الباحث القرآني
* [فَصْلٌ: مَنزِلَةُ الوَجْدِ]
وَمِن مَنازِلِ " إيّاكَ نَعْبُدُ وإيّاكَ نَسْتَعِينُ " مَنزِلَةُ الوَجْدِ
ثَبَتَ في الصَّحِيحَيْنِ مِن حَدِيثِ أنَسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عَنِ النَّبِيِّ ﷺ أنَّهُ قالَ «ثَلاثٌ مَن كُنَّ فِيهِ وجَدَ بِهِنَّ حَلاوَةَ الإيمانِ: أنْ يَكُونَ اللَّهُ ورَسُولُهُ أحَبَّ إلَيْهِ مِمّا سِواهُما. وأنْ يُحِبَّ المَرْءَ لا يُحِبُّهُ إلّا لِلَّهِ. وأنْ يَكْرَهَ أنْ يَعُودَ في الكُفْرِ - بَعْدَ إذْ أنْقَذَهُ اللَّهُ مِنهُ - كَما يَكْرَهُ أنْ يُلْقى في النّارِ».
وَقَدِ اسْتَشْهَدَ صاحِبُ المَنازِلِ بِقَوْلِهِ تَعالى في أهْلِ الكَهْفِ ﴿وَرَبَطْنا عَلى قُلُوبِهِمْ إذْ قامُوا فَقالُوا رَبُّنا رَبُّ السَّماواتِ والأرْضِ لَنْ نَدْعُوَ مِن دُونِهِ إلَهًا لَقَدْ قُلْنا إذًا شَطَطًا﴾ [الكهف: ١٤]
وَهَذا مِن أحْسَنِ الِاسْتِدْلالِ والِاسْتِشْهادِ. فَإنَّ هَؤُلاءِ كانُوا بَيْنَ قَوْمِهِمُ الكُفّارِ في خِدْمَةِ مَلِكِهِمُ الكافِرِ. فَما هو إلّا أنْ وجَدُوا حَقِيقَةَ الإيمانِ والتَّوْفِيقِ. وذاقُوا حَلاوَتَهُ. وباشَرَ قُلُوبَهم. فَقامُوا مِن بَيْنِ قَوْمِهِمْ، وقالُوا: ﴿رَبُّنا رَبُّ السَّماواتِ والأرْضِ﴾ [الكهف: ١٤] الآيَةَ.
والرَّبْطُ عَلى قُلُوبِهِمْ: يَتَضَمَّنُ الشَّدَّ عَلَيْها بِالصَّبْرِ والتَّثْبِيتِ، وتَقْوِيَتَها وتَأْيِيدَها بِنُورِ الإيمانِ، حَتّى صَبَرُوا عَلى هِجْرانِ دارِ قَوْمِهِمْ، ومُفارَقَةِ ما كانُوا فِيهِ مِن خَفْضِ العَيْشِ. وفَرُّوا بِدِينِهِمْ إلى الكَهْفِ.
والرَّبْطُ عَلى القَلْبِ: عَكْسُ الخِذْلانِ. فالخِذْلانُ حَلَّهُ مِن رِباطِ التَّوْفِيقِ. فَيَغْفُلُ عَنْ ذِكْرِ رَبِّهِ. ويَتَّبِعُ هَواهُ، ويَصِيرُ أمْرُهُ فُرُطا.
والرَّبْطُ عَلى القَلْبِ: شَدُّهُ بِرِباطِ التَّوْفِيقِ. فَيَتَّصِلُ بِذِكْرِ رَبِّهِ. ويَتَّبِعُ مَرْضاتَهُ. ويَجْتَمِعُ عَلَيْهِ شَمْلُهُ. فَلِهَذا اسْتَشْهَدَ عَلَيْهِ بِهَذِهِ الآيَةِ في مَقامِ الوَجْدِ.
والشَّيْخُ جَعَلَ مَقامَ الوَجْدِ غَيْرَ مَقامِ الوُجُودِ كَما سَيَأْتِي إنْ شاءَ اللَّهُ تَعالى، فَإنَّ الوُجُودَ عِنْدَ القَوْمِ هو الظَّفَرُ بِحَقِيقَةِ الشَّيْءِ. والوَجْدُ هو ما يُصادِفُ القَلْبَ، ويَرِدُ عَلَيْهِ مِن وارِداتِ المَحَبَّةِ والشَّوْقِ، والإجْلالِ والتَّعْظِيمِ، وتَوابِعِ ذَلِكَ.
والمَواجِيدُ عِنْدَهم فَوْقَ الوَجْدِ. فَإنَّ الوَجْدَ مُصادَفَةٌ. والمَواجِيدَ ثَمَراتُ الأوْرادِ. وكُلَّما كَثُرَتِ الأوْرادُ قَوِيَتِ المَواجِيدُ.
و" الوُجُودُ " عِنْدَهم فَوْقَ ذَلِكَ. وهو الظَّفَرُ بِحَقِيقَةِ المَطْلُوبِ، ولا يَكُونُ إلّا بَعْدَ خُمُودِ البَشَرِيَّةِ. وانْسِلاخِ أحْكامِ النَّفْسِ انْسِلاخًا كُلِّيًّا.
قالَ الجُنَيْدُ: عِلْمُ التَّوْحِيدِ مُبايِنٌ لِوُجُودِهِ، ووُجُودُهُ مُبايِنٌ لِعِلْمِهِ.
وَلا يُرِيدُ بِالمُبايَنَةِ: المُخالَفَةَ والمُناقَضَةَ. فَإنَّهُ يُطابِقُهُ مُطابَقَةَ العِلْمِ لِلْمَعْلُومِ.
وَإنَّما يُرِيدُ بِالمُبايَنَةِ: أنَّ حالَ المُوَحِّدِ وذَوْقَهُ لِلتَّوْحِيدِ، وانْصِباغَ قَلْبِهِ بِحالِهِ: أمْرٌ وراءَ عِلْمِهِ بِهِ، ومَعْرِفَتِهِ بِهِ. والمُبايَنَةُ بَيْنَهُما كالمُبايَنَةِ بَيْنَ عِلْمِ الشَّوْقِ والتَّوَكُّلِ والخَوْفِ ونَحْوِها، وبَيْنَ حَقائِقِها ومَواجِيدِها.
فالمَراتِبُ أرْبَعَةٌ. أضْعَفُها التَّواجُدُ وهو نَوْعُ تَكَلُّفٍ وتَعَمُّلٍ واسْتِدْعاءٍ.
واخْتَلَفُوا فِيهِ: هَلْ يُسَلَّمُ لِصاحِبِهِ أمْ لا؟ عَلى قَوْلَيْنِ.
فَطائِفَةٌ قالَتْ: لا يُسَلَّمُ لِصاحِبِهِ. ويُنْكَرُ عَلَيْهِ، لِما فِيهِ مِنَ التَّكَلُّفِ والتَّصَنُّعِ المُبايِنِ لِطَرِيقِ الصّادِقِينَ. وبِناءُ هَذا الأمْرِ عَلى الصِّدْقِ المَحْضِ.
وَطائِفَةٌ قالَتْ: يُسَلَّمُ لِصاحِبِهِ إذا كانَ قَصْدُهُ اسْتِدْعاءَ الحَقِيقَةِ، لا التَّشَبُّهَ بِأهْلِها. واحْتَجُّوا «بِقَوْلِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وقَدْ رَأى رَسُولَ اللَّهِ ﷺ وأبا بَكْرٍ يَبْكِيانِ في شَأْنِ أُسارى بَدْرٍ، وما قَبِلُوا مِنهم مِنَ الفِداءَ: أخْبِرانِي ما يُبْكِيكُما؟ فَإنْ وجَدْتُ بُكاءً بِكَيْتُ، وإلّا تَباكَيْتُ». ورَوَوْا أثَرًا «ابْكُوا؛ فَإنْ لَمْ تَبْكُوا فَتَباكَوْا».
قالُوا: والتَّكَلُّفُ والتَّعَمُّلُ في أوائِلِ السَّيْرِ والسُّلُوكِ لا بُدَّ مِنهُ. إذْ لا يُطالَبُ صاحِبُهُ بِما يُطالَبُ بِهِ صاحِبُ الحالِ. ومَن تَأمَّلَهُ بِنِيَّةِ حُصُولِ الحَقِيقَةِ لِمَن رَصَدَ الوَجْدَ لا يُذَمُّ. والتَّواجُدُ يَكُونُ بِما يَتَكَلَّفُهُ العَبْدُ مِن حَرَكاتٍ ظاهِرَةٍ " والمَواجِيدُ " لِمَن يَتَأوَّلُهُ مِن أحْكامٍ باطِنَةٍ.
المَرْتَبَةُ الثّانِيَةُ: المَواجِيدُ، وهي نَتائِجُ الأوْرادِ وثَمَرَتُها.
المَرْتَبَةُ الثّالِثَةُ: الوَجْدُ وهو ثَمَرَةُ أعْمالِ القُلُوبِ، مِنَ الحُبِّ في اللَّهِ والبُغْضِ فِيهِ، كَما جَعَلَهُ النَّبِيُّ ﷺ ثَمَرَةَ كَوْنِ اللَّهِ ورَسُولِهِ أحَبَّ إلى العَبْدِ مِمّا سِواهُما. وثَمَرَةَ الحُبِّ فِيهِ، وكَراهَةَ عَوْدِهِ في الكُفْرِ كَما يَكْرَهُ أنْ يُقْذَفَ في النّارِ. فَهَذا الوَجْدُ ثَمَرَةُ هَذِهِ الأعْمالِ القَلْبِيَّةِ، الَّتِي هي الحُبُّ في اللَّهِ والبُغْضُ في اللَّهِ.
المَرْتَبَةُ الرّابِعَةُ: الوُجُودُ وهي أعْلى ذُرْوَةِ مَقامِ الإحْسانِ. فَمِن مَقامِ الإحْسانِ يَرْقى إلَيْهِ. فَإنَّهُ إذا غَلَبَ عَلى قَلْبِهِ مُشاهَدَةُ مَعْبُودِهِ، حَتّى كَأنَّهُ يَراهُ - وتَمَكَّنَ في ذَلِكَ - صارَ لَهُ مَلَكَةً أخْمَدَتْ أحْكامَ نَفْسِهِ، وتَبَدَّلَ بِها أحْكامًا أُخَرَ، وطَبِيعَةً ثانِيَةً، حَتّى كَأنَّهُ أُنْشِئَ نَشْأةً أُخْرى غَيْرَ نَشْأتِهِ الأُولى، ووُلِدَ وِلادًا جَدِيدًا.
وَمِمّا يُذْكَرُ عَنِ المَسِيحِ عَلَيْهِ السَّلامُ أنَّهُ قالَ: يا بَنِي إسْرائِيلَ، لَنْ تَلِجُوا مَلَكُوتَ السَّماءِ حَتّى تُولَدُوا مَرَّتَيْنِ.
سَمِعْتُ شَيْخَ الإسْلامِ ابْنَ تَيْمِيَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ يَذْكُرُ ذَلِكَ. ويُفَسِّرُهُ بِأنَّ الوِلادَةَ نَوْعانِ. أحَدُهُما: هَذِهِ المَعْرُوفَةُ، والثّانِيَةُ: وِلادَةُ القَلْبِ والرُّوحِ وخُرُوجُهُما مِن مَشِيمَةِ النَّفْسِ، وظُلْمَةِ الطَّبْعِ.
قالَ: وهَذِهِ الوِلادَةُ لَمّا كانَتْ بِسَبَبِ الرَّسُولِ كانَ كالأبِ لِلْمُؤْمِنِينَ، وقَدْ قَرَأ أُبَيُّ بْنُ كَعْبٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - " النَّبِيُّ أوْلى بِالمُؤْمِنِينَ مِن أنْفُسِهِمْ وهو أبٌ لَهم ".
قالَ: ومَعْنى هَذِهِ الآيَةِ والقِراءَةِ في قَوْلِهِ تَعالى ﴿وَأزْواجُهُ أُمَّهاتُهُمْ﴾ [الأحزاب: ٦] إذْ ثُبُوتُ أُمُومَةِ أزْواجِهِ لَهُمْ: فَرْعٌ عَنْ ثُبُوتِ أُبُوَّتِهِ.
قالَ: فالشَّيْخُ والمُعَلِّمُ والمُؤَدِّبُ أبُ الرُّوحِ. والوالِدُ أبُ الجِسْمِ.
وَيُقالُ في الحُبِّ وجْدٌ، وفي الغَضَبِ مُوْجِدَةٌ، وفي الظَّفَرِ وِجْدانٌ ووُجُودٌ.
{"ayah":"وَرَبَطۡنَا عَلَىٰ قُلُوبِهِمۡ إِذۡ قَامُوا۟ فَقَالُوا۟ رَبُّنَا رَبُّ ٱلسَّمَـٰوَ ٰتِ وَٱلۡأَرۡضِ لَن نَّدۡعُوَا۟ مِن دُونِهِۦۤ إِلَـٰهࣰاۖ لَّقَدۡ قُلۡنَاۤ إِذࣰا شَطَطًا"}
- أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.
أمّهات
جامع البيان
تفسير الطبري
نحو ٢٨ مجلدًا
تفسير القرآن العظيم
تفسير ابن كثير
نحو ١٩ مجلدًا
الجامع لأحكام القرآن
تفسير القرطبي
نحو ٢٤ مجلدًا
معالم التنزيل
تفسير البغوي
نحو ١١ مجلدًا
جمع الأقوال
منتقاة
عامّة
عامّة
فتح البيان
فتح البيان للقنوجي
نحو ١٢ مجلدًا
فتح القدير
فتح القدير للشوكاني
نحو ١١ مجلدًا
التسهيل لعلوم التنزيل
تفسير ابن جزي
نحو ٣ مجلدات
موسوعات
أخرى
لغة وبلاغة
معاصرة
الميسر
نحو مجلد
المختصر
المختصر في التفسير
نحو مجلد
تيسير الكريم الرحمن
تفسير السعدي
نحو ٤ مجلدات
أيسر التفاسير
نحو ٣ مجلدات
القرآن – تدبّر وعمل
القرآن – تدبر وعمل
نحو ٣ مجلدات
تفسير القرآن الكريم
تفسير ابن عثيمين
نحو ١٥ مجلدًا
مركَّزة العبارة
تفسير الجلالين
نحو مجلد
جامع البيان
جامع البيان للإيجي
نحو ٣ مجلدات
أنوار التنزيل
تفسير البيضاوي
نحو ٣ مجلدات
مدارك التنزيل
تفسير النسفي
نحو ٣ مجلدات
الوجيز
الوجيز للواحدي
نحو مجلد
تفسير القرآن العزيز
تفسير ابن أبي زمنين
نحو مجلدين
آثار
غريب ومعاني
السراج في بيان غريب القرآن
غريب القرآن للخضيري
نحو مجلد
الميسر في غريب القرآن الكريم
الميسر في الغريب
نحو مجلد
تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن قتيبة
نحو مجلد
التبيان في تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن الهائم
نحو مجلد
معاني القرآن وإعرابه
معاني الزجاج
نحو ٤ مجلدات
معاني القرآن
معاني القرآن للنحاس
نحو مجلدين
معاني القرآن
معاني القرآن للفراء
نحو مجلدين
مجاز القرآن
مجاز القرآن لمعمر بن المثنى
نحو مجلد
معاني القرآن
معاني القرآن للأخفش
نحو مجلد
أسباب النزول
إعراب ولغة
الإعراب الميسر
نحو ٣ مجلدات
إعراب القرآن
إعراب القرآن للدعاس
نحو ٤ مجلدات
الجدول في إعراب القرآن وصرفه وبيانه
الجدول في إعراب القرآن
نحو ٨ مجلدات
الدر المصون
الدر المصون للسمين الحلبي
نحو ١٠ مجلدات
اللباب
اللباب في علوم الكتاب
نحو ٢٤ مجلدًا
إعراب القرآن وبيانه
إعراب القرآن للدرويش
نحو ٩ مجلدات
المجتبى من مشكل إعراب القرآن
مجتبى مشكل إعراب القرآن
نحو مجلد
إعراب القرآن
إعراب القرآن للنحاس
نحو ٣ مجلدات
تحليل كلمات القرآن
نحو ٩ مجلدات
الإعراب المرسوم
نحو ٣ مجلدات
المجمّع
بالرسم الجديد
بالرسم القديم
حفص عن عاصم
شُعْبة عن عاصم
قالون عن نافع
ورش عن نافع
البَزِّي عن ابن كثير
قُنبُل عن ابن كثير
الدُّوري عن أبي عمرو
السُّوسِي عن أبي عمرو
نستعليق