الباحث القرآني
قيل في قوله ﴿وَيَمْنَعُونَ الماعُونَ﴾ إنه القدر، والفأس، والقصعة.
فالماعون اسم جامع لجميع ما ينتفع به فذكر بعض السلف هذا للسائل تمثيلا وتنبيها بالأدنى على الأعلى.
* (موعظة)
لا تحد وما لك بعير. لا تمد القوس وما لها وتر
كم بذل نفسه مراء ليمدحه الخلق فذهبت نفسه فانقلب المدح ذما. ولو بذلها لله لبقيت ما بقي الدهر. [سورة الماعون] عمل الرائي بصلة كلها قشور المرائي يحشو جراب الزوادة رملا يثقله في الطريق وما ينفعه. ريح الرياء جيفة تجافاها مشام القلوب لما أخذ دود القز ينسج أقبلت العنكبوت تشبهه وقالت لك نسج ولي نسج فقالت دودة القز ولكن نسيجي أردية الملوك ونسجك شبكة الذباب وعند مس الحاجة يتبين الفرق
؎إذا اشتبكت دموع في خدود ∗∗∗ تبين من بكا ممن تباكا
شجرة الصنوبر تثمر في ثلاثين سنة، وشجرة الدباء تصعد في أسبوعين، فتقول للصنوبرة إن الطريق التي قطعتها في ثلاثين سنة قطعتها في أسبوعين، ويقال لي شجرة ولك شجرة.
فقالت لها الصنوبرة مهلا حتى تهب رياح الخريف فإن ثبت لها تم فخرك.
كان التصوف والفقر في مواطن القلوب، فصار في ظواهر الثياب كان خرقة فصار حرفة.
غير زيك أيها المرائي فإنه يصبح بك خذوني.
السيف والدرع لتزين هيئتك، فضيحة البهرج تبين عند المحك.
لو أبصرت طلائع الصديقين في أوائل الركب، أو سمعت استغاثة المحبين في وسط الركب، أو شاهدت ساقة المستغفرين في آخر الركب لعلمت أنك قد انقطعت تحت شجر أم غيلان.
واحسرتا لمنقطع دون الركب يعد المنازل.
* [فَصْلٌ: في البذل والعطاء]
فَإذا قُدِّرَ أنَّ قَوْمًا اضْطُرُّوا إلى السُّكْنى في بَيْتِ إنْسانٍ، ولا يَجِدُونَ سِواهُ، أوْ النُّزُولِ في خانٍ مَمْلُوكٍ، أوْ اسْتِعارَةِ ثِيابٍ يَسْتَدْفِئُونَ بِها، أوْ رَحًى لِلطَّحْنِ، أوْ دَلْوٍ لِنَزْعِ الماءِ، أوْ قِدْرٍ، أوْ فَأْسٍ، أوْ غَيْرِ ذَلِكَ: وجَبَ عَلى صاحِبِهِ بَذْلُهُ بِلا نِزاعٍ، لَكِنْ هَلْ لَهُ أنْ يَأْخُذَ عَلَيْهِ أجْرًا؟ فِيهِ قَوْلانِ لِلْعُلَماءِ، وهُما وجْهانِ لِأصْحابِ أحْمَدَ.
وَمَن جَوَّزَ لَهُ أخْذَ الأُجْرَةِ حَرَّمَ عَلَيْهِ أنْ يَطْلُبَ زِيادَةً عَلى أُجْرَةِ المِثْلِ.
قالَ شَيْخُنا: والصَّحِيحُ أنَّهُ يَجِبُ عَلَيْهِ بَذْلُ ذَلِكَ مَجّانًا، كَما دَلَّ عَلَيْهِ الكِتابُ والسُّنَّةُ، قالَ تَعالى: ﴿فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ (٤) الَّذِينَ هم عَنْ صَلاتِهِمْ ساهُونَ (٥) الَّذِينَ هم يُراءُونَ (٦) ويَمْنَعُونَ الماعُونَ (٧)﴾
قالَ ابْنُ مَسْعُودٍ وابْنُ عَبّاسٍ وغَيْرُهُما مِن الصَّحابَةِ: " هو إعارَةُ القِدْرِ والدَّلْوِ والفَأْسِ ونَحْوِهِمْ ".
وَفِي " الصَّحِيحَيْنِ " عَنْ النَّبِيِّ ﷺ وذَكَرَ الخَيْلَ - قالَ: «هِيَ لِرَجُلٍ أجْرٌ، ولِرَجُلٍ سِتْرٌ، وعَلى رَجُلٍ وِزْرٌ، فَأمّا الَّذِي هي لَهُ أجْرٌ: فَرَجُلٌ رَبَطَها في سَبِيلِ اللَّهِ، وأمّا الَّذِي هي لَهُ سِتْرٌ: فَرَجُلٌ رَبَطَها تَغَنِّيًا وتَعَفُّفًا، ولَمْ يَنْسَ حَقَّ اللَّهِ في رِقابِها، ولا في ظُهُورِها».
وَفِي " الصَّحِيحَيْنِ " عَنْهُ أيْضًا: «مِن حَقِّ الإبِلِ: إعارَةُ دَلْوِها، وإطْراقُ فَحْلِها».
وَفِي " الصَّحِيحَيْنِ " عَنْهُ: «أنَّهُ نَهى عَنْ عَسْبِ الفَحْلِ» أيْ عَنْ أخْذِ الأُجْرَةِ عَلَيْهِ، والنّاسُ يَحْتاجُونَ إلَيْهِ، فَأوْجَبَ بَذْلَهُ مَجّانًا، ومَنَعَ مِن أخْذِ الأُجْرَةِ عَلَيْهِ.
وَفِي " الصَّحِيحَيْنِ " عَنْهُ أنَّهُ قالَ: «لا يَمْنَعَنَّ جارٌ جارَهُ أنْ يَغْرِزَ خَشَبَهُ في جِدارِهِ».
وَلَوْ احْتاجَ إلى إجْراءِ مائِهِ في أرْضِ غَيْرِهِ، مِن غَيْرِ ضَرَرٍ لِصاحِبِ الأرْضِ، فَهَلْ يُجْبَرُ عَلى ذَلِكَ؟ رِوايَتانِ عَنْ أحْمَدَ، والإجْبارُ: قَوْلُ عُمَرَ بْنِ الخَطّابِ وغَيْرِهِ مِن الصَّحابَةِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهم -.
وَقَدْ قالَ جَماعَةٌ مِن الصَّحابَةِ والتّابِعِينَ: " إنّ زَكاةَ الحُلِيِّ عارِيَّتُهُ، فَإذا لَمْ يُعِرْهُ فَلا بُدَّ مِن زَكاتِهِ "، وهَذا وجْهٌ في مَذْهَبِ أحْمَدَ. قُلْتُ: وهو الرّاجِحُ، وإنَّهُ لا يَخْلُو الحُلِيُّ مِن زَكاةٍ أوْ عارِيَّةٍ. والمَنافِعُ الَّتِي يَجِبُ بَذْلُها نَوْعانِ، مِنها: ما هو حَقُّ المالِ، كَما ذَكَرْنا في الخَيْلِ، والإبِلِ، والحُلِيِّ، ومِنها: ما يَجِبُ لِحاجَةِ النّاسِ.
وَأيْضًا: فَإنَّ بَذْلَ مَنافِعِ البَدَنِ تَجِبُ عِنْدَ الحاجَةِ، كَتَعْلِيمِ العِلْمِ، وإفْتاءِ النّاسِ، والحُكْمِ بَيْنَهُمْ، وأداءِ الشَّهادَةِ، والجِهادِ، والأمْرِ بِالمَعْرُوفِ والنَّهْيِ عَنْ المُنْكَرِ، وغَيْرِ ذَلِكَ مِن مَنافِعِ الأبْدانِ. وكَذَلِكَ مَن أمْكَنَهُ إنْجاءُ إنْسانٍ مِن مَهْلَكَةٍ وجَبَ عَلَيْهِ أنْ يُخَلِّصَهُ، فَإنْ تَرَكَ ذَلِكَ - مَعَ قُدْرَتِهِ عَلَيْهِ - أثِمَ وضَمِنَهُ.
فَلا يَمْتَنِعُ وُجُوبُ بَذْلِ مَنافِعِ الأمْوالِ لِلْمُحْتاجِ، وقَدْ قالَ تَعالى: ﴿وَلا يَأْبَ الشُّهَداءُ إذا ما دُعُوا﴾ [البقرة: ٢٨٢] وقالَ: ﴿وَلا يَأْبَ كاتِبٌ أنْ يَكْتُبَ كَما عَلَّمَهُ اللَّهُ﴾ [البقرة: ٢٨٢] ولِلْفُقَهاءِ في أخْذِ الجُعْلِ عَلى الشَّهادَةِ أرْبَعَةُ أقْوالٍ، وهي أرْبَعَةُ أوْجُهٍ في مَذْهَبِ أحْمَدَ، أحَدُها: أنَّهُ لا يَجُوزُ مُطْلَقًا
والثّانِي: أنَّهُ يَجُوزُ عِنْدَ الحاجَةِ.
والثّالِثُ: أنَّهُ لا يَجُوزُ إلّا أنْ يَتَعَيَّنَ عَلَيْهِ.
والرّابِعُ: أنَّهُ يَجُوزُ، فَإنْ أخَذَهُ عِنْدَ التَّحَمُّلِ لَمْ يَأْخُذْهُ عِنْدَ الأداءِ.
والمَقْصُودُ: أنَّ ما قَدَّرَهُ النَّبِيُّ ﷺ مِن الثَّمَنِ في سِرايَةِ العِتْقِ: هو لِأجْلِ تَكْمِيلِ الحُرِّيَّةِ، وهو حَقُّ اللَّهِ، وما احْتاجَ إلَيْهِ النّاسُ، حاجَةً عامَّةً، فالحَقُّ فِيهِ لِلَّهِ، وذَلِكَ في الحُقُوقِ والحُدُودِ. فَأمّا الحُقُوقُ: فَمِثْلُ حُقُوقِ المَساجِدِ ومالِ الفَيْءِ والوَقْفِ عَلى أهْلِ الحاجاتِ وأمْوالِ الصَّدَقاتِ، والمَنافِعِ العامَّةِ.
وَأمّا الحُدُودُ: فَمِثْلُ حَدِّ المُحارَبَةِ، والسَّرِقَةِ، والزِّنا، وشُرْبِ الخَمْرِ المُسْكِرِ.
وَحاجَةُ المُسْلِمِينَ إلى الطَّعامِ واللِّباسِ وغَيْرِ ذَلِكَ: مَصْلَحَةٌ عامَّةٌ، لَيْسَ الحَقُّ فِيها لِواحِدٍ بِعَيْنِهِ، فَتَقْدِيرُ الثَّمَنِ فِيها بِثَمَنِ المِثْلِ عَلى مَن وجَبَ عَلَيْهِ البَيْعُ أوْلى مِن تَقْدِيرِهِ لِتَكْمِيلِ الحُرِّيَّةِ، لَكِنَّ تَكْمِيلَ الحُرِّيَّةِ وجَبَ عَلى الشَّرِيكِ المُعْتَقِ، ولَوْ لَمْ يُقَدَّرْ فِيها الثَّمَنُ لَتَضَرَّرَ بِطَلَبِ الشَّرِيكِ الآخَرِ، فَإنَّهُ يَطْلُبُ ما شاءَ، وهُنا عُمُومُ النّاسِ يَشْتَرُونَ الطَّعامَ والثِّيابَ لِأنْفُسِهِمْ وغَيْرِهِمْ، فَلَوْ مُكِّنَ مَن عِنْدَهُ سِلَعٌ يَحْتاجُ النّاسُ إلَيْها أنْ يَبِيعَ بِما شاءَ: كانَ ضَرَرُ النّاسِ أعْظَمَ؛ ولِهَذا قالَ الفُقَهاءُ: إذا اضْطُرَّ الإنْسانُ إلى طَعامِ الغَيْرِ: وجَبَ عَلَيْهِ بَذْلُهُ لَهُ بِثَمَنِ المِثْلِ.
وَأبْعَدُ الأئِمَّةِ عَنْ إيجابِ المُعاوَضَةِ وتَقْدِيرِها هو الشّافِعِيُّ: ومَعَ هَذا فَإنَّهُ يُوجِبُ عَلى مَن اضْطُرَّ الإنْسانُ إلى طَعامِهِ: أنْ يَبْذُلَهُ لَهُ بِثَمَنِ المِثْلِ، وتَنازَعَ أصْحابُهُ في جَوازِ تَسْعِيرِ الطَّعامِ، إذا كانَ بِالنّاسِ إلَيْهِ حاجَةٌ، ولَهم فِيهِ وجْهانِ.
وَقالَ أصْحابُ أبِي حَنِيفَةَ: لا يَنْبَغِي لِلسُّلْطانِ أنْ يُسَعِّرَ عَلى النّاسِ، إلّا إذا تَعَلَّقَ بِهِ حَقُّ ضَرَرِ العامَّةِ، فَإذا رُفِعَ إلى القاضِي: أمَرَ المُحْتَكِرَ بِبَيْعِ ما فَضَلَ مِن قُوتِهِ وقُوتِ أهْلِهِ، عَلى اعْتِبارِ السِّعْرِ في ذَلِكَ، ونَهاهُ عَنْ الِاحْتِكارِ، فَإنْ أبى حَبَسَهُ وعَزَّرَهُ عَلى مُقْتَضى رَأْيِهِ، زَجْرًا لَهُ، ودَفْعًا لِلضَّرَرِ عَنْ النّاسِ. قالُوا: فَإنْ تَعَدّى أرْبابُ الطَّعامِ، وتَجاوَزُوا القِيمَةَ تَعَدِّيًا فاحِشًا، وعَجَزَ القاضِي عَنْ صِيانَةِ حُقُوقِ المُسْلِمِينَ إلّا بِالتَّسْعِيرِ: سَعَّرَهُ حِينَئِذٍ بِمَشُورَةِ أهْلِ الرَّأْيِ والبَصِيرَةِ.
وَهَذا عَلى أصْلِ أبِي حَنِيفَةَ ظاهِرٌ، حَيْثُ لا يَرى الحَجْرَ عَلى الحُرِّ. ومَن باعَ مِنهم بِما قَدَّرَهُ الإمامُ: صَحَّ، لِأنَّهُ غَيْرُ مُكْرَهٍ عَلَيْهِ.
قالُوا: وهَلْ يَبِيعُ القاضِي عَلى المُحْتَكِرِ طَعامَهُ مِن غَيْرِ رِضاهُ؟ عَلى الخِلافِ المَعْرُوفِ في بَيْعِ مالِ الدَّيْنِ، وقِيلَ: يَبِيعُ هاهُنا بِالِاتِّفاقِ، لِأنَّ أبا حَنِيفَةَ يَرى الحَجْرَ لِدَفْعِ الضَّرَرِ العامِّ، والسِّعْرُ لَمّا غَلا عَلى عَهْدِ النَّبِيِّ ﷺ وطَلَبُوا مِنهُ التَّسْعِيرَ فامْتَنَعَ، لَمْ يَذْكُرْ أنَّهُ كانَ هُناكَ مَن عِنْدَهُ طَعامٌ امْتَنَعَ مِن بَيْعِهِ، بَلْ عامَّةُ مَن كانَ يَبِيعُ الطَّعامَ إنّما هم جالِبُونَ يَبِيعُونَهُ إذا هَبَطُوا السُّوقَ، ولَكِنْ «نَهى النَّبِيُّ ﷺ أنْ يَبِيعَ حاضِرٌ لِبادٍ» أيْ أنْ يَكُونَ لَهُ سِمْسارٌ.
وَقالَ: «دَعُوا النّاسَ يَرْزُقُ اللَّهُ بَعْضَهم مِن بَعْضٍ» فَنَهى الحاضِرَ العالَمَ بِالسِّعْرِ أنْ يَتَوَكَّلَ لِلْبادِي الجالِبِ لِلسِّلْعَةِ، لِأنَّهُ إذا تَوَكَّلَ لَهُ - مَعَ خِبْرَتِهِ بِحاجَةِ النّاسِ - أغْلى الثَّمَنَ عَلى المُشْتَرِي فَنَهاهُ عَنْ التَّوَكُّلِ لَهُ، مَعَ أنَّ جِنْسَ الوَكالَةِ مُباحٌ، لِما في ذَلِكَ مِن زِيادَةِ السِّعْرِ عَلى النّاسِ، ونَهى عَنْ تَلَقِّي الجَلْبِ، وجَعَلَ لِلْبائِعِ إذا هَبَطَ السُّوقَ الخِيارَ؛ ولِهَذا كانَ أكْثَرُ الفُقَهاءِ عَلى أنَّهُ نَهى عَنْ ذَلِكَ لِما فِيهِ مِن ضُرِّ البائِعِ هُنا، فَإذا لَمْ يَكُنْ قَدْ عَرَفَ السِّعْرَ، وتَلَقّاهُ المُتَلَقِّي قَبْلَ إتْيانِهِ إلى السُّوقِ اشْتَراهُ المُشْتَرِي بِدُونِ ثَمَنِ المِثْلِ فَغَبَنَهُ، فَأثْبَتَ النَّبِيُّ ﷺ لِهَذا البائِعِ الخِيارَ. ثُمَّ فِيهِ عَنْ أحْمَدَ رِوايَتانِ كَما تَقَدَّمَ، إحْداهُما: أنَّ الخِيارَ يَثْبُتُ لَهُ مُطْلَقًا، سَواءٌ غَبَنَ أمْ لَمْ يَغْبِنْ، وهو ظاهِرُ مَذْهَبِ الشّافِعِيِّ.
والثّانِيَةُ: أنَّهُ إنّما يَثْبُتُ لَهُ عِنْدَ الغَبْنِ، وهي ظاهِرُ المَذْهَبِ.
وَقالَتْ طائِفَةٌ: بَلْ نَهى عَنْ ذَلِكَ لِما فِيهِ مِن ضَرَرِ المُشْتَرِي إذا تَلَقّاهُ المُتَلَقِّي، فاشْتَرى مِنهُ، ثُمَّ باعَهُ وفي الجُمْلَةِ: فَقَدْ نَهى النَّبِيُّ ﷺ عَنْ البَيْعِ والشِّراءِ الَّذِي جِنْسُهُ حَلالٌ، حَتّى يَعْلَمَ البائِعُ بِالسِّعْرِ، وهو ثَمَنُ المِثْلِ، ويَعْلَمَ المُشْتَرِي بِالسِّلْعَةِ.
وَصاحِبُ القِياسِ الفاسِدِ يَقُولُ: لِلْمُشْتَرِي أنْ يَشْتَرِيَ حَيْثُ شاءَ، وقَدْ اشْتَرى مِن البائِعِ، كَما يَقُولُ: فَلَهُ أنْ يَتَوَكَّلَ لِلْبائِعِ الحاضِرِ وغَيْرِ الحاضِرِ، ولَكِنَّ الشّارِعَ راعى المَصْلَحَةَ العامَّةَ، فَإنَّ الجالِبَ إذا لَمْ يَعْرِفْ السِّعْرَ كانَ جاهِلًا بِثَمَنِ المِثْلِ، فَيَكُونُ المُشْتَرِي غارًّا لَهُ. وألْحَقَ مالِكٌ وأحْمَدُ بِذَلِكَ كُلَّ مُسْتَرْسِلٍ، فَإنَّهُ بِمَنزِلَةِ الجالِبِ الجاهِلِ بِالسِّعْرِ.
فَتَبَيَّنَ أنَّهُ يَجِبُ عَلى الإنْسانِ: ألّا يَبِيعَ مِثْلَ هَؤُلاءِ إلّا بِالسِّعْرِ المَعْرُوفِ، وهو ثَمَنُ المِثْلِ، وإنْ لَمْ يَكُونُوا مُحْتاجِينَ إلى الِابْتِياعِ مِنهُ، لَكِنْ لِكَوْنِهِمْ جاهِلِينَ بِالقِيمَةِ، أوْ غَيْرَ مُماكِسِينَ، والبَيْعُ يُعْتَبَرُ فِيهِ الرِّضا، والرِّضا يَتْبَعُ العِلْمَ، ومَن لَمْ يَعْلَمْ أنَّهُ غَبْنٌ فَقَدْ يَرْضى، وقَدْ لا يَرْضى، فَإذا عَلِمَ أنَّهُ غَبْنٌ ورَضِيَ، فَلا بَأْسَ بِذَلِكَ.
وَفِي " السُّنَنِ ": «أنَّ رَجُلًا كانَتْ لَهُ شَجَرَةٌ في أرْضِ غَيْرِهِ، وكانَ صاحِبُ الأرْضِ يَتَضَرَّرُ بِدُخُولِ صاحِبِ الشَّجَرَةِ، فَشَكا ذَلِكَ إلى النَّبِيِّ ﷺ فَأمَرَهُ أنْ يَقْبَلَ بَدَلَها، أوْ يَتَبَرَّعَ لَهُ بِها، فَلَمْ يَفْعَلْ، فَأذِنَ لِصاحِبِ الأرْضِ أنْ يَقْلَعَها، وقالَ لِصاحِبِ الشَّجَرَةِ: إنّما أنْتَ مُضارٌّ». وصاحِبُ القِياسِ الفاسِدِ يَقُولُ: لا يَجِبُ عَلَيْهِ أنْ يَبِيعَ شَجَرَتَهُ، ولا يَتَبَرَّعُ بِها، ولا يَجُوزُ لِصاحِبِ الأرْضِ أنْ يَقْلَعَها، لِأنَّهُ تَصَرُّفٌ في مِلْكِ الغَيْرِ بِغَيْرِ إذْنِهِ، وإجْبارٌ عَلى المُعاوَضَةِ عَلَيْهِ، وصاحِبُ الشَّرْعِ أوْجَبَ عَلَيْهِ إذا لَمْ يَتَبَرَّعْ بِها أنْ يَبِيعَها، لِما في ذَلِكَ مِن مَصْلَحَةِ صاحِبِ الأرْضِ بِخَلاصِهِ مِن تَأذِّيه بِدُخُولِ صاحِبِ الشَّجَرَةِ، ومَصْلَحَةِ صاحِبِ الشَّجَرَةِ بِأخْذِ القِيمَةِ، وإنْ كانَ عَلَيْهِ في ذَلِكَ ضَرَرٌ يَسِيرٌ، فَضَرَرُ صاحِبِ الأرْضِ بِبَقائِها في بُسْتانِهِ أعْظَمُ، فَإنَّ الشّارِعَ الحَكِيمَ يَدْفَعُ أعْظَمَ الضَّرَرَيْنِ بِأيْسَرِهِما، فَهَذا هو الفِقْهُ والقِياسُ والمَصْلَحَةُ، وإنْ أباهُ مَن أباهُ.
والمَقْصُودُ: أنَّ هَذا دَلِيلٌ عَلى وُجُوبِ البَيْعِ عِنْدَ حاجَةِ المُشْتَرِي، وأيْنَ هَذا مِن حاجَةِ عُمُومِ النّاسِ إلى الطَّعامِ وغَيْرِهِ؟ والحُكْمُ في المُعاوَضَةِ عَلى المَنافِعِ إذا احْتاجَ النّاسُ إلَيْها - كَمَنافِعِ الدُّورِ، والطَّحْنِ، والخَبْزِ، وغَيْرِ ذَلِكَ - حُكْمُ المُعاوَضَةِ عَلى الأعْيانِ. وجِماعُ الأمْرِ: أنَّ مَصْلَحَةَ النّاسِ إذا لَمْ تَتِمَّ إلّا بِالتَّسْعِيرِ.
سَعَّرَ عَلَيْهِمْ تَسْعِيرَ عَدْلٍ، لا وكْسَ ولا شَطَطَ، وإذا انْدَفَعَتْ حاجَتُهم وقامَتْ مَصْلَحَتُهم بِدُونِهِ: لَمْ يَفْعَلْ، وبِاللَّهِ التَّوْفِيقُ.
* (فصل: في الأسباب التي يعذب بها أصحاب القبور]
وهي قول السائل: ما الأسباب التي يعذب بها أصحاب القبور؟
جوابها من وجهين: مجمل ومفصل:
أما المجمل: فإنهم يعذبون على جهلهم باللّه وإضاعتهم لأمره وارتكابهم لمعاصيه، فلا يعذب اللّه روحا عرفته وأحبته وامتثلت لأمره واجتنبت نهيه، ولا بدنا كانت فيه أبدا، فإن عذاب القبر وعذاب الآخرة وأثر غضب اللّه وسخطه على عبده، فمن أغضب اللّه وأسخطه في هذه الدار ثم لم يتب ومات على ذلك كان له من عذاب البرزخ بقدر غضب اللّه وسخطه عليه، فمستقبل ومستكثر، ومصدق ومكذب.
وأما الجواب المفصل: فقد أخبر النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم عن الرجلين اللذين رآهما يعذبان في قبورهما: يمشي أحدهما بالنميمة بين الناس، ويترك الآخر الاستبراء من البول، فهذا ترك الطهارة الواجبة، وذلك ارتكب السبب الموقع للعداوة بين الناس بلسانه وإن كان صادقا، وفي هذا تنبيه على أن الموقع بينهم العداوة والكذب والزور والبهتان أعظم عذابا، كما أن في ترك الاستبراء من البول تنبيها على أن من ترك الصلاة والتي الاستبراء من البول بعض واجباتها وشروطها فهذا مغتاب، وذلك نمام، وقد تقدم حديث ابن مسعود رضي اللّه عنه في الذي ضرب سوطا امتلأ القبر عليه به نارا. لكونه على صلاة واحدة بغير طهور، ومر على مظلوم فلم ينصره.
وقد تقدم حديث سمرة في صحيح البخاري في تعذيب من يكذب الكذبة فتبلغ الآفاق، وتعذيب من يقرأ القرآن ثم ينام عنه بالليل ولا يعمل به بالنهار.
وتعذيب الزناة والزواني، وتعذيب آكل الربا، كما شاهدهم النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم في البرزخ.
وتقدم حديث أبي هريرة رضي اللّه عنه الذي فيه رضخ رءوس أقوام بالصخر لتثاقل رءوسهم عن الصلاة، والذين يسرحون بين الضريع والزقوم لتركهم زكاة أموالهم، والذين يأكلون اللحم المنتن الخبيث لزناهم، والذين تقرض شفاههم بمقاريض من حديد لقيامهم في الفتن بالكلام والخطب.
وتقدم حديث أبي سعيد، وعقوبة أرباب تلك الجرائم، فمنهم من بطونهم أمثال البيوت وهم على سابلة آل فرعون وهم أكلة الربا، ومنهم من تفتح أفواههم فيلقمون الجمر حتى يخرج من أسافلهم وهم أكلة أموال اليتامى، ومنهم المعلقات بثديهم وهن الزواني، ومنهم من تقطع جنوبهم ويطعمون لحومهم وهم المغتابون، ومنهم من لهم أظفار من نحاس يخمشون وجوههم وصدورهم وهم الذين يغمزون أعراض الناس.
وقد أخبرنا صلى اللّه عليه وآله وسلم عن صاحب الشملة التي غلها من المغنم أنها تشتعل عليه نارا في قبره هذا وله فيها حق، فكيف بمن ظلم غيره ما لا حق له فيه؟ فعذاب القبر من معاصي القلب والعين والأذن والفم واللسان والبطن والفرج واليد والرجل والبدن كله، فالنمام والكذاب والمغتاب وشاهد الزور وقاذف المحصن والموضع في الفتنة والداعي إلى البدعة، والقائل على اللّه ورسوله ما لا علم له به، والمجازف في كلامه، وآكل الربا، وآكل أموال اليتامى، وآكل السحت من الرشوة والبرطيل، ونحوهما، وآكل مال أخيه المسلم بغير حق أو مال المعاهد، وشارب المسكر، وآكل لقمة الشجرة الملعونة، والزاني، واللوطي، والسارق، والخائن، والغادر، والمخادع، والماكر، وآخذ الربا ومعطيه وكاتبه وشاهداه، والمحلل والمحلل له، والمحتال على إسقاط فرائض اللّه وارتكاب محارمه، ومؤذي المسلمين، ومتتبع عوراتهم، والحاكم بغير ما أنزل اللّه، والمفتي بخلاف ما شرعه اللّه، والمعين على الإثم والعدوان، وقاتل النفس التي حرم اللّه، والملحد في حرم اللّه، والمعطل لحقائق أسماء اللّه وصفاته الملحد فيها، والمقدم رأيه وذوقه وسياسته على سنّة رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم، والنائحة، والمستمع إليها، ونواحوا جهنم: وهم المغنون الغناء الذي حرمه اللّه ورسوله والمستمع إليهم، والذين يبنون المساجد على القبور ويوقدون عليها القناديل والسرج، والمطففون في استيفاء ما لهم إذا أخذوه وهضم ما عليهم إذا بدلوه والجبارون، والمتكبرون، والمراءون، والهمازون والممارون والطاعنون على السلف، والذين يأتون الكهنة والمنجمين والعرافين فيسألونهم ويصدقونهم، وأعوان الظلمة الذين قد باعوا آخرتهم بدنيا غيرهم، والذي إذا خوفته باللّه وذكرته به لم يرعو ولم ينزجر، فإذا خوفته بمخلوق مثله خاف وارعوى وكف عما هو فيه، والذي يهدي بكلام اللّه ورسوله فلا يهتدي ولا يرفع به رأسا، فإذا بلغه عمن يحسن به الظن ممن يصيب ويخطئ عض عليه بالنواجذ ولم يخالفه، والذي يقرأ عليه القرآن فلا يؤثر فيه وربما استقل به، فإذا سمع قراءةالشيطان ورقية الزنا ومادة النفاق طاب سره وتواجد وهاج من قلبه دواعي الطرب، وود أن المغني لا يسكت، والذي يحلف باللّه ويكذب، فإذا حلف بالبندق أو برئ من شيخه أو قريبه أو سراويل الفتوة أو حياة من يحبه ويعظمه من المخلوقين لم يكذب ولو هدد وعوقب، والذي يفتخر بالمعصية ويتكثر بها بين إخوانه وأضرابه وهو المجاهر، والذي لا تأمنه على مالك وحرمتك، والفاحش اللسان البذيء الذي تركه الخلق اتقاء شره وفشله، والذي يؤخر الصلاة إلى آخر وقتها وينقرها ولا يذكر اللّه فيها إلا قليلا، ولا يؤدي زكاة ماله طيبة بها نفسه، ولا يحج مع قدرته على الحج، ولا يؤدي ما عليه من الحقوق مع قدرته عليها، ولا يتورع من لحظة ولا لفظة ولا أكلة ولا خطوة، ولا يبالي بما حصل المال من حلال أو حرام، ولا يصل رحمه، ولا يرحم المسكين ولا الأرملة ولا اليتيم ولا الحيوان البهيم، بل يدع اليتيم ولا يحض على طعام المسكين، ويرائي العاملين ويمنع الماعون ويشتغل بعيوب الناس عن عيبه وبذنوبهم عن ذنبه.
فكل هؤلاء وأمثالهم يعذبون في قبورهم بهذه الجرائم بحسب كثرتها وقلتها وصغيرها وكبيرها.
ولما كان أكثر الناس كذلك، كان أكثر أصحاب القبور معذبين، والفائز منهم قليل، فظواهر القبور تراب، وبواطنها حسرات، وعذاب ظواهرها بالتراب والحجارة المنقوشة مبنيات، وفي باطنها الدواهي والحيات، تغلي بالحسرات كما تغلي القدور بما فيها ويحق لها وقد حيل بينها وبين شهواتها وأمانيها، تاللّه لقد وعظت فما تركت لواعظ مقالا، ونادت يا عمار الدنيا لقد عمرتم دارا موشكة بكم زوالا، وخربتم دارا أنتم مسرعون إليها انتقالا، عمرتم بيوتا لغيركم منافعها وسكناها، وخربتم بيوتا ليس لكم مساكن سواها، هذه دار الاستباق ومستودع الأعمال وبذر الزرع، وهذه محل للعبر، فإما روضة رياض من رياض الجنة أو حفرة من حفر النار.
{"ayahs_start":6,"ayahs":["ٱلَّذِینَ هُمۡ یُرَاۤءُونَ","وَیَمۡنَعُونَ ٱلۡمَاعُونَ"],"ayah":"ٱلَّذِینَ هُمۡ یُرَاۤءُونَ"}
- أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.
أمّهات
جامع البيان
تفسير الطبري
نحو ٢٨ مجلدًا
تفسير القرآن العظيم
تفسير ابن كثير
نحو ١٩ مجلدًا
الجامع لأحكام القرآن
تفسير القرطبي
نحو ٢٤ مجلدًا
معالم التنزيل
تفسير البغوي
نحو ١١ مجلدًا
جمع الأقوال
منتقاة
عامّة
عامّة
فتح البيان
فتح البيان للقنوجي
نحو ١٢ مجلدًا
فتح القدير
فتح القدير للشوكاني
نحو ١١ مجلدًا
التسهيل لعلوم التنزيل
تفسير ابن جزي
نحو ٣ مجلدات
موسوعات
أخرى
لغة وبلاغة
معاصرة
الميسر
نحو مجلد
المختصر
المختصر في التفسير
نحو مجلد
تيسير الكريم الرحمن
تفسير السعدي
نحو ٤ مجلدات
أيسر التفاسير
نحو ٣ مجلدات
القرآن – تدبّر وعمل
القرآن – تدبر وعمل
نحو ٣ مجلدات
تفسير القرآن الكريم
تفسير ابن عثيمين
نحو ١٥ مجلدًا
مركَّزة العبارة
تفسير الجلالين
نحو مجلد
جامع البيان
جامع البيان للإيجي
نحو ٣ مجلدات
أنوار التنزيل
تفسير البيضاوي
نحو ٣ مجلدات
مدارك التنزيل
تفسير النسفي
نحو ٣ مجلدات
الوجيز
الوجيز للواحدي
نحو مجلد
تفسير القرآن العزيز
تفسير ابن أبي زمنين
نحو مجلدين
آثار
غريب ومعاني
السراج في بيان غريب القرآن
غريب القرآن للخضيري
نحو مجلد
الميسر في غريب القرآن الكريم
الميسر في الغريب
نحو مجلد
تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن قتيبة
نحو مجلد
التبيان في تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن الهائم
نحو مجلد
معاني القرآن وإعرابه
معاني الزجاج
نحو ٤ مجلدات
معاني القرآن
معاني القرآن للنحاس
نحو مجلدين
معاني القرآن
معاني القرآن للفراء
نحو مجلدين
مجاز القرآن
مجاز القرآن لمعمر بن المثنى
نحو مجلد
معاني القرآن
معاني القرآن للأخفش
نحو مجلد
أسباب النزول
إعراب ولغة
الإعراب الميسر
نحو ٣ مجلدات
إعراب القرآن
إعراب القرآن للدعاس
نحو ٤ مجلدات
الجدول في إعراب القرآن وصرفه وبيانه
الجدول في إعراب القرآن
نحو ٨ مجلدات
الدر المصون
الدر المصون للسمين الحلبي
نحو ١٠ مجلدات
اللباب
اللباب في علوم الكتاب
نحو ٢٤ مجلدًا
إعراب القرآن وبيانه
إعراب القرآن للدرويش
نحو ٩ مجلدات
المجتبى من مشكل إعراب القرآن
مجتبى مشكل إعراب القرآن
نحو مجلد
إعراب القرآن
إعراب القرآن للنحاس
نحو ٣ مجلدات
تحليل كلمات القرآن
نحو ٩ مجلدات
الإعراب المرسوم
نحو ٣ مجلدات
المجمّع
بالرسم الجديد
بالرسم القديم
حفص عن عاصم
شُعْبة عن عاصم
قالون عن نافع
ورش عن نافع
البَزِّي عن ابن كثير
قُنبُل عن ابن كثير
الدُّوري عن أبي عمرو
السُّوسِي عن أبي عمرو
نستعليق