الباحث القرآني

* (فصل) تَأمَّلْ تَضَمُّنَ هَذِهِ الكَلِماتِ - عَلى اخْتِصارِها وإيجازِها وبَلاغَتِها - لِلْأصْلِ والفَرْعِ والعِلَّةِ والحُكْمِ. رَدَّ عَلَيْهِمْ سُبْحانَهُ رَدًّا يَتَضَمَّنُ الدَّلِيلَ القاطِعَ عَلى قُدْرَتِهِ عَلى إعادَتِهِمْ خَلْقًا جَدِيدًا فَقالَ: ﴿قُلْ كُونُوا حِجارَةً أوْ حَدِيدًا (٥٠) أوْ خَلْقًا مِمّا يَكْبُرُ في صُدُورِكم فَسَيَقُولُونَ مَن يُعِيدُنا قُلِ الَّذِي فَطَرَكم أوَّلَ مَرَّةٍ﴾ فَلَمّا اسْتَبْعَدُوا أنْ يُعِيدَهم اللَّهُ خَلْقًا جَدِيدًا بَعْدَ أنْ صارُوا عِظامًا ورُفاتًا قِيلَ لَهُمْ: كُونُوا حِجارَةً أوْ حَدِيدًا أوْ خَلْقًا مِمّا يَكْبُرُ في صُدُورِكُمْ، سَواءٌ كانَ المَوْتَ أوْ السَّماءَ أوْ الأرْضَ أوْ أيَّ خَلْقٍ اسْتَعْظَمْتُمُوهُ وكَبُرَ في صُدُورِكُمْ، ومَضْمُونُ الدَّلِيلِ أنَّكم مَرْبُوبُونَ مَخْلُوقُونَ مَقْهُورُونَ عَلى ما يَشاءُ خالِقُكُمْ، وأنْتُمْ لا تَقْدِرُونَ عَلى تَغْيِيرِ أحْوالِكم مِن خِلْقَةٍ إلى خِلْقَةٍ لا تَقْبَلُ الِاضْمِحْلالَ كالحِجارَةِ والحَدِيدِ، ومَعَ ذَلِكَ فَلَوْ كُنْتُمْ عَلى هَذِهِ الخِلْقَةِ مِن القُوَّةِ والشِّدَّةِ لَنَفَذَتْ أحْكامِي وقُدْرَتِي ومَشِيئَتِي، ولَمْ تَسْبِقُونِي ولَمْ تَفُوتُونِي، كَما يَقُولُ القائِلُ لِمَن هو في قَبْضَتِهِ: اصْعَدْ إلى السَّماءِ فَإنِّي لاحِقُك؛ أيْ لَوْ صَعِدْت إلى السَّماءِ لَحِقْتُك، وعَلى هَذا فَمَعْنى الآيَةِ لَوْ كُنْتُمْ حِجارَةً أوْ حَدِيدًا أوْ أعْظَمَ خَلْقًا مِن ذَلِكَ لَما أعْجَزْتُمُونِي ولَما فُتُّمُونِي. وَقِيلَ: المَعْنى كُونُوا حِجارَةً أوْ حَدِيدًا عِنْدَ أنْفُسِكُمْ، أيْ صَوِّرُوا أنْفُسَكم وقَدِّرُوها خَلْقًا لا يَضْمَحِلُّ ولا يَنْحَلُ، فَإنّا سَنُمِيتُكم ثُمَّ نُحْيِيكم ونُعِيدُكم خَلْقًا جَدِيدًا، وبَيْنَ المَعْنَيَيْنِ فَرْقٌ لَطِيفٌ، فَإنَّ المَعْنى الأوَّلَ يَقْتَضِي أنَّكم لَوْ قَدَرْتُمْ عَلى نَقْلِ خِلْقَتِكم مِن حالَةٍ إلى حالَةٍ هي أشَدَّ مِنها وأقْوى لَنَفَذَتْ مَشِيئَتُنا وقُدْرَتُنا فِيكم ولَمْ تُعْجِزُونا، فَكَيْفَ وأنْتُمْ عاجِزُونَ عَنْ ذَلِكَ؟ والمَعْنى الثّانِي يَقْتَضِي أنَّكم صَوِّرُوا أنْفُسَكم وأنْزِلُوها هَذِهِ المَنزِلَةَ، ثُمَّ انْظُرُوا أتَفُوتُونا وتُعْجِزُونا أمْ قُدْرَتُنا ومَشِيئَتُنا مُحِيطَةٌ بِكم ولَوْ كُنْتُمْ كَذَلِكَ؟ وهَذا مِن أبْلَغِ البَراهِينِ القاطِعَةِ الَّتِي لا تَعْرِضُ فِيها شُبْهَةٌ ألْبَتَّةَ، بَلْ لا تَجِدُ العُقُولُ السَّلِيمَةُ عَنْ الإذْعانِ والِانْقِيادِ لَها بُدًّا، فَلَمّا عَلِمَ القَوْمُ صِحَّةَ هَذا البُرْهانِ وأنَّهُ ضَرُورِيٌّ انْتَقَلُوا إلى المُطالَبَةِ بِمَن يُعِيدُهم فَقالُوا: مَن يُعِيدُنا؟ وهَذا سَواءٌ كانَ سُؤالًا مِنهم عَنْ تَعْيِينِ المُعِيدِ أوْ إنْكارًا مِنهم لَهُ فَهو مِن أقْبَحِ التَّعَنُّتِ وأبْيَنِهِ، ولِهَذا كانَ جَوابُهُ: ﴿قُلِ الَّذِي فَطَرَكم أوَّلَ مَرَّةٍ﴾ وَلَمّا عَلِمَ القَوْمُ أنَّ هَذا جَوابٌ قاطِعٌ انْتَقَلُوا إلى بابٍ آخَرَ مِن التَّعَنُّتِ؛ وهو السُّؤالُ عَنْ وقْتِ هَذِهِ الإعادَةِ، فَأنْغَضُوا إلَيْهِ رُءُوسَهم وقالُوا: مَتى هُوَ؟ فَقالَ تَعالى: ﴿قُلْ عَسى أنْ يَكُونَ قَرِيبًا﴾ فَلْيَتَأمَّلْ اللَّبِيبُ لُطْفَ مَوْقِعِ هَذا الدَّلِيلِ، واسْتِلْزامَهُ لِمَدْلُولِهِ اسْتِلْزامًا لا مَحِيدَ عَنْهُ، وما تَضَمَّنَهُ مِن السُّؤالاتِ والجَوابِ عَنْها أبْلَغَ جَوابٍ وأصَحَّهُ وأوْضَحَهُ، فَلِلَّهِ ما يَفُوتُ المُعْرِضِينَ عَنْ تَدَبُّرِ القُرْآنِ المُتَعَوَّضِينَ عَنْهُ بِزُبالَةِ الأذْهانِ ونُخالَةِ الأفْكارِ. * (فصل آخر) تأمل ما أجيبوا به عن كل سؤال على التفصيل فإنهم قالوا أولا إذا كنا عظاما ورفاتا أئنا لمبعوثون خلقا جديدا فقيل لهم في جواب هذا السؤال إن كنتم تزعمون أنه لا خالق لكم ولا رب فهلا كنتم خلقا جديدا لا يفنيه الموت كالحجارة والحديد أو ما هو أكبر في صدوركم من ذلك فإن قلتم لنا رب خالق خلقنا على هذه الصفة وأنشأنا هذه النشأة التي لا تقبل البقاء ولم يجعلنا حجارة ولا حديدا فقد قامت عليكم الحجة بإقراركم فما الذي يحول بين خالقكم ومنشئكم وبين إعادتكم خلقا جديدا. وللحجة تقرير آخر وهو أنكم لو كنتم من حجارة أو حديد أو خلق أكبر منهما لكان قادرا على أن يفنيكم ويحيل ذواتكم وينقلها من حال إلى حال. ومن قدر على التصرف في هذه الأجسام مع شدتها وصلابتها بالإفناء والإحالة ونقلها من حال إلى حال فما يعجزه عن التصرف فيما هو دونها بإفنائه وإحالته ونقله من حال إلى حال. فأخبر سبحانه أنهم يسألون سؤالا آخر بقولهم من يعيدنا إذا استحالت أجسامنا وفنيت فأجابهم بقوله ﴿قُلِ الَّذِي فَطَرَكم أوَّلَ مَرَّة﴾ وهذا الجواب نظير جواب قول السائل ﴿مَن يُحْيِي العِظامَ وهي رَمِيمٌ﴾ [يس: ٧٨] فلما أخذتهم الحجة ولزمهم حكمها ولم يجدوا عنها معدلا انتقلوا إلى سؤال آخر يتعللون به كما يتعلل المقطوع بالحجاج بمثل ذلك وهو قولهم متى هو فأجيبوا بقوله: ﴿عسى أن يكون قريبا يوم يدعوكم فتستجيبون بحمده وتظنون إن لبثتم إلا قليلا﴾.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب