الباحث القرآني

* (فصل) اعْلَمْ أنَّ مَنعَ اللَّهِ سُبْحانَهُ وتَعالى لِعَبْدِهِ المُؤْمِنَ المُحِبِّ عَطاءٌ، وابْتِلاءَهُ إيّاهُ عافِيَةٌ. قالَ سُفْيانُ الثَّوْرِيُّ: مَنعُهُ عَطاءٌ. وَذَلِكَ: أنَّهُ لَمْ يَمْنَعْ عَنْ بُخْلٍ ولا عَدَمٍ. وإنَّما نَظَرَ في خَيْرِ عَبْدِهِ المُؤْمِنِ فَمَنَعَهُ اخْتِيارًا وحُسَنَ نَظَرٍ. وَهَذا كَما قالَ. فَإنَّهُ سُبْحانَهُ لا يَقْضِي لِعَبْدِهِ المُؤْمِنِ قَضاءً إلّا كانَ خَيْرًا لَهُ، ساءَهُ ذَلِكَ القَضاءُ أوْ سَرَّهُ. فَقَضاؤُهُ لِعَبْدِهِ المُؤْمِنَ المَنعَ عَطاءٌ. وإنْ كانَ في صُورَةِ المَنعِ. ونِعْمَةٌ. وإنْ كانَتْ في صُورَةِ مِحْنَةٍ. وبَلاؤُهُ عافِيَةٌ. وإنْ كانَ في صُورَةِ بَلِيَّةٍ. ولَكِنْ لِجَهْلِ العَبْدِ وظُلْمِهِ لا يَعُدُّ العَطاءَ والنِّعْمَةَ والعافِيَةَ إلّا ما التَذَّ بِهِ في العاجِلِ. وكانَ مُلائِمًا لِطَبْعِهِ. ولَوْ رُزِقَ مِنَ المَعْرِفَةِ حَظًّا وافِرًا لَعَدَّ المَنعَ نِعْمَةً، والبَلاءَ رَحْمَةً. وتَلَذَّذَ بِالبَلاءِ أكْثَرَ مِن لَذَّتِهِ بِالعافِيَةِ. وتَلَذَّذَ بِالفَقْرِ أكْثَرَ مِن لَذَّتِهِ بِالغِنى. وكانَ في حالِ القِلَّةِ أعْظَمَ شُكْرًا مِن حالِ الكَثْرَةِ. وَهَذِهِ كانَتْ حالَ السَّلَفِ. فالعاقِلُ الرّاضِي: مَن يَعُدُّ البَلاءَ عافِيَةً، والمَنعَ نِعْمَةً، والفَقْرَ غِنًى. وَأوْحى اللَّهُ إلى بَعْضِ أنْبِيائِهِ إذا رَأيْتَ الفَقْرَ مُقْبِلًا، فَقُلْ: مَرْحَبًا بِشِعارِ الصّالِحِينَ. وإذا رَأيْتَ الغِنى مُقْبِلًا. فَقُلْ: ذَنْبٌ عُجِّلَتْ عُقُوبَتُهُ. فالرّاضِي: هو الَّذِي يَعُدُّ نِعَمَ اللَّهِ عَلَيْهِ فِيما يَكْرَهُهُ، أكْثَرَ وأعْظَمَ مِن نِعَمِهِ عَلَيْهِ فِيما يُحِبُّهُ، كَما قالَ بَعْضُ العارِفِينَ: يا ابْنَ آدَمَ نِعْمَةُ اللَّهِ عَلَيْكَ فِيما تَكْرَهُ أعْظَمُ مِن نِعْمَتِهِ عَلَيْكَ فِيما تُحِبُّ. وقَدْ قالَ تَعالى: ﴿وَعَسى أنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وهو خَيْرٌ لَكُمْ﴾ [البقرة: ٢١٦] وَقَدْ قالَ بَعْضُ العارِفِينَ: ارْضَ عَنِ اللَّهِ في جَمِيعِ ما يَفْعَلُهُ بِكَ. فَإنَّهُ ما مَنَعَكَ إلّا لِيُعْطِيَكَ. ولا ابْتَلاكَ إلّا لِيُعافِيَكَ. ولا أمْرَضَكَ إلّا لِيَشْفِيَكَ. ولا أماتَكَ إلّا لِيُحْيِيَكَ. فَإيّاكَ أنْ تُفارِقَ الرِّضا عَنْهُ طَرْفَةَ عَيْنٍ. فَتَسْقُطَ مِن عَيْنِهِ. * (فصل) وَقالَ مُطَرِّفُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ - أوْ غَيْرُهُ -: نَعِيمُ الدُّنْيا بِحَذافِيرِهِ في جَنْبِ نَعِيمِ الآخِرَةِ أقَلُّ مِن ذَرَّةٍ في جَنْبِ جِبالِ الدُّنْيا. وَمَن حَدَّقَ عَيْنَ بَصِيرَتِهِ في الدُّنْيا والآخِرَةِ: عَلِمَ أنَّ الأمْرَ كَذَلِكَ. فَكَيْفَ يَلِيقُ بِصَحِيحِ العَقْلِ والمَعْرِفَةِ: أنْ يَقْطَعَهُ أمَلٌ مِن هَذا الجُزْءِ الحَقِيرِ عَنْ نَعِيمٍ لا يَزُولُ، ولا يَضْمَحِلُّ؟ فَضْلًا عَنْ أنْ يَقْطَعَهُ عَنْ طَلَبِ مَن نِسْبَةُ هَذا النَّعِيمِ الدّائِمِ إلى نَعِيمِ مَعْرِفَتِهِ ومَحَبَّتِهِ، والأُنْسِ بِهِ، والفَرَحِ بِقُرْبِهِ، كَنِسْبَةِ نَعِيمِ الدُّنْيا إلى نَعِيمِ الجَنَّةِ؟ قالَ اللَّهُ تَعالى ﴿وَعَدَ اللَّهُ المُؤْمِنِينَ والمُؤْمِناتِ جَنّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِها الأنْهارُ خالِدِينَ فِيها ومَساكِنَ طَيِّبَةً في جَنّاتِ عَدْنٍ ورِضْوانٌ مِنَ اللَّهِ أكْبَرُ﴾ [التوبة: ٧٢] فَيَسِيرٌ مِن رِضْوانِهِ - ولا يُقالُ لَهُ يَسِيرٌ - أكْبَرُ مِنَ الجَنّاتِ وما فِيها. وَفِي حَدِيثِ الرُّؤْيَةِ «فَواللَّهِ ما أعْطاهُمُ اللَّهُ شَيْئًا أحَبَّ إلَيْهِمْ مِنَ النَّظَرِ إلى وجْهِهِ» وفي حَدِيثٍ آخَرَ «إنَّهم إذا رَأوْهُ - سُبْحانَهُ - لَمْ يَلْتَفِتُوا إلى شَيْءٍ مِمّا هم فِيهِ مِنَ النَّعِيمِ، حَتّى يَتَوارى عَنْهُمْ». فَمَن قَطَعَهُ عَنْ هَذا أمَلٌ، فَقَدْ فازَ بِالحِرْمانِ، ورَضِيَ لِنَفْسِهِ بِغايَةِ الخُسْرانِ، واللَّهُ المُسْتَعانُ. وعَلَيْهِ التُّكْلانُ. وما شاءَ اللَّهُ كانَ. قَوْلُهُ " ولا تَعُوقُهُ أُمْنِيَّةٌ " الأُمْنِيَّةُ: هي ما يَتَمَنّاهُ العَبْدُ مِنَ الحُظُوظِ. وجَمْعُها أمانِيٌّ. والفَرْقُ بَيْنَها وبَيْنَ الأمَلِ أنَّ الأمَلَ يَتَعَلَّقُ بِما يُرْجى وُجُودُهُ. والأُمْنِيَّةُ: قَدْ تَتَعَلَّقُ بِما لا يُرْجى حُصُولُهُ. كَما يَتَمَنّى العاجِزُ المَراتِبَ العالِيَةَ. والأمانِيُّ الباطِلَةُ: هي رُءُوسُ أمْوالِ المَفالِيسِ. بِها يَقْطَعُونَ أوْقاتَهم ويَلْتَذُّونَ بِها، كالتِذاذِ مَن زالَ عَقْلُهُ بِالمُسْكِرِ، أوْ بِالخَيالاتِ الباطِلَةِ. وَفِي الحَدِيثِ المَرْفُوعِ «الكَيِّسُ مَن دانَ نَفْسَهُ، وعَمِلَ لِما بَعْدَ المَوْتِ. والعاجِزُ مَن أتْبَعَ نَفْسَهُ هَواها، وتَمَنّى عَلى اللَّهِ الأمانِيَّ». وَلا يَرْضى بِالأمانِيِّ عَنِ الحَقائِقِ إلّا ذَوُو النُّفُوسِ الدَّنِيئَةِ السّاقِطَةِ. كَما قِيلَ: ؎واتْرُكْ مُنى النَّفْسِ لا تَحْسَبْهُ يُشْبِعُها ∗∗∗ إنَّ المُنى رَأْسُ أمْوالِ المَفالِيسِ. وَأُمْنِيَّةُ الرَّجُلِ تَدُلُّ عَلى عُلُوِّ هِمَّتِهِ وخِسَّتِها. وفي أثَرٍ إلَهِيٍّ «إنِّي لا أنْظُرُ إلى كَلامِ الحَكِيمِ، وإنَّما أنْظُرُ إلى هِمَّتِهِ» والعامَّةُ تَقُولُ: قِيمَةُ كُلِّ امْرِئٍ ما يُحْسِنُهُ. والعارِفُونَ يَقُولُونَ: قِيمَةُ كُلِّ امْرِئٍ ما يَطْلُبُ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب