الباحث القرآني

فإن قيل: فما وجه خوف الملائكة وهم معصومون من الذنوب التي هي أسباب المخافة، وشدة خوف النبي ﷺ مع علمه بأن الله قد غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر وأنه أقرب الخلق إلى الله؟ قيل: عن هذا أربعة أجوبة: الجواب الأول: إن هذا الخوف على حسب القرب من الله والمنزلة عنده. وكلما كان العبد أقرب إلى الله كان خوفه منه أشد، لأنه يطالب بما لا يطالب به غيره، ويجب عليه من رعاية تلك المنزلة وحقوقها ما لا يجب على غيره. ونظير هذا في المشاهد أن الماثل بين يدي أحد الملوك المشاهد له أشد خوفًا منه من البعيد عنه، بحسب قربه منه ومنزلته عنده ومعرفته به وبحقوقه، وأنه يطالب من حقوقه الخدمة وأدائها بما لا يطالب به غيره، فهو أحق بالخوف من البعيد. ومن تصور هذا حق تصوره فهم قوله ﷺ: "إني أعلمكم بالله وأشدكم له خشية"، وفهم قوله ﷺ في الحديث الذي رواه أبو داود وغيره من حديث زيد بن ثابت عن النبي ﷺ أنه قال: "إن الله تعالى لو عذب أهل سمواته وأهل أرضه لعذبهم وهو غير ظالم لهم ولو رحمهم كانت رحمته لهم خيرًا من أعمالهم ". وليس المراد به لو عذبهم لتصرف في ملكه - والمتصرف في ملكه غير ظالم - كما يظنه كثير من الناس، فإن هذا يتضمن مدحًا، والحديث إنما سيق للمدح وبيان عظم حق الله على عباده وأنه لو عذبهم لعذبهم بحقه عليهم ولم يكن بغير استحقاق، فإن حقه سبحانه عليهم أضعاف أضعاف ما أتوا. ولهذا قال بعده: "ولو رحمهم كانت رحمته خيرًا لهم من أعمالهم" يعني أن رحمته لهم ليست ثمنًا لأعمالهم ولا تبلغ أعمالهم رحمته فرحمته لهم ليست على قدر أعمالهم، إذ أعمالهم لا تستقل باقتضاء الرحمة، وحقوق عبوديته وشكره التي يستحقها عليهم لم يقوموا بها، فلو عذبهم والحالة هذه لكان تعذيبًا لحقه، وهو غير ظالم لهم فيه. ولا سيما فإن أعمالهم لا توازى القليل من نعمه عليهم، فتبقى نعمه الكثيرة لا مقابل لها من شكرهم، فإذا عذبهم على ترك شكرهم وأداءِ حقه الذي ينبغي له سبحانه عذبهم ولم يكن ظالمًا لهم. فإن قيل: فهم إذا فعلوا مقدورهم من شكره وعبوديته لم يكن ما عداه مما ينبغي له مقدورًا لهم. فكيف يحسن العذاب عليه؟ قيل: الجواب من وجهين: أحدهما: أن المقدور للعبد لا يأْتي به كله، بل لا بد من فتور وإعراض وغفلة وتوان. وأيضًا ففى نفس قيامه بالعبودية لا يوفيها حقها الواجب لها من كمال المراقبة والإجلال والتعظيم والنصيحة التامة لله فيها، بحيث يبذل مقدوره كله في تحسينها وتكميلها ظاهرًا وباطنًا، فالتقصير لازم في حال الترك وفي حال الفعل، ولهذا سأل الصديق النبي، دعاءً يدعو به في صلاته، فقال له: "قل: اللَّهم إني ظلمت نفسي ظلمًا كثيرًا ولا يغفر الذنوب إلا أنت، فاغفر لى مغفرة من عندك وارحمنى إنك أنت الغفور الرحيم"، فأخبر عن ظلمه لنفسه مؤكدًا له بأن المقتضية ثبوت الخبر وتحققه، ثم أكده بالمصدر النافي للتجوز والاستعارة، ثم وصفه بالكثرة المقتضية لتعدده وتكثره، ثم قال: "فاغفر لى مغفرة من عندك"، أي لا ينالها عملى ولا سعيى بل عملى يقصر عنها، وإنما هي من فضلك وإحسانك، لا بكسبي ولا باستغفاري وتوبتي. ثم قال: "وارحمني" أي ليس معولي إلا على مجرد رحمتك، فإن رحمتى وإلا فالهلاك لازم لى فليتدبر اللبيب هذا الدعاء وما فيه من المعارف والعبودية، وفي ضمنه: إنه لو عذبتني لعدلت في ولم يتظلمني، وإني لا أنجو إلا برحمتك ومغفرتك. ومن هذا قوله ﷺ: "لن ينجى أحدًا منكم عمله" قالوا: ولا أنت يا رسول الله؟ قال: "ولا أنا إلا أن يتغمدنى الله برحمة منه وفضل"، فإذا كان عمل العبد لا يستقل بالنجاة، فلو لم ينجه الله فلم يكن قد بخسه شيئًا من حقه ولا ظلمه، فإنه ليس معه ما يقتضي نجاته، وعمله ليس وافيًا بشكر القليل من نعمه، فهل يكون ظالمًا له لو عذبه؟ وهل تكون رحمته له جزاءً لعمله، ويكون العمل ثمنًا لها مع تقصيره فيه وعدم توفيته ما ينبغي له من بذل النصيحة فيه، وكمال العبودية من الحياءِ والمراقبة، والمحبة والخشوع وحضور القلب بين يدى الله في العمل له؟ ومن علم هذا علم السر في كون أعمال الطاعات تختم بالاستغفار، ففى صحيح مسلم عن ثوبان قال: "كان رسول الله ﷺ إذا سلم من صلاته استغفر ثلاثًا. وقال: اللَّهم أنت السلام ومنك السلام تباركت يا ذا الجلال والإكرام"، قال تعالى: ﴿كانُوا قَلِيلًا مِنَ اللَّيْلِ ما يَهْجَعُونَ وبِالأسْحارِ هم يَسْتَغْفِرُونَ﴾ [الذاريات: ١٧-١٨]، فأخبر عن استغفارهم عقيب صلاة الليل. قال الحسن: مدوا الصلاة إلى السحر، فلما كان السحر جلسوا يستغفرون الله. وأمر الله تعالى عباده بالاستغفار عقيب الإفاضة في الحج فقال: ﴿ثُمَّ أفِيضُوا مِن حَيْثُ أفاضَ النّاسُ واسْتَغْفِرُوا اللهَ إنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ﴾ [البقرة: ١٩٩]، وشرع رسول الله ﷺ للمتوضئ أن يختم وضوءَه بالتوحيد والاستغفار فيقول: "أشْهَدُ أنَّ لا إلَهَ إلا اللهُ وأشْهَدُ أنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ ورَسُولُه، اللَّهمَّ اجْعَلْنِي مِنَ التَّوّابِين واجْعَلْنِي مِنَ المُتَطَهِّرِين" فهذا ونحوه مما يبين حقيقة الأمر، وأن كل أحد محتاج إلى مغفرة الله ورحمته، وأنه لا سبيل إلى النجاة بدون مغفرته ورحمته أصلًا. الجواب الثاني: أنه لو فرض أن العبد يأْتي بمقدوره كله من الطاعة ظاهرًا وباطنًا، فالذي ينبغي لربه سبحانه فوق ذلك وأضعاف أضعافه. فإذا عجز العبد عنه لم يستحق ما يترتب عليه من الجزاءِ. والذي أتى به لا يقابل أقل النعم. فإذا حرم جزاءَ العمل الذي ينبغي للرب سبحانه من عبده كان ذلك تعذيبًا له، ولم يكن الرب ظالمًا له في هذا الحرمان. ولو كان عاجزًا عن أسبابه فإنه لم يمنعه حقًا يستحقه عليه فيكون ظالمًا بمنعه. فإذا أعطاه الثواب كان مجرد صدقة منه وفضل تصدق بها عليه لا ينالها عمله، بل هي خير من عمله وأفضل وأكثر، ليست معوضة عليه. والله أعلم. الجواب الثالث عن السؤال الأول: إن العبد إذا علم أن الله سبحانه وتعالى هو مقلب القلوب، وأنه يحول بين المرءِ وقلبه وأنه تعالى سبحانه كل يوم هو في شأْن، يفعل ما يشاءُ ويحكم ما يريد وأنه يهدى من يشاءُ ويضل من يشاءُ، ويرفع من يشاءُ ويخفض من يشاءُ، فما يؤمنه أن يقلب الله قلبه ويحول بينه وبينه ويزيغه بعد إقامته؟ وقد أثنى الله على عباده المؤمنين بقولهم: ﴿رَبَّنا لا تُزِغْ قُلُوبَنا بَعْدَ إذْ هَدَيْتَنا﴾ [آل عمران: ٨]، فلولا خوف الإزاغة لما سألوه أن لا يزيغ قلوبهم. وكان من دعاء النبي ﷺ: " اللهم مصرف القلوب، صرف قلوبنا على طاعتك، ومثبت القلوب، ثبت قلوبنا على دينك"، وفي الترمذي عنه ﷺ أنه كان يدعو: "أعوذ بعزتك أن تضلنى أنت الحي الذي لا تموت". وكان من دعائه: "اللَّهُمَّ إنِّى أعُوذُ بِرِضاكَ مِن سَخَطكَ وأعُوذُ بِمُعافاتِكَ مِن عُقُوبَتِكَ وأعُوذُ بِكَ مِنكَ". فاستعاذ بصفة الرضا من صفة الغضب، وبفعل العافية من فعل العقوبة، واستعاذ به منه باعتبارين. وكأن في استعاذته منه جمعًا لما فصله في الجملتين قبله. فإن الاستعاذة به منه ترجع إلى معنى الكلام قبلها، مع تضمنها فائدة شريفة وهي كمال التوحيد وأن الذي يستعيذ به العائذ ويهرب منه إنما هو فعل الله ومشيئته وقدره، فهو وحده المنفرد بالحكم. فإذا أراد بعبده سوءًا لم يعذه منه إلا هو. فهو الذي يريد به ما يسوؤه، وهو الذي يريد دفعه عنه. فصار سبحانه مستعاذًا به منه باعتبار الإرادتين: ﴿وَإنْ يمسسك اللهُ بِضُرٍّ فَلا كاشِفَ لَهُ إلا هُوَ﴾ [الأنعام: ١٧]، فهو الذي يمس بالضر، وهو الذي يكشفه، لا إله إلا هو فالمهرب منه إليه، والفرار منه إليه، واللجأُ منه إليه، كما أن الاستعاذة منه، فإنه لا رب غيره ولا مدبر للعبد سواه. فهو الذي يحركه ويقلبه، ويصرفه كيف يشاءُ. الجواب الرابع: أن الله سبحانه وتعالى هو الذي يخلق أفعال العبد الظاهرة والباطنة، فهو الذي يجعل الإيمان والهدى في القلب ويجعل التوبة والإنابة والإقبال والمحبة والتفويض وأضدادها والعبد في كل لحظة مفتقر إلى هداية يجعلها الله في قلبه وحركات يحركها بها في طاعته. وهذا إلى الله سبحانه وتعالى فهو خلقه وقدره، وكان من دعاءِ النبي ﷺ: "اللَّهم آت نفسي تقواها، وزكها أنت خير من زكاها، أنت وليها ومولاها" وعلم حصين بن المنذر أن يقول: "اللَّهم ألهمني رشدي وقني شر نفسي" وعامة أدعيته ﷺ متضمنة لطلب توفيق ربه وتزكيته له واستعماله في محابه، فمن هداه وصلاحه وأسباب نجاته بيد غيره، وهو المالك له ولها، المتصرف فيه بما يشاءُ ليس له من أمره شيء، من أحق بالخوف منه؟ وهب أنه قد خلق له في الحال الهداية، فهل هو على يقين وعلم أن الله سبحانه وتعالى يخلقها له في المستقبل ويلهمه رشده أبدًا؟ فعلم أن خوف المقربين عند ربهم أعظم من خوف غيرهم والله المستعان، ومن هاهنا كان خوف السابقين من فوات الإيمان كما قال بعض السلف: أنتم تخافون الذنب، وأنا أخاف الكفر. وكان عمر بن الخطاب يقول لحذيفة: نشدتك الله هل سماني لك رسول الله ﷺ؟ يعني في المنافقين فيقول: لا، ولا أزكى بعدك أحدًا" رواه البخاري يعني لا أفتح على هذا الباب في سؤال الناس لى، وليس مراده أنه لم يخلص من النفاق غيرك.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب