الباحث القرآني

{قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكم بِالأخْسَرِينَ أعْمالًا (١٠٣) الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهم في الحَياةِ الدُّنْيا وهم يَحْسَبُونَ أنَّهم يُحْسِنُونَ صُنْعًا (١٠٤) * [فصل: الفرق بين الثقة والغرّة] والفرق بين الثقة والغرة: إن الثقة سكون يستند إلى أدلة وأمارات يسكن القلب إليها فكلما قويت تلك الأمارات قويت واستحكمت ولا سيما على كثرة التجارب وصدق الفراسة واللفظة كأنها واللّه أعلم من الوثاق وهو الرباط فالقلب قد ارتبط بمن وثق به توكلا عليه وحسن ظن به فصار في وثاق محبته ومعاملته والاستناد إليه والاعتماد عليه فهو في وثاقه بقلبه وروحه وبدنه فإذا سار القلب إلى اللّه وانقطع إليه تقيد بحبه وصار في وثاق العبودية فلم يبق له مفزع في النوائب ولا ملجأ غيره ويصير عدته وشدته وذخيرته في نوائبه وملجأه في نوازله ومستعانه في حوائجه وضروراته. وأما الغرة: فهي حال المغتر الذي غرته نفس وشيطانه وهواه وأمله الخائب الكاذب بربه حتى اتبع نفسه هواها وتمنى على اللّه الأماني والغرور ثقتك بمن لا يوثق به وسكونك إلى من لا يسكن رجاؤك النفع من المحل الذي لا يأتي بخير كحال المغتر بالسراب قال تعالى: ﴿والَّذِينَ كَفَرُوا أعْمالُهم كَسَرابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ ماءً حَتّى إذا جاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئًا ووَجَدَ اللَّهَ عِنْدَهُ فَوَفّاهُ حِسابَهُ واللَّهُ سَرِيعُ الحِسابِ﴾ وقال تعالى في وصف المغترين: ﴿قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكم بِالأخْسَرِينَ أعْمالًا الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهم في الحَياةِ الدُّنْيا وهم يَحْسَبُونَ أنَّهم يُحْسِنُونَ صُنْعًا﴾ وهؤلاء إذا انكشف الغطاء وثبتت حقائق الأمور علموا أنهم لم يكونوا على شيء: ﴿وَبَدا لَهم مِنَ اللَّهِ ما لَمْ يَكُونُوا يَحْتَسِبُونَ﴾ وفي أثر معروف إذا رأيت اللّه سبحانه يزيدك من نعمه وأنت مقيم على معصيته فاحذره فإنما هو استدراج يستدرجك به. وشاهد هذا القرآن في قوله تعالى: ﴿فَلَمّا نَسُوا ما ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنا عَلَيْهِمْ أبْوابَ كُلِّ شَيْ ءٍ حَتّى إذا فَرِحُوا بِما أُوتُوا أخَذْناهم بَغْتَةً فَإذا هم مُبْلِسُونَ﴾ وهذا من أعظم الغرة أن تراه يتابع عليك نعمة وأنت مقيم على ما يكره فالشيطان موكل بالغرور، وطبع النفس الأمّارة الاغترار فإذا اجتمع الرأي والبغي والرأي المحتاج والشيطان الغرور والنفس المغترة لم يقع هناك خلاف، فالشياطين غروا المغترين باللّه وأطمعوهم مع إقامتهم على ما يسخط اللّه ويغضبه في عفوه وتجاوزه وحدثوهم بالتوبة لتسكن قلوبهم ثم دافعوهم بالتسويف حتى هجم الأجل فأخذوا على أسوأ أحوالهم وقال تعالى: ﴿وغَرَّتْكُمُ الأمانِيُّ حَتّى جاءَ أمْرُ اللَّهِ وغَرَّكم بِاللَّهِ الغَرُورُ﴾ وقال تعالى: {يا أيُّها النّاسُ إنَّ وعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَلا تَغُرَّنَّكُمُ الحَياةُ الدُّنْيا ولا يَغُرَّنَّكم بِاللَّهِ الغَرُورُ وأعظم الناس غرورا بربه من إذا مسه اللّه برحمة منه وفضل قالَ هذا رَبِّي. أي أنا أهله وجدير به ومستحق له ثم قال: ﴿وما أظُنُّ السّاعَةَ قائِمَةً﴾ فظن أنه أهل لما أولاه من النعم مع كفره باللّه ثم زاد في غروره فقال: ﴿ولَئِنْ رُجِعْتُ إلى رَبِّي إنَّ لِي عِنْدَهُ لَلْحُسْنى﴾ يعني الجنة والكرامة فكذا تكون الغرة باللّه فالمغتر بالشيطان مغتر بوعوده وأمانيه وقد ساعد اغتراره بدنياه ونفسه فلا يزال كذلك حتى يتردى في آبار الهلاك. * (فائدة) إذا غصب إنسان مالا وبنى به رباطا أو مسجدا أو قنطرة فهل ينفعه ذلك، أو يكون الثواب للمغصوب منه؟ قال ابن عقيل: "لا ثواب على ذلك لواحد منهما أما الغاصب فعليه العقوبة وجميع تصرفاته في مال الغير آثام متكررة. وأما صاحب المال فلا وجه لثوابه لأن ذلك البناء لم يكن له فيه نية ولا حسبة، وما لم يكن للمكلف فيه عمل ولا نية فلا يثاب عليه وإنما يطالب غاصبه يوم القيامة فيؤخذ من حسناته بقدر ماله. قلت: في هذا نظر لأن النفع الحاصل للناس متولد من مال هذا وعمل هذا والغاصب، وإن عوقب على ظلمه وتعدية واقتص المظلوم من حسناته فما تولد من نفع الناس بعمله له وغصب المال عليه وهو لو غصبه وفسق به لعواقب عقوبتين فإذا غصبه وتصدق به أو بنى به رباطا أو مسجدا أو أفتك به أسيرا فإنه قد عمل خيرا وشرا فمن يعمل مثقال ذرة خيرا يره ومن يعمل مثقال ذرة شرا يره. وأما ثواب صاحب المال فإنه وإن لم يقصد ذلك فهو متولد من مال اكتسبه فقد تولد الخير وأيضا فإن أخذ ماله مصيبة فإذا أنفق في خير فقد تولد له من المصيبة خير والمصائب إذا ولدت خيرا لم يعدم صاحب منه ثوابا وكما أن الأعمال إذا ولدت خيرا أثيب عليه وإن لم يقصده فالمصائب إذا ولدت خيرا لم يمنع أن يثاب عليه وإن لم يقصده والله أعلم.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب