الباحث القرآني

قالَ الحَسَنُ: مَعْناهُ صِراطٌ إلَيَّ مُسْتَقِيمٌ، وهَذا يَحْتَمِلُ أمْرَيْنِ: أنْ يَكُونَ أرادَ بِهِ أنَّهُ مِن بابِ إقامَةِ الأدَواتِ بَعْضِها مَقامَ بَعْضٍ، فَقامَتْ أداةُ " عَلى " مَقامَ " إلى ". والثّانِي: أنَّهُ أرادَ التَّفْسِيرَ عَلى المَعْنى، وهو الأشْبَهُ بِطَرِيقِ السَّلَفِ، أيْ صِراطٌ مُوَّصِلٌ إلَيَّ، وقالَ مُجاهِدٌ: الحَقُّ يَرْجِعُ إلى اللَّهِ، وعَلَيْهِ طَرِيقُهُ، لا يُعَرَّجُ عَلى شَيْءٍ، وهَذا مِثْلُ قَوْلِ الحَسَنِ وأبْيَنُ مِنهُ، وهو مِن أصَحِّ ما قِيلَ في الآيَةِ، وقِيلَ: عَلَيَّ فِيهِ لِلْوُجُوبِ، أيْ عَلَيَّ بَيانُهُ وتَعْرِيفُهُ والدِّلالَةُ عَلَيْهِ، والقَوْلانِ نَظِيرُ القَوْلَيْنِ في آيَةِ النَّحْلِ، وهي ﴿وَعَلى اللَّهِ قَصْدُ السَّبِيلِ﴾ [النحل: ٩] والصَّحِيحُ فِيها كالصَّحِيحِ في آيَةِ الحِجْرِ: أنَّ السَّبِيلَ القاصِدَ وهو المُسْتَقِيمُ المُعْتَدِلُ يَرْجِعُ إلى اللَّهِ، ويُوَصِّلُ إلَيْهِ، قالَ طُفَيْلٌ الغَنَوِيُّ: ؎مَضَوْا سَلَفًا قَصْدُ السَّبِيلِ عَلَيْهِمُ ∗∗∗ وصَرْفُ المَنايا بِالرِّجالِ تُشَقْلَبُ أيْ مَمَرُّنا عَلَيْهِمْ، وإلَيْهِمْ وُصُولُنا، وقالَ الآخَرُ: ؎فَهُنَّ المَنايا أيُّ وادٍ سَلَكْتُهُ ∗∗∗ عَلَيْها طَرِيقِي أوْ عَلَيَّ طَرِيقُها فَإنْ قِيلَ: لَوْ أُرِيدَ هَذا المَعْنى لَكانَ الألْيَقُ بِهِ أداةَ إلى الَّتِي هي لِلِانْتِهاءِ، لا أداةَ عَلى الَّتِي هي لِلْوُجُوبِ، ألا تَرى أنَّهُ لَمّا أرادَ الوُصُولَ قالَ ﴿إنَّ إلَيْنا إيابَهم ثُمَّ إنَّ عَلَيْنا حِسابَهُمْ﴾ [الغاشية: ٢٥] وقالَ ﴿إلَيْنا مَرْجِعُهُمْ﴾ [يونس: ٧٠] وقالَ ﴿ثُمَّ إلى رَبِّهِمْ مَرْجِعُهُمْ﴾ [الأنعام: ١٠٨] وقالَ لَمّا أرادَ الوُجُوبَ ﴿ثُمَّ إنَّ عَلَيْنا حِسابَهُمْ﴾ [الغاشية: ٢٦] وقالَ ﴿إنَّ عَلَيْنا جَمْعَهُ وقُرْآنَهُ﴾ [القيامة: ١٧] وقالَ ﴿وَما مِن دابَّةٍ في الأرْضِ إلّا عَلى اللَّهِ رِزْقُها﴾ [هود: ٦] ونَظائِرُ ذَلِكَ. قِيلَ: في أداةِ عَلى سِرٌّ لَطِيفٌ، وهو الإشْعارُ بِكَوْنِ السّالِكِ عَلى هَذا الصِّراطِ عَلى هُدًى، وهو حَقٌّ، كَما قالَ في حَقِّ المُؤْمِنِينَ ﴿أُولَئِكَ عَلى هُدًى مِن رَبِّهِمْ﴾ [البقرة: ٥] وقالَ لِرَسُولِهِ ﷺ ﴿فَتَوَكَّلْ عَلى اللَّهِ إنَّكَ عَلى الحَقِّ المُبِينِ﴾ [النمل: ٧٩] واللَّهُ عَزَّ وجَلَّ هو الحَقُّ، وصِراطُهُ حقٌّ، ودِينُهُ حَقٌ، فَمَنِ اسْتَقامَ عَلى صِراطِهِ فَهو عَلى الحَقِّ والهُدى، فَكانَ في أداةِ " عَلى " عَلى هَذا المَعْنى ما لَيْسَ في أداةِ إلى فَتَأمَّلْهُ، فَإنَّهُ سِرٌّ بَدِيعٌ. وَفِي قَوْلِهِ تَعالى ﴿قالَ هَذا صِراطٌ عَلَيَّ مُسْتَقِيمٌ﴾ [الحجر: ٤١] قَوْلٌ ثالِثٌ، وهو قَوْلُ الكِسائِيِّ إنَّهُ عَلى التَّهْدِيدِ والوَعِيدِ، نَظِيرُ قَوْلِهِ ﴿إنَّ رَبَّكَ لَبِالمِرْصادِ﴾ [الفجر: ١٤] كَما قالَ: تَقُولُ طَرِيقُكَ عَلَيَّ، ومَمَرُّكَ عَلَيَّ، لِمَن تُرِيدُ إعْلامَهُ بِأنَّهُ غَيْرُ فائِتٍ لَكَ، ولا مُعْجِزٍ، والسِّياقُ يَأْبى هَذا، ولا يُناسِبُهُ لِمَن تَأمَّلَهُ، فَإنَّهُ قالَهُ مُجِيبًا لِإبْلِيسَ الَّذِي قالَ ﴿لَأُغْوِيَنَّهم أجْمَعِينَ إلّا عِبادَكَ مِنهُمُ المُخْلَصِينَ﴾ [ص: ٨٢] فَإنَّهُ لا سَبِيلَ لِي إلى إغْوائِهِمْ، ولا طَرِيقَ لِي عَلَيْهِمْ. فَقَرَّرَ اللَّهُ عَزَّ وجَلَّ ذَلِكَ أتَمَّ التَّقْرِيرِ، وأخْبَرَ أنَّ الإخْلاصَ صِراطٌ عَلَيْهِ مُسْتَقِيمٌ، فَلا سُلْطانَ لَكَ عَلى عِبادِي الَّذِينَ هم عَلى هَذا الصِّراطِ، لِأنَّهُ صِراطٌ عَلَيَّ، ولا سَبِيلَ لِإبْلِيسَ إلى هَذا الصِّراطِ، ولا الحَوْمِ حَوْلَ ساحَتِهِ، فَإنَّهُ مَحْرُوسٌ مَحْفُوظٌ بِاللَّهِ، فَلا يَصِلُ عَدُوُّ اللَّهِ إلى أهْلِهِ. فَلْيَتَأمَّلِ العارِفُ هَذا المَوْضِعَ حَقَّ التَّأمُّلِ، ولْيَنْظُرْ إلى هَذا المَعْنى، ويُوازِنْ بَيْنَهُ وبَيْنَ القَوْلَيْنِ الآخَرَيْنِ، أيُّهُما ألْيَقُ بِالآيَتَيْنِ، وأقْرَبُ إلى مَقْصُودِ القُرْآنِ وأقْوالِ السَّلَفِ؟ وأمّا تَشْبِيهُ الكِسائِيِّ لَهُ بِقَوْلِهِ ﴿إنَّ رَبَّكَ لَبِالمِرْصادِ﴾ [الفجر: ١٤] فَلا يَخْفى الفَرْقُ بَيْنَهُما سِياقًا ودِلالَةً، فَتَأمَّلْهُ، ولا يُقالُ في التَّهْدِيدِ: هَذا طَرِيقٌ مُسْتَقِيمٌ عَلَيَّ، لِمَن لا يَسْلُكُهُ، ولَيْسَتْ سَبِيلُ المُهَدَّدِ مُسْتَقِيمَةً، فَهو غَيْرُ مُهَدَّدٍ بِصِراطِ اللَّهِ المُسْتَقِيمِ، وسَبِيلُهُ الَّتِي هو عَلَيْها لَيْسَتْ مُسْتَقِيمَةً عَلى اللَّهِ، فَلا يَسْتَقِيمُ هَذا القَوْلُ ألْبَتَّةَ. وَأمّا مَن فَسَّرَهُ بِالوُجُوبِ، أيْ عَلَيَّ بَيانُ اسْتِقامَتِهِ والدِّلالَةُ عَلَيْهِ، فالمَعْنى صَحِيحٌ، لَكِنْ في كَوْنِهِ هو المُرادَ بِالآيَةِ نَظَرٌ، لِأنَّهُ حَذْفٌ في غَيْرِ مَوْضِعِ الدِّلالَةِ، ولَمْ يُؤَلَّفِ الحَذْفُ المَذْكُورُ لِيَكُونَ مَدْلُولًا عَلَيْهِ إذا حُذِفَ، بِخِلافِ عامِلِ الظَّرْفِ إذا وقَعَ صِفَةً فَإنَّهُ حَذْفٌ مَأْلُوفٌ مَعْرُوفٌ، حَتّى إنَّهُ لا يُذْكَرُ ألْبَتَّةَ، فَإذا قُلْتَ: لَهُ دِرْهَمٌ عَلَيَّ، كانَ الحَذْفُ مَعْرُوفًا مَأْلُوفًا، فَلَوْ أرَدْتَ: عَلَيَّ نَقْدُهُ، أوْ عَلَيَّ وزْنُهُ وحِفْظُهُ، ونَحْوَ ذَلِكَ وحَذَفْتَ لَمْ يَسُغْ، وهو نَظِيرُ: عَلَيَّ بَيانُهُ المُقَدَّرِ في الآيَةِ، مَعَ أنَّ الَّذِي قالَهُ السَّلَفُ ألْيَقُ بِالسِّياقِ، وأجَلُّ المَعْنَيَيْنِ وأكْبَرُهُما. وَسَمِعْتُ شَيْخَ الإسْلامِ تَقِيَّ الدِّينِ أحْمَدَ ابْنِ تَيْمِيَّةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ يَقُولُ: وهُما نَظِيرُ قَوْلِهِ تَعالى ﴿إنَّ عَلَيْنا لَلْهُدى وإنَّ لَنا لَلْآخِرَةَ والأُولى﴾ [الليل: ١٢] قالَ: فَهَذِهِ ثَلاثَةُ مَواضِعَ في القُرْآنِ في هَذا المَعْنى. قُلْتُ: وأكْثَرُ المُفَسِّرِينَ لَمْ يَذْكُرْ في سُورَةِ " ﴿واللَّيْلِ إذا يَغْشى﴾ [الليل: ١] " إلّا مَعْنى الوُجُوبِ، أيْ عَلَيْنا بَيانُ الهُدى مِنَ الضَّلالِ، ومِنهم مَن لَمْ يَذْكُرْ في سُورَةِ النَّحْلِ إلّا هَذا المَعْنى كالبَغَوِيِّ، وذَكَرَ في الحِجْرِ الأقْوالَ الثَّلاثَةَ، وذَكَرَ الواحِدِيُّ في بَسِيطِهِ المَعْنَيَيْنِ في سُورَةِ النَّحْلِ، واخْتارَ شَيْخُنا قَوْلَ مُجاهِدٍ والحَسَنِ في السُّوَرِ الثَّلاثِ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب