الباحث القرآني

* (فصل) وأما قوله عز وجل: ﴿لا أعْبُدُ ما تَعْبُدُونَ ولا أنْتُمْ عابِدُونَ ما أعْبُدُ﴾ فإن «ما» على بابها لأنها واقعة على معبوده ﷺ على الإطلاق، لأن امتناعهم من عبادة الله ليس لذاته، بل كانوا يظنون أنهم يعبدون الله، ولكنهم كانوا جاهلين به. فقوله: ﴿وَلا أنْتُمْ عابِدُونَ ما أعْبُدُ﴾ أي لا أنتم تعبدون معبودي. ومعبوده هو كان ﷺ عارفا به دونهم، وهم جاهلون به. هذا جواب بعضهم. وقال آخرون: إن «ما» هنا مصدرية. لا موصولة، أي لا تعبدون عبادتي. ويلزم من تبرئتهم من عبادته تبرئتهم من المعبود، لأن العبادة متعلقة به، وليس هذا بشيء. إذ المقصود: براءته من معبوديهم، وإعلامه أنهم بريئون من معبوده تعالى. فالمقصود المعبود لا العبادة. وقيل: إنهم كانوا يقصدون مخالفته ﷺ حسدا له، وأنفة من أتباعه. فهم لا يعبدون معبوده لا كراهية لذات المعبود، ولكن كراهية لاتباعه ﷺ، وحرصا على مخالفته في العبادة. وعلى هذا لا يصح في النظم البديع والمعنى الرفيع إلا لفظ «ما» لإبهامها ومطابقتها الغرض الذي تضمنته الآية. وقيل في ذلك وجه رابع، وهو: قصد ازدواج الكلام في البلاغة والفصاحة مثل قوله: نَسُوا اللَّهَ فَنَسِيَهم وفَمَنِ اعْتَدى عَلَيْكم فاعْتَدُوا عَلَيْهِ فكذلك ﴿لا أعْبُدُ ما تَعْبُدُونَ﴾ ومعبودهم لا يعقل. ثم ازدوج مع هذا الكلام قوله ﴿وَلا أنْتُمْ عابِدُونَ ما أعْبُدُ﴾ فاستوى اللفظان، وإن اختلف المعنيان، ولهذا لا يجيء في الأفراد مثل هذا، بل لا يجيء إلا «من» كقوله ﴿أمَّنْ يَهْدِيكم في ظُلُماتِ البَرِّ والبَحْرِ﴾ ﴿قُلْ مَن يَرْزُقُكُمْ﴾ ﴿أمَّنْ يَمْلِكُ السَّمْعَ والأبْصارَ﴾ ﴿أمَّنْ يَهْدِيكم في ظُلُماتِ البَرِّ والبَحْرِ﴾، ﴿أمَّنْ يُجِيبُ المُضْطَرَّ إذا دَعاهُ﴾، ﴿أمَّنْ يَبْدَؤُا الخَلْقَ﴾ إلى أمثال ذلك. وعندي فيه وجه خامس، أقرب من هذا وهو: أن المقصود هنا ذكر المعبود الموصوف بكونه أهلا للعبادة مستحقا لها، فأتى ب «ما» الدالة على هذا المعنى. كأنه قيل: ولا أنتم عابدون معبودي الموصوف بأنه المعبود الحق. ولو أتى بلفظة «من» لكانت إنما تدل على الذات فقط، ويكون ذكر الصلة تعريفا، لا أنه هو جهة العبادة. ففرق بين أن يكون كونه تعالى أهلا لأن يعبد، وبين أن يكون تعريفا محضا أو وصفا مقتضيا لعبادته. فتأمله فإنه بديع جدا. وهذا معنى قوله النحاة: إن «ما» تأتي لصفات من يعلم. ونظيره فانْكِحُوا ما طابَ لَكم مِنَ النِّساءِ لما كان المراد الوصف، وأن السبب الداعي إلى الأمر بالنكاح، وقصده - وهو الطيب - فتنكح المرأة الموصوفة به: أتى ب «ما» دون «من»، وهذا باب لا ينخرم، وهو من ألطف مسالك العربية. وإذا قد أفضى الكلام بنا إلى هنا، فلنذكر فائدة ثانية على ذلك، وهي تكرير الأفعال في هذه السورة. ثم فائدة ثالثة، وهي كونه كرر الفعل في حق نفسه بلفظ المستقبل في الموضعين، وأتى في حقهم بالماضي. ثم فائدة رابعة، وهي أنه جاء في نفي عبادة معبودهم بلفظ الفعل المستقبل، وجاء في نفي عبادتهم معبوده باسم الفاعل. ثم فائدة خامسة: وهي كون إيراده النفي هنا ب «لا» دون «لن». ثم فائدة سادسة، وهي: أن طريقة القرآن في مثل هذا أن يقرن النفي بالإثبات فينفي عبادة ما سوى الله ويثبت عبادته، وهذا هو حقيقة التوحيد. والنفي المحض ليس بتوحيد. وكذلك الإثبات بدون النفي. فلا يكون التوحيد إلا متضمنا للنفي والإثبات، وهذا حقيقة «لا إله إلا الله». فلم جاءت هذه السورة بالنفي المحض، وما سر ذلك؟ وفائدة سابعة، وهي: ما حكمة تقديم نفي عبادته عن معبودهم ثم نفي عبادتهم عن معبوده؟ وفائدة ثامنة، وهي: أن طريقة القرآن إذا خاطب الكفار أن يخاطبهم بالذين كفروا، والذين هادوا، كقوله: يا أيُّها الَّذِينَ كَفَرُوا لا تَعْتَذِرُوا اليَوْمَ قُلْ يا أيُّها الَّذِينَ هادُوا إنْ زَعَمْتُمْ أنَّكم أوْلِياءُ لِلَّهِ ولم يجئ: يا أيُّها الكافِرُونَ إلا في هذا الموضع، فما وجه هذا الاختصاص؟
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب