الباحث القرآني

* [فَصْلٌ: جَزاءُ المُخْلِصِ] وَقَوْلُهُ: " فَما ظَنُّك بِثَوابٍ عِنْدَ اللَّهِ في عاجِلِ رِزْقِهِ وخَزائِنِ رَحْمَتِهِ " يُرِيدُ بِهِ تَعْظِيمَ جَزاءِ المُخْلِصِ وأنَّهُ رِزْقٌ عاجِلٌ إمّا لِلْقَلْبِ أوْ لِلْبَدَنِ أوْ لَهُما. ورَحْمَتُهُ مُدَّخَرَةٌ في خَزائِنِهِ؛ فَإنَّ اللَّهَ سُبْحانَهُ يَجْزِي العَبْدَ عَلى ما عَمِلَ مِن خَيْرٍ في الدُّنْيا ولا بُدَّ، ثُمَّ في الآخِرَةِ يُوفِيهِ أجْرَهُ، كَما قالَ تَعالى: ﴿وَإنَّما تُوَفَّوْنَ أُجُورَكم يَوْمَ القِيامَةِ﴾ [آل عمران: ١٨٥] فَما يَحْصُلُ في الدُّنْيا مِن الجَزاءِ عَلى الأعْمالِ الصّالِحَةِ لَيْسَ جَزاءُ تَوْفِيَةٍ، وإنْ كانَ نَوْعًا آخَرَ كَما قالَ تَعالى عَنْ إبْراهِيمَ: ﴿وَآتَيْناهُ أجْرَهُ في الدُّنْيا وإنَّهُ في الآخِرَةِ لَمِنَ الصّالِحِينَ﴾ [العنكبوت: ٢٧] وهَذا نَظِيرُ قَوْله تَعالى: ﴿وَآتَيْناهُ في الدُّنْيا حَسَنَةً وإنَّهُ في الآخِرَةِ لَمِنَ الصّالِحِينَ﴾ [النحل: ١٢٢] فَأخْبَرَ سُبْحانَهُ أنَّهُ آتى خَلِيلَهُ أجْرَهُ في الدُّنْيا مِن النِّعَمِ الَّتِي أنْعَمَ بِها عَلَيْهِ في نَفْسِهِ وقَلْبِهِ ووَلَدِهِ ومالِهِ وحَياتِهِ الطَّيِّبَةِ، ولَكِنْ لَيْسَ ذَلِكَ أجْرُ تَوْفِيَةٍ، وقَدْ دَلَّ القُرْآنُ في غَيْرِ مَوْضِعٍ عَلى أنَّ لِكُلِّ مَن عَمِلَ خَيْرًا أجْرَيْنِ: عَمَلُهُ في الدُّنْيا ويُكَمَّلُ لَهُ أجْرُهُ في الآخِرَةِ كَقَوْلِهِ تَعالى: ﴿لِلَّذِينَ أحْسَنُوا في هَذِهِ الدُّنْيا حَسَنَةٌ ولَدارُ الآخِرَةِ خَيْرٌ ولَنِعْمَ دارُ المُتَّقِينَ﴾ [النحل: ٣٠] وفي الآيَةِ الأُخْرى: ﴿والَّذِينَ هاجَرُوا في اللَّهِ مِن بَعْدِ ما ظُلِمُوا لَنُبَوِّئَنَّهم في الدُّنْيا حَسَنَةً ولأجْرُ الآخِرَةِ أكْبَرُ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ﴾ [النحل: ٤١]، وقالَ في هَذِهِ السُّورَةِ: ﴿مَن عَمِلَ صالِحًا مِن ذَكَرٍ أوْ أُنْثى وهو مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَياةً طَيِّبَةً ولَنَجْزِيَنَّهم أجْرَهم بِأحْسَنِ ما كانُوا يَعْمَلُونَ﴾ [النحل: ٩٧] وقالَ فِيها عَنْ خَلِيلِهِ: ﴿وَآتَيْناهُ في الدُّنْيا حَسَنَةً وإنَّهُ في الآخِرَةِ لَمِنَ الصّالِحِينَ﴾ [النحل: ١٢٢] فَقَدْ تَكَرَّرَ هَذا المَعْنى في هَذِهِ السُّورَةِ دُونَ غَيْرِها في أرْبَعَةِ مَواضِعَ لِسِرٍّ بَدِيعٍ، فَإنَّها سُورَةُ النِّعَمِ الَّتِي عَدَّدَ اللَّهُ سُبْحانَهُ فِيها أُصُولَ النِّعَمِ وفُرُوعَها، فَعَرَّفَ عِبادَهُ أنَّ لَهم عِنْدَهُ في الآخِرَةِ مِن النِّعَمِ أضْعافَ هَذِهِ بِما لا يُدْرَكُ تَفاوُتُهُ، وأنَّ هَذِهِ مِن بَعْضِ نِعَمِهِ العاجِلَةِ عَلَيْهِمْ، وأنَّهم إنْ أطاعُوهُ زادَهم إلى هَذِهِ النِّعَمِ نِعَمًا أُخْرى، ثُمَّ في الآخِرَةِ يُوَفِّيهِمْ أُجُورَ أعْمالِهِمْ تَمامَ التَّوْفِيَةِ، وقالَ تَعالى: ﴿وَأنِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكم ثُمَّ تُوبُوا إلَيْهِ يُمَتِّعْكم مَتاعًا حَسَنًا إلى أجَلٍ مُسَمًّى ويُؤْتِ كُلَّ ذِي فَضْلٍ فَضْلَهُ﴾ [هود: ٣] فَلِهَذا قالَ أمِيرُ المُؤْمِنِينَ: " فَما ظَنُّك بِثَوابٍ عِنْدَ اللَّهِ في عاجِلِ رِزْقِهِ وخَزائِنِ رَحْمَتِهِ، والسَّلامُ ". فَهَذا بَعْضُ ما يَتَعَلَّقُ بِكِتابِ أمِيرِ المُؤْمِنِينَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - مِن الحِكَمِ والفَوائِدِ والحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ العالَمِينَ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب