الباحث القرآني

* (فائدة) الخوف أحد أركان الإيمان والإحسان الثلاثة التي عليها مدار مقامات السالكين جميعها وهي: الخوف، والرجاءُ، والمحبة، وقد ذكره سبحانه في قوله: ﴿قُلْ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِن دُونِهِ فَلا يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضُّرِّ عَنكم ولا تحويلا أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إلى رَبِّهِمُ الوَسِيلَةَ أيُّهم أقْرَبُ ويَرْجُونَ رَحْمَتَهُ ويَخافُونَ عَذابَهُ﴾ [الإسراء: ٥٦-٥٧] فجمع بين المقامات الثلاثة، فإن ابتغاءَ الوسيلة إليه هو التقرب إليه بحبه وفعل ما يحبه. ثم يقول: (وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ ويَخافُون عَذابَهُ)، فذكر الحب والخوف والرجاءَ، والمعنى أن الذين تدعونهم من دون الله من الملائكة والأنبياء والصالحين يتقربون إلى ربهم ويخافونه ويرجونه، فهم عبيده كما أنكم عبيده، فلماذا تعبدونهم من دونه وأنتم وهم عبيد له؟ * (فصل) وَمِن مَنازِلِ: ﴿إيّاكَ نَعْبُدُ وإيّاكَ نَسْتَعِينُ﴾ مَنزِلَةُ الرَّجاءِ. قالَ اللَّهُ تَعالى: ﴿أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إلى رَبِّهِمُ الوَسِيلَةَ أيُّهم أقْرَبُ ويَرْجُونَ رَحْمَتَهُ ويَخافُونَ عَذابَهُ﴾ [الإسراء: ٥٧] فابْتِغاءُ الوَسِيلَةِ إلَيْهِ: طَلَبُ القُرْبِ مِنهُ بِالعُبُودِيَّةِ والمَحَبَّةِ. فَذَكَرَ مَقاماتِ الإيمانِ الثَّلاثَةَ الَّتِي عَلَيْها بِناؤُهُ: الحُبَّ، والخَوْفَ، والرَّجاءَ. قالَ تَعالى: ﴿مَن كانَ يَرْجُو لِقاءَ اللَّهِ فَإنَّ أجَلَ اللَّهِ لَآتٍ﴾ [العنكبوت: ٥]، وقالَ: ﴿فَمَن كانَ يَرْجُو لِقاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صالِحًا ولا يُشْرِكْ بِعِبادَةِ رَبِّهِ أحَدًا﴾ [الكهف: ١١٠]، وقالَ تَعالى: ﴿أُولَئِكَ يَرْجُونَ رَحْمَةَ اللَّهِ واللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ﴾ [البقرة: ٢١٨]. وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ عَنْ جابِرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ يَقُولُ - قَبْلَ مَوْتِهِ بِثَلاثٍ -: «لا يَمُوتَنَّ أحَدُكم إلّا وهو يُحْسِنُ الظَّنَّ بِرَبِّهِ»، وفي الصَّحِيحِ عَنْهُ ﷺ «يَقُولُ اللَّهُ عَزَّ وجَلَّ: أنا عِنْدَ ظَنِّ عَبْدِي بِي فَلْيَظُنَّ بِي ما شاءَ». " الرَّجاءُ " حادٍ يَحْدُو القُلُوبَ إلى بِلادِ المَحْبُوبِ. وهو اللَّهُ والدّارُ الآخِرَةُ. ويَطِيبُ لَها السَّيْرُ. وَقِيلَ: هو الِاسْتِبْشارُ بِجُودِ وفَضْلِ الرَّبِّ تَبارَكَ وتَعالى. والِارْتِياحُ لِمُطالَعَةِ كَرَمِهِ سُبْحانَهُ. وَقِيلَ: هو الثِّقَةُ بِجُودِ الرَّبِّ تَعالى. والفَرْقُ بَيْنَهُ وبَيْنَ التَّمَنِّي أنَّ التَّمَنِّيَ يَكُونُ مَعَ الكَسَلِ. ولا يَسْلُكُ بِصاحِبِهِ طَرِيقَ الجِدِّ والِاجْتِهادِ. و" الرَّجاءُ " يَكُونُ مَعَ بَذْلِ الجُهْدِ وحُسْنِ التَّوَكُّلِ. فالأوَّلُ كَحالِ مَن يَتَمَنّى أنْ يَكُونَ لَهُ أرْضٌ يَبْذُرُها ويَأْخُذُ زَرْعَها. والثّانِي كَحالِ مَن يَشُقُّ أرْضَهُ ويَفْلَحُها ويَبْذُرُها. ويَرْجُو طُلُوعَ الزَّرْعِ. وَلِهَذا أجْمَعَ العارِفُونَ عَلى أنَّ الرَّجاءَ لا يَصِحُّ إلّا مَعَ العَمَلِ. قالَ شاهٌ الكَرْمانِيُّ: عَلامَةُ صِحَّةِ الرَّجاءِ حُسْنُ الطّاعَةِ. والرَّجاءُ ثَلاثَةُ أنْواعٍ: نَوْعانِ مَحْمُودانِ، ونَوْعٌ غَرُورٌ مَذْمُومٌ. فالأوَّلانِ رَجاءُ رَجُلٍ عَمِلَ بِطاعَةِ اللَّهِ عَلى نُورٍ مِنَ اللَّهِ. فَهو راجٍ لِثَوابِهِ. ورَجُلٌ أذْنَبَ ذُنُوبًا ثُمَّ تابَ مِنها. فَهو راجٍ لِمَغْفِرَةِ اللَّهِ تَعالى وعَفْوِهِ وإحْسانِهِ وجُودِهِ وحِلْمِهِ وكَرَمِهِ. والثّالِثُ: رَجُلٌ مُتَمادٍ في التَّفْرِيطِ والخَطايا. يَرْجُو رَحْمَةَ اللَّهِ بِلا عَمَلٍ. فَهَذا هو الغُرُورُ والتَّمَنِّي والرَّجاءُ الكاذِبُ. وَلِلسّالِكِ نَظَرانِ: نَظَرٌ إلى نَفْسِهِ وعُيُوبِهِ وآفاتِ عَمَلِهِ، يَفْتَحُ عَلَيْهِ بابَ الخَوْفِ إلى سِعَةِ فَضْلِ رَبِّهِ وكَرْمِهِ وبَرِّهِ. ونَظَرٌ يَفْتَحُ عَلَيْهِ بابَ الرَّجاءِ. وَلِهَذا قِيلَ في حَدِّ الرَّجاءِ: هو النَّظَرُ إلى سِعَةِ رَحْمَةِ اللَّهِ. وَقالَ أبُو عَلِيٍّ الرُّوذْبارِيُّ: الخَوْفُ والرَّجاءُ كَجَناحَيِ الطّائِرِ إذا اسْتَوَيا اسْتَوى الطَّيْرُ وتَمَّ طَيَرانُهُ. وإذا نَقَصَ أحَدَهُما وقَعَ فِيهِ النَّقْصُ. وإذا ذَهَبا صارَ الطّائِرُ في حَدِّ المَوْتِ. وَسُئِلَ أحْمَدُ بْنُ عاصِمٍ: ما عَلامَةُ الرَّجاءِ في العَبْدِ؟ فَقالَ: أنْ يَكُونَ إذا أحاطَ بِهِ الإحْسانُ أُلْهِمَ الشُّكْرَ، راجِيًا لِتَمامِ النِّعْمَةِ مِنَ اللَّهِ عَلَيْهِ في الدُّنْيا والآخِرَةِ، وتَمامِ عَفْوِهِ عَنْهُ في الآخِرَةِ. واخْتَلَفُوا، أيُّ الرَّجائَيْنِ أكْمَلُ: رَجاءُ المُحْسِنِ ثَوابَ إحْسانِهِ. أوْ رَجاءُ المُسِيءِ التّائِبِ مَغْفِرَةَ رَبِّهِ وعَفْوِهِ؟ فَطائِفَةٌ رَجَّحَتْ رَجاءَ المُحْسِنِ. لِقُوَّةِ أسْبابِ الرَّجاءِ مَعَهُ. وطائِفَةٌ رَجَّحَتْ رَجاءَ المُذْنِبِ؛ لِأنَّ رَجاءَهُ مُجَرَّدٌ عَنْ عِلَّةِ رُؤْيَةِ العَمَلِ، مَقْرُونٌ بِذِلَّةِ رُؤْيَةِ الذَّنْبِ. قالَ يَحْيى بْنُ مُعاذٍ: يَكادُ رَجائِي لَكَ مَعَ الذُّنُوبِ يَغْلِبُ رَجائِي لَكَ مَعَ الأعْمالِ؛ لِأنِّي أجِدُنِي أعْتَمِدُ في الأعْمالِ عَلى الإخْلاصِ، وكَيْفَ أُصَفِّيها وأُحْرِزُها؟ وأنا بِالآفاتِ مَعْرُوفٌ. وأجِدُنِي في الذُّنُوبِ أعْتَمِدُ عَلى عَفْوِكَ، وكَيْفَ لا تَغْفِرُها وأنْتَ بِالجُودِ مَوْصُوفٌ؟ وَقالَ أيْضًا: إلَهِي، أحْلى العَطايا في قَلْبِي رَجاؤُكَ. وأعْذَبُ الكَلامِ عَلى لِسانِي ثَناؤُكَ. وأحَبُّ السّاعاتِ إلَيَّ ساعَةٌ يَكُونُ فِيها لِقاؤُكَ. * (فصل) والرَّجاءُ مِن أجَلِّ مَنازِلِهِمْ، وأعْلاها وأشْرَفِها. وعَلَيْهِ وعَلى الحُبِّ والخَوْفِ مَدارُ السَّيْرِ إلى اللَّهِ. وقَدْ مَدَحَ اللَّهُ تَعالى أهْلَهُ، وأثْنى عَلَيْهِمْ. فَقالَ: ﴿لَقَدْ كانَ لَكم في رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَن كانَ يَرْجُو اللَّهَ واليَوْمَ الآخِرَ وذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا﴾ [الأحزاب: ٢١]. وَفِي الحَدِيثِ الصَّحِيحِ الإلَهِيِّ عَنِ النَّبِيِّ ﷺ فِيما يَرْوِي عَنْ رَبِّهِ عَزَّ وجَلَّ - «يا ابْنَ آدَمَ، إنَّكَ ما دَعَوْتَنِي ورَجَوْتَنِي غَفَرْتُ لَكَ عَلى ما كانَ مِنكَ ولا أُبالِي.» ورَوى الأعْمَشُ عَنْ أبِي صالِحٍ عَنْ أبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنِ النَّبِيِّ ﷺ قالَ «يَقُولُ اللَّهُ عَزَّ وجَلَّ: أنا عِنْدَ ظَنِّ عَبْدِي بِي، وأنا مَعَهُ. إذا ذَكَرَنِي في نَفْسِهِ، ذَكَرْتُهُ في نَفْسِي. وإنْ ذَكَرَنِي في مَلَإٍ، ذَكَرْتُهُ في مَلَإٍ خَيْرٍ مِنهم. وإنِ اقْتَرَبَ إلَيَّ شِبْرًا، اقْتَرَبْتُ إلَيْهِ ذِراعًا. وإنِ اقْتَرَبَ إلَيَّ ذِراعًا، اقْتَرَبْتُ إلَيْهِ باعًا. وإنْ أتانِي يَمْشِي، أتَيْتُهُ هَرْوَلَةً». رَواهُ مُسْلِمٌ. وَقَدْ أخْبَرَ تَعالى عَنْ خَواصِّ عِبادِهِ الَّذِينَ كانَ المُشْرِكُونَ يَزْعُمُونَ أنَّهم يَتَقَرَّبُونَ بِهِمْ إلى اللَّهِ تَعالى: أنَّهم كانُوا راجِينَ لَهُ، خائِفِينَ مِنهُ. فَقالَ تَعالى: ﴿قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِن دُونِهِ فَلا يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضُّرِّ عَنْكم ولا تَحْوِيلًا أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إلى رَبِّهِمُ الوَسِيلَةَ أيُّهم أقْرَبُ ويَرْجُونَ رَحْمَتَهُ ويَخافُونَ عَذابَهُ إنَّ عَذابَ رَبِّكَ كانَ مَحْذُورًا﴾ [الإسراء: ٥٦]. يَقُولُ تَعالى: هَؤُلاءِ الَّذِينَ تَدْعُونَهم مِن دُونِي: هم عِبادِي، يَتَقَرَّبُونَ إلَيَّ بِطاعَتِي، ويَرْجُونَ رَحْمَتِي، ويَخافُونَ عَذابِي، فَلِماذا تَدْعُونَهم مِن دُونِي؟ فَأثْنى عَلَيْهِمْ بِأفْضَلِ أحْوالِهِمْ ومَقاماتِهِمْ مِنَ الحُبِّ، والخَوْفِ والرَّجاءِ. قَوْلُهُ: لِأنَّهُ مُعارَضَةٌ مِن وجْهٍ، واعْتِراضٌ مِن وجْهٍ. يُقالُ: وهو عُبُودِيَّةٌ، وتَعَلُّقٌ بِاللَّهِ مِن حَيْثُ اسْمُهُ المُحْسِنُ البَرُّ فَذَلِكَ التَّعَلُّقُ والتَّعَبُّدُ بِهَذا الِاسْمِ والمَعْرِفَةِ بِاللَّهِ هو الَّذِي أوْجَبَ لِلْعَبْدِ الرَّجاءَ، مِن حَيْثُ يَدْرِي ومِن حَيْثُ لا يَدْرِي. فَقُوَّةُ الرَّجاءِ عَلى حَسَبِ قُوَّةِ المَعْرِفَةِ بِاللَّهِ وأسْمائِهِ وصِفاتِهِ، وغَلَبَةِ رَحْمَتِهِ غَضَبَهُ. ولَوْلا رُوحُ الرَّجاءِ لَعُطِّلَتْ عُبُودِيَّةُ القَلْبِ والجَوارِحِ. وهُدِّمَتْ صَوامِعُ، وبَيْعٌ، وصَلَواتٌ، ومَساجِدُ يُذْكَرُ فِيها اسْمُ اللَّهِ كَثِيرًا. بَلْ لَوْلا رُوحُ الرَّجاءِ لَما تَحَرَّكَتِ الجَوارِحُ بِالطّاعَةِ. ولَوْلا رِيحُهُ الطَّيِّبَةُ لَما جَرَتْ سُفُنُ الأعْمالِ في بَحْرِ الإراداتِ. ولِي مِن أبْياتٍ: ؎لَوْلا التَّعَلُّقُ بِالرَّجاءِ تَقَطَّعَتْ ∗∗∗ نَفْسُ المُحِبِّ تَحَسُّرًا وتَمَزُّقا ؎وَكَذاكَ لَوْلا بَرْدُهُ بِحَرارَةِ ال ∗∗∗ أكْبادِ ذابَتْ بِالحِجابِ تَحَرُّقا ؎أيَكُونُ قَطُّ حَلِيفُ حُبٍّ لا يُرى ∗∗∗ بِرَجائِهِ لِحَبِيبِهِ مُتَعَلِّقًا؟! ؎أمْ كُلَّما قَوِيَتْ مَحَبَّتُهُ لَهُ ∗∗∗ قَوِيَ الرَّجاءُ فَزادَ فِيهِ تَشَوُّقا ؎لَوْلا الرَّجا يَحْدُو المَطِيَّ لَما سَرَتْ ∗∗∗ بِحُمُولِها لِدِيارِهِمْ تَرْجُو اللِّقا وَعَلى حَسَبِ المَحَبَّةِ وقُوَّتِها يَكُونُ الرَّجاءُ. فَكُلُّ مُحِبٍّ راجٍ خائِفٌ بِالضَّرُورَةِ فَهو أرْجى ما يَكُونُ لِحَبِيبِهِ، أحَبُّ ما يَكُونُ إلَيْهِ. وكَذَلِكَ خَوْفُهُ. فَإنَّهُ يَخافُ سُقُوطَهُ مِن عَيْنَيْهِ. وطَرْدَ مَحْبُوبِهِ لَهُ وإبْعادَهُ. واحْتِجابَهُ عَنْهُ. فَخَوْفُهُ أشَدُّ خَوْفٍ. ورَجاؤُهُ ذاتِيٌّ لِلْمَحَبَّةِ. فَإنَّهُ يَرْجُوهُ قَبْلَ لِقائِهِ والوُصُولِ إلَيْهِ. فَإذا لَقِيَهُ ووَصَلَ إلَيْهِ اشْتَدَّ الرَّجاءُ لَهُ، لِما يَحْصُلُ لَهُ بِهِ مِن حَياةِ رُوحِهِ، ونَعِيمِ قَلْبِهِ مِن ألْطافِ مَحْبُوبِهِ، وبِرِّهِ وإقْبالِهِ عَلَيْهِ، ونَظَرِهِ إلَيْهِ بِعَيْنِ الرِّضا، وتَأْهِيلِهِ في مَحَبَّتِهِ، وغَيْرِ ذَلِكَ مِمّا لا حَياةَ لِلْمُحِبِّ، ولا نَعِيمَ ولا فَوْزَ إلّا بِوُصُولِهِ إلَيْهِ مِن مَحْبُوبِهِ. فَرَجاؤُهُ أعْظَمُ رَجاءٍ، وأجَلُّهُ وأتَمُّهُ. فَتَأمَّلْ هَذا المَوْضِعَ حَقَّ التَّأمُّلِ يُطْلِعْكَ عَلى أسْرارٍ عَظِيمَةٍ مِن أسْرارِ العُبُودِيَّةِ والمَحَبَّةِ. فَكُلُّ مَحَبَّةٍ فَهي مَصْحُوبَةٌ بِالخَوْفِ والرَّجاءِ. وعَلى قَدْرِ تَمَكُّنِها مِن قَلْبِ المُحِبِّ يَشْتَدُّ خَوْفُهُ ورَجاؤُهُ، لَكِنَّ خَوْفَ المُحِبِّ لا يَصْحَبُهُ وحْشَةٌ. بِخِلافِ خَوْفِ المُسِيءِ، ورَجاءِ المُحِبِّ لا يَصْحَبُهُ عِلَّةٌ، بِخِلافِ رَجاءِ الأجِيرِ. وأيْنَ رَجاءُ المُحِبِّ مِن رَجاءِ الأجِيرِ؟! وبَيْنَهُما كَما بَيْنَ حالَيْهِما. وَبِالجُمْلَةِ: فالرَّجاءُ ضَرُورِيٌّ لِلْمُرِيدِ السّالِكِ، والعارِفُ لَوْ فارَقَهُ لَحْظَةً لَتَلِفَ أوْ كادَ. فَإنَّهُ دائِرٌ بَيْنَ ذَنْبٍ يَرْجُو غُفْرانَهُ، وعَيْبٍ يَرْجُو إصْلاحَهُ، وعَمَلٍ صالِحٍ يَرْجُو قَبُولَهُ، واسْتِقامَةٍ يَرْجُو حُصُولَها ودَوامَها، وقُرْبٍ مِنَ اللَّهِ ومَنزِلَةٍ عِنْدَهُ يَرْجُو وُصُولَهُ إلَيْها. ولا يَنْفَكُّ أحَدٌ مِنَ السّالِكِينَ عَنْ هَذِهِ الأُمُورِ أوْ بَعْضِها. * (فصل) وَلَيْسَ في الرَّجاءِ ولا في الدُّعاءِ مُعارَضَةٌ لِتَصَرُّفِ المالِكِ في مُلْكِهِ. فَإنَّهُ إنَّما يَرْجُو تَصَرُّفَهُ في مُلْكِهِ أيْضًا بِما هو أوْلى وأحَبُّ الأمْرَيْنِ إلَيْهِ. فَإنَّ الفَضْلَ أحَبُّ إلَيْهِ مِنَ العَدْلِ، والعَفْوَ أحَبُّ إلَيْهِ مِنَ الِانْتِقامِ، والمُسامَحَةَ أحَبُّ إلَيْهِ مِنَ الِاسْتِقْصاءِ، والتَّرْكَ أحَبُّ إلَيْهِ مِنَ الِاسْتِيفاءِ، ورَحْمَتَهُ غَلَبَتْ غَضَبَهُ. فالرّاجِي عَلَّقَ رَجاءَهُ بِتَصَرُّفِهِ المَحْبُوبِ لَهُ المُرْضِي لَهُ. فَلَمْ يُوجِبْ رَجاؤُهُ خُرُوجَهُ عَنْ تَصَرُّفِهِ في مُلْكِهِ. بَلِ اقْتَضى عُبُودِيَّتَهُ، وحُصُولَ أحَبِّ التَّصَرُّفَيْنِ إلَيْهِ. وهو سُبْحانُهُ وتَعالى لا يَنْتَفِعُ بِاسْتِيفاءِ حَقِّهِ وعُقُوبَةِ عَبْدِهِ، حَتّى يَكُونَ رَجاؤُهُ مُبْطِلًا لِذَلِكَ. وإنَّما العَبْدُ اسْتَدْعى العُقُوبَةَ، وأخَذَ الحَقَّ مِنهُ لِشِرْكِهِ بِاللَّهِ وكُفْرِهِ بِهِ. واجْتِهادِهِ في غَضَبِهِ. ولِغَضَبِهِ مُوجِباتٌ وآثارٌ ومُقْتَضَياتٌ، والعَبْدُ مُؤْثِرٌ لَها، ساعٍ في تَحْصِيلِها، عامِلٍ عَلَيْها بِإيثارِهِ إيّاها وسَعْيِهِ في أسْبابِها. فَهو المُهْلِكُ لِنَفْسِهِ. ورَبُّهُ يُحَذِّرُهُ ويُبَصِّرُهُ ويُنادِيهِ: هَلُمَّ إلَيَّ أحْمِكَ وأصُنْكَ، وأُنْجِكَ مِمّا تَحْذَرُ، وأُؤَمِّنْكَ مِن كُلِّ ما تَخافُ، وهو يَأْبى إلّا شُرُودًا عَلَيْهِ ونِفارًا عَنْهُ، ومُصالَحَةً لِعَدُوِّهِ، ومُظاهَرَةً لَهُ عَلى رَبِّهِ. ومُتَطَلِّبًا لِمَرْضاةِ خَلْقِهِ بِمَساخِطِهِ. رِضا المَخْلُوقِ آثَرُ عِنْدَهُ مِن رِضا خالِقِهِ. وحَقُّهُ آكُدُ عِنْدَهُ مِن حَقِّهِ. وخَوْفُهُ ورَجاؤُهُ وحُبُّهُ في قَلْبِهِ أعْظَمُ مِن خَوْفِهِ مِنَ اللَّهِ ورَجائِهِ وحُبِّهِ. فَلَمْ يَدَعْ لِفَضْلِ رَبِّهِ وكَرامَتِهِ وثَوابِهِ إلَيْهِ طَرِيقًا، بَلْ سَدَّ دُونَهُ طُرُقَ مَجارِيها بِجُهْدِهِ. وأعْطى بِيَدِهِ لِعَدُوِّهِ. فَصالَحَهُ وسَمِعَ لَهُ وأطاعَ. وانْقادَ إلى مَرْضاتِهِ. فَجاءَ مِنَ الظُّلْمِ بِأقْبَحِهِ وأشَدِّهِ. فَهُوَ الَّذِي عارَضَ مُرادَهُ بِهِ مِنهُ بِمُرادِهِ وهَواهُ وشَهْوَتِهِ. واعْتَرَضَ لِمَحابِّهِ ومَراضِيهِ بِالدَّفْعِ. ولَمْ يَأْذَنْ لَها في الدُّخُولِ عَلَيْهِ. فَأضاعَ حَظَّهُ وبَخَسَ حَقَّهُ. وظَلَمَ نَفْسَهُ. وعادى حَبِيبَهُ. ووالى عَدُوَّهُ. وأسْخَطَ مِن حَياتِهِ في رِضاهُ. وأرْضى مِن حَياتِهِ في سَخَطِهِ. وجادَ بِنَفْسِهِ لِعَدُوِّهِ. وبَخِلَ بِها عَنْ حَبِيبِهِ ووَلِيِّهِ. والرَّبُّ تَبارَكَ وتَعالى لَيْسَ لَهُ ثَأْرٌ عِنْدَ عَبْدِهِ فَيُدْرِكَهُ بِعُقُوبَتِهِ. ولا يَتَشَفّى بِعِقابِهِ. ولا يَزِيدُ ذَلِكَ في مُلْكِهِ مِثْقالَ ذَرَّةٍ مِن مُلْكِهِ. كَيْفَ، والرَّحْمَةُ أوْسَعُ مِنَ العُقُوبَةِ وأسْبَقُ مِنَ الغَضَبِ وأغْلَبُ لَهُ؟ وهو قَدْ كَتَبَ عَلى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ. فَرَجاءُ العَبْدِ لَهُ لا يُنْقِصُ شَيْئًا مِن حِكْمَتِهِ. ولا يُنْقِصُ ذَرَّةً مِن مُلِكِهِ. ولا يُخْرِجُهُ عَنْ كَمالِ تَصَرُّفِهِ. ولا يُوجِبُ خِلافَ كَمالِهِ. ولا تَعْطِيلَ أوْصافِهِ وأسْمائِهِ. ولَوْلا أنَّ العَبْدَ هو الَّذِي سَدَّ عَلى نَفْسِهِ طُرُقَ الخَيْراتِ، وأغْلَقَ دُونَها أبْوابَ الرَّحْمَةِ بِسُوءِ اخْتِيارِهِ لِنَفْسِهِ لَكانَ رَبُّهُ لَهُ فَوْقَ رَجائِهِ وفَوْقَ أمَلِهِ. وَأمّا اسْتِسْلامُ العَبْدِ لِرَبِّهِ، واسْتِسْلامُهُ بِانْطِراحِهِ بَيْنَ يَدَيْهِ، ورِضاهُ بِمَواقِعِ حُكْمِهِ فِيهِ فَما ذاكَ إلّا رَجاءً مِنهُ أنْ يَرْحَمَهُ، ويُقِيلَهُ عَثْرَتَهُ ويَعْفُوَ عَنْهُ، ويَقْبَلَ حَسَناتِهِ مَعَ عُيُوبِ أعْمالِهِ وآفاتِها. ويَتَجاوَزُ عَنْ سَيِّئاتِهِ. فَقُوَّةُ رَجائِهِ أوْجَبَتْ لَهُ هَذا الِاسْتِسْلامَ والِانْقِيادَ، والِانْطِراحَ بِالبابِ. ولا يُتَصَوَّرُ هَذا بِدُونِ الرَّجاءِ ألْبَتَّةَ. فالرَّجاءُ حَياةُ الطَّلَبِ. والإرادَةُ رُوحُها.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب