الباحث القرآني

قالَ عَلِيٌّ - عَلَيْهِ السَّلامُ - في قَوْله تَعالى: ﴿فَصَلِّ لِرَبِّكَ وانْحَرْ﴾ إنّهُ وضْعُ اليَمِينِ عَلى الشِّمالِ في الصَّلاةِ تَحْتَ صَدْرِهِ، وذَكَرَ ابْنُ أبِي شَيْبَةَ عَنْ أبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ أنَّهُ كانَ إذا قامَ إلى الصَّلاةِ قالَ هَكَذا، ووَضَعَ اليُمْنى عَلى اليُسْرى في الصَّلاةِ، وقالَ أبُو الدَّرْداءِ: مِن أخْلاقِ النَّبِيِّينَ وضْعُ اليَمِينِ عَلى الشِّمالِ في الصَّلاةِ. وقال آخرون في قوله: ﴿فَصَلِّ لِرَبِّكَ وانْحَرْ﴾ إن المراد به ضع يدك على نحرك. وتكايس غيره وقال المعنى استقبل القبلة بنحرك. فهضموا معنى هذه الآية التي جمعت بين العبادتين العظيمتين الصلاة والنسك. * [فَصْلٌ: هَدْيُهُ في الأضاحِي] * فَصْلٌ وأمّا هَدْيُهُ في الأضاحِي فَإنَّهُ ﷺ لَمْ يَكُنْ يَدَعُ الأُضْحِيَّةَ، وكانَ يُضَحِّي بِكَبْشَيْنِ، وكانَ يَنْحَرُهُما بَعْدَ صَلاةِ العِيدِ، وأخْبَرَ أنَّ «مَن ذَبَحَ قَبْلَ الصَّلاةِ فَلَيْسَ مِنَ النُّسُكِ في شَيْءٍ، وإنَّما هو لَحْمٌ قَدَّمَهُ لِأهْلِهِ» هَذا الَّذِي دَلَّتْ عَلَيْهِ سُنَّتُهُ وهَدْيُهُ لا الِاعْتِبارُ بِوَقْتِ الصَّلاةِ والخُطْبَةِ، بَلْ بِنَفْسِ فِعْلِها، وهَذا هو الَّذِي نَدِينُ اللَّهَ بِهِ «وَأمَرَهم أنْ يَذْبَحُوا الجَذَعَ مِنَ الضَّأْنِ والثَّنِيَّ مِمّا سِواهُ» وَهِيَ المُسِنَّةُ. وَرُوِيَ عَنْهُ أنَّهُ قالَ: «كُلُّ أيّامِ التَّشْرِيقِ ذَبْحٌ» لَكِنَّ الحَدِيثَ مُنْقَطِعٌ لا يَثْبُتُ وصْلُهُ. وَأمّا نَهْيُهُ عَنِ ادِّخارِ لُحُومِ الأضاحِي فَوْقَ ثَلاثٍ فَلا يَدُلُّ عَلى أنَّ أيّامَ الذَّبْحِ ثَلاثَةٌ فَقَطْ؛ لِأنَّ الحَدِيثَ دَلِيلٌ عَلى نَهْيِ الذّابِحِ أنْ يَدَّخِرَ شَيْئًا فَوْقَ ثَلاثَةِ أيّامٍ مِن يَوْمِ ذَبْحِهِ، فَلَوْ أخَّرَ الذَّبْحَ إلى اليَوْمِ الثّالِثِ لَجازَ لَهُ الِادِّخارُ وقْتَ النَّهْيِ ما بَيْنَهُ وبَيْنَ ثَلاثَةِ أيّامٍ، والَّذِينَ حَدَّدُوهُ بِالثَّلاثِ فَهِمُوا مِن نَهْيِهِ عَنِ الِادِّخارِ فَوْقَ ثَلاثٍ أنَّ أوَّلَها مِن يَوْمِ النَّحْرِ، قالُوا: وغَيْرُ جائِزٍ أنْ يَكُونَ الذَّبْحُ مَشْرُوعًا في وقْتٍ يَحْرُمُ فِيهِ الأكْلُ، قالُوا: ثُمَّ نُسِخَ تَحْرِيمُ الأكْلِ فَبَقِيَ وقْتُ الذَّبْحِ بِحالِهِ. فَيُقالُ لَهُمْ: إنَّ النَّبِيَّ ﷺ لَمْ يَنْهَ إلّا عَنِ الِادِّخارِ فَوْقَ ثَلاثٍ لَمْ يَنْهَ عَنِ التَّضْحِيَةِ بَعْدَ ثَلاثٍ، فَأيْنَ أحَدُهُما مِنَ الآخَرِ؟ ولا تَلازُمَ بَيْنَ ما نَهى عَنْهُ، وبَيْنَ اخْتِصاصِ الذَّبْحِ بِثَلاثٍ لِوَجْهَيْنِ. أحَدُهُما: أنَّهُ يَسُوغُ الذَّبْحُ في اليَوْمِ الثّانِي والثّالِثِ، فَيَجُوزُ لَهُ الِادِّخارُ إلى تَمامِ الثَّلاثِ مِن يَوْمِ الذَّبْحِ، ولا يَتِمُّ لَكُمُ الِاسْتِدْلالُ حَتّى يَثْبُتَ النَّهْيُ عَنِ الذَّبْحِ بَعْدَ يَوْمِ النَّحْرِ، ولا سَبِيلَ لَكم إلى هَذا. الثّانِي: أنَّهُ لَوْ ذَبَحَ في آخِرِ جُزْءٍ مِن يَوْمِ النَّحْرِ لَساغَ لَهُ حِينَئِذٍ الِادِّخارُ ثَلاثَةَ أيّامٍ بَعْدَهُ بِمُقْتَضى الحَدِيثِ، وقَدْ قالَ عَلِيُّ بْنُ أبِي طالِبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: أيّامُ النَّحْرِ يَوْمُ الأضْحى، وثَلاثَةُ أيّامٍ بَعْدَهُ وهو مَذْهَبُ إمامِ أهْلِ البَصْرَةِ الحسن، وإمامِ أهْلِ مَكَّةَ عَطاءِ بْنِ أبِي رَباحٍ، وإمامِ أهْلِ الشّامِ الأوْزاعِيِّ، وإمامِ فُقَهاءِ أهْلِ الحَدِيثِ الشّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ واخْتارَهُ ابن المنذر؛ ولِأنَّ الثَّلاثَةَ تَخْتَصُّ بِكَوْنِها أيّامَ مِنًى، وأيّامَ الرَّمْيِ وأيّامَ التَّشْرِيقِ، ويَحْرُمُ صِيامُها، فَهي إخْوَةٌ في هَذِهِ الأحْكامِ فَكَيْفَ تَفْتَرِقُ في جَوازِ الذَّبْحِ بِغَيْرِ نَصٍّ ولا إجْماعٍ. ورُوِيَ مِن وجْهَيْنِ مُخْتَلِفَيْنِ يَشُدُّ أحَدُهُما الآخَرَ عَنِ النَّبِيِّ ﷺ أنَّهُ قالَ: «كُلُّ مِنًى مَنحَرٌ، وكُلُّ أيّامِ التَّشْرِيقِ ذَبْحٌ» رُوِيَ مِن حَدِيثِ جُبَيْرِ بْنِ مُطْعِمٍ، وفِيهِ انْقِطاعٌ، ومِن حَدِيثِ أُسامَةَ بْنِ زَيْدٍ، عَنْ عطاء عن جابر. قالَ يَعْقُوبُ بْنُ سُفْيانَ: أُسامَةُ بْنُ زَيْدٍ عِنْدَ أهْلِ المَدِينَةِ ثِقَةٌ مَأْمُونٌ. وَفِي هَذِهِ المَسْألَةِ أرْبَعَةُ أقْوالٍ هَذا أحَدُها. والثّانِي: أنَّ وقْتَ الذَّبْحِ يَوْمُ النَّحْرِ ويَوْمانِ بَعْدَهُ، وهَذا مَذْهَبُ أحمد ومالك، وأبي حنيفة رَحِمَهُمُ اللَّهُ، قالَ أحمد: هو قَوْلُ غَيْرِ واحِدٍ مِن أصْحابِ مُحَمَّدٍ ﷺ، وذَكَرَهُ الأثرم عَنِ ابْنِ عُمَرَ، وابْنِ عَبّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهم. الثّالِثُ: أنَّ وقْتَ النَّحْرِ يَوْمٌ واحِدٌ، وهو قَوْلُ ابْنِ سِيرِينَ، لِأنَّهُ اخْتُصَّ بِهَذِهِ التَّسْمِيَةِ فَدَلَّ عَلى اخْتِصاصِ حُكْمِها بِهِ، ولَوْ جازَ في الثَّلاثَةِ لَقِيلَ لَها: أيّامُ النَّحْرِ كَما قِيلَ لَها: أيّامُ الرَّمْيِ وأيّامُ مِنًى، وأيّامُ التَّشْرِيقِ، ولِأنَّ العِيدَ يُضافُ إلى النَّحْرِ، وهو يَوْمٌ واحِدٌ كَما يُقالُ عِيدُ الفِطْرِ. الرّابِعُ: قَوْلُ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، وجابِرِ بْنِ زَيْدٍ: إنَّهُ يَوْمٌ واحِدٌ في الأمْصارِ وثَلاثَةُ أيّامٍ في مِنًى؛ لِأنَّها هُناكَ أيّامُ أعْمالِ المَناسِكِ مِنَ الرَّمْيِ والطَّوافِ والحَلْقِ فَكانَتْ أيّامًا لِلذَّبْحِ بِخِلافِ أهْلِ الأمْصارِ. * [فَصْلٌ: مَسائِلُ تَتَعَلَّقُ بِالأُضْحِيَّةِ] * فَصْلٌ وَمِن هَدْيِهِ ﷺ أنَّ «مَن أرادَ التَّضْحِيَةَ ودَخَلَ يَوْمُ العَشْرِ، فَلا يَأْخُذْ مِن شَعْرِهِ وبَشَرِهِ شَيْئًا» ثَبَتَ النَّهْيُ عَنْ ذَلِكَ في " صَحِيحِ مسلم ". وَأمّا الدّارَقُطْنِيُّ فَقالَ: الصَّحِيحُ عِنْدِي أنَّهُ مَوْقُوفٌ عَلى أم سلمة. وَكانَ مِن هَدْيِهِ ﷺ اخْتِيارُ الأُضْحِيَّةِ واسْتِحْسانُها، وسَلامَتُها مِنَ العُيُوبِ، «وَنَهى أنْ يُضَحّى بِعَضْباءِ الأُذُنِ والقَرْنِ» أيْ مَقْطُوعَةِ الأُذُنِ ومَكْسُورَةِ القَرْنِ، النِّصْفُ فَما زادَ، ذَكَرَهُ أبو داود، «وَأمَرَ أنْ تُسْتَشْرَفَ العَيْنُ والأُذُنُ» أيْ: يُنْظَرُ إلى سَلامَتِها، وأنْ لا يُضَحّى بِعَوْراءَ، ولا مُقابَلَةٍ، ولا مُدابَرَةٍ، ولا شَرْقاءَ، ولا خَرْقاءَ. والمُقابَلَةُ هي الَّتِي قُطِعَ مُقَدَّمُ أُذُنِها، والمُدابَرَةُ الَّتِي قُطِعَ مُؤَخَّرُ أُذُنِها، والشَّرْقاءُ الَّتِي شُقَّتْ أُذُنُها، والخَرْقاءُ الَّتِي خُرِقَتْ أُذُنُها. ذَكَرَهُ أبو داود. وَذَكَرَ عَنْهُ أيْضًا «أرْبَعٌ لا تُجْزِئُ في الأضاحِي: العَوْراءُ البَيِّنُ عَوَرُها، والمَرِيضَةُ البَيِّنُ مَرَضُها، والعَرْجاءُ البَيِّنُ عَرَجُها، والكَسِيرَةُ الَّتِي لا تُنْقِي، والعَجْفاءُ الَّتِي لا تُنْقِي» أيْ مِن هُزالِها لا مُخَّ فِيها. وَذَكَرَ أيْضًا أنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ «نَهى عَنِ المُصْفَرَّةِ والمُسْتَأْصَلَةِ، والبَخْقاءِ، والمُشَيَّعَةِ، والكَسْراءِ» فالمُصْفَرَّةُ الَّتِي تُسْتَأْصَلُ أُذُنُها حَتّى يَبْدُوَ صِماخُها، والمُسْتَأْصَلَةُ الَّتِي اسْتُوصِلَ قَرْنُها مِن أصْلِهِ، والبَخْقاءُ الَّتِي بُخِقَتْ عَيْنُها، والمُشَيَّعَةُ الَّتِي لا تَتْبَعُ الغَنَمَ عَجَفًا وضَعْفًا، والكَسْراءُ الكَسِيرَةُ، واللَّهُ أعْلَمُ. [كانَ ﷺ يُضَحِّي بِالمُصَلّى] وَكانَ مِن هَدْيِهِ ﷺ أنْ يُضَحِّي بِالمُصَلّى، ذَكَرَهُ أبو داود «عَنْ جابر أنَّهُ شَهِدَ مَعَهُ الأضْحى بِالمُصَلّى، فَلَمّا قَضى خُطْبَتَهُ نَزَلَ مِن مِنبَرِهِ، وأُتِيَ بِكَبْشٍ فَذَبَحَهُ بِيَدِهِ، وقالَ: (بِسْمِ اللَّهِ، واللَّهُ أكْبَرُ، هَذا عَنِّي وعَمَّنْ لَمْ يُضَحِّ مِن أُمَّتِي». وفي " الصَّحِيحَيْنِ " أنَّ النَّبِيَّ ﷺ «كانَ يَذْبَحُ ويَنْحَرُ بِالمُصَلّى». * (فَصْلٌ: في حكم اجْتِماع العَقِيقَة والأُضْحِيَّة) قالَ الخلال باب ما رُوِيَ أن الأُضْحِية تجزئ عَن العَقِيقَة أخبرنا عبد الملك المَيْمُونِيّ أنه قالَ لأبي عبد الله يجوز أن يضحى عَن الصَّبِي مَكان العَقِيقَة قالَ لا أدْرِي ثمَّ قالَ غير واحِد يَقُول بِهِ. قلت من التّابِعين؟ قالَ نعم. وَأخْبرنِي عبد الملك في مَوضِع آخر قالَ ذكر أبُو عبد الله أن بَعضهم قالَ فَإن ضحى أجْزَأ عَن العَقِيقَة وَأخْبرنا عصمَة ابْن عِصام حَدثنا حَنْبَل أن أبا عبد الله قالَ أرْجُو أن تجزئ الأُضْحِية عَن العَقِيقَة إن شاءَ الله تَعالى لمن لم يعق وَأخْبرنِي عصمَة بن عِصام في مَوضِع آخر قالَ حَدثنا حَنْبَل أن أبا عبد الله قالَ فَإن ضحى عَنهُ أجْزَأت عَنهُ الضحية من العقوق قالَ ورَأيْت أبا عبد الله اشْترى أضْحِية ذَبحها عَنهُ وعَن أهله وكانَ ابْنه عبد الله ضغيرا فذبحها أراهُ أرادَ بذلك العَقِيقَة والأُضْحِيَّة وقسم اللَّحْم وأكل مِنها. أخبرنا عبد الله بن أحْمد قالَ سَألت أبي عَن العَقِيقَة يَوْم الأضْحى تجزئ أن تكون أضْحِية وعقيقة قالَ إمّا أضْحِية وإمّا عقيقة على ما سمى وهَذا يَقْتَضِي ثَلاث رِوايات عَن أبي عبد الله إحْداها إجزاؤها عَنْهُما والثّانيِة وُقُوعها عَن أحدهما والثّالِثَة التَّوَقُّف ووجه عدم وُقُوعها عَنْهُما أنَّهُما ذبحان بسببين مُخْتَلفين فَلا يقوم الذّبْح الواحِد عَنْهُما كَدم المُتْعَة ودم الفِدْيَة ووجه الإجْزاء حُصُول المَقْصُود مِنها بِذبح واحِد فَإن الأُضْحِية عَن المَوْلُود مَشْرُوعَة كالعقيقة عَنهُ فَإذا ضحى ونوى أن تكون عقيقة وأضحية وقع ذَلِك عَنْهُما كَما لَو صلى رَكْعَتَيْنِ يَنْوِي بهما تَحِيَّة المَسْجِد وسنة المَكْتُوبَة أو صلى بعد الطّواف فرضا أو سنة مَكْتُوبَة وقع عَنهُ وعَن رَكْعَتي الطّواف، وكَذَلِكَ لَو ذبح المُتَمَتّع والقارن شاة يَوْم النَّحْر أجزَأهُ عَن دم المُتْعَة وعَن الأُضْحِية والله أعلم.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب