﴿مَنۡ عَمِلَ صَـٰلِحࣰا مِّن ذَكَرٍ أَوۡ أُنثَىٰ وَهُوَ مُؤۡمِنࣱ فَلَنُحۡیِیَنَّهُۥ حَیَوٰةࣰ طَیِّبَةࣰۖ وَلَنَجۡزِیَنَّهُمۡ أَجۡرَهُم بِأَحۡسَنِ مَا كَانُوا۟ یَعۡمَلُونَ﴾ [النحل ٩٧]
واللَّهُ تَعالى إنَّما جَعَلَ الحَياةَ الطَّيِّبَةَ لِمَن آمَنَ بِهِ وعَمِلَ صالِحًا، كَما قالَ تَعالى:
﴿مَن عَمِلَ صالِحًا مِن ذَكَرٍ أوْ أُنْثى وهو مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَياةً طَيِّبَةً ولَنَجْزِيَنَّهم أجْرَهم بِأحْسَنِ ما كانُوا يَعْمَلُونَ﴾ [النحل: ٩٧].
فَضَمِنَ لِأهْلِ الإيمانِ والعَمَلِ الصّالِحِ الجَزاءَ في الدُّنْيا بِالحَياةِ الطَّيِّبَةِ، والحُسْنى يَوْمَ القِيامَةِ، فَلَهم أطْيَبُ الحَياتَيْنِ، فَهم أحْياءٌ في الدّارَيْنِ.
* (فصل)
وَقَدْ فُسِّرَتِ الحَياةُ الطَّيِّبَةُ بِالقَناعَةِ والرِّضا، والرِّزْقِ الحَسَنِ وغَيْرِ ذَلِكَ، والصَّوابُ: أنَّها حَياةُ القَلْبِ ونَعِيمُهُ، وبَهْجَتُهُ وسُرُورُهُ بِالإيمانِ ومَعْرِفَةُ اللَّهِ، ومَحَبَّتُهُ، والإنابَةُ إلَيْهِ، والتَّوَكُّلُ عَلَيْهِ، فَإنَّهُ لا حَياةَ أطْيَبُ مِن حَياةِ صاحِبِها، ولا نَعِيمَ فَوْقَ نَعِيمِهِ إلّا نَعِيمَ الجَنَّةِ، كَما كانَ بَعْضُ العارِفِينَ يَقُولُ: إنَّهُ لَتَمُرُّ بِي أوْقاتٌ أقُولُ فِيها إنْ كانَ أهْلُ الجَنَّةِ في مِثْلِ هَذا إنَّهم لَفي عَيْشٍ طَيِّبٍ، وقالَ غَيْرُهُ: إنَّهُ لَيَمُرُّ بِالقَلْبِ أوْقاتٌ يَرْقُصُ فِيها طَرَبًا.
وَإذا كانَتْ حَياةُ القَلْبِ حَياةً طَيِّبَةً تَبِعَتْهُ حَياةُ الجَوارِحِ، فَإنَّهُ مَلَكَها، ولِهَذا جَعَلَ اللَّهُ المَعِيشَةَ الضَّنْكَ لِمَن أعْرَضَ عَنْ ذِكْرِهِ، وهي عَكْسُ الحَياةِ الطَّيِّبَةِ.
وَهَذِهِ الحَياةُ الطَّيِّبَةُ تَكُونُ في الدُّورِ الثَّلاثِ، أعْنِي: دارَ الدُّنْيا، ودارَ البَرْزَخِ، ودارَ القَرارِ، والمَعِيشَةُ الضَّنْكُ أيْضًا تَكُونُ في الدُّورِ الثَّلاثِ، فالأبْرارُ في النَّعِيمِ هُنا وهُنالِكَ، والفُجّارُ في الجَحِيمِ هُنا وهُنالِكَ، قالَ اللَّهُ تَعالى:
﴿لِلَّذِينَ أحْسَنُوا في هَذِهِ الدُّنْيا حَسَنَةٌ ولَدارُ الآخِرَةِ خَيْرٌ﴾ [النحل: ٣٠]، وقالَ تَعالى:
﴿وَأنِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكم ثُمَّ تُوبُوا إلَيْهِ يُمَتِّعْكم مَتاعًا حَسَنًا إلى أجَلٍ مُسَمًّى ويُؤْتِ كُلَّ ذِي فَضْلٍ فَضْلَهُ﴾ [هود: ٣]فَذِكْرُ اللَّهِ سُبْحانَهُ وتَعالى، ومَحَبَّتُهُ وطاعَتُهُ، والإقْبالُ عَلَيْهِ ضامِنٌ لِأطْيَبِ الحَياةِ في الدُّنْيا والآخِرَةِ، والإعْراضُ عَنْهُ والغَفْلَةُ ومَعْصِيَتُهُ كَفِيلٌ بِالحَياةِ المُنَغَّصَةِ، والمَعِيشَةِ الضَّنْكِ في الدُّنْيا والآخِرَةِ.
* (فصل: في الحَياةُ الَّتِي أشارَ إلَيْها المُصَنِّفُ، وهي حَياةُ العِلْمِ مِن مَوْتِ الجَهْلِ)
فَإنَّ الجَهْلَ مَوْتٌ لِأصْحابِهِ، كَما قِيلَ:
وَفِي الجَهْلِ قَبْلَ المَوْتِ مَوْتٌ لِأهْلِهِ ∗∗∗ وأجْسامُهم قَبْلَ القُبُورِ قُبُورُ
وَأرْواحُهم في وحْشَةٍ مِن جُسُومِهِمْ ∗∗∗ فَلَيْسَ لَهم حَتّى النُّشُورِ نُشُورُ
فَإنَّ الجاهِلَ مَيِّتُ القَلْبِ والرُّوحِ، وإنْ كانَ حَيَّ البَدَنِ فَجَسَدُهُ قَبْرٌ يَمْشِي بِهِ عَلى وجْهِ الأرْضِ، قالَ اللَّهُ تَعالى:
﴿أوَمَن كانَ مَيْتًا فَأحْيَيْناهُ وجَعَلْنا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ في النّاسِ كَمَن مَثَلُهُ في الظُّلُماتِ لَيْسَ بِخارِجٍ مِنها﴾ [الأنعام: ١٢٢]، وقالَ تَعالى:
﴿إنْ هو إلّا ذِكْرٌ وقُرْآنٌ مُبِينٌ - لِيُنْذِرَ مَن كانَ حَيًّا ويَحِقَّ القَوْلُ عَلى الكافِرِينَ﴾ [يس: ٦٩-٧٠]، وقالَ تَعالى:
﴿إنَّكَ لا تُسْمِعُ المَوْتى ولا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعاءَ﴾ [النمل: ٨٠]، وقالَ تَعالى:
﴿إنَّ اللَّهَ يُسْمِعُ مَن يَشاءُ وما أنْتَ بِمُسْمِعٍ مَن في القُبُورِ﴾ [فاطر: ٢٢]وَشَبَّهَهم في مَوْتِ قُلُوبِهِمْ بِأهْلِ القُبُورِ، فَإنَّهم قَدْ ماتَتْ أرْواحُهُمْ، وصارَتْ أجْسامُهم قُبُورًا لَها، فَكَما أنَّهُ لا يَسْمَعُ أصْحابُ القُبُورِ، كَذَلِكَ لا يَسْمَعُ هَؤُلاءِ، وإذا كانَتِ الحَياةُ هي الحِسُّ والحَرَكَةُ ومَلْزُومُهُما، فَهَذِهِ القُلُوبُ لَمّا لَمْ تُحِسَّ بِالعِلْمِ والإيمانِ، ولَمْ تَتَحَرَّكْ لَهُ: كانَتْ مَيْتَةً حَقِيقِةً، ولَيْسَ هَذا تَشْبِيهًا لِمَوْتِها بِمَوْتِ البَدَنِ، بَلْ ذَلِكَ مَوْتُ القَلْبِ والرُّوحِ.
وَقَدْ ذَكَرَ الإمامُ أحْمَدُ في كِتابِ الزُّهْدِ مِن كَلامِ لُقْمانَ، أنَّهُ قالَ لِابْنِهِ: يا بُنَيَّ جالِسِ العُلَماءَ، وزاحِمْهم بِرُكْبَتَيْكَ، فَإنَّ اللَّهَ يُحْيِي القُلُوبَ بِنُورِ الحِكْمَةِ، كَما يُحْيِي الأرْضَ بِوابِلِ القَطْرِ، وقالَ مُعاذُ بْنُ جَبَلٍ تَعَلَّمُوا العِلْمَ، فَإنَّ تَعَلُّمَهُ لِلَّهِ خَشْيَةٌ، وطَلَبَهُ عِبادَةٌ، ومُذاكَرَتَهٌ تَسْبِيحٌ، والبَحْثَ عَنْهُ جِهادٌ، وتَعْلِيمَهُ لِمَن لا يَعْلَمُهُ صَدَقَةٌ، وبَذْلَهُ لِأهْلِهِ قُرْبَةٌ؛ لِأنَّهُ مَعالِمُ الحَلالِ والحَرامِ، ومَنارُ سُبُلِ أهْلِ الجَنَّةِ، وهو الأنِيسُ في الوَحْشَةِ، والصّاحِبُ في الغُرْبَةِ، والمُحَدِّثُ في الخَلْوَةِ، والدَّلِيلُ عَلى السَّرّاءِ والضَّرّاءِ، والسِّلاحُ عَلى الأعْداءِ، والزَّيْنُ عِنْدَ الأخِلّاءِ، يَرْفَعُ اللَّهُ بِهِ أقْوامًا، فَيَجْعَلُهم في الخَيْرِ قادَةً، وأئِمَّةً تُقْتَصُّ آثارُهُمْ، ويُقْتَدى بِأفْعالِهِمْ، ويُنْتَهى إلى رَأْيِهِمْ، تَرْغَبُ المَلائِكَةُ في خُلَّتِهِمْ، وبِأجْنِحَتِها تَمْسَحُهُمْ، يَسْتَغْفِرُ لَهم كُلُّ رَطْبٍ ويابِسٍ، وحِيتانُ البَحْرِ وهَوامُّهُ، وسِباعُ البَرِّ وأنْعامُهُ؛ لِأنَّ العِلْمَ حَياةُ القُلُوبِ مِنَ الجَهْلِ، ومَصابِيحُ الأبْصارِ مِنَ الظُّلَمِ، يَبْلُغُ العَبْدُ بِالعِلْمِ مَنازِلَ الأخْيارِ، والدَّرَجاتِ العُلى في الدُّنْيا والآخِرَةِ، التَّفَكُّرُ فِيهِ يَعْدِلُ الصِّيامَ، ومُدارَسَتُهُ تَعْدِلُ القِيامَ، بِهِ تُوصَلُ الأرْحامُ، وبِهِ يُعْرَفُ الحَلالُ مِنَ الحَرامِ، وهو إمامُ العَمَلِ، والعَمَلُ تابِعٌ لَهُ يُلْهَمُهُ السُّعَداءُ، ويُحْرَمُهُ الأشْقِياءَ. رَواهُ الطَّبَرانِيُّ وابْنُ عَبْدِ البَرِّ وغَيْرُهُما، وقَدْ رُوِيَ مَرْفُوعًا إلى النَّبِيِّ ﷺ، والوَقْفُ أصَحُّ.
والمَقْصُودُ: قَوْلُهُ؛ لِأنَّ العِلْمَ حَياةُ القُلُوبِ مِنَ الجَهْلِ فالقَلْبُ مَيِّتٌ، وحَياتُهُ بِالعِلْمِ والإيمانِ.
(فائِدَة)
ترك الشَّهَوات لله وإن أنجى من عَذاب الله وأوجب الفَوْز برحمته فذخائر الله وكنوز البر ولَذَّة الأنس والشوق إلَيْهِ والفرح والابتهاج بِهِ لا يحصل في قلب فِيهِ غَيره وإن كانَ من أهل العِبادَة والزهد والعلم فَإن سُبْحانَهُ أبى أن يَجْعَل
ذخائره في قلب فِيهِ سواهُ وهمّته ومتعلقة بِغَيْرِهِ وإنَّما يودع ذخائره في قلب يرى الفقر غنى مَعَ الله، والغنى فقرا دون الله، والعز ذلا دونه، والذل عزا مَعَهُ، والنَّعِيم عذابا دونه، والعَذاب نعيما مَعَه.
وَبِالجُمْلَةِ فَلا يرى الحَياة إلّا بِهِ ومَعَ المَوْت والألم والهم والغَم والحزن إذا لم يكن مَعَه فَهَذا لَهُ جنتان جنَّة في الدُّنْيا مُعجلَة وجنة يَوْم القِيامَة.
* (فصل)
أهل السعادة والفلاح حياتهم في الدنيا أطيب الحياة، ولهم في البرزخ وفي الآخرة أفضل الثواب.
قال تعالى:
﴿من عمل صالحًا من ذكر أو أنثى وهو مؤمن فلنحيينه حياة طيبة﴾ فهذا في الدنيا، ثم قال:
﴿ولنجزينهم أجرهم بأحسن ما كانوا يعملون﴾ فهذا في البرزخ والآخرة.
وقال تعالى:
﴿والذين هاجروا في الله من بعد ما ظلموا لنبوئنهم في الدنيا حسنة ولأجر الآخرة أكبر لو كانوا يعلمون﴾وقال تعالى:
﴿وأن استغفروا ربكم ثم توبوا إليه يمتعكم متاعا حسنا إلى أجل مسمى ويؤت كل ذي فضل فضله﴾ فهذا في الآخرة.
وقال تعالى:
﴿قل يا عباد الذين آمنوا اتقوا ربكم للذين أحسنوا في هذه الدنيا حسنة وأرض الله واسعة إنما يوفى الصابرون أجرهم بغير حساب﴾فهذه أربعة مواضع ذكر الله تعالى فيها أنه يجزي المحسن بإحسانه جزاءين: جزاء في الدنيا وجزاء في الآخرة.
فالإحسان له جزاء معجل ولا بد، والإساءة لها جزاء معجل ولا بد.
ولو لم يكن إلا ما يجازى به المحسن من انشراح صدوره في انفساح قلبه وسروره ولذاته بمعاملة ربه عز وجل وطاعته وذكره ونعيم روحه بمحبته.
وذكره وفرحه بربه سبحانه وتعالى أعظم مما يفرح القريب من السلطان الكريم عليه بسلطانه.
وما يجازى به المسيء من ضيق الصدر وقسوة القلب وتشتته وظلمته وحزازاته وغمه وهمه وحزنه وخوفه وهذا أمر لا يكاد من له أدني حس وحياة يرتاب فيه، بل الغموم والهموم والأحزان والضيق عقوبات عاجلة ونار دنيوية وجهنم حاضرة، والاقبال على الله تعالى والإنابة إليه والرضاء به وعنه وامتلاء القلب من محبته واللهج بذكره والفرح والسرور بمعرفته ثواب عاجل وجنة وعيش لا نسبة لعيش الملوك إليه ألبتة.
وسمعت شيخ الإسلام ابن تيمية قدس الله روحه يقول: إن في الدنيا جنة من لم يدخلها لا يدخل جنة الآخرة.
وقال لي مرة: ما يصنع أعدائي بي؟ أنا جنتي وبستاني في صدري، إن رحت فهي معي لا تفارقني، إن حبسي خلوة، وقتلي شهادة، وإخراجي من بلدي سياحة.
وكان يقول في محبسه في القلعة: لو بذلت ملء هذه القاعة ذهبًا ما عدل عندي شكر هذه النعمة.
أو قال ما جزيتهم على ما تسببوا لي فيه من الخير، ونحو هذا.
وكان يقول في سجوده وهو محبوس اللهم أعني على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك ما شاء الله.
وقال لي مرة: المحبوس من حبس قلبه عن ربه تعالى، والمأسور من أسره هواه.
ولما دخل إلى القلعة وصار داخل سورها نظر إليه وقال:
﴿فضرب بينهم بسور له باب باطنه فيه الرحمة وظاهره من قبله العذاب﴾وعلم الله ما رأيت أحدًا أطيب عيشًا منه قط، مع ما كان فيه من ضيق العيش وخلاف الرفاهية والنعيم بل ضدها، ومع ما كان فيه من الحبس والتهديد والإرهاق، وهو مع ذلك من أطيب الناس عيشًا، وأشرحهم صدرًا، وأقواهم قلبًا، وأسرهم نفسًا، تلوح نضرة النعيم على وجهه.
وكنا إذا اشتد بنا الخوف وساءت منا الظنون وضاقت بنا الأرض أتيناه، فما هو إلا أن نراه ونسمع كلامه فيذهب ذلك كله وينقلب انشراحًا وقوة ويقينًا وطمأنينة.
فسبحان من أشهد عباده جنته قبل لقائه، وفتح لهم أبوابها في دار العمل، فآتاهم من روحها ونسيمها وطيبها ما استفرغ قواهم لطلبها والمسابقة إليها.
وكان بعض العارفين يقول: لو علم الملوك وأبناء الملوك ما نحن فيه لجالدونا عليه بالسيوف.
وقال آخر: مساكين أهل الدنيا، خرجوا منها وما ذاقوا أطيب ما فيها؟
قيل: وما أطيب ما فيها؟
قال: محبة الله تعالى ومعرفته وذكره.
أو نحو هذا.
وقال آخر: إنه لتمر بالقلب أوقات يرقص فيها طربًا.
وقال آخر: إنه لتمر بي أوقات أقول إن كان أهل الجنة في مثل هذا إنهم لفي عيش طيب.
فمحبة الله تعالى ومعرفته ودوام ذكره والسكون إليه والطمأنينة إليه وإفراده بالحب والخوف والرجاء والتوكل والمعاملة بحيث يكون هو وحده المستولي على هموم العبد وعزماته وإرادته، هو جنة الدنيا والنعيم الذي لا يشبهه نعيم، وهو قوة عين المحبين، وحياة العارفين.
وإنما تقر عيون الناس به على حسب قرة أعينهم بالله عز وجل، فمن قرت عينه بالله قرت به كل عين، ومن لم تقر عينه بالله تقطعت نفسه على الدنيا حسرات.
وإنما يصدق هذا من في قلبه حياة، وأما ميت القلب فيوحشك ما له ثم، فاستأنس بغيبته ما أمكنك، فإنك لا يوحشك إلا حضوره عندك، فإذا ابتليت به فأعطه ظاهرك، وترحل عنه بقلبك، وفارقه بسرك، ولا تشغل به عما هو أولى بك.
واعلم أن الحسرة كل الحسرة الاشتغال بمن لا يجر عليك الاشتغال به إلا فوت نصيبك وحظك من الله عز وجل، وانقطاعك عنه، وضياع وقتك، وضعف عزيمتك، وتفرق همك.
فإذا بليت بهذا - ولا بد لك منه - فعامل الله تعالى فيه واحتسب عليه ما أمكنك، وتقرب إلى الله تعالى بمرضاته فيه، واجعل اجتماعك به متجرًا لك لا تجعله خسارة وكن معه كرجل سائر في طريقه عرض له رجل وقفه عن سيره، فاجتهد أن تأخذه معك وتسير به فتحمله ولا يحملك، فإن أبى ولم يكن في سيره مطمع فلا تقف معه بلا ركب الدرب ودعه ولا تلتفت إليه فإنه قاطع الطريق ولو كان من كان، فانج بقلبك، وضن بيومك وليلتك، لا تغرب عليك الشمس قبل وصول المنزلة فتؤخذ أو يطلع الفجر أنى لك بلماقهم.
* (فصل)
قوله تعالى:
﴿مَن عَمِلَ صالِحًا مِن ذَكَرٍ أوْ أُنْثى وهو مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَياةً طَيِّبَةً﴾لَيْسَ المُرادُ مِنها الحَياةَ المُشْتَرَكَةَ بَيْنَ المُؤْمِنِينَ والكُفّارِ، والأبْرارِ والفُجّارِ، ومِن طِيبِ المَأْكَلِ والمَلْبَسِ والمَشْرَبِ والمَنكَحِ، بَلْ رُبَّما زادَ أعْداءُ اللَّهِ عَلى أوْلِيائِهِ في ذَلِكَ أضْعافًا مُضاعَفَةً، وقَدْ ضَمِنَ اللَّهُ سُبْحانَهُ لِكُلِّ مَن عَمِلَ صالِحًا أنْ يُحْيِيَهُ حَياةً طَيِّبَةً، فَهو صادِقُ الوَعْدِ الَّذِي لا يُخْلِفُ وعْدَهُ، وأيُّ حَياةٍ أطْيَبُ مِن حَياةِ مَنِ اجْتَمَعَتْ هُمُومُهُ كُلُّها وصارَتْ هَمًّا واحِدًا في مَرْضاةِ اللَّهِ؟ ولَمْ يَتَشَعَّبْ قَلْبُهُ، بَلْ أقْبَلَ عَلى اللَّهِ، واجْتَمَعَتْ إرادَتُهُ وأفْكارُهُ الَّتِي كانَتْ مُتَقَسِّمَةً بِكُلِّ وادٍ مِنها شُعْبَةٌ عَلى اللَّهِ، فَصارَ ذِكْرُهُ بِمَحْبُوبِهِ الأعْلى وحُبُّهُ والشَّوْقُ إلى لِقائِهِ، والأُنْسُ بِقُرْبِهِ هو المُسْتَوْلِي عَلَيْهِ، وعَلَيْهِ تَدُورُ هُمُومُهُ وإرادَتُهُ وقُصُودُهُ بِكُلِّ خَطَراتِ قَلْبِهِ، فَإنْ سَكَتَ سَكَتَ بِاللَّهِ، وإنْ نَطَقَ نَطَقَ بِاللَّهِ، وإنْ سَمِعَ فَبِهِ يَسْمَعُ، وإنْ أبْصَرَ فَبِهِ يُبْصِرُ، وبِهِ يَبْطِشُ، وبِهِ يَمْشِي، وبِهِ يَسْكُنُ، وبِهِ يَحْيا، وبِهِ يَمُوتُ، وبِهِ يُبْعَثُ، كَما في صَحِيحِ البُخارِيِّ عَنْهُ ﷺ فِيما يَرْوِي عَنْ رَبِّهِ تَبارَكَ وتَعالى، أنَّهُ قالَ: "
«ما تَقَرَّبَ إلَيَّ عَبْدِي بِمِثْلِ أداءِ ما افْتَرَضْتُ عَلَيْهِ، ولا يَزالُ عَبْدِي يَتَقَرَّبُ إلَيَّ بِالنَّوافِلِ حَتّى أُحِبَّهُ، فَإذا أحْبَبْتُهُ كُنْتُ سَمْعَهُ الَّذِي يَسْمَعُ بِهِ، وبَصَرَهُ الَّذِي يُبْصِرُ بِهِ، ويَدَهُ الَّتِي يَبْطِشُ بِها، ورِجْلَهُ الَّتِي يَمْشِي بِها، فَبِي يَسْمَعُ، وبِي يُبْصِرُ، وبِي يَمْشِي، ولَئِنْ سَألَنِي لَأُعْطِيَنَّهُ، ولَئِنِ اسْتَعاذَنِي لَأُعِيذَنَّهُ، وما تَرَدَّدْتُ في شَيْءٍ أنا فاعِلُهُ، كَتَرَدُّدِي عَنْ قَبْضِ نَفْسِ عَبْدِيَ المُؤْمِنِ يَكْرَهُ المَوْتَ، وأكْرَهُ مُساءَتَهُ ولا بُدَّ لَهُ مِنهُ "».
فَتَضَمَّنَ هَذا الحَدِيثُ الشَّرِيفُ الإلَهِيُّ - الَّذِي حَرامٌ عَلى غَلِيظِ الطَّبْعِ كَسِيفِ القَلْبِ فَهْمُ مَعْناهُ والمُرادُ بِهِ - حَصْرَ أسْبابِ مَحَبَّتِهِ في أمْرَيْنِ: أداءِ فَرائِضِهِ، والتَّقَرُّبِ إلَيْهِ بِالنَّوافِلِ.
وَأخْبَرَ سُبْحانَهُ أنَّ أداءَ فَرائِضِهِ أحَبُّ ما يَتَقَرَّبُ بِهِ إلَيْهِ المُتَقَرِّبُونَ، ثُمَّ بَعْدَها النَّوافِلُ، وأنَّ المُحِبَّ لا يَزالُ يُكْثِرُ مِنَ النَّوافِلِ حَتّى يَصِيرَ مَحْبُوبًا لِلَّهِ، فَإذا صارَ مَحْبُوبًا لِلَّهِ أوْجَبَتْ مَحَبَّتُهُ لِلَّهِ لَهُ مَحَبَّةً أُخْرى مِنهُ فَوْقَ المَحَبَّةِ الأُولى، فَشَغَلَتْ هَذِهِ المَحَبَّةُ قَلْبَهُ عَنِ الفِكْرَةِ والِاهْتِمامِ بِغَيْرِ مَحْبُوبِهِ، ومَلَكَتْ عَلَيْهِ رُوحَهُ، ولَمْ يَبْقَ فِيهِ سِعَةٌ لِغَيْرِ مَحْبُوبِهِ ألْبَتَّةَ، فَصارَ ذِكْرُ مَحْبُوبِهِ وحُبُّهُ ومَثَلُهُ الأعْلى، ومالِكًا لِزِمامِ قَلْبِهِ مُسْتَوْلِيًا عَلى رُوحِهِ اسْتِيلاءَ المَحْبُوبِ عَلى مَحَبَّةِ الصّادِقِ في مَحَبَّتِهِ، الَّتِي قَدِ اجْتَمَعَتْ قُوى مَحَبَّةِ حُبِّهِ كُلُّها لَهُ.
وَلا رَيْبَ أنَّ هَذا المُحِبَّ إنْ سَمِعَ سَمِعَ بِمَحْبُوبِهِ، وإنْ أبْصَرَ أبْصَرَ بِهِ، وإنْ بَطَشَ بَطَشَ بِهِ، وإنْ مَشى مَشى بِهِ، فَهو في قَلْبِهِ ومَعَهُ وأنِيسُهُ وصاحِبُهُ، فالباءُ هاهُنا لِلْمُصاحَبَةِ، وهي مُصاحَبَةٌ لا نَظِيرَ لَها، ولا تُدْرَكُ بِمُجَرَّدِ الإخْبارِ عَنْها والعِلْمِ بِها، فالمَسْألَةُ حالِيَّةٌ لا عِلْمِيَّةٌ مَحْضَةٌ.
وَإذا كانَ المَخْلُوقُ يَجِدُ هَذا في مَحَبَّةِ المَخْلُوقِ الَّتِي لَمْ يُخْلَقْ لَها ولَمْ يُفْطَرْ عَلَيْها، كَما قالَ بَعْضُ المُحِبِّينَ:
خَيالُكَ في عَيْنِي وذِكْرُكَ في فَمِي ∗∗∗ ومَثْواكَ في قَلْبِي فَأيْنَ تَغِيبُ
وَقالَ الآخَرُ:
وَمِن عَجَبٍ أنِّي أحِنُّ إلَيْهِمُ ∗∗∗ فَأسْألُ عَنْهم مَن لَقِيتُ وهم مَعِي
وَتَطْلُبُهم عَيْنِي وهم في سَوادِها ∗∗∗ ويَشْتاقُهم قَلْبِي وهم بَيْنَ أضْلُعِي
وَهَذا ألْطَفُ مِن قَوْلِ الآخَرِ:
إنْ قُلْتُ غِبْتِ فَقَلْبِي لا يُصَدِّقُنِي ∗∗∗ إذْ أنْتَ فِيهِ مَكانَ السِّرِّ لَمْ تَغِبِ
أوْ قُلْتُ ما غِبْتِ قالَ الطَّرْفُ ذا كَذِبٌ ∗∗∗ فَقَدْ تَحَيَّرْتُ بَيْنَ الصِّدْقِ والكَذِبِ
فَلَيْسَ شَيْءٌ أدْنى إلى المُحِبِّ مِن مَحْبُوبِهِ، ورُبَّما تَمَكَّنَتْ مِنهُ المَحَبَّةُ، حَتّى يَصِيرَ أدْنى إلَيْهِ مِن نَفْسِهِ، بِحَيْثُ يَنْسى نَفْسَهُ ولا يَنْساهُ، كَما قالَ:
أُرِيدُ لِأنْسى ذِكْرَها فَكَأنَّما ∗∗∗ تُمَثَّلُ لِي لَيْلى بِكُلِّ سَبِيلِ
وَقالَ الآخَرُ:
يُرادُ مِنَ القَلْبِ نِسْيانُكم ∗∗∗ وتَأْبى الطِّباعُ عَلى النّاقِلِ
وَخَصَّ في الحَدِيثِ السَّمْعَ والبَصَرَ واليَدَ والرِّجْلَ بِالذِّكْرِ، فَإنَّ هَذِهِ الآلاتِ آلاتُ الإدْراكِ وآلاتُ الفِعْلِ، والسَّمْعُ والبَصَرُ يُورِدانِ عَلى القَلْبِ الإرادَةَ والكَراهَةَ، ويَجْلِبانِ إلَيْهِ الحُبَّ والبُغْضَ، فَيَسْتَعْمِلُ اليَدَ والرِّجْلَ، فَإذا كانَ سَمْعُ العَبْدِ بِاللَّهِ، وبَصَرُهُ بِاللَّهِ كانَ مَحْفُوظًا في آلاتِ إدْراكِهِ، وكانَ مَحْفُوظًا في حُبِّهِ وبُغْضِهِ، فَحُفِظَ في بَطْشِهِ ومَشْيِهِ.
وَتَأمَّلْ كَيْفَ اكْتَفى بِذِكْرِ السَّمْعِ والبَصَرِ واليَدِ والرِّجْلِ عَنِ اللِّسانِ، فَإنَّهُ إذا كانَ إدْراكُ السَّمْعِ الَّذِي يَحْصُلُ بِاخْتِيارِهِ تارَةً، وبِغَيْرِ اخْتِيارِهِ تارَةً، وكَذَلِكَ البَصَرُ قَدْ يَقَعُ بِغَيْرِ الِاخْتِيارِ فَجْأةً، وكَذَلِكَ حَرَكَةُ اليَدِ والرِّجْلِ الَّتِي لا بُدَّ لِلْعَبْدِ مِنهُما، فَكَيْفَ بِحَرَكَةِ اللِّسانِ الَّتِي لا تَقَعُ إلّا بِقَصْدٍ واخْتِيارٍ؟ وقَدْ يَسْتَغْنِي العَبْدُ عَنْها إلّا حَيْثُ أُمِرَ بِها.
وَأيْضًا فانْفِعالُ اللِّسانِ عَنِ القَلْبِ أتَمُّ مِنَ انْفِعالِ سائِرِ الجَوارِحِ، فَإنَّهُ تُرْجُمانُهُ ورَسُولُهُ.
وَتَأمَّلْ كَيْفَ حَقَّقَ تَعالى كَوْنَ العَبْدِ بِهِ سَمْعُهُ وبَصَرُهُ وبَطْشُهُ ومَشْيُهُ بِقَوْلِهِ: "
«كُنْتُ سَمْعَهُ الَّذِي يَسْمَعُ بِهِ، وبَصَرَهُ الَّذِي يُبْصِرُ بِهِ، ويَدَهُ الَّتِي يَبْطِشُ بِها، ورِجْلَهُ الَّتِي يَمْشِي بِها» " تَحْقِيقًا لِكَوْنِهِ مَعَ عَبْدِهِ، وكَوْنِ عَبْدِهِ في إدْراكاتِهِ، بِسَمْعِهِ وبَصَرِهِ وحَرَكاتِهِ بِيَدَيْهِ ورِجْلِهِ.
وَتَأمَّلْ كَيْفَ قالَ: " فَبِي يَسْمَعُ، وبِي يُبْصِرُ " ولَمْ يَقُلْ: فَلِي يَسْمَعُ، ولِي يُبْصِرُ، ورُبَّما يَظُنُّ الظَّنّانُ أنَّ اللّامَ أوْلى بِهَذا المَوْضِعِ، إذْ هي أدَلُّ عَلى الغايَةِ، ووُقُوعُ هَذِهِ الأُمُورِ لِلَّهِ، وذَلِكَ أخَصُّ مِن وُقُوعِها بِهِ، وهَذا مِنَ الوَهْمِ والغَلَطِ، إذْ لَيْسَتِ الباءُ هاهُنا بِمُجَرَّدِ الِاسْتِعانَةِ، فَإنَّ حَرَكاتِ الأبْرارِ والفُجّارِ وإدْراكاتِهِمْ إنَّما هي بِمَعُونَةِ اللَّهِ لَهُمْ، وإنَّ الباءَ هاهُنا لِلْمُصاحَبَةِ، أيْ: إنَّما يَسْمَعُ ويُبْصِرُ ويَبْطِشُ ويَمْشِي وأنا صاحِبُهُ مَعَهُ، كَقَوْلِهِ في الحَدِيثِ الآخَرِ: "
«أنا مَعَ عَبْدِي ما ذَكَرَنِي وتَحَرَّكَتْ بِي شَفَتاهُ» " وهَذِهِ هي المَعِيَّةُ الخاصَّةُ المَذْكُورَةُ في قَوْلِهِ تَعالى:
﴿لا تَحْزَنْ إنَّ اللَّهَ مَعَنا﴾ [التوبة: ٤٠].
وَقَوْلِ النَّبِيِّ ﷺ:
«ما ظَنُّكَ بِاثْنَيْنِ اللَّهُ ثالِثُهُما»، وقَوْلُهُ تَعالى:
﴿وَإنَّ اللَّهَ لَمَعَ المُحْسِنِينَ﴾ [العنكبوت: ٦٩].
وَقَوْلِهِ:
﴿إنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا والَّذِينَ هم مُحْسِنُونَ﴾ [النحل: ١٢٨].
وَقَوْلِهِ:
﴿واصْبِرُوا إنَّ اللَّهَ مَعَ الصّابِرِينَ﴾ [الأنفال: ٤٦].
وَقَوْلِهِ:
﴿كَلّا إنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ﴾ [الشعراء: ٦٢].
وَقَوْلِهِ تَعالى لِمُوسى وهارُونَ:
﴿إنَّنِي مَعَكُما أسْمَعُ وأرى﴾ [طه: ٤٦].
فَهَذِهِ الباءُ مُفِيدَةٌ لِمَعْنى هَذِهِ المَعِيَّةِ دُونَ اللّامِ، ولا يَتَأتّى لِلْعَبْدِ الإخْلاصُ والصَّبْرُ والتَّوَكُّلُ، ونُزُولُهُ في مَنازِلِ العُبُودِيَّةِ إلّا بِهَذِهِ الباءِ وهَذِهِ المَعِيَّةِ.
فَمَتى كانَ العَبْدُ بِاللَّهِ هانَتْ عَلَيْهِ المَشاقُّ، وانْقَلَبَتِ المَخاوِفُ في حَقِّهِ، فَبِاللَّهِ يَهُونُ كُلُّ صَعْبٍ، ويَسْهُلُ كُلُّ عَسِيرٍ، ويَقْرُبُ كُلُّ بَعِيدٍ، وبِاللَّهِ تَزُولُ الهُمُومُ والغُمُومُ والأحْزانُ، فَلا هَمَّ مَعَ اللَّهِ، ولا غَمَّ ولا حَزَنَ إلّا حَيْثُ يُفَوِّتُهُ العَبْدُ مَعْنى هَذِهِ الباءِ، فَيَصِيرُ قَلْبُهُ حِينَئِذٍ كالحُوتِ، إذا فارَقَ الماءَ يَثِبُ ويَنْقَلِبُ حَتّى يَعُودَ إلَيْهِ.
وَلَمّا حَصَلَتْ هَذِهِ المُوافَقَةُ مِنَ العَبْدِ لِرَبِّهِ في مَحابِّهِ؛ حَصَلَتْ مُوافَقَةُ الرَّبِّ لِعَبْدِهِ في حَوائِجِهِ ومَطالِبِهِ، فَقالَ:
«وَلَئِنْ سَألَنِي لَأُعْطِيَنَّهُ، ولَئِنِ اسْتَعاذَنِي لَأُعِيذَنَّهُ» ". أيْ: كَما وافَقَنِي في مُرادِي بِامْتِثالِ أوامِرِي والتَّقَرُّبِ بِمَحابِّي، فَأنا أُوافِقُهُ في رَغْبَتِهِ ورَهْبَتِهِ فِيما يَسْألُنِي أنْ أفْعَلَهُ بِهِ، ويَسْتَعِيذُنِي أنْ يَنالَهُ، وقَوِيَ أمْرُ هَذِهِ المُوافَقَةِ مِنَ الجانِبَيْنِ حَتّى اقْتَضى تَرَدُّدَ الرَّبِّ سُبْحانَهُ في إماتَةِ عَبْدِهِ؛ لِأنَّهُ يَكْرَهُ المَوْتَ، والرَّبُّ تَعالى يَكْرَهُ ما يَكْرَهُهُ عَبْدُهُ، ويَكْرَهُ مُساءَتَهُ، فَمِن هَذِهِ الجِهَةِ يَقْتَضِي أنْ لا يُمِيتَهُ ولَكِنَّ مَصْلَحَتَهُ في إماتَتِهِ، فَإنَّهُ ما أماتَهُ إلّا لِيُحْيِيَهُ، ولا أمْرَضَهُ إلّا لِيُصِحَّهُ، ولا أفْقَرَهُ إلّا لِيُغْنِيَهُ، ولا مَنَعَهُ إلّا لِيُعْطِيَهُ، ولَمْ يُخْرَجْ مِنَ الجَنَّةِ في صُلْبِ أبِيهِ إلّا لِيُعِيدَهُ إلَيْها عَلى أحْسَنِ أحْوالِهِ، ولَمْ يَقُلْ لِأبِيهِ اخْرُجْ مِنها إلّا وهو يُرِيدُ أنْ يُعِيدَهُ إلَيْها، فَهَذا هو الحَبِيبُ عَلى الحَقِيقَةِ لا سِواهُ، بَلْ لَوْ كانَ في كُلِّ مَنبَتِ شَعْرَةٍ مِنَ العَبْدِ مَحَبَّةٌ تامَّةٌ لِلَّهِ، لَكانَ بَعْضُ ما يَسْتَحِقُّهُ عَلى عَبْدِهِ.
نَقِّلْ فُؤادَكَ حَيْثُ شِئْتَ مِنَ الهَوى ∗∗∗ ما الحُبُّ إلّا لِلْحَبِيبِ الأوَّلِ
كَمْ مَنزِلٍ في الأرْضِ يَأْلَفُهُ الفَتى ∗∗∗ وحَنِينُهُ أبَدًا لِأوَّلِ مَنزِلِ