الباحث القرآني

إنَّ مِن أخْفى آياتِ الرُّسُلِ آياتُ هُودٍ عَلَيْهِ السَّلامُ، حَتّى قالَ لَهُ قَوْمُهُ ﴿ياهُودُ ما جِئْتَنا بِبَيِّنَةٍ﴾ وَمَعَ هَذا فَبَيِّنَتُهُ مِن أظْهَرِ البَيِّناتِ، وقَدْ أشارَ إلَيْها بِقَوْلِهِ: ﴿إنِّي أُشْهِدُ اللَّهَ واشْهَدُوا أنِّي بَرِيءٌ مِمّا تُشْرِكُونَ مِن دُونِهِ فَكِيدُونِي جَمِيعًا ثُمَّ لا تُنْظِرُونَ - إنِّي تَوَكَّلْتُ عَلى اللَّهِ رَبِّي ورَبِّكم ما مِن دابَّةٍ إلّا هو آخِذٌ بِناصِيَتِها إنَّ رَبِّي عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ﴾ [هود: ٥٤-٥٦]، فَهَذا مِن أعْظَمِ الآياتِ: أنَّ رَجُلًا واحِدًا يُخاطِبُ أُمَّةً عَظِيمَةً بِهَذا الخِطابِ، غَيْرَ جَزِعٍ ولا فَزِعٍ، ولا خَوّارٍ، بَلْ واثِقٌ مِمّا قالَهُ جازِمٌ بِهِ، قَدْ أشْهَدَ اللَّهَ أوَّلًا عَلى بَراءَتِهِ مِن دِينِهِمْ، ومِمّا هم عَلَيْهِ إشْهادَ واثِقٍ بِهِ، مُعْتَمِدٍ عَلَيْهِ، مُعْلِمٍ لِقَوْمِهِ: أنَّهُ ولِيُّهُ وناصِرُهُ، وأنَّهُ غَيْرُ مُسَلِّطِهِمْ عَلَيْهِ. ثُمَّ أشْهَدَهم - إشْهادَ مُجاهِرٍ لَهم بِالمُخالَفَةِ -: أنَّهُ بَرِيءٌ مِن دِينِهِمْ وآلِهَتِهِمْ، الَّتِي يُوالُونَ عَلَيْها ويُعادُونَ، ويَبْذُلُونَ دِماءَهم وأمْوالَهم في نُصْرَتِها. ثُمَّ أكَّدَ عَلَيْهِمْ ذَلِكَ بِالِاسْتِهانَةِ بِهِمْ، واحْتِقارِهِمْ وازْدِرائِهِمْ، وأنَّهم لَوْ يَجْتَمِعُونَ كُلُّهم عَلى كَيْدِهِ، وشِفاءِ غَيْظِهِمْ مِنهُ، ثُمَّ يُعالِجُونَهُ ولا يُمْهِلُونَهُ، وفي ضِمْنِ ذَلِكَ: أنَّهم أضْعَفُ وأعْجَزُ وأقَلُّ مِن ذَلِكَ، وأنَّكم لَوْ رُمْتُمُوهُ لانْقَلَبْتُمْ بِغَيْظِكم مَكْبُوتِينَ مَخْذُولِينَ. ثُمَّ قَرَّرَ دَعْوَتَهُ أحَسَنَ تَقْرِيرٍ، وبَيَّنَ أنَّ رَبَّهُ تَعالى ورَبَّهُمْ، الَّذِي نَواصِيهِمْ بِيَدِهِ: هو ولِيُّهُ ووَكِيلُهُ، القائِمُ بِنَصْرِهِ وتَأْيِيدِهِ، وأنَّهُ عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ، فَلا يَخْذُلُ مَن تَوَكَّلَ عَلَيْهِ وآمَنَ بِهِ، ولا يُشْمِتُ بِهِ أعْداءَهُ، ولا يَكُونُ مَعَهم عَلَيْهِ، فَإنَّ صِراطَهُ المُسْتَقِيمَ الَّذِي هو عَلَيْهِ - في قَوْلِهِ وفِعْلِهِ - يَمْنَعُ ذَلِكَ ويَأْباهُ. وَتَحْتَ هَذا الخِطابِ أنَّ مِن صِراطِهِ المُسْتَقِيمِ أنْ يَنْتَقِمَ مِمَّنْ خَرَجَ عَنْهُ وعَمِلَ بِخِلافِهِ، ويُنْزِلَ بِهِ بِأْسَهُ، فَإنَّ الصِّراطَ المُسْتَقِيمَ هو العَدْلُ الَّذِي عَلَيْهِ الرَّبُّ تَعالى، ومِنهُ انْتِقامُهُ مِن أهْلِ الشِّرْكِ والإجْرامِ، ونَصْرُهُ أوْلِياءَهُ ورُسُلَهُ عَلى أعْدائِهِمْ، وأنَّهُ يَذْهَبُ بِهِمْ، ويَسْتَخْلِفُ قَوْمًا غَيْرَهُمْ، ولا يَضُرُّهُ ذَلِكَ شَيْئًا، وأنَّهُ القائِمُ سُبْحانَهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ حِفْظًا ورِعايَةً وتَدْبِيرًا وإحْصاءً. فَأيُّ آيَةٍ وبُرْهانٍ ودَلِيلٍ أحْسَنُ مِن آياتِ الأنْبِياءِ وبَراهِينِهِمْ وأدِلَّتِهِمْ؟ وهي شَهادَةٌ مِنَ اللَّهِ سُبْحانَهُ لَهُمْ، بَيَّنَها لِعِبادِهِ غايَةَ البَيانِ، وأظْهَرَها لَهم غايَةَ الإظْهارِ بِقَوْلِهِ وفِعْلِهِ، وفي الصَّحِيحِ عَنْهُ ﷺ أنَّهُ قالَ: «ما مِن نَبِيٍّ مِنَ الأنْبِياءِ إلّا وقَدْ أُوتِيَ مِنَ الآياتِ ما آمَنَ عَلى مِثْلِهِ البَشَرُ، وإنَّما كانَ الَّذِي أُوتِيتُهُ وحْيًا أوْحاهُ اللَّهُ إلَيَّ، فَأرْجُو أنْ أكُونَ أكْثَرَهم تابِعًا يَوْمَ القِيامَةِ».
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب