الباحث القرآني

* (فصل) الطبقة السادسة عشرة: رؤساء الكفر وأئمته، ودعاته الذين كفروا وصدوا عباد الله عن الإيمان وعن الدخول في دينه رغبة ورهبة فهؤلاء عذابهم مضاعف، ولهم عذابان: عذاب بالكفر، وعذاب بصد الناس عن الدخول في الإيمان. قال الله تعالى: ﴿الَّذِينَ كَفَرُوا وصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ الله زِدْناهم عَذابًا فَوْقَ العَذابِ﴾ [النحل: ٨٨] فأحد العذابين بكفرهم، والعذاب الآخر بصدهم عن سبيل الله. وقد استقرت حكمة الله وعدله أن يجعل على الداعي إلى الضلال مثل آثام من اتبعه واستجاب له، ولا ريب أن عذاب هذا يتضاعف ويتزايد بحسب من اتبعه وضل به. وهذا النوع في الأشقياء مقابل دعاة الهدى في السعداءِ، فأُولئك يتضاعف ثوابهم وتعلو درجاتهم بحسب من اتبعهم واهتدى بهم، وهؤلاء عكسهم، ولهذا كان فرعون وقومه في أشد العذاب، قال تعالى في حقهم: ﴿النّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْها غُدُوّا وعَشِيًّا ويَوْمَ تَقُومُ السّاعَةُ أدْخِلُوا آلِ فِرْعَوْنَ أشَدَّ العَذابِ﴾ [غافر: ٤٦]، وهذا تنبيه على أن فرعون نفسه في الأشد من ذلك، لأنهم إنما دخلوا أشد العذاب تبعًا له، فإنه هو الذي استخفهم فأطاعوه، وغرهم فاتبعوه. ولهذا يكون يوم القيامة إمامهم وفرطهم في هذا الورد، قال تعالى: ﴿يَقْدُمُ قَوْمَهُ يَوْمَ القِيامَةِ فَأوْرَدَهم النّارَ﴾ [هود: ٩٨]. والمقصود: أنهم استحقوا أشد العذاب لغلظ كفرهم، وصدهم عن سبيل الله وعقوبتهم من آمن بالله. فليس عذاب الرؤساء في النار كعذاب أتباعهم، ولهذا كان في كتاب النبي ﷺ لهرقل: "فإن توليت فإن عليك إثم الأريسيين ". والصحيح في اللفظ أنهم الأتباع ولهذا كان عدو الله إبليس أشد أهل النار عذابًا، وهو أول من يكسى حلة من النار، لأنه إمام كل كفر وشرك وشر. فما عصى الله إلا على يديه وبسببه، ثم الأمثل فالأمثل من نوابه في الأرض ودعاته. ولا ريب أن الكفر يتفاوت، فكفر أغلظ من كفر، كما أن الإيمان يتفاوت فإيمان أفضل من إيمان. فكما أن المؤمنين ليسوا في درجة واحدة، بل هم درجات عند الله، فكذلك الكفار ليسوا في طبقة واحدة ودرك واحد بل النار دركات كما أن الجنة درجات. ولا يظلم الله من خلقه أحدًا. وهو الغنى الحميد. * (فصل) وغلظ الكفر الموجب لغلظ العذاب يكون من ثلاثة أوجه: أحدها: من حيث العقيدة الكافرة في نفسها، كمن جحد رب العالمين بالكلية وعطل العالم عن الرب الخالق المدبر له، فلم يؤمن بالله وملائكته ولا كتبه ولا رسله ولا اليوم الآخر. ولهذا لا يقر أرباب هذا الكفر بالجزية عند كثير من العلماءِ، ولا تؤكل ذبائحهم ولا تنكح نساؤهم اتفاقًا لتغلظ كفرهم، وهؤلاءِ هم المعطلة والدهرية وكثير من الفلاسفة وأهل الوحدة القائلين بأنه لا وجود للرب سبحانه وتعالى غير وجود هذا العالم. الجهة الثانية: تغلظه بالعناد والضلال عمدًا على بصيرة، ككفر من شهد قلبه أن الرسول حق لما رآه من آيات صدقه، وكفر عنادًا وبغيًا، كقوم ثمود، وقوم فرعون واليهود الذين عرفوا الرسول كما عرفوا أبناءَهم، وكفر أبي جهل وأُمية ابن أبي الصلت وأمثال هؤلاء. الجهة الثالثة: السعي في إطفاءِ نور الله وصد عباده عن دينه بما تصل إليه قدرتهم، فهؤلاءِ أشد الكفار عذابًا بحسب تغلظ كفرهم، ومنهم من يجتمع في حقه الجهات الثلاث، ومنهم من يكون فيه جهتان منها أو واحدة فليس عذاب هؤلاءِ كعذاب من هو دونهم في الكفر ممن هو ملبوس عليه لجهله، والمؤمنون من أذاه في سلامة لا ينالهم منه أذى، ولم يتغلظ كفره كتغلظ هؤلاءِ، بل هو مقر بالله ووحدانيته وملائكته وجنس الكتب والرسل واليوم الآخر. وإن شارك أولئك في كفرهم بالرسول فقد زادوا عليه أنواعًا من الكفر. وهل يستوي في النار عذاب أبي طالب وأبي لهب وأبي جهل وعقبة بن أبي معيط وأبي ابن خلف وأضرابهم؟ والمقصود أن هذه الطبقة وهي طبقة الرؤساءِ الدعاة الصادين عن دين الله ليست كطبقة من دونهم، وقد ثبت عن النبي ﷺ أنه قال: "أهون أهل النار عذابًا أبو طالب"، ومعلوم أن كفر أبي طالب لم يكن مثل كفر أبي جهل وأمثاله.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب