الباحث القرآني
روى مسلم في صحيحه من حديث قيس بن حازم عن عقبة بن عامر قال: قال رسول الله ﷺ «ألم تر آيات أنزلت الليلة لم ير مثلهن قط: أعوذ برب الفلق. أعوذ برب الناس».
وفي لفظ آخر من رواية محمد بن إبراهيم التيمي عن عقبة: أن رسول الله ﷺ قال له «ألا أخبرك بأفضل ما تعوّذ به المتعوذون؟ قلت: بلى. قال:
قل أعوذ برب الفلق، وقل أعوذ برب الناس».
وفي الترمذي: حدثنا قتيبة أخبرنا ابن لهيعة عن يزيد بن أبي حبيب عن علي بن رباح عن عقبة بن عامر قال: «أمرني رسول الله ﷺ أن أقرأ بالمعوذتين في دبر كل صلاة»
وقال: هذا حديث غريب.
وفي الترمذي والنسائي وسنن أبي داود. عن عبد الله بن حبيب قال: «خرجنا في ليلة مطر وظلمة، نطلب النبي ﷺ ليصلّي لنا، فأدركناه، فقال:
قل. فلم أقل شيئا. ثم قال: قل. فلم أقل شيئا. ثم قال: قل. قلت: يا رسول الله، ما أقول؟ قال: قل: قل هو الله أحد والمعوذتين، حين تمسي وحين تصبح، ثلاث مرات، تكفيك من كل شيء».
قال الترمذي: حديث حسن صحيح.
وفي الترمذي أيضا: من حديث الجريري عن أبي هريرة عن أبي سعيد قال: «كان رسول الله ﷺ يتعوذ من الجان وعين الإنسان، حتى نزلت المعوذتان. فلما نزلتا أخذهما وترك ما سواهما» قال: وفي الباب عن أنس.
وهذا حديث غريب.
وفي الصحيحين عن عائشة «أن النبي ﷺ كان إذا أوى إلى فراشه نفث في كفيه بقل هو الله أحد والمعوذتين جميعا، ثم يمسح بهما وجهه. وما بلغت يداه من جسده. قالت عائشة: فلما اشتكى كان يأمرني أن أفعل ذلك به».
قلت: هكذا رواه يونس عن الزهري عن عروة عن عائشة. ذكره البخاري.
ورواه مالك عن الزهري عن عروة عنها «أن النبي ﷺ كان إذا اشتكى يقرأ على نفسه بالمعوذات، وينفث. فلما اشتد وجعه كنت أقرأ عليه، وأمسح عليه بيده، رجاء بركتها»
وكذلك
قال معمر عن الزهري عن عروة عنها «أن النبي ﷺ كان ينفث على نفسه في مرضه الذي قبض فيه بالمعوذات، فلما ثقل كنت أنا أنفث عليه بهن وأمسح بيد نفسه لبركتها. فسألت ابن شهاب: كيف كان ينفث؟ قال: ينفث على يديه ثم يمسح بهما وجهه» ذكره البخاري
أيضا.
وهذا هو الصواب: أن عائشة كانت تفعل ذلك. والنبي ﷺ لم يأمرها ولم يمنعها من ذلك. وأما أن يكون استرقى وطلب منها أن ترقيه فلا ولعل بعض الرواة رواه بالمعنى. فظن أنها لما فعلت ذلك وأقرها النبي ﷺ: أنه كان يأمرها. وفرق بين الأمرين. ولا يلزم من كون النبي ﷺ قد أقرها على رقيته أن يكون هو مسترقيا. فليس أحدهما بمعنى الآخر. ولعل الذي كان يأمرها به: إنما هو المسح على نفسه بيده. فيكون هو الراقي لنفسه ويده لما ضعفت عن التنقل على سائر بدنه أمرها أن تنقلها على بدنه. ويكون هذا غير قراءتها هي عليه، ومسحها على بدنه. فكانت تفعل هذا وهذا. والذي أمرها به إنما هو نقل يده لا رقيته. والله أعلم.
والمقصود: الكلام على هاتين السورتين. وبيان عظيم منفعتهما، وشدة الحاجة بل الضرورة إليهما. وأنه لا يستغني عنهما أحد قط، وأن لهما تأثيرا خاصا في دفع السحر والعين، وسائر الشرور، وأن حاجة العبد إلى الاستعاذة بهاتين السورتين أعظم من حاجته إلى النفس والطعام والشراب واللباس، فنقول والله المستعان:
قد اشتملت السورتان على ثلاثة أصول. وهي أصول الاستعاذة.
أحدها: نفس الاستعاذة.
والثانية: المستعاذ به.
والثالثة: المستعاذ منه.
فبمعرفة ذلك تعرف شدة الحاجة والضرورة إلى هاتين السورتين.
فنعقد لهما ثلاثة فصول: الفصل الأول: في الاستعاذة. والثاني: في المستعاذ به. والثالث في المستعاذ منه.
(الفصل الأول)
اعلم أن لفظة «عاذ» وما تصرف منها تدل على التحرز والتحصن والنجاة. وحقيقة معناها: الهروب من شيء تخافه إلى من يعصمك منه.
ولهذا يسمى المستعاذ به: معاذا، كما يسمى: ملجأ ووزرا.
وفي الحديث «أن ابنة الجون لما أدخلت على النبي ﷺ فوضع يده عليها، قالت: أعوذ بالله منك. فقال لها. لقد عذت بمعاذ، الحقي بأهلك».
فمعنى «أعوذ» ألتجئ وأعتصم، وأتحرز.
وفي أصله قولان. أحدها: أنه مأخوذ من الستر.
والثاني: أنه مأخوذ من لزوم المجاورة.
فأما من قال: إنه من الستر فقال: العرب تقول للبيت الذي في أصل الشجرة التي قد استتر بها «عوّذ» بضم العين وتشديد الواو وفتحها، فكأنه لما عاذ بالشجرة واستتر بأصلها وظلها: سموه عوّذا. فكذلك العائذ قد استتر من عدوه بمن استعاذ به منه واستجنّ به منه.
ومن قال: هو لزوم المجاورة قال: العرب تقول للحم إذا لصق بالعظم فلم يتخلّص منه «عوّذ» لأنه اعتصم به، واستمسك به. فكذلك العائذ قد استمسك بالمستعاذ به، واعتصم به، ولزمه.
والقولان حق. والاستعاذة تنتظمهما معا. فإن المستعيذ مستتر بمعاذه، مستمسك به، معتصم به. قد استمسك قلبه به ولزمه، كما يلزم الولد أباه إذا أشهر عليه عدوه سيفا وقصده به، فهرب منه. فعرض له أبوه في طريق هربه. فإنه يلقي نفسه عليه، ويستمسك به أعظم استمساك. فكذلك العائذ قد هرب من عدوه الذي يبغي هلاكه إلى ربه ومالكه، وفر إليه، وألقى نفسه بين يديه، واعتصم به، والتجأ إليه.
وبعد، فمعنى الاستعاذة القائم بقلب المؤمن وراء هذه العبارات.
وإنما هي تمثيل وإشارة وتفهيم، وإلا فما يقوم بالقلب حينئذ من الالتجاء والاعتصام، والانطراح بين يدي الرب، والافتقار إليه، والتذلل بين يديه:
أمر لا تحيط به العبارة.
ونظير هذا: التعبير عن معنى محبته وخشيته، وإجلاله ومهابته. فإن العبارة تقصر عن وصف ذلك، ولا تدرك إلا بالاتصاف بذلك، لا بمجرد الوصف والخبر، كما أنك إذا وصفت لذة الوقاع لعنّين لم تخلق له شهوة أصلا، فمهما قربتها وشبهتها بما عساك أن تشبهها به، لم تحصل حقيقة معرفتها في قلبه. فإذا وصفتها لمن خلقت الشهوة فيه وركبت فيه عرفها بالوجود والذوق.
وأصل هذا الفعل: «أعوذ» بتسكين العين وضم الواو، ثم أعلّ بنقل حركة الواو إلى العين وتسكين الواو. فقالوا: أعوذ على أصل هذا الباب، ثم طردوا إعلاله، فقالوا في اسم الفاعل: عائذ. وأصله: عاوذ. فوقعت الواو بعد ألف فاعل، فقلبوها همزة، كما قالوا: قائم، وخائف. وقالوا في المصدر: عياذا بالله. وأصله: عواذا كلوذ، فقلبوا الواو ياء لكسرة ما قبلها، ولم تحصنها حركتها. لأنها قد ضعفت بإعلالها في العمل. وقالوا:
مستعيذ. وأصله: مستعوذ، كمستخرج، فنقلوا كسرة الواو إلى العين قبلها، فلما كسرت العين قبلت قبلها كسرة، فقلبت ياء على أصل الباب.
فإن قلت: فلم دخلت السين والتاء في الأمر من هذا الفعل، كقوله:
﴿فاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطانِ الرَّجِيمِ﴾ ولم تدخل في الماضي والمضارع، بل الأكثر أن يقال: أعوذ بالله، وتعوّذت، دون أستعيذ، واستعذت؟
قلت: السين والتاء دالة على الطلب، فقوله: أستعيذ بالله، أي أطلب العياذ به. كما إذا قلت: أستخير الله: أي أطلب خيرته، وأستغفره.
أي أطلب مغفرته. وأستقيله. أي أطلب إقالته. فدخلت في الفعل إيذانا بطلب هذا المعنى من المعاذ. فإذا قال المأمور: أعوذ بالله. فقد امتثل ما طلب منه. لأنه طلب منه الالتجاء والاعتصام. وفرق بين نفس الالتجاء والاعتصام، وبين طلب ذلك. فلما كان المستعيذ هاربا ملتجئا معتصما بالله، أتى بالفعل الدال على ذلك دون الفعل الدال على طلب ذلك فتأمله.
وهذا بخلاف ما إذا قيل: استغفر الله. فقال: أستغفر الله. فإنه طلب منه أن يطلب المغفرة من الله. فإذا قال: أستغفر الله، كان ممتثلا. لأن المعنى: أطلب من الله أن يغفر لي.
وحيث أراد هذا المعنى في الاستعاذة فلا ضير أن يأتي بالسين والتاء، فيقول: أستعيذ بالله. أي أطلب منه أن يعيذني. ولكن هذا معنى غير نفس الاعتصام والالتجاء والهرب إليه.
فالأول: مخبر عن حاله وعياذه بربه. وخبره يتضمن سؤاله وطلبه أن يعيذه.
والثاني: طالب سائل من ربه أن يعيذه. كأنه يقول: أطلب منك أن تعيذني.
فحال الأول أكمل. ولهذا
جاء عن النبي ﷺ في امتثال هذا الأمر «أعوذ بالله من الشيطان الرجيم». و «أعوذ بكلمات الله التامات». و «أعوذ بعزة الله وقدرته»
دون: أستعيذ، بل الذي علمه الله إياه أن يقول: أعُوذُ بِرَبِّ الفَلَقِ أعُوذُ بِرَبِّ النّاسِ دون أستعيذ. فتأمل هذه الحكمة البديعة.
فإن قلت: فكيف جاء امتثال هذا الأمر بلفظ الأمر والمأمور به، فقال:
قُلْ أعُوذُ بِرَبِّ الفَلَقِ وقُلْ أعُوذُ بِرَبِّ النّاسِ ومعلوم أنه إذا قيل:
قل الحمد لله، وقل: سبحان الله فإن امتثاله أن يقول: الحمد لله، وسبحان الله، ولا يقول: قل سبحان الله.
قلت: هذا هو السؤال الذي أورده أبيّ بن كعب على النبي ﷺ بعينه، وأجابه عنه رسول الله ﷺ.
فقد قال البخاري في صحيحه. حدثنا قتيبة حدثنا سفيان عن عاصم وعبدة عن زرّ بن حبيش قال: «سألت أبيّ بن كعب عن
المعوذتين؟ فقال: سألت رسول الله ﷺ؟ فقال. قيل لي، فقلت. فنحن نقول كما قال رسول الله ﷺ» ثم قال: حدثنا علي بن عبد الله حدثنا سفيان حدثنا عبدة بن أبي لبابة عن زر بن حبيش. وحدثنا عاصم عن زر قال «سألت أبيّ بن كعب. قلت: أبا المنذر، إن أخاك ابن مسعود يقول كذا وكذا. فقال: إني سألت رسول الله ﷺ؟ فقال: قيل لي، فقلت: قل.
فنحن نقول كما قال رسول الله ﷺ».
قلت: مفعول القول محذوف، وتقديره: قيل لي قل، أو قيل لي هذا اللفظ. فقلت كما قيل لي.
وتحت هذا من السر: أن النبي ﷺ ليس له في القرآن إلا إبلاغه، لا أنه هو أنشأه من قبل نفسه، بل هو المبلغ له عن الله. وقد قال الله له:
قُلْ أعُوذُ بِرَبِّ الفَلَقِ فكان مقتضى البلاغ التام أن يقول: قُلْ أعُوذُ بِرَبِّ الفَلَقِ كما قال الله. وهذا هو المعنى الذي
أشار النبي ﷺ إليه بقوله «قيل لي، فقلت»
أي إني لست مبتدئا، بل أنا مبلغ، أقول كما يقال لي، وأبلغ كلام ربي كما أنزله إليّ.
* فصلوات الله وسلامه عليه، لقد بلغ الرسالة، وأدى الأمانة، وقال كما قيل له. فكفانا من المعتزلة والجهمية وإخوانهم ممن يقول: هذا القرآن العربي وهذا النظم كلامه ابتدأ هو به. ففي هذا الحديث أبين الرد لهذا القول، وأنه ﷺ بلغ القول الذي أمر بتبليغه على وجهه ولفظه، حتى إنه لما قيل له «قل» قال هو «قل» لأنه مبلغ محض. وما على الرسول إلا البلاغ.
(الفصل الثاني)
في المستعاذ. وهو الله وحده، رب الفلق. ورب الناس، ملك الناس، إله الناس. الذي لا ينبغي الاستعاذة إلا به، ولا يستعاذ بأحد من خلقه، بل هو الذي يعيذ المستعيذين، ويعصمهم. ويمنعهم من شر ما استعاذوا من شره. وقد أخبر تعالى في كتابه عمن استعاذ بخلقه: أن استعاذته زادته طغيانا ورهقا. فقال حكاية عن مؤمني الجن: ﴿وَأنَّهُ كانَ رِجالٌ مِنَ الإنْسِ يَعُوذُونَ بِرِجالٍ مِنَ الجِنِّ فَزادُوهم رَهَقًا﴾
جاء في التفسير: أنه «كان الرجل من العرب في الجاهلية إذا سافر فأمسى في أرض قفر، قال: أعوذ بسيد هذا الوادي من شر سفهاء قومه. فيبيت في أمن وجوار منهم، حتى يصبح» أي فزاد الإنس الجن باستعاذتهم بسادتهم رهقا أي طغيانا وإثما وشرا. يقولون: سدنا الانس والجن. و «الرهق» في كلام العرب: الإثم وغشيان المحارم. فزادوهم بهذه الاستعاذة غشيانا لما كان محظورا من الكبر والتعاظم، فظنوا أنهم سادوا الإنس والجن.
واحتج أهل السنة على المعتزلة، في أن كلمات الله غير مخلوقة: بأن النبي ﷺ استعاذ
بقوله: «أعوذ بكلمات الله التامات»
وهو ﷺ لا يستعيذ بمخلوق أبدا.
ونظير ذلك:
قوله: «أعوذ برضاك من سخطك، وبمعافاتك من عقوبتك»
فدل على أن رضاه وعفوه من صفاته، وأنه غير مخلوق. وكذلك
قوله: «أعوذ بعزة الله وقدرته»
وقوله: «أعوذ بنور وجهك الذي أشرقت له الظلمات»
وما استعاذ به النبي ﷺ غير مخلوق، فإنه لا يستعيذ إلا بالله، أو بصفة من صفاته.
وجاءت الاستعاذة في هاتين السورتين باسم الرب، والملك، والإله.
وجاءت الربوبية فيهما مضافة إلى الفلق، وإلى الناس. ولا بد من أن يكون ما وصف به نفسه في هاتين السورتين يناسب الاستعاذة المطلوبة.
ويقتضى دفع الشر المستعاذ منه أعظم مناسبة وأبينها.
وقد قررنا في مواضع متعددة: أن الله سبحانه يدعى بأسمائه الحسنى.
فيسأل لكل مطلوب باسم يناسبه ويقتضيه.
وقد قال النبي ﷺ في هاتين السورتين «أنه ما تعوذ المتعوذون بمثلهما»
فلا بد أن يكون الاسم المستعاذ به مقتضيا للمطلوب. وهو دفع الشر المستعاذ منه أو رفعه.
وإنما يتقرر هذا بالكلام في الفصل الثالث. وهو الشيء المستعاذ منه.
فتتبين المناسبة المذكورة. فنقول:
(الفصل الثالث)
في أنواع الشرور المستعاذ منها في هاتين السورتين.
الشر الذي يصيب العبد لا يخلو من قسمين:
إما ذنوب وقعت منه يعاقب عليها. فيكون وقوع ذلك بفعله وقصده وسعيه. ويكون هذا الشر هو الذنوب وموجباتها. وهو أعظم الشرين وأدومهما، وأشدهما اتصالا بصاحبه.
وإما شر واقع به من غيره. وذلك الغير إما مكلف أو غير مكلف، والمكلف إما نظيره، وهو الإنسان، أو ليس نظيره، وهو الجني. وغير المكلف: مثل الهوام وذوات الحمة «١» وغيرها.
فتضمنت هاتان السورتان الاستعاذة من هذه الشرور كلها بأوجز لفظ وأجمعه، وأدله على المراد، وأعمه استعاذة، بحيث لم يبق شر من الشرور إلا دخل تحت الشر المستعاذ منه فيهما.
فإن سورة الفلق تضمنت الاستعاذة من أمور أربعة.
أحدها: شر المخلوقات التي لها شر عموما.
الثاني: شر الغاسق إذا وقب.
الثالث: شر النفاثات في العقد.
الرابع شر الحاسد إذا حسد.
فنتكلم على هذه الشرور الأربعة ومواقعها واتصالها بالعبد، والتحرز منها قبل وقوعها، وبماذا تدفع بعد وقوعها؟
وقبل الكلام في ذلك لا بد من بيان الشر: ما هو؟ وما حقيقته؟
فنقول: الشر. يقال على شيئين: على الألم، وعلى ما يفضى إليه.
وليس له مسمى سوى ذلك. فالشرور: هي الآلام وأسبابها. فالمعاصي والكفر والشرك وأنواع الظلم: هي شرور، وإن كان لصاحبها فيها نوع غرض ولذة، لكنها شرور. لأنها أسباب للآلام، ومفضية إليها، كإفضاء سائر الأسباب إلى مسبباتها. فترتب الألم عليها كترتب الموت على تناول السموم القاتلة، وعلى الذبح والإحراق بالنار، والخنق بالحبل، وغير ذلك من الأسباب التي تكون مفضية إلى مسبباتها، ولا بد، ما لم يمنع من السبية مانع، أو يعارض السبب ما هو أقوى منه وأشد اقتضاء لضده، كما يعارض سبب المعاصي قوة الإيمان، وعظم الحسنات الماحية وكثرتها. فيزيد في كميتها أو كيفيتها على أسباب العذاب. فيدفع الأقوى الأضعف.
وهذا شأن جميع الأسباب المتضادة، كأسباب الصحة والمرض، وأسباب الضعف والقوة.
والمقصود: أن هذه الأسباب التي فيها لذة مّا هي شر، وإن نالت بها النفس مسرة عاجلة. وهي بمنزلة طعام لذيذ شهي لكنه مسموم، إذا تناوله الآكل لذّ لأكله وطاب له مساغه، وبعد قليل يفعل به ما يفعل. فهكذا المعاصي والذنوب ولا بد، حتى لو لم يخبر الشارع بذلك لكان الواقع والتجربة والخاصة والعامة من أكبر شهوده.
وهل زالت عن أحد قط نعمة إلا بشؤم معصيته؟ فإن الله إذا أنعم على عبد نعمة حفظها عليه، ولا يغيرها عنه حتى يكون هو الساعي في تغييرها عن نفسه ﴿إنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ ما بِقَوْمٍ حَتّى يُغَيِّرُوا ما بِأنْفُسِهِمْ وإذا أرادَ اللَّهُ بِقَوْمٍ سُوْءًا فَلا مَرَدَّ لَهُ وما لَهم مِن دُونِهِ مِن والٍ﴾.
﴿ذلِكَ بِأنَّ اللَّهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّرًا نِعْمَةً أنْعَمَها عَلى قَوْمٍ حَتّى يُغَيِّرُوا ما بِأنْفُسِهِمْ﴾.
ومن تأمل ما قص الله في كتابه من أحوال الأمم الذين أزال نعمه عنهم، وجد سبب ذلك جميعه: إنما هو مخالفة أمره وعصيان رسله.
وكذلك من نظر في أحوال أهل عصره، وما أزال الله عنهم من نعمه. وجد ذلك كله من سوء عواقب الذنوب، كما قيل:
؎إذا كنت في نعمة فارعها ∗∗∗ فإن المعاصي تزيل النعم
فما حفظت نعمة الله بشيء قط مثل طاعته. ولا حصلت فيها الزيادة بمثل شكره. ولا زالت عن العبد نعمة بمثل معصيته لربه. فإنها نار النعم التي تعمل فيها كما تعمل النار في الحطب اليابس. ومن سافر بفكره في أحوال العالم استغنى عن تعريف غيره له.
والمقصود: أن هذه الأسباب شرور ولا بد.
وأما كون مسبباتها شرورا: فلأنها آلام نفسية وبدنية. فيجتمع على صاحبها مع شدة الألم الحسي ألم الروح بالهموم والغموم والأحزان والحسرات. ولو تفطن العاقل اللبيب لهذا حق التفطن لأعطاه حقه من الحذر والجد في الهرب. ولكن قد ضرب على قلبه حجاب الغفلة ليقضي الله أمرا كان مفعولا. فلو تيقظ حق التيقظ لتقطعت نفسه في الدنيا، حسرات على ما فاته من حظه العاجل والآجل من الله. وإنما يظهر له هذا حقيقة الظهور عند مفارقة هذا العالم، والإشراف والاطلاع على عالم البقاء فحينئذ يقول:
﴿يا لَيْتَنِي قَدَّمْتُ لِحَياتِي﴾ و ﴿يا حَسْرَتى عَلى ما فَرَّطْتُ في جَنْبِ اللَّهِ﴾.
ولما كان الشر هو الآلام وأسبابها، كانت استعاذات النبي ﷺ جميعها مدارها على هذين الأصلين.
فكل ما استعاذ منه أو أمر بالاستعاذة منه فهو إما مؤلم، وإما سبب يفضى إليه، فكان يتعوذ في آخر الصلاة من أربع. وأمر بالاستعاذة منهن وهي: «عذاب القبر، وعذاب النار» فهذان أعظم المؤلمات
«وفتنة المحيا والممات، وفتنة المسيح الدجال» وهذان سبب العذاب المؤلم.
فالفتنة سبب العذاب. وذكر الفتنة خصوصا. وذكر نوعي الفتنة.
لأنها إما في الحياة وإما بعد الموت. ففتنة الحياة: قد يتراخى عنها العذاب مدة، وأما فتنة بعد الموت فيتصل بها العذاب من غير تراخ.
فعادت الاستعاذة إلى الاستعاذة من الألم والعذاب وأسبابها.
وهذا من آكد أدعية الصلاة، حتى أوجب بعض السلف والخلف الإعادة على من لم يدع به في التشهد الأخير. وأوجبه ابن حزم في كل تشهد. فإن لم يأت به فيه بطلت صلاته.
ومن ذلك
قوله ﷺ «اللهم إني أعوذ بك من الهمّ والحزن، والعجز والكسل، والجبن والبخل، وضلع الدين وغلبة الرجال»
فاستعاذ من ثمانية أشياء كل اثنين منها قرينان.
فالهم والحزن قرينان، وهما من آلام الروح ومعذّباتها. والفرق بينهما: أن الهم توقع الشر في المستقبل. والحزن: هو التألم على حصول المكروه في الماضي، أو فوات المحبوب، وكلاهما تألم وعذاب يرد على الروح. فإن تعلق بالماضي سمي حزنا. وإن تعلق بالمستقبل سمى همّا.
والعجز والكسل قرينان، وهما من أسباب الألم. لأنهما يستلزمان فوات المحبوب. فالعجز يستلزم عدم القدرة. والكسل يستلزم عدم إرادته.
فتتألم الروح لفواته بحسب تعلقها به، والتذاذها بإدراكه لو حصل.
والجبن والبخل قرينان. لأنهما عدم النفع بالمال والبدن. وهما من أسباب الألم. لأن الجبان تفوته محبوبات ومفرحات وملذوذات عظيمة، لا تنال إلا بالبذل والشجاعة. والبخل يحول بينه وبينها. فهذان الخلقان من أعظم أسباب الآلام.
وضلع الدين، وقهر الرجال: قرينان. وهما مؤلمان للنفس معذبان لها. أحدهما: قهر بحق، وهو ضلع الدين. والثاني: قهر بباطل، وهو غلبة الرجال.
وأيضا: فضلع الدين. قهر بسبب من العبد في الغالب. وغلبة الرجال قهر بغير اختياره.
ومن ذلك تعوذه ﷺ «من المأثم والمغرم» فإنهما يسببان الألم العاجل.
ومن ذلك
قوله: «أعوذ برضاك من سخطك، وبمعافاتك من عقوبتك»
فالسخط: سبب الألم، والعقوبة: هي الألم، فاستعاذ من أعظم الآلام وأقوى أسبابها.
* (فصل)
والشر المستعاذ منه نوعان.
أحدهما: موجود، يطلب رفعه. والثاني: معدوم، يطلب بقاؤه على العدم، وأن لا يوجد. كما أن الخير المطلق نوعان. أحدهما: موجود فيطلب دوامه وثباته وأن لا يسلبه. والثاني: معدوم فيطلب وجوده وحصوله.
فهذه أربعة هي أمهات مطالب السائلين من رب العالمين. وعليها مدار طلباتهم.
وقد جاءت هذه المطالب الأربعة في قوله تعالى حكاية عن دعاء عباده في آخر آل عمران في قولهم: رَبَّنا إنَّنا سَمِعْنا مُنادِيًا يُنادِي لِلْإيمانِ: أنْ آمِنُوا بِرَبِّكم. فَآمَنّا، رَبَّنا فاغْفِرْ لَنا ذُنُوبَنا، وكَفِّرْ عَنّا سَيِّئاتِنا فهذا الطلب لدفع الشر الموجود. فإن الذنوب والسيئات شر، كما تقدم بيانه. ثم قال:
وَتَوَفَّنا مَعَ الأبْرارِ فهذا طلب لدوام الخير الموجود وهو الإيمان حتى يتوفاهم عليه. فهذان قسمان.
ثم قال: ﴿رَبَّنا وآتِنا ما وعَدْتَنا عَلى رُسُلِكَ﴾ فهذا طلب للخير المعدوم أن يؤتيهم إياه.
ثم قال: ﴿وَلا تُخْزِنا يَوْمَ القِيامَةِ﴾ فهذا طلب أن لا يوقع بهم الشر المعدوم، وهو خزي يوم القيامة.
فانتظمت الآيتان المطالب الأربعة أحسن انتظام، مرتبة أحسن ترتيب، قدم فيها النوعان اللذان في الدنيا، وهما المغفرة ودوام الإسلام إلى الموت.
ثم أتبعا بالنوعين اللذين في الآخرة، وهما أن يعطوا ما وعدوه على ألسنة رسله، وأن لا يخزيهم يوم القيامة.
فإذا عرف هذا.
فقوله ﷺ في تشهد الخطبة «ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا»
يتناول الاستعاذة من شر النفس، الذي هو معدوم لكنه فيها بالقوة. فيسأل دفعه وأن لا يوجد.
وأما قوله: «من سيئات أعمالنا» ففيه قولان.
أحدهما: أنه استعاذة من الأعمال السيئة التي قد وجدت. فيكون الحديث قد تناول نوعي الاستعاذة من الشر المعدوم الذي لم يوجد، ومن الشر الموجود. فطلب دفع الأول ورفع الثاني.
والقول الثاني: أن سيئات الأعمال هي عقوباتها وموجباتها السيئة التي تسوء صاحبها. وعلى هذا يكون من استعاذة الدفع أيضا دفع المسبب.
والأول دفع السبب. فيكون قد استعاذ من حصول الألم وأسبابه.
وعلى الأول: تكون إضافة السيئات إلى الأعمال من باب إضافة النوع إلى جنسه. فإن الأعمال جنس وسيئاتها نوع منها.
وعلى الأول: تكون إضافة السيئات إلى الأعمال من باب إضافة النوع إلى جنسه. فإن الأعمال جنس وسيئاتها نوع منها.
وعلى الثاني: تكون من باب إضافة المسبب إلى سببه، والمعلول إلى علته. كأنه قال: من عقوبة عملي. والقولان محتملان.
فتأمل أيهما أليق بالحديث وأولى به. فإن مع كل واحد منهما نوعا من الترجيح. فيترجح الأول بأن منشأ الأعمال السيئة من شر النفس. فشر النفس يولد الأعمال السيئة، فاستعاذ من صفة النفس، ومن الأعمال التي تحدث عن تلك الصفة. وهذان جماع الشر، وأسباب كل ألم. فمتى عوفي منهما عوفي من الشر بحذافيره.
ويترجح الثاني: بأن سيئات الأعمال هي العقوبات التي تسوء العامل، وأسبابها شر النفس، فاستعاذ من العقوبات والآلام وأسبابها.
والقولان في الحقيقة متلازمان. والاستعاذة من أحدهما تستلزم الاستعاذة من الآخر.
* (فصل)
ولما كان الشر له سبب: هو مصدره، وله مورد ومنتهى. وكان السبب إما من ذات العبد، وإما من خارج. ومورده ومنتهاه إما نفسه وإما غيره: كان هنا أربعة أمور: شر مصدره من نفسه، ويعود على نفسه تارة، وعلى غيره أخرى. وشر مصدره من غيره، وهو السبب فيه. ويعود على نفسه تارة، وعلى غيره أخرى -
جمع النبي ﷺ هذه المقامات الأربعة في الدعاء الذي علمه الصديق رضي الله عنه: أن يقوله إذا أصبح وإذا أمسى وإذا أخذ مضجعه «اللهم فاطر السماوات والأرض، عالم الغيب والشهادة، ربّ كل شيء ومليكه، أشهد أن لا إله إلا أنت أعوذ بك من شر نفسي وشر الشيطان وشركه، وأن اقترف على نفسي سوءا، أو أجرّه إلى مسلم»
فذكر مصدري الشر، وهما النفس والشيطان وذكر مورديه ونهايتيه وهما عوده على النفس، أو على أخيه المسلم. فجمع الحديث مصادر الشر وموارده في أوجز لفظ وأحضره وأجمعه وأبينه.
* (فصل)
فإذا عرف هذا فلنتكلم على الشرور المستعاذ منها في هاتين السورتين.
الشر الأول: العام في قوله مِن شَرِّ ما خَلَقَ و «ما» هاهنا موصولة ليس إلا. والشر مسند في الآية إلى المخلوق المفعول، لا إلى خلق الرب تعالى الذي هو فعله وتكوينه، فإنه لا شرفيه بوجه ما. فإن الشر لا يدخل في شيء من صفاته، ولا في أفعاله، كما لا يلحق ذاته تبارك وتعالى. فإن ذاته لها الكمال المطلق، الذي لا نقص فيه بوجه من الوجوه. وأوصافه كذلك لها الكمال المطلق والجلال التام، ولا عيب فيها ولا نقص بوجه ما، وكذلك أفعاله كلها خيرات محضة، لا شر فيها أصلا، ولو فعل الشر سبحانه لاشتق له منه اسم، ولم تكن أسماؤه كلها حسنى، ولعاد إليه منه حكم، تعالى ربنا وتقدس عن ذلك.
وما يفعله من العدل بعباده، وعقوبة من يستق العقوبة منهم: هو خير محض إذ هو محض العدل والحكمة، وإنما يكون شرا بالنسبة إليهم. فالشر وقع في تعلقه بهم وقيامه بهم، لا في فعله القائم به تعالى. ونحن لا ننكر أن الشر يكون في مفعولاته المنفصلة فإنه خالق الخير والشر.
ولكن هنا أمران ينبغي أن يكونا منك على بال.
أحدهما: أن ما هو شر، أو متضمن للشر، فإنه لا يكون إلا مفعولا منفصلا لا يكون وصفا له، ولا فعلا من أفعاله.
الثاني: أن كونه شرا هو أمر نسبي إضافي، فهو خير من جهة تعلق فعل الرب وتكوينه به، وشر من جهة نسبته إلى من هو شر في حقه. فله وجهان، هو من أحدهما خير، وهو الوجه الذي نسب منه إلى الخالق سبحانه وتعالى خلقا وتكوينا ومشيئة، لما فيه من الحكمة البالغة التي استأثر بعلمها، وأطلع من شاء من خلقه على ما شاء منها، وأكثر الناس تضيق عقولهم عن مبادئ معرفتها، فضلا عن حقيقتها، فيكفيهم الإيمان المجمل بأن الله سبحانه هو الغني الحميد، وفاعل الشر لا يفعله إلا لحاجته المنافية لغناه، أو لنقصه وعيبه المنافي لحمده. فيستحيل صدور الشر من الغني الحميد فعلا.
وإن كان هو الخالق للخير والشر.
فقد عرفت أن كونه شرا هو أمر إضافي، وهو في نفسه خير من جهة نسبته إلى خالقه ومبدعه. فلا تغفل عن هذا الموضع فإنه يفتح لك بابا عظيما من معرفة الرب ومحبته. ويزيل عنك شبهات حارت فيها عقول أكثر الفضلاء.
وقد بسطت هذا في كتاب «التحفة المكية» وكتاب «الفتح القدسي» وغيرهما.
وإذا أشكل عليك هذا فأنا أوضحه لك بأمثلة.
أحدهما: أن السارق إذا قطعت يده فقطعها شر بالنسبة إليه، وخير محض بالنسبة إلى عموم الناس لما فيه من حفظ أموالهم، ودفع الضرر عنهم، وخير بالنسبة إلى متولي القطع أمرا وحكما، لما في ذلك من الإحسان إلى عبيده عموما بإتلاف هذا العضو المؤذي لهم المضرّ بهم. فهو محمود على حكمه بذلك، وأمره به مشكور عليه يستحق عليه الحمد من عباده، والثناء عليه والمحبة له.
وكذلك الحكم بقتل من يصول عليهم في دمائهم وحرماتهم، وجلد من يصول عليهم في أعراضهم. فإذا كان هذا عقوبة من يصول عليهم في دنياهم فكيف عقوبة من يصول على أديانهم، ويحول بينهم وبين الهدى الذي بعث الله به رسله وجعله سعادة العباد في معاشهم ومعادهم منوطة به؟ أفليس في عقوبة هذا الصائل خير محض، وحكمة وعدل، وإحسان إلى العبيد؟ وهي شر بالنسبة إلى الصائل الباغي.
فالشر: ما قام به من تلك العقوبة. وأما ما نسب إلى الرب منها من المشيئة والإرادة والفعل فهو عين الخير والحكمة.
فلا يغلظ حجابك عن فهم هذا النبأ العظيم. والسر الذي يطلعك على مسألة القدر ويفتح لك الطريق إلى الله، ومعرفة حكمته ورحمته، وإحسانه إلى خلقه، وأنه سبحانه: كما أنه البر الرحيم الودود المحسن، فهو الحكيم الملك العدل، فلا تناقض حكمته رحمته. بل يضع رحمته وبره وإحسانه موضعه، ويضع عقوبته وعدله وانتقامه وبأسه موضعه، وكلاهما مقتضى عزته وحكمته وهو العزيز الحكيم، فلا يليق بحكمته أن يضع رضاه ورحمته موضع العقوبة والغضب، ولا أن يضع غضبه وعقوبته موضع رضاه ورحمته.
ولا يلتفت إلى قول من غلظ حجابه عن الله: إن الأمرين بالنسبة إليه على حد سواء، ولا فرق أصلا، وإنما هو محض المشيئة بلا سبب ولا حكمة.
وتأمل القرآن من أوله إلى آخره كيف تجده كفيلا بالرد على هذه المقالة، وإنكارها أشد الإنكار، وتنزيه الرب نفسه عنها، كقوله تعالى: ﴿أفَنَجْعَلُ المُسْلِمِينَ كالمُجْرِمِينَ ما لَكم كَيْفَ تَحْكُمُونَ﴾
وقوله: ﴿أمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئاتِ أنْ نَجْعَلَهم كالَّذِينَ آمَنُوا وعَمِلُوا الصّالِحاتِ سَواءً مَحْياهم ومَماتُهم ساءَ ما يَحْكُمُونَ﴾
وقوله: ﴿أمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وعَمِلُوا الصّالِحاتِ كالمُفْسِدِينَ في الأرْضِ أمْ نَجْعَلُ المُتَّقِينَ كالفُجّارِ﴾
فأنكر سبحانه على من ظن به هذا الظن السيئ، ونزه نفسه عنه.
فدل على أنه مستقر في الفطر والعقول السليمة: أن هذا لا يكون ولا يليق بحكمته وعزته وإلهيته لا إله إلا هو، تعالى عما يقول الجاهلون علوا كبيرا.
وقد فطر الله عقول عباده على استقباح وضع العقوبة والانتقام في موضع الرحمة والإحسان، ومكافأة الصنع الجميل بمثلة وزيادة. فإذا وضع العقوبة موضع ذلك استنكرته فطرهم وعقولهم أشد الاستنكار، واستهجنته أعظم الاستهجان.
وكذلك وضع الإحسان والرحمة والإكرام في موضع العقوبة والانتقام، كما إذا جاء إلى من يسيء إلى العالم بأنواع الإساءة في كل شيء من أموالهم وحريمهم ودمائهم، فأكرمه غاية الإكرام، ورفعه وكرمه. فإن الفطر والعقول تأبى استحسان هذا، وتشهد على سفه من فعله. هذه فطرة الله التي فطر الناس عليها.
فما للعقول والفطر لا تشهد حكمته البالغة، وعزته وعدله في وضع عقوبته في أولى المحال بها، وأحقها بالعقوبة؟ وأنها لو أوليت النعم لم تحسن بها، ولم تلق، ولظهرت مناقضة الحكمة، كما قال الشاعر:
؎نعمة الله لا تعاب، ولكن ∗∗∗ ربما استقبحت على أقوام
فهكذا نعم الله لا تليق ولا تحسن ولا تجمل بأعدائه الصادين عن سبيله الساعين في خلاف مرضاته، الذين يرضون إذا غضب، ويغضبون إذا رضي، ويعطلون ما حكم به، ويسعون في أن تكون الدعوة لغيره، والحكم لغيره، والطاعة لغيره. فهم مضادون له في كل ما يريد، يحبون ما يبغضه، ويدعون إليه. ويبغضون ما يحبه وينفرون عنه، ويوالون أعداءه وأبغض الخلق إليه، ويظاهرونهم عليه وعلى رسوله: كما قال تعالى: ٢٥: ٥٥ وكانَ الكافِرُ عَلى رَبِّهِ ظَهِيرًا وقال: ١٨: ٥٠ وإذْ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إلّا إبْلِيسَ كانَ مِنَ الجِنِّ، فَفَسَقَ عَنْ أمْرِ رَبِّهِ. أفَتَتَّخِذُونَهُ وذُرِّيَّتَهُ أوْلِياءَ مِن دُونِي، وهم لَكم عَدُوٌّ؟
فتأمل ما تحت هذا الخطاب الذي يسلب الأرواح حلاوة وعقابا وجلالة وتهديدا كيف صدره باخبارنا: أنه أمر إبليس بالسجود لأبينا فأبى ذلك، فطرده
ولعنه، وعاداه من أجل إبائه عن السجود لأبينا، ثم أنتم توالونه من دوني.
وقد لعنته وطردته، إذ لم يسجد لأبيكم، وجعلته عدوا لكم ولأبيكم، فواليتموه وتركتموني. أفليس هذا من أعظم الغبن، وأشد الحسرة عليكم؟
ويوم القيامة يقول تعالى «أليس عدلا مني أن أولّي كل رجل منكم ما كان يتولى في دار الدنيا؟».
فليعلمن أولياء الشيطان: كيف حالهم يوم القيامة: إذا ذهبوا مع أوليائهم، وبقي أولياء الرحمن لم يذهبوا مع أحد فيتجلى لهم ويقول «ألا تذهبون حيث ذهب الناس؟ فيقولون: فارقنا الناس أحوج ما كنا إليهم، وإنما ننتظر ربنا الذي كنا نتولاه ونعبده. فيقول: هل بينكم وبينه علامة تعرفونه بها؟ فيقولون: نعم، إنه لا مثل له. فيتجلى لهم ويكشف عن ساق، فيخرون له سجدا».
فيا قرة عيون أوليائه بتلك الموالاة، ويا فرحهم إذا ذهب الناس مع أوليائهم، وبقوا مع مولاهم الحق. فسيعلم المشركون به الصادون عن سبيله أنهم ما كانوا أولياءه ٨: ٣٤ إنْ أوْلِياؤُهُ إلّا المُتَّقُونَ. ولكِنَّ أكْثَرَهم لا يَعْلَمُونَ.
ولا تستطل هذا البسط فما أحوج القلوب إلى معرفته وتعقله، ونزولها منه منازلها في الدنيا لتنزل في جوار ربها في الآخرة، مع الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين، وحسن أولئك رفيقا.
* (فصل)
إذا عرفت هذا عرفت معنى قوله ﷺ في الحديث الصحيح «لبيك وسعديك، والخير في يديك، والشر ليس إليك»
وأن معناه أجل وأعظم من قول من قال: والشر لا يتقرب به إليك، وقول من قال: والشر لا يصعد إليك، وأن هذا الذي قالوه - وإن تضمن تنزيهه عن صعود الشر إليه والتقرب به إليه - فلا يتضمن تنزيهه في ذاته وصفاته وأفعاله عن الشر. بخلاف لفظ المعصوم الصادق المصدق. فإنه يتضمن تنزيهه في ذاته تبارك وتعالى عن نسبة الشر إليه بوجه ما، لا في صفاته، ولا في أفعاله، ولا في أسمائه.
وإن دخل في مخلوقاته كقوله: قُلْ أعُوذُ بِرَبِّ الفَلَقِ. مِن شَرِّ ما خَلَقَ.
وتأمل طريقة القرآن في إضافة الشر تارة إلى سببه ومن قام به.
كقوله: ﴿والكافِرُونَ هُمُ الظّالِمُونَ﴾ وقوله: ﴿واللَّهُ لا يَهْدِي القَوْمَ الفاسِقِينَ﴾ وقوله: ﴿فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هادُوا﴾
وقوله: ﴿ذلِكَ جَزَيْناهم بِبَغْيِهِمْ﴾ وقوله: ﴿وَما ظَلَمْناهم ولكِنْ كانُوا هُمُ الظّالِمِينَ﴾
وهو في القرآن أكثر من أن يذكر هاهنا عشر معشاره. وإنما المقصود التمثيل.
وتارة بحذف فاعله. كقوله تعالى حكاية عن مؤمني الجن ﴿وَأنّا لا نَدْرِي أشَرٌّ أُرِيدَ بِمَن في الأرْضِ أمْ أرادَ بِهِمْ رَبُّهم رَشَدًا﴾
فحذفوا فاعل الشر ومريده، وصرحوا بمريد الرشد.
ونظيره في الفاتحة: ﴿صِراطَ الَّذِينَ أنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ المَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ ولا الضّالِّينَ﴾
فذكر النعمة مضافة إليه سبحانه، والضلال منسوبا إلى من قام به، والغضب محذوفا فاعله.
ومثله قول الخضر في السفينة ﴿فَأرَدْتُ أنْ أعِيبَها﴾ وفي الغلامين ﴿فَأرادَ رَبُّكَ أنْ يَبْلُغا أشُدَّهُما، ويَسْتَخْرِجا كَنزَهُما رَحْمَةً مِن رَبِّكَ﴾
ومثله قوله: ﴿وَلكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إلَيْكُمُ الإيمانَ وزَيَّنَهُ في قُلُوبِكم وكَرَّهَ إلَيْكُمُ الكُفْرَ والفُسُوقَ والعِصْيانَ﴾
فنسب هذا التزيين المحبوب إليه.
وقال: ﴿زُيِّنَ لِلنّاسِ حُبُّ الشَّهَواتِ مِنَ النِّساءِ والبَنِينَ﴾
فحذف الفاعل المزين. ومثله قول الخليل ﷺ: ﴿الَّذِي خَلَقَنِي فَهو يَهْدِينِ. والَّذِي هو يُطْعِمُنِي ويَسْقِينِ. وإذا مَرِضْتُ فَهو يَشْفِينِ. والَّذِي يُمِيتُنِي ثُمَّ يُحْيِينِ. والَّذِي أطْمَعُ أنْ يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدِّينِ﴾
فنسب إلى ربه كل كمال من هذه الأفعال، ونسب إلى نفسه النقص منها، وهو المرض والخطيئة.
وهذا كثير في القرآن ذكرنا منه أمثلة كثيرة في كتاب الفوائد المكية وبينا هناك السر في مجيء ﴿الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الكِتابَ﴾
﴿والَّذِينَ أُوتُوا الكِتابَ﴾
والفرق بين الموضعين، وأنه حيث ذكر الفاعل كان من آتاه الكتاب واقعا في سياق المدح. وحيث حذفه كان من أوتيه واقعا في سياق الذم أو منقسما.
وذلك من أسرار القرآن.
ومثله ﴿ثُمَّ أوْرَثْنا الكِتابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنا مِن عِبادِنا﴾
وقال: ﴿وَإنَّ الَّذِينَ أُورِثُوا الكِتابَ مِن بَعْدِهِمْ لَفي شَكٍّ مِنهُ مُرِيبٍ﴾
وقال: ﴿فَخَلَفَ مِن بَعْدِهِمْ خَلْفٌ ورِثُوا الكِتابَ يَأْخُذُونَ عَرَضَ هذا الأدْنى﴾.
وبالجملة: فالذي يضاف إلى الله تعالى كله خير وحكمة ومصلحة، وعدل. والشر ليس إليه.
* (فصل)
وقد دخل في قوله تعالى: «من شر ما خلق» الاستعاذة من كل شر في أي مخلوق قام به الشر: من حيوان، أو غيره، إنسيا كان أو جنيا، أو هامة أو دابة أو ريحا، أو صاعقة، أي نوع كان من أنواع البلاء.
فإن قلت: فهل في «ما» هاهنا عموم؟
قلت: فيها عموم تقييدي وصفي، لا عموم إطلاقي. والمعنى: من شر كل مخلوق فيه شر. فعمومها من هذا الوجه. وليس المراد الاستعاذة من شر كل ما خلقه الله. فإن الجنة وما فيها ليس فيها شر. وكذلك الملائكة والأنبياء فإنهم خير محض. والخير كله حصل على أيديهم، فالاستعاذة من شر ما خلق: تعم شر كل مخلوق فيه شر. وكل شر في الدنيا والآخرة، وشر شياطين الإنس والجن وشر السباع والهوام، وشر النار والهواء، وغير ذلك.
وفي الصحيح: عن النبي ﷺ أنه قال: «من نزل منزلا فقال: أعوذ بكلمات الله التامات من شر ما خلق. لم يضره شيء، حتى يرتحل منه» رواه مسلم.
وروى أبو داود في سننه عن عبد الله بن عمر قال: «كان رسول الله ﷺ إذا سافر فأقبل الليل، قال: يا أرض، ربي وربك الله، أعوذ بالله من شرك، وشر ما فيك وشر ما خلق فيك، وشر ما يدبّ عليك، أعوذ بالله من أسد وأسود، ومن الحية والعقرب، ومن ساكن البلد، ومن والد وما ولد».
وفي الحديث الآخر «أعوذ بكلمات الله التامات التي لا يجاوزهن برّ ولا فاجر: من شر ما خلق، وذرأ وبرأ، ومن شر ما نزل من السماء وما يعرج فيها، ومن شر ما ذرأ في الأرض وما يخرج منها، ومن شر فتن الليل والنهار، ومن شر كل طارق، إلا طارقا يطرق بخير يا رحمن».
* [فَصْلٌ: شُرُوطُ الدُّعاءِ المُسْتَجابِ]
والأدْعِيَةُ والتَّعَوُّذاتُ بِمَنزِلَةِ السِّلاحِ، والسِّلاحُ بِضارِبِهِ، لا بِحَدِّهِ فَقَطْ، فَمَتى كانَ السِّلاحُ سِلاحًا تامًّا لا آفَةَ بِهِ، والسّاعِدُ ساعِدُ قَوِيٍّ، والمانِعُ مَفْقُودٌ؛ حَصَلَتْ بِهِ النِّكايَةُ في العَدُوِّ، ومَتى تَخَلَّفَ واحِدٌ مِن هَذِهِ الثَّلاثَةِ تَخَلَّفَ التَّأْثِيرُ، فَإنْ كانَ الدُّعاءُ في نَفْسِهِ غَيْرَ صالِحٍ، أوِ الدّاعِي لَمْ يَجْمَعْ بَيْنَ قَلْبِهِ ولِسانِهِ في الدُّعاءِ، أوْ كانَ ثَمَّ مانِعٌ مِنَ الإجابَةِ، لَمْ يَحْصُلِ الأثَرُ.
{"ayahs_start":1,"ayahs":["قُلۡ أَعُوذُ بِرَبِّ ٱلۡفَلَقِ","مِن شَرِّ مَا خَلَقَ"],"ayah":"مِن شَرِّ مَا خَلَقَ"}
- أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.
أمّهات
جامع البيان
تفسير الطبري
نحو ٢٨ مجلدًا
تفسير القرآن العظيم
تفسير ابن كثير
نحو ١٩ مجلدًا
الجامع لأحكام القرآن
تفسير القرطبي
نحو ٢٤ مجلدًا
معالم التنزيل
تفسير البغوي
نحو ١١ مجلدًا
جمع الأقوال
منتقاة
عامّة
عامّة
فتح البيان
فتح البيان للقنوجي
نحو ١٢ مجلدًا
فتح القدير
فتح القدير للشوكاني
نحو ١١ مجلدًا
التسهيل لعلوم التنزيل
تفسير ابن جزي
نحو ٣ مجلدات
موسوعات
أخرى
لغة وبلاغة
معاصرة
الميسر
نحو مجلد
المختصر
المختصر في التفسير
نحو مجلد
تيسير الكريم الرحمن
تفسير السعدي
نحو ٤ مجلدات
أيسر التفاسير
نحو ٣ مجلدات
القرآن – تدبّر وعمل
القرآن – تدبر وعمل
نحو ٣ مجلدات
تفسير القرآن الكريم
تفسير ابن عثيمين
نحو ١٥ مجلدًا
مركَّزة العبارة
تفسير الجلالين
نحو مجلد
جامع البيان
جامع البيان للإيجي
نحو ٣ مجلدات
أنوار التنزيل
تفسير البيضاوي
نحو ٣ مجلدات
مدارك التنزيل
تفسير النسفي
نحو ٣ مجلدات
الوجيز
الوجيز للواحدي
نحو مجلد
تفسير القرآن العزيز
تفسير ابن أبي زمنين
نحو مجلدين
آثار
غريب ومعاني
السراج في بيان غريب القرآن
غريب القرآن للخضيري
نحو مجلد
الميسر في غريب القرآن الكريم
الميسر في الغريب
نحو مجلد
تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن قتيبة
نحو مجلد
التبيان في تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن الهائم
نحو مجلد
معاني القرآن وإعرابه
معاني الزجاج
نحو ٤ مجلدات
معاني القرآن
معاني القرآن للنحاس
نحو مجلدين
معاني القرآن
معاني القرآن للفراء
نحو مجلدين
مجاز القرآن
مجاز القرآن لمعمر بن المثنى
نحو مجلد
معاني القرآن
معاني القرآن للأخفش
نحو مجلد
أسباب النزول
إعراب ولغة
الإعراب الميسر
نحو ٣ مجلدات
إعراب القرآن
إعراب القرآن للدعاس
نحو ٤ مجلدات
الجدول في إعراب القرآن وصرفه وبيانه
الجدول في إعراب القرآن
نحو ٨ مجلدات
الدر المصون
الدر المصون للسمين الحلبي
نحو ١٠ مجلدات
اللباب
اللباب في علوم الكتاب
نحو ٢٤ مجلدًا
إعراب القرآن وبيانه
إعراب القرآن للدرويش
نحو ٩ مجلدات
المجتبى من مشكل إعراب القرآن
مجتبى مشكل إعراب القرآن
نحو مجلد
إعراب القرآن
إعراب القرآن للنحاس
نحو ٣ مجلدات
تحليل كلمات القرآن
نحو ٩ مجلدات
الإعراب المرسوم
نحو ٣ مجلدات
المجمّع
بالرسم الجديد
بالرسم القديم
حفص عن عاصم
شُعْبة عن عاصم
قالون عن نافع
ورش عن نافع
البَزِّي عن ابن كثير
قُنبُل عن ابن كثير
الدُّوري عن أبي عمرو
السُّوسِي عن أبي عمرو
نستعليق