﴿وَرَ ٰوَدَتۡهُ ٱلَّتِی هُوَ فِی بَیۡتِهَا عَن نَّفۡسِهِۦ وَغَلَّقَتِ ٱلۡأَبۡوَ ٰبَ وَقَالَتۡ هَیۡتَ لَكَۚ قَالَ مَعَاذَ ٱللَّهِۖ إِنَّهُۥ رَبِّیۤ أَحۡسَنَ مَثۡوَایَۖ إِنَّهُۥ لَا یُفۡلِحُ ٱلظَّـٰلِمُونَ﴾ [يوسف ٢٣]
* [فَصْلٌ: عِشْقُ الصُّوَرِ]
وَنَخْتِمُ الجَوابَ بِفَصْلٍ مُتَعَلِّقٍ بِعِشْقِ الصُّوَرِ وما فِيهِ مِنَ المَفاسِدِ العاجِلَةِ والآجِلَةِ، وإنْ كانَتْ أضْعافَ ما ذَكَرَهُ ذاكِرٌ، فَإنَّهُ يُفْسِدُ القَلْبَ بِالذّاتِ، وإذا فَسَدَ القَلْبُ؛ فَسَدَتِ الإراداتُ والأقْوالُ والأعْمالُ، وفَسَدَ ثَغْرُ التَّوْحِيدِ كَما تَقَدَّمَ، وكَما سَنُقَرِّرُهُ أيْضًا إنْ شاءَ اللَّهُ تَعالى.
واللَّهُ سُبْحانَهُ وتَعالى إنَّما حَكى هَذا المَرَضَ عَنْ طائِفَتَيْنِ مِنَ النّاسِ، وهُمُ اللُّوطِيَّةُ والنِّساءُ، فَأخْبَرَ عَنْ عِشْقِ امْرَأةِ العَزِيزِ لِيُوسُفَ، وما راوَدَتْهُ وكادَتْهُ بِهِ، وأخْبَرَ عَنِ الحالِ الَّتِي صارَ إلَيْها يُوسُفُ بِصَبْرِهِ وعِفَّتِهِ وتَقْواهُ، مَعَ أنَّ الَّذِي ابْتُلِيَ بِهِ أمْرٌ لا يَصْبِرُ عَلَيْهِ إلّا مَن صَبَّرَهُ اللَّهُ، فَإنَّ مُواقَعَةَ الفِعْلِ بِحَسَبِ قُوَّةِ الدّاعِي وزَوالِ المانِعِ، وكانَ الدّاعِي هاهُنا في غايَةِ القُوَّةِ، وذَلِكَ مِن وُجُوهٍ:
أحَدُها: ما رَكَّبَهُ اللَّهُ سُبْحانَهُ في طَبْعِ الرَّجُلِ مِن مَيْلِهِ إلى المَرْأةِ، كَما يَمِيلُ العَطْشانُ إلى الماءِ، والجائِعُ إلى الطَّعامِ، حَتّى إنَّ كَثِيرًا مِنَ النّاسِ يَصْبِرُ عَنِ الطَّعامِ والشَّرابِ ولا يَصْبِرُ عَنِ النِّساءِ، وهَذا لا يُذَمُّ إذا صادَفَ حَلالًا، بَلْ يُحْمَدُ كَما في كِتابِ الزُّهْدِ لِلْإمامِ أحْمَدَ مِن حَدِيثِ يُوسُفَ بْنِ عَطِيَّةَ الصِّفارِ عَنْ ثابِتٍ البُنانِيِّ عَنْ أنَسٍ عَنِ النَّبِيِّ ﷺ:
«حُبِّبَ إلَيَّ مِن دُنْياكُمُ النِّساءُ والطِّيبُ، أصْبِرُ عَنِ الطَّعامِ والشَّرابِ ولا أصْبِرُ عَنْهُنَّ».
الثّانِي: أنَّ يُوسُفَ عَلَيْهِ السَّلامُ كانَ شابًّا، وشَهْوَةُ الشَّبابِ وحِدَّتُهُ أقْوى.
الثّالِثُ: أنَّهُ كانَ عَزَبا، لَيْسَ لَهُ زَوْجَةٌ ولا سُرِّيَّةٌ تَكْسِرُ شِدَّةَ الشَّهْوَةِ.
الرّابِعُ: أنَّهُ كانَ في بِلادِ غُرْبَةٍ، يَتَأتّى لِلْغَرِيبِ فِيها مِن قَضاءِ الوَطَرِ ما لا يَتَأتّى لَهُ في وطَنِهِ وبَيْنَ أهْلِهِ ومَعارِفِهِ.
الخامِسُ: أنَّ المَرْأةَ كانَتْ ذاتَ مَنصِبٍ وجِمالٍ، بِحَيْثُ إنَّ كُلَّ واحِدٍ مِن هَذَيْنِ الأمْرَيْنِ يَدْعُو إلى مُواقَعَتِها.
السّادِسُ: أنَّها غَيْرُ مُمْتَنِعَةٍ ولا آبِيَةٍ، فَإنَّ كَثِيرًا مِنَ النّاسِ يُزِيلُ رَغْبَتَهُ في المَرْأةِ إباؤُها وامْتِناعُها، لِما يَجِدُ في نَفْسِهِ مِن ذُلِّ الخُضُوعِ والسُّؤالِ لَها، وكَثِيرٌ مِنَ النّاسِ يَزِيدُهُ الإباءُ والِامْتِناعُ إرادَةً وحُبًّا، كَما قالَ الشّاعِرُ:
وَزادَنِي كَلَفًا في الحُبِّ أنْ مَنَعَتْ ∗∗∗ أحَبُّ شَيْءٍ إلى الإنْسانِ ما مَنَعا
فَطِباعُ النّاسِ مُخْتَلِفَةٌ، فَمِنهم مَن يَتَضاعَفُ حُبُّهُ عِنْدَ بَذْلِ المَرْأةِ ورَغْبَتِها، ويَضْمَحِلُّ عِنْدَ إبائِها وامْتِناعِها، وأخْبَرَنِي بَعْضُ القُضاةِ أنَّ إرادَتَهُ وشَهْوَتَهُ تَضْمَحِلُّ عِنْدَ امْتِناعِ امْرَأتِهِ أوْ سُرِّيَّتِهِ وإبائِها، بِحَيْثُ لا يُعاوِدُها، ومِنهم مَن يَتَضاعَفُ حُبُّهُ وإرادَتُهُ بِالمَنعِ فَيَشْتَدُّ شَوْقُهُ كُلَّما مُنِعَ، ويَحْصُلُ لَهُ مِنَ اللَّذَّةِ بِالظَّفَرِ بِالضِّدِّ بَعْدَ امْتِناعِهِ ونِفارِهِ، واللَّذَّةُ بِإدْراكِ المَسْألَةِ بَعْدَ اسْتِصْعابِها، وشِدَّةِ الحِرْصِ عَلى إدْراكِها.
السّابِعُ: أنَّها طَلَبَتْ وأرادَتْ وبَذَلَتِ الجُهْدَ، فَكَفَتْهُ مُؤْنَةَ الطَّلَبِ وذُلَّ الرَّغْبَةِ إلَيْها، بَلْ كانَتْ هي الرّاغِبَةَ الذَّلِيلَةَ، وهو العَزِيزُ المَرْغُوبُ إلَيْهِ.
الثّامِنُ: أنَّهُ في دارِها، وتَحْتَ سُلْطانِها وقَهْرِها، بِحَيْثُ يَخْشى إنْ لَمْ يُطاوِعْها مِن أذاها لَهُ، فاجْتَمَعَ داعِي الرَّغْبَةِ والرَّهْبَةِ.
التّاسِعُ: أنَّهُ لا يَخْشى أنْ تَنِمَّ عَلَيْهِ هي ولا أحَدٌ مِن جِهَتِها، فَإنَّها هي الطّالِبَةُ الرّاغِبَةُ، وقَدْ غَلَّقَتِ الأبْوابَ وغَيَّبَتِ الرُّقَباءَ.
العاشِرُ: أنَّهُ كانَ في الظّاهِرِ مَمْلُوكًا لَها في الدّارِ، بِحَيْثُ يَدْخُلُ ويَخْرُجُ ويَحْضُرُ مَعَها ولا يُنْكَرُ عَلَيْهِ، وكانَ الأُنْسُ سابِقًا عَلى الطَّلَبِ وهو مِن أقْوى الدَّواعِي، كَما قِيلَ لِامْرَأةٍ شَرِيفَةٍ مِن أشْرافِ العَرَبِ: ما حَمَلَكِ عَلى الزِّنا؟ قالَتْ: قُرْبُ الوِسادِ، وطُولُ السَّوادِ، تَعْنِي قُرْبَ وِسادِ الرَّجُلِ مِن وِسادَتِي، وطُولَ السَّوادِ بَيْنَنا.
الحادِيَ عَشَرَ: أنَّها اسْتَعانَتْ عَلَيْهِ بِأئِمَّةِ المَكْرِ والِاحْتِيالِ، فَأرَتْهُ إيّاهُنَّ، وشَكَتْ حالَها إلَيْهِنَّ؛ لِتَسْتَعِينَ بِهِنَّ عَلَيْهِ، واسْتَعانَ هو بِاللَّهِ عَلَيْهِنَّ، فَقالَ:
﴿وَإلّا تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أصْبُ إلَيْهِنَّ وأكُنْ مِنَ الجاهِلِينَ﴾ [يوسف: ٣٣].
الثّانِيَ عَشَرَ: أنَّها تَوَعَّدَتْهُ بِالسِّجْنِ والصَّغارِ، وهَذا نَوْعُ إكْراهٍ، إذْ هو تَهْدِيدُ مَن يَغْلِبُ عَلى الظَّنِّ وُقُوعُ ما هَدَّدَ بِهِ، فَيَجْتَمِعُ داعِي الشَّهْوَةِ، وداعِي السَّلامَةِ مِن ضِيقِ السِّجْنِ والصَّغارِ.
الثّالِثَ عَشَرَ: أنَّ الزَّوْجَ لَمْ يَظْهَرْ مِنهُ الغَيْرَةُ والنَّخْوَةُ ما يُفَرِّقُ بِهِ بَيْنَهُما، ويُبْعِدُ كُلًّا مِنهُما عَنْ صاحِبِهِ، بَلْ كانَ غايَةَ ما قابَلَها بِهِ أنْ قالَ لِيُوسُفَ:
﴿أعْرِضْ عَنْ هَذا﴾ ولِلْمَرْأةِ:
﴿واسْتَغْفِرِي لِذَنْبِكِ إنَّكِ كُنْتِ مِنَ الخاطِئِينَ﴾ وشِدَّةُ الغَيْرَةِ لِلرَّجُلِ مِن أقْوى المَوانِعِ، وهُنا لَمْ يَظْهَرْ مِنهُ غَيْرَةٌ.
وَمَعَ هَذِهِ الدَّواعِي كُلِّها فَآثَرَ مَرْضاةَ اللَّهِ وخَوْفَهُ، وحَمَلَهُ حُبُّهُ لِلَّهِ عَلى أنِ اخْتارَ السَّجْنَ عَلى الزِّنا:
﴿قالَ رَبِّ السِّجْنُ أحَبُّ إلَيَّ مِمّا يَدْعُونَنِي إلَيْهِ﴾ [يوسف: ٣٣].
وَعَلِمَ أنَّهُ لا يُطِيقُ صَرْفَ ذَلِكَ عَنْ نَفْسِهِ، وأنَّ رَبَّهُ تَعالى إنْ لَمْ يَعْصِمْهُ ويَصْرِفْ عَنْهُ كَيْدَهُنَّ؛ صَبا إلَيْهِنَّ بِطَبْعِهِ، وكانَ مِنَ الجاهِلِينَ، وهَذا مِن كَمالِ مَعْرِفَتِهِ بِرَبِّهِ وبِنَفْسِهِ.
وَفِي هَذِهِ القِصَّةِ مِنَ العِبَرِ والفَوائِدِ والحِكَمِ ما يَزِيدُ عَلى الألْفِ فائِدَةٍ، لَعَلَّنا إنْ وفَّقَ اللَّهُ أنْ نُفْرِدَها في مُصَنَّفٍ مُسْتَقِلٍّ.
* [فصل: في أضْرارُ العِشْقِ]
وَمِنَ المَعْلُومِ أنَّهُ لَيْسَ في عِشْقِ الصُّوَرِ مَصْلَحَةٌ دِينِيَّةٌ ولا دُنْيَوِيَّةٌ، بَلْ مَفْسَدَتُهُ الدِّينِيَّةُ والدُّنْيَوِيَّةُ أضْعافُ أضْعافِ ما يُقَدَّرُ فِيهِ مِنَ المَصْلَحَةِ، وذَلِكَ مِن وُجُوهٍ:
أحَدُها: الِاشْتِغالُ بِحُبِّ المَخْلُوقِ وذِكْرِهِ عَنْ حُبِّ الرَّبِّ تَعالى وذِكْرِهِ، فَلا يَجْتَمِعُ في القَلْبِ هَذا وهَذا إلّا ويَقْهَرُ أحَدُهُما الآخَرَ، ويَكُونُ السُّلْطانُ والغَلَبَةُ لَهُ.
الثّانِي: عَذابُ قَلْبِهِ بِهِ، فَإنَّ مَن أحَبَّ شَيْئًا غَيْرَ اللَّهِ عُذِّبَ بِهِ ولا بُدَّ، كَما قِيلَ:
فَما في الأرْضِ أشْقى مِن مُحِبٍّ ∗∗∗ وإنْ وجَدَ الهَوى حُلْوَ المَذاقِ
تَراهُ باكِيًا في كُلٍّ حِينٍ ∗∗∗ مَخافَةَ فُرْقَةٍ أوْ لِاشْتِياقِ
فَيَبْكِي إنْ نَأوْا شَوْقًا إلَيْهِمْ ∗∗∗ ويَبْكِي إنْ دَنَوْا خَوْفَ الفِراقِ
فَتَسْخَنُ عَيْنُهُ عِنْدَ الفِراقِ ∗∗∗ وتَسْخَنُ عَيْنُهُ عِنْدَ التَّلاقِي
والعِشْقُ وإنِ اسْتَلَذَّ بِهِ صاحِبُهُ، فَهو أعْظَمُ مِن عَذابِ القَلْبِ.
الثّالِثُ: أنَّ قَلْبَهُ أسِيرُ قَبْضَةِ غَيْرِهِ يَسُومُهُ الهَوانَ، ولَكِنْ لِسَكْرَتِهِ لا يَشْعُرُ بِمُصابِهِ، فَقَلْبُهُ كَعُصْفُورَةٍ في كَفِّ طِفْلٍ يَسُومُها حِياضَ الرَّدى، والطِّفْلُ يَلْهُو ويَلْعَبُ، كَما قالَ بَعْضُ هَؤُلاءِ:
مَلَكْتَ فُؤادِي بِالقَطِيعَةِ والجَفا ∗∗∗ وأنْتَ خَلِيُّ البالِ تَلْهُو وتَلْعَبُ
فَعَيْشُ العاشِقِ عَيْشُ الأسِيرِ المُوثَقِ، وعَيْشُ الخَلِيِّ عَيْشُ المُسَيَّبِ المُطْلَقِ.
طَلِيقٌ بِرَأْيِ العَيْنِ وهْوَ أسِيرُ ∗∗∗ عَلِيلٌ عَلى قُطْبِ الهَلاكِ يَدُورُ
وَمَيِّتٌ يُرى في صُورَةِ الحَيِّ غادِيا ∗∗∗ ولَيْسَ لَهُ حَتّى النُّشُورِ نُشُورُ
أخُو غَمَراتٍ ضاعَ فِيهِنَّ قَلْبُهُ ∗∗∗ فَلَيْسَ لَهُ حَتّى المَماتِ حُضُورُ
الرّابِعُ: أنَّهُ يَشْتَغِلُ بِهِ عَنْ مَصالِحِ دِينِهِ ودُنْياهُ، فَلَيْسَ شَيْءٌ أضَيْعُ لِمَصالِحِ الدِّينِ والدُّنْيا مِن عِشْقِ الصُّوَرِ، أمّا مَصالِحُ الدِّينِ فَإنَّها مَنُوطَةٌ بِلَمِّ شَعَثِ القَلْبِ وإقْبالِهِ عَلى اللَّهِ، وعِشْقُ الصُّوَرِ أعْظَمُ شَيْءٍ تَشْعِيثًا وتَشْتِيتًا لَهُ.
وَأمّا مَصالِحُ الدُّنْيا فَهي تابِعَةٌ في الحَقِيقَةِ لِمَصالِحِ الدِّينِ، فَمَنِ انْفَرَطَتْ عَلَيْهِ مَصالِحُ دِينِهِ وضاعَتْ عَلَيْهِ، فَمَصالِحُ دُنْياهُ أضْيَعُ وأضْيَعُ.
الخامِسُ: أنَّ آفاتِ الدُّنْيا والآخِرَةِ أسْرَعُ إلى عُشّاقِ الصُّوَرِ مِنَ النّارِ في يابِسِ الحَطَبِ، وسَبَبُ ذَلِكَ: أنَّ القَلْبَ كُلَّما قَرُبَ مِنَ العِشْقِ وقَوِيَ اتِّصالُهُ بِهِ بَعُدَ مِنَ اللَّهِ، فَأبْعَدُ القُلُوبِ مِنَ اللَّهِ قُلُوبُ عُشّاقِ الصُّوَرِ، وإذا بَعُدَ القَلْبُ مِنَ اللَّهِ طَرَقَتْهُ الآفاتُ، وتَوَلّاهُ الشَّيْطانُ مِن كُلِّ ناحِيَةٍ، واسْتَوْلى عَلَيْهِ لَمْ يَدَعْ أذًى يُمْكِنُهُ إيصالُهُ إلَيْهِ إلّا أوْصَلَهُ، فَما الظَّنُّ بِقَلْبٍ تَمَكَّنَ مِنهُ عَدُّوهُ وأحْرَصُ الخَلْقِ عَلى غَيِّهِ وفَسادِهِ، وبَعُدَ مِنهُ ولِيُّهُ، ومَن لا سَعادَةَ لَهُ ولا فَرَحَ ولا سُرُورَ إلّا بِقُرْبِهِ ووِلايَتِهِ؟
السّادِسُ: أنَّهُ إذا تَمَكَّنَ مِنَ القَلْبِ واسْتَحْكَمَ وقَوِيَ سُلْطانُهُ، أفْسَدَ الذِّهْنَ، وأحْدَثَ الوَسْواسَ، ورُبَّما ألْحَقَ صاحِبَهُ بِالمَجانِينِ الَّذِينَ فَسَدَتْ عُقُولُهم فَلا يَنْتَفِعُونَ بِها.
وَأخْبارُ العُشّاقِ في ذَلِكَ مَوْجُودَةٌ في مَواضِعِها، بَلْ بَعْضُها مَشاهَدٌ بِالعِيانِ، وأشْرَفُ ما في الإنْسانِ عَقْلُهُ، وبِهِ يَتَمَيَّزُ عَنْ سائِرِ الحَيَواناتِ، فَإذا عُدِمَ عَقْلَهُ التَحَقَ بِالحَيَوانِ البَهِيمِ، بَلْ رُبَّما كانَ حالُ الحَيَوانِ أصْلَحَ مِن حالِهِ، وهَلْ أذْهَبَ عَقْلَ مَجْنُونِ لَيْلى وأضْرابِهِ إلّا ذَلِكَ؟ ورُبَّما زادَ جُنُونُهُ عَلى جُنُونِ غَيْرِهِ كَما قِيلَ:
قالُوا جُنِنْتَ بِمَن تَهْوى فَقُلْتُ لَهم ∗∗∗ العِشْقُ أعْظَمُ مِمّا بِالمَجانِينِ
العِشْقُ لا يَسْتَفِيقُ الدَّهْرَ صاحِبُهُ ∗∗∗ وإنَّما يُصْرَعُ المَجْنُونُ في الحِينِ
السّابِعُ: أنَّهُ رُبَّما أفْسَدَ الحَواسَّ أوْ بَعْضَها، إمّا إفْسادًا مَعْنَوِيًّا أوْ صُورِيًّا، أمّا الفَسادُ المَعْنَوِيُّ فَهو تابِعٌ لِفَسادِ القَلْبِ، فَإنَّ القَلْبَ إذا فَسَدَ فَسَدَتِ العَيْنُ والأُذُنُ واللِّسانُ، فَيَرى القَبِيحَ حَسَنًا مِنهُ ومِن مَعْشُوقِهِ كَما في المُسْنَدِ مَرْفُوعًا:
«حُبُّكَ الشَّيْءَ يُعْمِي ويُصِمُّ» فَهو يُعْمِي عَيْنَ القَلْبِ عَنْ رُؤْيَةِ مَساوِئِ المَحْبُوبِ وعُيُوبِهِ، فَلا تَرى العَيْنُ ذَلِكَ، ويُصِمُّ أُذُنَهُ عَنِ الإصْغاءِ إلى العَدْلِ فِيهِ، فَلا تَسْمَعُ الأُذُنُ ذَلِكَ، والرَّغَباتُ تَسْتُرُ العُيُوبَ، فالرّاغِبُ في الشَّيْءِ لا يَرى عُيُوبَهُ، حَتّى إذْ زالَتْ رَغْبَتُهُ فِيهِ أبْصَرَ عُيُوبَهُ، فَشِدَّةُ الرَّغْبَةِ غِشاوَةٌ عَلى العَيْنِ، تَمْنَعُ مِن رُؤْيَةِ الشَّيْءِ عَلى ما هو بِهِ، كَما قِيلَ:
هَوَيْتُكَ إذْ عَيْنِي عَلَيْها غِشاوَةٌ ∗∗∗ فَلَمّا انْجَلَتْ قَطَّعْتُ نَفَسِي ألُومُها
والدّاخِلُ في الشَّيْءِ لا يَرى عُيُوبَهُ، والخارِجُ مِنهُ الَّذِي لَمْ يَدْخُلْ فِيهِ لا يَرى عُيُوبَهُ، ولا يَرى عُيُوبَهُ إلّا مَن دَخَلَ فِيهِ، ثُمَّ خَرَجَ مِنهُ، ولِهَذا كانَ الصَّحابَةُ الَّذِينَ دَخَلُوا في الإسْلامِ بَعْدَ الكُفْرِ خَيْرًا مِنَ الَّذِينَ وُلِدُوا في الإسْلامِ.
قالَ عُمَرُ بْنُ الخَطّابِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - إنَّما تَنْتَقِضُ عُرى الإسْلامِ عُرْوَةً عُرْوَةً، إذا وُلِدَ في الإسْلامِ مَن لا يَعْرِفُ الجاهِلِيَّةَ.
وَأمّا فَسادُ الحَواسِّ ظاهِرًا، فَإنَّهُ يُمْرِضُ البَدَنَ ويُنْهِكُهُ، ورُبَّما أدّى إلى تَلَفِهِ، كَما هو المَعْرُوفُ في أخْبارِ مَن قَتَلَهُمُ العِشْقُ.
وَقَدْ رُفِعَ إلى ابْنِ عَبّاسٍ وهو بِعَرَفَةَ شابٌّ قَدِ انْتَحَلَ حَتّى عادَ جِلْدًا عَلى عَظْمٍ، فَقالَ: ما شَأْنُ هَذا؟ قالُوا: بِهِ العِشْقُ، فَجَعَلَ ابْنُ عَبّاسٍ يَسْتَعِيذُ بِاللَّهِ مِنَ العِشْقِ عامَّةَ يَوْمِهِ.
الثّامِنُ: أنَّ العِشْقَ كَما تَقَدَّمَ هو الإفْراطُ في المَحَبَّةِ، بِحَيْثُ يَسْتَوْلِي المَعْشُوقُ عَلى قَلْبِ العاشِقِ، حَتّى لا يَخْلُوَ مِن تَخَيُّلِهِ وذِكْرِهِ والفِكْرِ فِيهِ، بِحَيْثُ لا يَغِيبُ عَنْ خاطِرِهِ وذِهْنِهِ، فَعِنْدَ ذَلِكَ تَشْتَغِلُ النَّفْسُ عَنِ اسْتِخْدامِ القُوَّةِ الحَيَوانِيَّةِ والنَّفْسانِيَّةِ فَتَتَعَطَّلُ تِلْكَ القُوَّةُ، فَيَحْدُثُ بِتَعْطِيلِها مِنَ الآفاتِ عَلى البَدَنِ والرُّوحِ ما يَعِزُّ دَواؤُهُ ويَتَعَذَّرُ، فَتَتَغَيَّرُ أفْعالُهُ وصِفاتُهُ ومَقاصِدُهُ، ويَخْتَلُّ جَمِيعُ ذَلِكَ، فَتَعْجِزُ البَشَرُ عَنْ صَلاحِهِ، كَما قِيلَ:
الحُبُّ أوَّلُ ما يَكُونُ لَجاجَةٌ ∗∗∗ يَأْتِي بِها وتَسُوقُهُ الأقْدارُ
حَتّى إذا خاضَ الفَتى لُجَجَ الهَوى ∗∗∗ جاءَتْ أُمُورٌ لا تُطاقُ كِبارُ
والعِشْقُ مَبادِيهِ سَهْلَةٌ حُلْوَةٌ، وأوْسَطُهُ هَمٌّ وشُغْلُ قَلْبٍ وسَقَمٌ، وآخِرُهُ عَطَبٌ وقَتْلٌ، إنْ لَمْ تَتَدارَكْهُ عِنايَةٌ مِنَ اللَّهِ تَعالى، كَما قِيلَ:
وَعِشْ خالِيًا فالحُبُّ أوَّلُهُ عَنا ∗∗∗ وأوْسَطُهُ سَقَمٌ وآخِرُهُ قَتْلُ
وَقالَ آخَرُ:
تَوَلَّعَ بِالعِشْقِ حَتّى عَشِقْ ∗∗∗ فَلَمّا اسْتَقَلَّ بِهِ لَمْ يُطِقْ
رَأى لُجَّةً ظَنَّها مَوْجَةً ∗∗∗ فَلَمّا تَمَكَّنَ مِنها غَرِقْ
والذَّنْبُ لَهُ، فَهو الجانِي عَلى نَفْسِهِ، وقَدْ قَعَدَ تَحْتَ المَثَلِ السّائِرِ: " يَداكَ أوْكَتا، وفُوكَ نَفَخَ ".