الباحث القرآني

[الحُكْمِ بِالقَرائِنِ] أمّا بَعْدُ: وسَألْت عَنْ الحاكِمِ، أوْ الوالِي يَحْكُمُ بِالفِراسَةِ والقَرائِنِ الَّتِي يَظْهَرُ لَهُ فِيها الحَقُّ، والِاسْتِدْلالِ بِالأماراتِ ولا يَقِفُ مَعَ مُجَرَّدِ ظَواهِرِ البَيِّناتِ والإقْرارِ، حَتّى إنّهُ رُبَّما يَتَهَدَّدُ أحَدَ الخَصْمَيْنِ، إذا ظَهَرَ مِنهُ أنَّهُ مُبْطِلٌ ورُبَّما ضَرَبَهُ، ورُبَّما سَألَهُ عَنْ أشْياءَ تَدُلُّهُ عَلى صُورَةِ الحالِ. فَهَلْ ذَلِكَ صَوابٌ أمْ خَطَأٌ؟ فَهَذِهِ مَسْألَةٌ كَبِيرَةٌ عَظِيمَةُ النَّفْعِ، جَلِيلَةُ القَدْرِ، إنْ أهْمَلَها الحاكِمُ أوْ الوالِي أضاعَ حَقًّا كَثِيرًا، وأقامَ باطِلًا كَثِيرًا، وإنْ تَوَسَّعَ فِيها وجَعَلَ مُعَوِّلَهُ عَلَيْها، دُونَ الأوْضاعِ الشَّرْعِيَّةِ، وقَعَ في أنْواعٍ مِن الظُّلْمِ والفَسادِ وقَدْ سُئِلَ أبُو الوَفاءِ ابْنُ عَقِيلٍ عَنْ هَذِهِ المَسْألَةِ، فَقالَ: لَيْسَ ذَلِكَ حُكْمًا بِالفِراسَةِ، بَلْ هو حُكْمٌ بِالأماراتِ. وإذا تَأمَّلْتُمْ الشَّرْعَ وجَدْتُمُوهُ يُجَوِّزُ التَّعْوِيلَ عَلى ذَلِكَ، وقَدْ ذَهَبَ مالِكٌ - رَحِمَهُ اللَّهُ - إلى التَّوَصُّلِ بِالإقْرارِ بِما يَراهُ الحاكِمُ وذَلِكَ مُسْتَنِدٌ إلى قَوْله تَعالى: ﴿إنْ كانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِن قُبُلٍ فَصَدَقَتْ وهو مِنَ الكاذِبِينَ﴾ [يوسف: ٢٦] ولِذا حَكَمْنا بِعَقْدِ الأزَجِ، وكَثْرَةِ الخُشُبِ في الحائِطِ، ومَعاقِدِ القُمُطِ في الخُصِّ، وما يَخُصُّ المَرْأةَ والرَّجُلَ في الدَّعاوى. وَفِي مَسْألَةِ العَطّارِ والدَّبّاغِ إذا اخْتَصَما في الجِلْدِ، والنَّجّارِ والخَيّاطِ إذا تَنازَعا في المِنشارِ والقَدُومِ، والطَّبّاخِ والخَبّازِ إذا تَنازَعا في القِدْرِ، ونَحْوِ ذَلِكَ، فَهَلْ ذَلِكَ إلّا الِاعْتِمادُ عَلى الأماراتِ؟ وكَذَلِكَ الحُكْمُ بِالقافَةِ والنَّظَرِ في أمْرِ الخُنْثى؛ والأماراتِ الدّالَّةِ عَلى أحَدِ حالَيْهِ. والنَّظَرِ في أماراتِ جِهَةِ القِبْلَةِ، واللَّوْثِ في القَسامَةِ. انْتَهى. فالحاكِمُ إذا لَمْ يَكُنْ فَقِيهَ النَّفْسِ في الأماراتِ، ودَلائِلِ الحالِ، ومَعْرِفَةِ شَواهِدِهِ، وفي القَرائِنِ الحالِيَّةِ والمَقالِيَّةِ، كَفِقْهِهِ في جُزْئِيّاتِ وكُلِّيّاتِ الأحْكامِ: أضاعَ حُقُوقًا كَثِيرَةً عَلى أصْحابِها. وحَكَمَ بِما يَعْلَمُ النّاسُ بُطْلانَهُ لا يَشُكُّونَ فِيهِ، اعْتِمادًا مِنهُ عَلى نَوْعٍ ظاهِرٍ لَمْ يَلْتَفِتْ إلى باطِنِهِ وقَرائِنِ أحْوالِهِ. فَهاهُنا نَوْعانِ مِن الفِقْهِ، لا بُدَّ لِلْحاكِمِ مِنهُما: فِقْهٌ في أحْكامِ الحَوادِثِ الكُلِّيَّةِ، وفِقْهٌ في نَفْسِ الواقِعِ وأحْوالِ النّاسِ، يُمَيِّزُ بِهِ بَيْنَ الصّادِقِ والكاذِبِ، والمُحِقِّ والمُبْطِلِ. ثُمَّ يُطابِقُ بَيْنَ هَذا وهَذا فَيُعْطِي الواقِعَ حُكْمَهُ مِن الواجِبِ، ولا يَجْعَلُ الواجِبَ مُخالِفًا لِلْواقِعِ. ومَن لَهُ ذَوْقٌ في الشَّرِيعَةِ، واطِّلاعٌ عَلى كَمالاتِها وتَضَمُّنِها لِغايَةِ مَصالِحِ العِبادِ في المَعاشِ والمَعادِ، ومَجِيئِها بِغايَةِ العَدْلِ، الَّذِي يَسَعُ الخَلائِقَ، وأنَّهُ لا عَدْلَ فَوْقَ عَدْلِها، ولا مَصْلَحَةَ فَوْقَ ما تَضَمَّنَتْهُ مِن المَصالِحِ: تَبَيَّنَ لَهُ أنَّ السِّياسَةَ العادِلَةَ جُزْءٌ مِن أجْزائِها، وفَرْعٌ مِن فُرُوعِها، وأنَّ مَن لَهُ مَعْرِفَةٌ بِمَقاصِدِها ووَضْعِها وحَسُنَ فَهْمُهُ فِيها: لَمْ يَحْتَجْ مَعَها إلى سِياسَةِ غَيْرِها ألْبَتَّةَ. فَإنَّ السِّياسَةَ نَوْعانِ: سِياسَةٌ ظالِمَةٌ فالشَّرِيعَةُ تُحَرِّمُها، وسِياسَةٌ عادِلَةٌ تُخْرِجُ الحَقَّ مِن الظّالِمِ الفاجِرِ، فَهي مِن الشَّرِيعَةِ، عَلِمَها مَن عَلِمَها، وجَهِلَها مَن جَهِلَها. وَلا تَنْسَ في هَذا المَوْضِعِ قَوْلَ سُلَيْمانَ نَبِيِّ اللَّهِ ﷺ لِلْمَرْأتَيْنِ اللَّتَيْنِ ادَّعَتا الوَلَدَ. فَحَكَمَ بِهِ داوُد ﷺ لِلْكُبْرى فَقالَ سُلَيْمانُ " ائْتُونِي بِالسِّكِّينِ أشُقُّهُ بَيْنَكُما " فَسَمَحَتْ الكُبْرى بِذَلِكَ فَقالَتْ الصُّغْرى: " لا تَفْعَلْ يَرْحَمُك اللَّهُ، هو ابْنُها " فَقَضى بِهِ لِلصُّغْرى، فَأيُّ شَيْءٍ أحْسَنُ مِن اعْتِبارِ هَذِهِ القَرِينَةِ الظّاهِرَةِ، فاسْتَدَلَّ بِرِضا الكُبْرى بِذَلِكَ، وأنَّها قَصَدَتْ الِاسْتِرْواحَ إلى التَّأسِّي بِمُساواةِ الصُّغْرى في فَقْدِ ولَدِها، وبِشَفَقَةِ الصُّغْرى عَلَيْهِ، وامْتِناعِها مِن الرِّضا بِذَلِكَ: عَلى أنَّها هي أُمُّهُ، وأنَّ الحامِلَ لَها عَلى الِامْتِناعِ هو ما قامَ بِقَلْبِها مِن الرَّحْمَةِ والشَّفَقَةِ الَّتِي وضَعَها اللَّهُ تَعالى في قَلْبِ الأُمِّ، وقَوِيَتْ هَذِهِ القَرِينَةُ عِنْدَهُ، حَتّى قَدَّمَها عَلى إقْرارِها، فَإنَّهُ حَكَمَ بِهِ لَها مَعَ قَوْلِها " هو ابْنُها ". وَهَذا هو الحَقُّ، فَإنَّ الإقْرارَ إذا كانَ لِعِلَّةٍ اطَّلَعَ عَلَيْها الحاكِمُ لَمْ يَلْتَفِتْ إلَيْهِ أبَدًا. وَلِذَلِكَ ألْغَيْنا إقْرارَ المَرِيضِ مَرَضَ المَوْتِ بِمالٍ لِوارِثِهِ لِانْعِقادِ سَبَبِ التُّهْمَةِ واعْتِمادًا عَلى قَرِينَةِ الحالِ في قَصْدِهِ تَخْصِيصَهُ. وَمِن تَراجِمِ قُضاةِ السُّنَّةِ والحَدِيثِ عَلى هَذا الحَدِيثِ تَرْجَمَةُ أبِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ النَّسائِيّ في سُنَنِهِ " قالَ: " التَّوْسِعَةُ لِلْحاكِمِ في أنْ يَقُولَ لِلشَّيْءِ الَّذِي لا يَفْعَلُهُ أفْعَلُ كَذا؛ لِيَسْتَبِينَ بِهِ الحَقَّ ". ثُمَّ تَرْجَمَ عَلَيْهِ تَرْجَمَةً أُخْرى أحْسَنَ مِن هَذِهِ، فَقالَ: " الحُكْمُ بِخِلافِ ما يَعْتَرِفُ بِهِ المَحْكُومُ عَلَيْهِ، إذا تَبَيَّنَ لِلْحاكِمِ أنَّ الحَقَّ غَيْرُ ما اعْتَرَفَ بِهِ " فَهَكَذا يَكُونُ الفَهْمُ عَنْ اللَّهِ ورَسُولِهِ. ثُمَّ تَرْجَمَ عَلَيْهِ تَرْجَمَةً أُخْرى فَقالَ: " نَقْضُ الحاكِمِ ما حَكَمَ بِهِ غَيْرُهُ مِمَّنْ هو مِثْلُهُ، أوْ أجَلُّ مِنهُ " فَهَذِهِ ثَلاثُ قَواعِدَ ورابِعَةٌ: وهي ما نَحْنُ فِيهِ وهي الحُكْمُ بِالقَرائِنِ وشَواهِدِ الحالِ. وَخامِسَةٌ: وهي أنَّهُ لَمْ يَجْعَلْ الوَلَدَ لَهُما، كَما يَقُولُهُ أبُو حَنِيفَةَ، فَهَذِهِ خَمْسُ سُنَنٍ في هَذا الحَدِيثِ. وَمِن ذَلِكَ: قَوْلُ الشّاهِدِ الَّذِي ذَكَرَ اللَّهُ شَهادَتَهُ، ولَمْ يُنْكِرْ عَلَيْهِ، ولَمْ يَعِبْهُ بَلْ حَكاها مُقَرِّرًا لَها، فَقالَ تَعالى: ﴿واسْتَبَقا البابَ وقَدَّتْ قَمِيصَهُ مِن دُبُرٍ وألْفَيا سَيِّدَها لَدى البابِ قالَتْ ما جَزاءُ مَن أرادَ بِأهْلِكَ سُوءًا إلا أنْ يُسْجَنَ أوْ عَذابٌ ألِيمٌ﴾ [يوسف: ٢٥] ﴿قالَ هي راوَدَتْنِي عَنْ نَفْسِي وشَهِدَ شاهِدٌ مِن أهْلِها إنْ كانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِن قُبُلٍ فَصَدَقَتْ وهو مِنَ الكاذِبِينَ﴾ [يوسف: ٢٦] ﴿وَإنْ كانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِن دُبُرٍ فَكَذَبَتْ وهو مِنَ الصّادِقِينَ﴾ [يوسف: ٢٧] ﴿فَلَمّا رَأى قَمِيصَهُ قُدَّ مِن دُبُرٍ قالَ إنَّهُ مِن كَيْدِكُنَّ إنَّ كَيْدَكُنَّ عَظِيمٌ﴾ [يوسف: ٢٨] فَتَوَصَّلَ بِقَدِّ القَمِيصِ إلى مَعْرِفَةِ الصّادِقِ مِنهُما مِن الكاذِبِ. وَهَذا لَوْثٌ في أحَدِ المُتَنازِعَيْنِ، يُبَيِّنُ بِهِ أوْلاهُما بِالحَقِّ. وَقَدْ ذَكَرَ اللَّهُ سُبْحانَهُ اللَّوْثَ في دَعْوى المالِ في قِصَّةِ شَهادَةِ أهْلِ الذِّمَّةِ عَلى المُسْلِمِينَ في الوَصِيَّةِ في السَّفَرِ، وأمَرَ بِالحُكْمِ بِمُوجِبِهِ. «وَحَكَمَ النَّبِيُّ ﷺ بِمُوجِبِ اللَّوْثِ في القَسامَةِ، وجَوَّزَ لِلْمُدَّعِينَ أنْ يَحْلِفُوا خَمْسِينَ يَمِينًا، ويَسْتَحِقُّونَ دَمَ القَتِيلِ»، فَهَذا لَوَثٌ في الدِّماءِ، واَلَّذِي في سُورَةِ المائِدَةِ لَوْثٌ في الأمْوالِ، واَلَّذِي في سُورَةِ يُوسُفَ لَوْثٌ في الدَّعْوى في العِرْضِ ونَحْوِهِ. وَهَذا حُكْمُ عُمَرَ بْنِ الخَطّابِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - والصَّحابَةِ مَعَهُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهم - بِرَجْمِ المَرْأةِ الَّتِي ظَهَرَ بِها الحَبَلُ، ولا زَوْجَ لَها ولا سَيِّدَ. وَذَهَبَ إلَيْهِ مالِكٌ وأحْمَدُ - في أصَحِّ رِوايَتَيْهِ - اعْتِمادًا عَلى القَرِينَةِ الظّاهِرَةِ. وَحَكَمَ عُمَرُ وابْنُ مَسْعُودٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُما - ولا يُعْرَفُ لَهُما مُخالِفٌ - بِوُجُوبِ الحَدِّ بِرائِحَةِ الخَمْرِ مِن في الرَّجُلِ، أوْ قَيْئِهِ خَمْرًا، اعْتِمادًا عَلى القَرِينَةِ الظّاهِرَةِ. وَلَمْ تَزَلْ الأئِمَّةُ والخُلَفاءُ يَحْكُمُونَ بِالقَطْعِ إذا وُجِدَ المالُ المَسْرُوقُ مَعَ المُتَّهَمِ، وهَذِهِ القَرِينَةُ أقْوى مِن البَيِّنَةِ والإقْرارِ، فَإنَّهُما خَبَرانِ يَتَطَرَّقُ إلَيْهِما الصِّدْقُ والكَذِبُ، ووُجُودُ المالِ مَعَهُ نَصٌّ صَرِيحٌ لا يَتَطَرَّقُ إلَيْهِ شُبْهَةٌ، وهَلْ يَشُكُّ أحَدٌ رَأى قَتِيلًا يَتَشَحَّطُ في دَمِهِ، وآخَرَ قائِمًا عَلى رَأْسِهِ بِالسِّكِّينِ: أنَّهُ قَتَلَهُ؟ ولا سِيَّما إذا عُرِفَ بِعَداوَتِهِ، ولِهَذا جَوَّزَ جُمْهُورُ العُلَماءِ لِوَلِيِّ القَتِيلِ أنْ يَحْلِفَ خَمْسِينَ يَمِينًا أنَّ ذَلِكَ الرَّجُلَ قَتَلَهُ، ثُمَّ قالَ مالِكٌ وأحْمَدُ: يُقْتَلُ بِهِ. وَقالَ الشّافِعِيُّ: يُقْضى عَلَيْهِ بِدِيَتِهِ وكَذَلِكَ إذا رَأيْنا رَجُلًا مَكْشُوفَ الرَّأْسِ - ولَيْسَ ذَلِكَ عادَتَهُ - وآخَرَ هارِبًا قُدّامَهُ بِيَدِهِ عِمامَةٌ، وعَلى رَأْسِهِ عِمامَةٌ: حَكَمْنا لَهُ بِالعِمامَةِ الَّتِي بِيَدِ الهارِبِ قَطْعًا، ولا نَحْكُمُ بِها لِصاحِبِ اليَدِ الَّتِي قَدْ قَطَعْنا وجَزَمْنا بِأنَّها يَدٌ ظالِمَةٌ غاصِبَةٌ بِالقَرِينَةِ الظّاهِرَةِ الَّتِي هي أقْوى بِكَثِيرٍ مِن البَيِّنَةِ والِاعْتِرافِ. وَهَلْ القَضاءُ بِالنُّكُولِ إلّا رُجُوعٌ إلى مُجَرَّدِ القَرِينَةِ الظّاهِرَةِ، الَّتِي عَلِمْنا بِها ظاهِرًا أنَّهُ لَوْلا صِدْقُ المُدَّعِي لَدَفَعَ المُدَّعى عَلَيْهِ دَعْواهُ بِاليَمِينِ؟ فَلَمّا نَكَلَ عَنْها كانَ نُكُولُهُ قَرِينَةً ظاهِرَةً، دالَّةً عَلى صِدْقِ المُدَّعِي، فَقُدِّمَتْ عَلى أصْلِ بَراءَةِ الذِّمَّةِ. وَكَثِيرٌ مِن القَرائِنِ والأماراتِ أقْوى مِن النُّكُولِ، والحِسُّ شاهِدٌ بِذَلِكَ، فَكَيْفَ يَسُوغُ تَعْطِيلُ شَهادَتِها؟ ومِن ذَلِكَ: «أنَّ النَّبِيَّ ﷺ أمَرَ الزُّبَيْرَ أنْ يُقَرِّرَ عَمَّ حُيَيِّ بْنِ أخْطَبَ بِالعَذابِ عَلى إخْراجِ المالِ الَّذِي غَيَّبَهُ، وادَّعى نَفادَهُ فَقالَ لَهُ: العَهْدُ قَرِيبٌ، والمالُ أكْبَرُ مِن ذَلِكَ». فَهاتانِ قَرِينَتانِ في غايَةِ القُوَّةِ: كَثْرَةُ المالِ، وقِصَرُ المُدَّةِ الَّتِي يُنْفَقُ كُلُّهُ فِيها. وكذلك قول الشاهد من أهل امرأة العزيز ﴿إنْ كانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِن قُبُلٍ﴾ ﴿وَإنْ كانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِن دُبُرٍ﴾ فذكر الله تعالى ذلك مقررا له غير منكر على قائله بل رتب عليه العلم ببراءة يوسف عليه السلام وكذب المرأة عليه، وقد أمر النبي ﷺ الزبير أن يقرر ابني أبي الحقيق بالتعذيب على إخراج الكنز فعذبهما حتى أقرا به. ومن ذلك قول علي للظعينة التي حملت كتاب حاطب وأنكرته فقال لها: "لتخرجن الكتاب أو لنجردنك" وهل تقتضي محاسن الشريعة الكاملة إلا هذا؟ وهل يشك أحد في أن كثيرا من القرائن تفيد علما أقوى من الظن المستفاد من الشاهدين بمراتب عديدة، فالعلم المستفاد من مشاهدة الرجل مكشوف الرأس وآخر هارب قدامه وبيده عمامة وعلى رأسه عمامة، فالعلم بأن هذه عمامة المكشوف رأسه كالضروري فكيف تقدم عليه اليد التي إنما تفيد ظنا ما عند عدم المعارضة. وأما مع هذه المعارضة فلا تفيد شيئا سوى العلم بأنها يد عادية فلا يجوز الحكم بها ألبتة، ولم تأت الشريعة بالحكم لهذه اليد وأمثالها ألبتة. وقد أمر النبي ﷺ أن يدفع اللقطة إلى واصفها، وقد نص أحمد على اعتبار الوصف عند تنازع المالك والمستأجر في الدفين في الدار. وهذه من محاسن مذهبه، ونص على البلد يفتح فيوجد فيه أبواب مكتوب عليها بالكتابة القديمة أنها وقف أنه يحكم بذلك لقوة هذه القرينة.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب