميسر
نحو ٣ مجلدات
إعراب القرآن
إعراب القرآن للدعاس
نحو ٤ مجلدات
الجدول في إعراب القرآن وصرفه وبيانه
الجدول في إعراب القرآن
نحو ٨ مجلدات
الدر المصون
الدر المصون للسمين الحلبي
نحو ١٠ مجلدات
اللباب
اللباب في علوم الكتاب
نحو ٢٤ مجلدًا
إعراب القرآن وبيانه
إعراب القرآن للدرويش
نحو ٩ مجلدات
المجتبى من مشكل إعراب القرآن
مجتبى مشكل إعراب القرآن
نحو مجلد
إعراب القرآن
إعراب القرآن للنحاس
نحو ٣ مجلدات
تحليل كلمات القرآن
نحو ٩ مجلدات
الإعراب المرسوم
نحو ٣ مجلدات
المجمّع
بالرسم الجديد
بالرسم القديم
حفص عن عاصم
شُعْبة عن عاصم
قالون عن نافع
ورش عن نافع
البَزِّي عن ابن كثير
قُنبُل عن ابن كثير
الدُّوري عن أبي عمرو
السُّوسِي عن أبي عمرو
نستعليق