الباحث القرآني

(فائِدَة) الجاهِل يشكو الله إلى النّاس وهَذا غايَة الجَهْل بالمشكو والمشكو إلَيْهِ، فَإنَّهُ لَو عرف ربه لما شكاه ولَو عرف النّاس لما شكا إلَيْهِم. وَرَأى بعض السّلف رجلا يشكو إلى رجل فاقته وضرورته فَقالَ يا هَذا والله ما زِدْت على أن شَكَوْت من يَرْحَمك. وَفِي ذَلِك قيل ؎إذا شَكَوْت إلى ابْن آدم إنَّما ∗∗∗ تَشْكُو الرَّحِيم إلى الَّذِي لا يرحم والعارف إنَّما يشكو إلى الله وحده وأعرف العارفين من جعل شكواه إلى الله من نَفسه لا من النّاس فَهو يشكو من مُوجبات تسليط النّاس عَلَيْهِ فَهو ناظر إلى قَوْله تَعالى ﴿وَما أصابَكم مِن مُصِيبَةٍ فَما كسبت أيْدِيكُم﴾ وقَوله ﴿وَما أصابَكَ مِن سَيِّئَةٍ فَمِن نَفسك﴾ وقَوله ﴿أوَلَمّا أصابَتْكم مُصِيبَةٌ قَدْ أصَبْتُمْ مِثْلَيْها قُلْتُمْ أنّى هَذا {قُلْ هو مِن عند أنفسكُم﴾ فالمراتب ثَلاثَة أخسها أن تَشْكُو الله إلى خلقه، وأعلاها أن تَشْكُو نَفسك إلَيْهِ، وأوسطها أن تَشْكُو خلقه إلَيْهِ. * (فصل) الشكوى نوعان أحدهما الشكوى إلى الله فهذا لا ينافي الصبر كما قال يعقوب ﴿إنَّما أشْكُو بَثِّي وحُزْنِي إلى اللَّهِ﴾ مع قوله ﴿فصبر جميل﴾ وقال أيوب ﴿مسني الضر﴾ مع وصف الله له بالصبر. وقال سيد الصابرين صلوات الله وسلامه عليه "اللهم أشكو إليك ضعف قوتي وقلة حيلتي ... الخ". وقال موسى صلوات الله وسلامه عليه "اللهم لك الحمد وإليك المشتكى وأنت المستعان وبك المستغاث وعليك التكلان ولا حول ولا قوة إلا بك". والنوع الثاني شكوى المبتلى بلسان الحال والمقال فهذه لا تجامع الصبر بل تضاده وتبطله فالفرق بين شكواه والشكوى إليه وسنعود لهذه المسألة في باب اجتماع الشكوى والصبر وافتراقهما إن شاء الله تعالى. وقيل الصبر شجاعة النفس ومن ها هنا أخذ القائل قوله الشجاعة صبر ساعة وقيل الصبر ثبات القلب عند موارد الاضطراب والصبر والجزع ضدان ولهذا يقابل أحدهما بالآخر قال تعالى عن أهل النار: ﴿سواء علينا أجزعنا أم صبرنا ما لنا من محيص﴾ والجزع قرين العجز وشقيقه والصبر قرين الكيس ومادته فلو سئل الجزع من أبوك لقال العجز ولو سئل الكيس من أبوك لقال الصبر والنفس مطية العبد التي يسير عليها إلى الجنة أو النار والصبر لها بمنزلة الخطام والزمام للمطيه فإن لم يكن للمطيه خطام ولا زمام شردت في كل مذهب. وحفظ من خطب الحجاج "اقدعوا هذه النفوس فإنها طلعة إلى كل سوء فرحم الله امرءا جعل لنفسه خطاما وزماما فقادها بخطامها إلى طاعة الله وصرفها بزمامها عن معاصي الله فإن الصبر عن محارم الله أيسر من الصبر على عذابه". قلت: والنفس فيها قوتان قوة الإقدام وقوة الإحجام فحقيقة الصبر أن يجعل قوة الإقدام مصروفة إلى ما ينفعه وقوة الإحجام إمساكا عما يضره ومن الناس من تكون قوة صبره على فعل ما ينتفع به وثباته عليه أقوى من صبره عما يضره فيصبر على مشقة الطاعة ولا صبر له عن داعي هواه إلى ارتكاب ما نهى عنه، ومنهم من تكون قوة صبره عن المخالفات أقوى من صبره على مشقة الطاعات، ومنهم من لا صبر له على هذا ولا ذاك، وأفضل الناس أصبرهم على النوعين فكثير من الناس يصبر على مكابدة قيام الليل في الحر والبرد وعلى مشقة الصيام، ولا يصبر عن نظرة محرمة. وكثير من الناس يصبر عن النظر وعن الالتفات إلى الصور، ولا صبر له على الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وجهاد الكفار والمنافقين، بل هو أضعف شيء عن هذا وأعجزه. وأكثرهم لا صبر له على واحد من الأمرين وأقلهم أصبرهم في الموضعين. وقيل "الصبر ثبات باعث العقل والدين في مقابلة باعث الهوى والشهوة" ومعنى هذا أن الطبع يتقاضى ما يحب وباعث العقل والدين يمنع منه والحرب قائمة بينهما وهو سجال ومحرك هذا الحرب قلب العبد والصبر والشجاعة والثبات.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب