الباحث القرآني
* (فصل)
الشر الثاني: شر الغاسق إذا وقب. فهذا خاص بعد عام. وقد قال أكثر المفسرين: إنه الليل.
قال ابن عباس: الليل إذا أقبل بظلمته من المشرق، ودخل في كل شيء وأظلم والغسق: الظلمة. يقال: غسق الليل، وأغسق: إذا أظلم.
ومنه قوله تعالى: ﴿أقِمِ الصَّلاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إلى غَسَقِ اللَّيْلِ﴾
وكذلك قال الحسن ومجاهد: الغاسق إذا وقب: الليل إذا أقبل ودخل.
والوقوب: الدخول، وهو دخول الليل بغروب الشمس.
وقال مقاتل: يعني ظلمة الليل إذا دخل سواده في ضوء النهار.
وفي تسمية الليل غاسقا قول آخر: أنه من البرد، والليل أبرد من النهار، والغسق: البرد.
وعليه حمل ابن عباس قوله تعالى: ﴿فَلْيَذُوقُوهُ حَمِيمٌ وغَسّاقٌ﴾ وقوله: {لا يَذُوقُونَ فِيها بَرْدًا ولا شَرابًا إلّا حَمِيمًا وغَسّاقًا
قال: هو الزمهرير يحرقهم ببرده. كما تحرقهم النار بحرها. وكذلك قال مجاهد ومقاتل: هو الذي انتهى برده.
ولا تنافي بين القولين. فإن الليل بارد مظلم. فمن ذكر برده فقط، أو ظلمته فقط: اقتصر على أحد وصفيه.
والظلمة في الآية أنسب لمكان الاستعاذة. فإن الشر الذي يناسب الظلمة أولى بالاستعاذة من البرد الذي في الليل. ولهذا استعاذ برب الفلق الذي هو الصبح والنور: من شر الغاسق، الذي هو الظلمة. فناسب الوصف المستعاذ به المعنى المطلوب بالاستعاذة. كما سنزيده تقريرا عن قريب إن شاء الله.
فإن قيل: فما تقولون فيما
رواه الترمذي من حديث ابن أبي ذئب عن الحرث بن عبد الرحمن عن أبي سلمة عن عائشة قالت: «أخذ النبي ﷺ بيدي، فنظر إلى القمر، فقال: يا عائشة، استعيذي بالله من شر هذا. فإن هذا هو الغاسق إذا وقب»
قال الترمذي: هذا حسن صحيح. وهذا أولى من كل تفسير. فيتعين المصير إليه؟
قيل: هذا التفسير حق، ولا يناقض التفسير الأول، بل يوافقه، ويشهد لصحته. فإن الله تعالى قال: ﴿وَجَعَلْنا اللَّيْلَ والنَّهارَ آيَتَيْنِ فَمَحَوْنا آيَةَ اللَّيْلِ وجَعَلْنا آيَةَ النَّهارِ مُبْصِرَةً﴾
فالقمر هو آية الليل، وسلطانه فيه. فهو أيضا غاسق إذا وقب، كما أن الليل غاسق إذا وقب، والنبي ﷺ أخبر عن القمر بأنه غاسق إذا وقب. وهذا خبر صدق. وهو أصدق الخبر، ولم ينف عن الليل اسم الغاسق إذا وقب. وتخصيص النبي ﷺ له بالذكر لا ينفي شمول الاسم لغيره.
ونظير هذا: قوله في المسجد الذي أسس على التقوى - وقد سئل عنه -
فقال: «هو مسجدي هذا»
ومعلوم أن هذا لا ينفي كون مسجد قباء مؤسسا على التقوى مثل ذاك.
ونظيره أيضا:
قوله في علي وفاطمة والحسن والحسين رضي الله عنهم أجمعين «اللهم هؤلاء أهل بيتي»
فإن هذا لا ينفي دخول غيرهم من أهل بيته في لفظ أهل البيت، ولكن هؤلاء أحق من دخول في لفظ أهل بيته.
ونظير هذا:
قوله: «ليس المسكين بهذا الطواف الذي ترده اللقمة واللقمتان، والتمرة والتمرتان، ولكن المسكين الذي لا يسأل الناس شيئا، ولا يعطن له فيتصدّق عليه»
وهذا لا ينفي اسم المسكنة عن الطواف، بل ينفي اختصاص الاسم به، وتناول المسكين لغير السائل أولى من تناوله له.
ونظير هذا:
قوله: «ليس الشديد بالصّرعة، ولكن الذي يملك نفسه عند الغضب»
فإنه لا يقتضي نفي الاسم عن الذي يصرع الرجال، ولكن يقتضي أن ثبوته للذي يملك نفسه عند الغضب أولى.
ونظيره: الغسق، والوقوب، وأمثال ذلك.
فكذلك قوله في القمر «هذا هو الغاسق إذا وقب»
لا ينفي أن يكون الليل غاسقا، بل كلاهما غاسق.
فإن قيل: فما تقولون في القول الذي ذهب إليه بعضهم: أن المراد به القمر إذا خسف واسودّ. وقوله: «وقب» أي دخل في الخسوف، أو غاب خاسفا؟
قيل: هذا القول ضعيف. ولا نعلم به سلفا. والنبي ﷺ لما أشار إلى القمر،
وقال: «هذا الغاسق إذا وقب»
لم يكن خاسفا إذ ذاك. وإنما كان مستنيرا، ولو كان خاسفا لذكرته عائشة. وإنما
قالت «نظر إلى القمر، وقال: «هذا هو الغاسق»
ولو كان خاسفا لم يصح أن يحذف ذلك الوصف منه. فإن ما أطلق عليه اسم الغاسق باعتبار صفة لا يجوز أن يطلق عليه بدونها، لما فيه من التلبيس.
وأيضا: فإن اللغة لا تساعد على هذا. فلا نعلم أحدا قال: الغاسق: القمر في حال خسوفه.
وأيضا: فإن الوقوب لا يقول أحد من أهل اللغة: إنه الخسوف، وإنما هو الدخول، من قولهم: وقبت العين: إذا غارت، وركية وقباء: غار ماؤها. فدخل في أعماق التراب. ومنه الوقب للثقب الذي يدخل فيه المحور. وتقول العرب وقب يقب وقوبا إذا دخل.
فإن قيل: فما تقولون في القول الذي ذهب إليه بعضهم: أن الغاسق هو الثريا إذا سقطت، فإن الأسقام تكثر عند سقوطها وغروبها، وترتفع عند طلوعها؟
قيل: إن أراد صاحب هذا القول اختصاص الغاسق بالنجم إذا غرب فباطل. وإن أراد: أن اسم الغاسق يتناول ذلك بوجه ما: فهذا يحتمل أن يدل اللفظ عليه بفحواه ومقصوده وتنبيهه. وأما أن يختص به اللفظ به فباطل.
* فصل
والسبب الذي لأجله أمر الله بالاستعاذة من شر الليل وشر القمر إذا وقب هو: أن الليل إذا أقبل فهو محل سلطان الأرواح الشريرة الخبيثة. وفيه تنتشر الشياطين.
وفي الصحيح «أن النبي ﷺ أخبر أن الشمس إذا غربت انتشرت الشياطين»
ولهذا قال: «فاكفتوا صبيانكم، واحبسوا مواشيكم حتى تذهب فحمة العشاء»
وفي حديث آخر «فإن الله يبث من خلقه ما يشاء».
والليل هو محل الظلام. وفيه تتسلط شياطين الإنس والجن ما لا تتسلط بالنهار. فإن النهار نور، والشياطين إنما سلطانهم في الظلمات والمواضع المظلمة، وعلى أهل الظلمة.
وروى أن سائلا سأل مسيلمة: كيف يأتيك؟ فقال: في ظلماء حندس.
وسئل النبي ﷺ «كيف يأتيك؟ فقال: في مثل ضوء النهار»
فاستدل بهذا على نبوته، وأن الذي يأتيه ملك من عند الله، وأن الذي يأتي مسيلمة شيطان.
ولهذا كان سلطان السحر وعظم تأثيره إنما هو بالليل دون النهار، فالسحر الليلي عندهم: هو السحر القوي التأثير. ولهذا كانت القلوب المظلمة هي محال الشياطين وبيوتهم ومأواهم، والشياطين تجول فيها، وتتحكم كما يتحكم ساكن البيت فيه. وكلما كان القلب أظلم كان للشيطان أطوع، وهو فيه أثبت وأمكن.
* (فصل)
ومن هاهنا: تعلم السر في الاستعاذة برب الفلق في هذا الموضع.
فإن الفلق: هو الصبح الذي هو مبدأ ظهور النور، وهو الذي يطرد جيش الظلام، وعسكر المفسدين في الليل. فيأوي كل خبيث وكل مفسد وكل لص وكل قاطع طريق إلى سرب أو كنّ أو غار، وتأوي الهوام إلى أجحرتها، والشياطين التي انتشرت بالليل إلى أمكنتها ومحالها. فأمر الله عباده أن يستعيذوا برب النور الذي يقهر الظلمة ويزيلها، ويقهر عسكرها وجيشها.
ولهذا ذكر سبحانه في كل كتاب: أنه يخرج عباده من الظلمات إلى النور، ويدع الكفار في ظلمات كفرهم. قال الله تعالى: ٢: ٢٥٧ اللَّهُ ولِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهم مِنَ الظُّلُماتِ إلى النُّورِ. والَّذِينَ كَفَرُوا أوْلِياؤُهُمُ الطّاغُوتُ، يُخْرِجُونَهم مِنَ النُّورِ إلى الظُّلُماتِ وقال تعالى: ﴿أوَمَن كانَ مَيْتًا فَأحْيَيْناهُ وجَعَلْنا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ في النّاسِ كَمَن مَثَلُهُ في الظُّلُماتِ لَيْسَ بِخارِجٍ مِنها﴾
وقال في أعمال الكفار ﴿أوْ كَظُلُماتٍ في بَحْرٍ لُجِّيٍّ يَغْشاهُ مَوْجٌ مِن فَوْقِهِ مَوْجٌ مِن فَوْقِهِ سَحابٌ ظُلُماتٌ بَعْضُها فَوْقَ بَعْضٍ إذا أخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَراها. ومَن لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُورًا فَما لَهُ مِن نُورٍ﴾
وقد قال قبل ذلك في صفات أهل الإيمان ونورهم ﴿اللَّهُ نُورُ السَّماواتِ والأرْضِ مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكاةٍ فِيها مِصْباحٌ المِصْباحُ في زُجاجَةٍ الزُّجاجَةُ كَأنَّها كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ يُوقَدُ مِن شَجَرَةٍ مُبارَكَةٍ زَيْتُونَةٍ لا شَرْقِيَّةٍ ولا غَرْبِيَّةٍ يَكادُ زَيْتُها يُضِيءُ ولَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نارٌ نُورٌ عَلى نُورٍ يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَن يَشاءُ﴾.
فالإيمان كله نور، ومآله إلى نور، ومستقره في القلب المضيء المستنير، والمقترن بأهله الأرواح المستنيرة المضيئة المشرقة. والكفر والشرك كله ظلمة، ومآله إلى الظلمات ومستقره في القلوب المظلمة، والمقترن بأهله الأرواح المظلمة.
فتأمل الاستعاذة برب الفلق من شر الظلمة، ومن شر ما يحدث فيها ونزّل هذا المعنى على الواقع يشهد بأن القرآن، بل هاتان السورتان، من أعظم أعلام النبوة، وبراهين صدق رسالة محمد ﷺ، ومضادته لما جاء به الشياطين من كل وجه، وأن ما جاء به ما تنزلت به الشياطين، وما ينبغي لهم وما يستطيعون فما فعلوه، ولا يليق بهم، ولا يتأتى منهم، ولا يقدرون عليه.
وفي هذا أبين جواب وأشفاه لما يورده أعداء الرسول عليه من الأسئلة الباطلة التي قصّر المتكلمون غاية التقصير في دفعها، وما شفوا في جوابها.
وإنما الله سبحانه هو الذي شفى وكفى في جوابها. فلم يحوجنا إلى متكلم، ولا إلى أصولي، ولا إلى نظّار. فله الحمد والمنّة، لا نحصي ثناء عليه.
* (فصل)
واعلم أن الخلق كله فلق. وذلك أن «فلقا» فعل بمعنى مفعول، كقبض وسلب، وقنص: بمعنى مقبوض ومسلوب ومقنوص.
والله عز وجل ﴿فالِقُ الإصْباحِ﴾ و ﴿فالِقُ الحَبِّ والنَّوى﴾ وفالق الأرض عن النبات، والجبال عن العيون، والسحاب عن المطر، والأرحام عن الأجنّة، والظلام عن الإصباح. ويسمى الصبح المتصدع عن الظلمة: فلقا وفرقا. يقال: هو أبيض من فرق الصبح وفلقه.
وكما أن في خلقه فلقا وفرقا. فكذلك أمره كله فرقان، يفرق بين الحق والباطل. فيفرق ظلام الباطل بالحق، كما يفرق ظلام الليل بالإصباح. ولهذا سمى كتابه «الفرقان» ونصره فرقانا، لتضمنه الفرق بين أوليائه وأعدائه. ومنه فلقه البحر لموسى، وسماه فلقا.
فظهرت حكمة الاستعاذة برب الفلق في هذه المواضع. وظهر بهذا إعجاز القرآن، وعظمته وجلالته، وأن العباد لا يقدرون قدره، وأنه تَنْزِيلٌ مِن حَكِيمٍ حَمِيدٍ.
{"ayah":"وَمِن شَرِّ غَاسِقٍ إِذَا وَقَبَ"}
- أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.
أمّهات
جامع البيان
تفسير الطبري
نحو ٢٨ مجلدًا
تفسير القرآن العظيم
تفسير ابن كثير
نحو ١٩ مجلدًا
الجامع لأحكام القرآن
تفسير القرطبي
نحو ٢٤ مجلدًا
معالم التنزيل
تفسير البغوي
نحو ١١ مجلدًا
جمع الأقوال
منتقاة
عامّة
عامّة
فتح البيان
فتح البيان للقنوجي
نحو ١٢ مجلدًا
فتح القدير
فتح القدير للشوكاني
نحو ١١ مجلدًا
التسهيل لعلوم التنزيل
تفسير ابن جزي
نحو ٣ مجلدات
موسوعات
أخرى
لغة وبلاغة
معاصرة
الميسر
نحو مجلد
المختصر
المختصر في التفسير
نحو مجلد
تيسير الكريم الرحمن
تفسير السعدي
نحو ٤ مجلدات
أيسر التفاسير
نحو ٣ مجلدات
القرآن – تدبّر وعمل
القرآن – تدبر وعمل
نحو ٣ مجلدات
تفسير القرآن الكريم
تفسير ابن عثيمين
نحو ١٥ مجلدًا
مركَّزة العبارة
تفسير الجلالين
نحو مجلد
جامع البيان
جامع البيان للإيجي
نحو ٣ مجلدات
أنوار التنزيل
تفسير البيضاوي
نحو ٣ مجلدات
مدارك التنزيل
تفسير النسفي
نحو ٣ مجلدات
الوجيز
الوجيز للواحدي
نحو مجلد
تفسير القرآن العزيز
تفسير ابن أبي زمنين
نحو مجلدين
آثار
غريب ومعاني
السراج في بيان غريب القرآن
غريب القرآن للخضيري
نحو مجلد
الميسر في غريب القرآن الكريم
الميسر في الغريب
نحو مجلد
تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن قتيبة
نحو مجلد
التبيان في تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن الهائم
نحو مجلد
معاني القرآن وإعرابه
معاني الزجاج
نحو ٤ مجلدات
معاني القرآن
معاني القرآن للنحاس
نحو مجلدين
معاني القرآن
معاني القرآن للفراء
نحو مجلدين
مجاز القرآن
مجاز القرآن لمعمر بن المثنى
نحو مجلد
معاني القرآن
معاني القرآن للأخفش
نحو مجلد
أسباب النزول
إعراب ولغة
الإعراب الميسر
نحو ٣ مجلدات
إعراب القرآن
إعراب القرآن للدعاس
نحو ٤ مجلدات
الجدول في إعراب القرآن وصرفه وبيانه
الجدول في إعراب القرآن
نحو ٨ مجلدات
الدر المصون
الدر المصون للسمين الحلبي
نحو ١٠ مجلدات
اللباب
اللباب في علوم الكتاب
نحو ٢٤ مجلدًا
إعراب القرآن وبيانه
إعراب القرآن للدرويش
نحو ٩ مجلدات
المجتبى من مشكل إعراب القرآن
مجتبى مشكل إعراب القرآن
نحو مجلد
إعراب القرآن
إعراب القرآن للنحاس
نحو ٣ مجلدات
تحليل كلمات القرآن
نحو ٩ مجلدات
الإعراب المرسوم
نحو ٣ مجلدات
المجمّع
بالرسم الجديد
بالرسم القديم
حفص عن عاصم
شُعْبة عن عاصم
قالون عن نافع
ورش عن نافع
البَزِّي عن ابن كثير
قُنبُل عن ابن كثير
الدُّوري عن أبي عمرو
السُّوسِي عن أبي عمرو
نستعليق