الباحث القرآني
وَقَدْ دارَتْ أقْوالُ السَّلَفِ عَلى أنَّ فَضْلَ اللَّهِ ورَحْمَتَهُ هي الإسْلامُ والسُّنَّةُ وعَلى حَسَبِ حَياةِ القَلْبِ يَكُونُ فَرَحُهُ بِهِما، وكُلَّما كانَ أرْسَخَ فِيهِما كانَ قَلْبُهُ أشَدَّ فَرَحًا حَتّى إنَّ القَلْبَ لَيَرْقُصُ فَرَحا إذا باشَرَ رُوحَ السُّنَّةِ أحْزَنَ ما يَكُونُ النّاسُ، وهو مُمْتَلِئٌ أمْنًا أخْوَفَ ما يَكُونُ النّاسُ.
فَإنَّ السُّنَّةَ حِصْنُ اللَّهِ الحَصِينُ الَّذِي مَن دَخَلَهُ كانَ مِنَ الآمِنِينَ. وبابُهُ الأعْظَمُ الَّذِي مَن دَخَلَهُ كانَ إلَيْهِ مِنَ الواصِلِينَ تَقُومُ بِأهْلِها وإنْ قَعَدَتْ بِهِمْ أعْمالُهم ويَسْعى نُورُها بَيْنَ أيْدِيهِمْ إذا طُفِئَتْ لِأهْلِ " البِدَعِ والنِّفاقِ أنْوارُهم "، وأهْلُ السُّنَّةِ: هُمُ المُبْيَضَّةُ وُجُوهُهم إذا اسْوَدَّتْ وُجُوهُ أهْلِ البِدْعَةِ، قالَ اللَّهُ تَعالى: ﴿يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وتَسْوَدُّ وُجُوهٌ﴾ [آل عمران: ١٠٦] الآيَةَ، قالَ ابْنُ عَبّاسٍ: تَبْيَضُّ وُجُوهُ أهْلِ السُّنَّةِ والِائْتِلافِ وتَسْوَدُّ وُجُوهُ أهْلِ البِدْعَةِ والتَّفَرُّقِ.
وَهِيَ الحَياةُ والنُّورُ " اللَّذانِ " بِهِما سَعادَةُ العَبْدِ وهُداهُ وفَوْزُهُ قالَ جَلَّ وعَلا: ﴿أوَمَن كانَ مَيْتًا فَأحْيَيْناهُ وجَعَلْنا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ في النّاسِ كَمَن مَثَلُهُ في الظُّلُماتِ لَيْسَ بِخارِجٍ مِنها. . .﴾ [الأنعام: ١٢٢].
فَصاحِبُ السُّنَّةِ: حَيُّ القَلْبِ، مُسْتَنِيرُ القَلْبِ، وصاحِبُ البِدْعَةِ: مَيِّتُ القَلْبِ مُظْلِمُهُ.
وَقَدْ ذَكَرَ اللَّهُ سُبْحانَهُ هَذَيْنِ الأصْلَيْنِ في كِتابِهِ في غَيْرِ مَوْضِعٍ وجَعَلَهُما صِفَةَ أهْلِ الإيمانِ وجَعَلَ ضِدَّهُما صِفَةَ مَن خَرَجَ عَنِ الإيمانِ، فَإنَّ القَلْبَ الحَيَّ المُسْتَنِيرَ هو الَّذِي عَقَلَ عَنِ اللَّهِ، وأذْعَنَ وفَهِمَ عَنْهُ، وانْقادَ لِتَوْحِيدِهِ، ومُتابَعَةِ ما بُعِثَ بِهِ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ. " والقَلْبُ المَيِّتُ المُظْلِمُ الَّذِي لَمْ يَعْقِلْ عَنِ اللَّهِ ولا انْقادَ لِما بُعِثَ بِهِ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ " ولِهَذا يَصِفُ سُبْحانَهُ هَذا الضَّرْبَ مِنَ النّاسِ بِأنَّهم أمْواتٌ غَيْرُ أحْياءٍ، وبِأنَّهم في الظُّلُماتِ لا يَخْرُجُونَ مِنها، ولِهَذا كانَتِ الظُّلْمَةُ مُسْتَوْلِيَةً عَلَيْهِمْ في جَمِيعِ جِهاتِهِمْ فَقُلُوبُهم مُظْلِمَةٌ تَرى الحَقَّ في صُورَةِ الباطِلِ، والباطِلَ في صُورَةِ الحَقِّ، وأعْمالُهم مُظْلِمَةٌ، وأقْوالُهم مُظْلِمَةٌ، وأحْوالُهم كُلُّها مُظْلِمَةٌ، وقُبُورُهم مُمْتَلِئَةٌ عَلَيْهِمْ ظُلْمَةً.
وَإذا قُسِمَتِ الأنْوارُ دُونَ الجِسْرِ لِلْعُبُورِ عَلَيْهِ بَقُوا في الظُّلُماتِ، ومُدْخَلُهم في النّارِ مُظْلِمٌ، وهَذِهِ الظُّلْمَةُ هي الَّتِي خُلِقَ فِيها الخَلْقُ أوَّلًا، فَمَن أرادَ اللَّهُ سُبْحانَهُ وتَعالى بِهِ السَّعادَةَ أخْرَجَهُ مِنها إلى النُّورِ، ومَن أرادَ بِهِ الشَّقاوَةَ تَرَكَهُ فِيها، كَما رَوى الإمامُ أحْمَدُ وابْنُ حِبّانَ في صَحِيحِهِ مِن حَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُما " عَنِ النَّبِيِّ ﷺ أنَّهُ قالَ: («إنَّ اللَّهَ خَلَقَ خَلْقَهُ في ظُلْمَةٍ ثُمَّ ألْقى عَلَيْهِمْ مِن نُورِهِ، فَمَن أصابَهُ مِن ذَلِكَ النُّورِ اهْتَدى ومَن أخْطَأهُ ضَلَّ، فَلِذَلِكَ أقُولُ جَفَّ القَلَمُ عَلى عِلْمِ اللَّهِ») "، وكانَ النَّبِيُّ ﷺ يَسْألُ اللَّهَ تَعالى أنْ يَجْعَلَ لَهُ نُورًا في قَلْبِهِ وسَمْعِهِ وبَصَرِهِ وشَعْرِهِ وبَشَرِهِ ولَحْمِهِ وعَظْمِهِ ودَمِهِ ومِن فَوْقِهِ ومِن تَحْتِهِ وعَنْ يَمِينِهِ وعَنْ شِمالِهِ وخَلْفَهُ وأمامَهُ وأنْ يَجْعَلَ ذاتَهُ نُورًا، فَطَلَبَ ﷺ النُّورَ لِذاتِهِ ولِأبْعاضِهِ ولِحَواسِّهِ الظّاهِرَةِ والباطِنَةِ ولِجِهاتِهِ السِّتِّ.
وَقالَ أُبَيُّ بْنُ كَعْبٍ " رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ": " المُؤْمِنُ مُدْخَلُهُ مِن نُورٍ، ومُخْرَجُهُ مِن نُورٍ، وقَوْلُهُ نُورٌ، وعَمَلُهُ نُورٌ. . " وهَذا النُّورُ بِحَسَبِ قُوَّتِهِ وضَعْفِهِ يَظْهَرُ لِصاحِبِهِ يَوْمَ القِيامَةِ فَيَسْعى بَيْنَ يَدَيْهِ ويَمِينِهِ. فَمِنَ النّاسِ مَن يَكُونُ نُورُهُ كالشَّمْسِ، وآخَرُ كالنَّجْمِ، وآخَرُ كالنَّخْلَةِ السَّحُوقِ، وآخَرُ دُونَ ذَلِكَ حَتّى " إنَّ " مِنهم مَن يُعْطى نُورًا عَلى رَأْسِ إبْهامِ قَدَمِهِ يُضِيءُ مَرَّةً ويُطْفِئُ أُخْرى، كَما كانَ نُورُ إيمانِهِ ومُتابَعَتِهِ في الدُّنْيا كَذَلِكَ، فَهو هَذا بِعَيْنِهِ يَظْهَرُ هُناكَ لِلْحِسِّ والعِيانِ.
* (فصل)
وَقد تنوعت عِبارات السّلف في تَفْسِير الفضل والرَّحْمَة والصَّحِيح أنَّهُما الهدى والنعْمَة ففضله هداه ورَحمته نعْمَته ولذَلِك يقرن بَين الهدى والنعْمَة كَقَوْلِه في سُورَة الفاتِحَة ﴿اهْدِنا الصِّراطَ المُسْتَقِيمَ صِراطَ الَّذِينَ أنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ﴾ ومن ذَلِك قَوْله لنَبيه يذكرهُ بنعمه عَلَيْهِ ﴿ألَمْ يَجِدْكَ يَتِيمًا فَآوى ووَجَدَكَ ضالًا فَهَدى ووَجَدَكَ عائِلًا فَأغْنى﴾ فَجمع لَهُ بَين هدايته لَهُ وإنعامه عَلَيْهِ بإيوائه وإغنائه ومن ذَلِك قَول نوح ﴿يا قَوْمِ أرَأيْتُمْ إن كنت على بَيِّنَةٍ مِن رَبِّي وآتانِي رَحْمَةً مِن عِنْده﴾ وقَول شُعَيْب ﴿أرَأيْتُمْ إن كنت على بَيِّنَةٍ مِن رَبِّي ورَزَقَنِي مِنهُ رِزْقًا حَسَنا﴾ وقالَ عَن الخضر ﴿فَوَجَدا عَبْدًا مِن عِبادِنا آتَيْناهُ رَحْمَةً مِن عِنْدِنا وعَلَّمْناهُ مِن لَدُنّا علما﴾ وقالَ لرَسُوله ﴿إنّا فَتَحْنا لَكَ فتحا مُبينًا لغفر لَكَ اللَّهُ ما تَقَدَّمَ مِن ذَنْبِكَ وما تَأخَّرَ ويُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ ويَهْدِيَكَ صِراطًا مُسْتَقِيمًا ويَنْصُرَكَ اللَّهُ نَصْرًا عَزِيزًا﴾ وقالَ ﴿وَأنْزَلَ اللَّهُ عَلَيْكَ الكِتابَ والحِكْمَةَ وعَلَّمَكَ ما لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ وكانَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ عَظِيما﴾ ﴿وَقالَ {وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكم ورَحْمَتُهُ ما زَكى مِنكم أحد أبدا﴾ ففضله هدايته ورَحمته وإنعامه وإحسانه إلَيْهِم وبره بهم وقالَ ﴿فَإمّا يَأْتِيَنَّكم مِنِّي هُدىً فَمَنِ اتَّبَعَ هُدايَ فَلا يَضِلُّ ولا يشقى﴾ والهدى مَنعه من الضلال والرَّحْمَة مَنعه من الشَّقاء وهَذا هو الَّذِي ذكره في أوّل السُّورَة في قَوْله طه ﴿ما أنْزَلْنا عَلَيْكَ القُرْآن لتشقى﴾ فَجمع لَهُ بَين إنْزال القُرْآن عَلَيْهِ ونفي الشَّقاء عَنهُ كَما قالَ في آخرها في حق أتْباعه فَلا يَضِلُّ ولا يشقى فالهدى والفضل والنعْمَة والرحمة متلازمات لا يَنْفَكّ بَعْضها عَن بعض كَما أن الضلال والشقاء متلازمان لا يَنْفَكّ أحدهما عَن الآخر قالَ تَعالى ﴿إنَّ المُجْرِمِينَ في ضلال وسعر﴾
والسعر جمع سعير وهو العَذاب الَّذِي هو غايَة الشَّقاء وقالَ تَعالى ﴿وَلَقَدْ ذَرَأْنا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِنَ الجِنِّ والأِنْسِ لَهم قُلُوبٌ لا يَفْقَهُونَ بِها ولَهم أعْيُنٌ لا يُبْصِرُونَ بِها ولَهم آذانٌ لا يَسْمَعُونَ بِها أُولَئِكَ كالأنْعامِ بَلْ هم أضَلُّ أُولَئِكَ هم الغافلون﴾ وقالَ تَعالى عَنْهُم ﴿وَقالُوا لَوْ كُنّا نَسْمَعُ أوْ نَعْقِلُ ما كُنّا في أصْحاب السعير﴾ ومن هَذا أنه سُبْحانَهُ يجمع بَين الهدى وانشراح الصَّدْر والحياة الطيّبة وبَين الضلال وضيق الصَّدْر والمعيشة والضنك قالَ تَعالى ﴿فَمَن يُرِدِ اللَّهُ أنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلإسْلامِ ومَن يُرِدْ أنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ لَهُ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا﴾ وقالَ ﴿أفَمَن شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلْإسْلامِ فَهو عَلى نُورٍ من ربه﴾ وكَذَلِكَ يجمع بَين الهدى والإنابة وبَين الضلال وقسوة القلب قالَ تَعالى ﴿اللَّهُ يَجْتَبِي إلَيْهِ مَن يَشاءُ ويَهْدِي إلَيْهِ مَن يُنِيبُ﴾ وقالَ تَعالى ﴿فَوَيْلٌ لِلْقاسِيَةِ قُلُوبُهم مِن ذِكْرِ اللَّهِ أُولَئِكَ في ضَلالٍ مُبِينٍ﴾.
* (فائدة)
والهدى والرَّحْمَة وتوابعها من الفضل والإنعام كُله من صفة العَطاء والإضلال، والعَذاب وتوابعها من صفة المَنع وهو سُبْحانَهُ يصرف خلقه بَين عطائه ومنعه وذَلِكَ كُله صادر عَن حِكْمَة بالِغَة وملك تامّ وحمد تامّ فَلا إلَه إلّا الله.
* (فصل)
وليس المقصود بالعبادات والأوامر المشقة والكلفة بالقصد الأول، وإن وقع ذلك ضمنا وتبعا في بعضها، لأسباب اقتضته لابد منها، هي من لوازم هذه النشأة.
فأوامره سبحانه، وحقه الذي أوجبه على عباده، وشرائعه التي شرعها لهم هي قرة العيون ولذة القلوب، ونعيم الأرواح وسرورها، وبها شفاؤها وسعادتها وفلاحها، وكمالها في معاشها ومعادها، بل لا سرور لها ولا فرح ولا لذة ولا نعيم في الحقيقة إلا بذلك، كما قال تعالى: ﴿يا أيُّها النّاسُ قَدْ جاءَتْكم مَوْعِظَةٌ مِن رَبِّكم وشِفاءٌ لمِا في الصُّدُورِ وهُدًى ورَحمةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ قُلْ بِفضْلِ اللهِ وبِرحمتِه فَبِذلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هو خَيٌر مِمّا يجمعُونَ﴾ [يونس: ٥٧-٥٨].
قال أبو سعيد الخدري "فضل الله: القرآن، ورحمته: أن جعلكم من أهله" وقال هلال بن يساف "بالإسلام الذي هداكم إليه. وبالقرآن الذي علمكم إياه، هو خير مما تجمعون: من الذهب والفضة" وكذلك قال ابن عباس والحسن وقتادة "فضله: الإسلام، ورحمته: القرآن" وقالت طائفة من السلف "فضله: القرآن، ورحمته: الإسلام".
والتحقيق: أن كلا منهما فيه الوصفان، الفضل والرحمة، وهما الأمران اللذان امتن الله بهما على رسوله عليه الصلاة والسلام فقال:
﴿وَكَذلِكَ أوْحَيْنا إلَيْكَ رُوحًا مِن أمْرِنا ما كُنْتَ تَدْرِي ما الكِتابُ ولا الإيمانُ﴾ [الشورى: ٥٢].
والله سبحانه إنما رفع من رفع بالكتاب والإيمان. ووضع من وضع بعدمهما.
* (فصل)
قال ابن عباس وقتادة ومجاهد والحسن وغيرهم: ورحمته القرآن، فجعلوا رحمته أخص من فضله. فإن فضله الخاص على أهل الإسلام، ورحمته بتعليم كتابه لبعضهم دون بعض. فجعلهم مسلمين بفضله، وأنزل إليهم كتابه برحمته. قال تعالى: ﴿وَما كُنْتَ تَرْجُو أنْ يُلْقى إلَيْكَ الكِتابُ إلّا رَحْمَةً مِن رَبِّكَ﴾
وقال أبو سعيد الخدري «فضل الله القرآن، ورحمته أن جعلنا من أهله».
قلت: يريد بذلك أن هاهنا أمرين:
أحدهما: الفضل في نفسه. والثاني: استعداد المحل لقبوله، كالغيث يقع على الأرض القليلة النبات فيتم المقصود بالفضل وقبول المحل له. والله أعلم.
وقد جاء الفرح في القرآن على نوعين: مطلق، ومقيد. فالمطلق:
جاء في الذم كقوله: ﴿لا تَفْرَحْ إنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الفَرِحِينَ﴾ وقوله ﴿إنَّهُ لَفَرِحٌ فَخُورٌ﴾
والمقيد نوعان أيضا: مقيد بالدنيا، ينسي صاحبه فضل الله ومنته، فهو مذموم. كقوله ﴿حَتّى إذا فَرِحُوا بِما أُوتُوا أخَذْناهم بَغْتَةً فَإذا هم مُبْلِسُونَ﴾
والثاني: مقيد بفضل الله وبرحمته، وهو نوعان أيضا: فضل ورحمة بالسبب وفضل ورحمة بالمسبب.
فالأول: كقوله: ﴿قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وبِرَحْمَتِهِ فَبِذلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هو خَيْرٌ مِمّا يَجْمَعُونَ﴾.
والثاني: كقوله ﴿فَرِحِينَ بِما آتاهُمُ اللَّهُ مِن فَضْلِهِ﴾ فالفرح بالله ورسوله وبالإيمان والسنة وبالعلم والقرآن من علامات العارفين. قال الله تعالى: ﴿وَإذا ما أُنْزِلَتْ سُورَةٌ فَمِنهم مَن يَقُولُ أيُّكم زادَتْهُ هذِهِ إيمانًا فَأمّا الَّذِينَ آمَنُوا فَزادَتْهم إيمانًا وهم يَسْتَبْشِرُونَ﴾
وقال ﴿والَّذِينَ آتَيْناهُمُ الكِتابَ يَفْرَحُونَ بِما أُنْزِلَ إلَيْكَ﴾ فالفرح بالعلم والإيمان والسنة دليل على تعظيمه عند صاحبه ومحبته له. وإيثاره له على غيره. فإن فرح العبد بالشيء عند حصوله على قدر محبته له ورغبته فيه. فمن ليس له رغبة في الشيء لا يفرحه حصوله، ولا يحزنه فواته. فالفرح تابع للمحبة والرغبة. فالفرق بينه وبين الاستبشار: أن الفرح بالمحبوب بعد حصوله، والاستبشار يكون به قبل حصوله إذا كان على ثقة من حصوله ولهذا قال تعالى: ﴿فَرِحِينَ بِما آتاهُمُ اللَّهُ مِن فَضْلِهِ ويَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ مِن خَلْفِهِمْ﴾.
والفرح صفة كمال. ولهذا يوصف الرب تعالى بأعلى أنواعه وأكملها، كفرحه بتوبة التائب أعظم من فرح الواحد براحلته التي عليها طعامه وشرابه في الأرض المهلكة بعد فقده لها والناس من حصولها.
والمقصود: أن الفرح على أنواع: نعيم القلب ولذته، وبهجته، والفرح والسرور: نعيمه. والهم والحزن: عذابه. والفرح بالشيء فوق الرضى به، فإن الرضى طمأنينته وسكونه وانشراحه. والفرح لذته وبهجته وسروره. فكل فرح راض. وليس كل راض فرح. ولهذا كان الفرح ضد الحزن، والرضى ضد السخط، والحزن يؤلم صاحبه. والسخط لا يؤلمه، إلا إن كان مع العجز عن الانتقام. والله أعلم.
(فائِدَة جليلة)
لا يزال مُنْقَطِعًا عَن الله حَتّى تتصل إرادَته ومحبته بِوَجْه الأعْلى، والمراد بِهَذا الِاتِّصال أن تُفْضِي المحبَّة إلَيْهِ وتتعلق بِهِ وحده فَلا يحجبها شَيْء دونه وأن تتصل المعرفَة بأسمائه وصِفاته وأفعاله فَلا يطمس نورها ظلمَة التعطيل كَما لا يطمس نور المحبَّة ظلمَة الشّرك وأن يتَّصل ذكره بِهِ سُبْحانَهُ فيزول بَين الذاكر والمَذْكُور حجاب الغَفْلَة والتفاته في حال الذّكر إلى غير مذكوره فَحِينَئِذٍ يتَّصل الذّكر بِهِ ويتصل العَمَل بأوامره ونواهيه فيفعل الطّاعَة لا أنه أمر بها وأحبها ويتْرك المناهي لكَونه نهى عَنْها وأبغضها فَهَذا معنى اتِّصال العَمَل بأمْره ونَهْيه وحَقِيقَة زَوال العِلَل الباعثة على الفِعْل والتّرْك من الأغْراض والحظوظ العاجلة ويتصل التَّوَكُّل والحب بِهِ بِحَيْثُ يصير واثقا بِهِ سُبْحانَهُ مطمئنا إلَيْهِ راضِيا بِحسن تَدْبيره لَهُ غير مُتَّهم لَهُ في حال من الأحْوال ويتصل فقره وفاقته بِهِ سُبْحانَهُ دون سواهُ ويتصل خَوفه ورجاؤه وفرحه وسروره وابتهاجه بِهِ وحده فَلا يخاف غَيره ولا يرجوه ولا يفرح بِهِ كل الفَرح ولا يسر بِهِ غايَة السرُور وإن ناله بالمخلوق بعض الفَرح والسُّرُور فَلَيْسَ الفَرح التّام والسُّرُور الكامِل والابتهاج والنَّعِيم وقرة العين وسُكُون القلب إلّا بِهِ سُبْحانَهُ وما سواهُ إن أعان على هَذا المَطْلُوب فَرح بِهِ وسر بِهِ وإن حجب عَنهُ فَهو بالحزن بِهِ والوحشة مِنهُ واضطراب القلب بحصوله أحَق مِنهُ بِأن يفرح بِهِ فَلا فرحة ولا سرُور إلّا بِهِ أو بِما أوصل إلَيْهِ وأعان على مرضاته وقد أخبر سُبْحانَهُ أنه لا يحب الفرحين بالدنيا وزينتها وأمر بالفرح بفضله ورَحمته وهو الإسْلام والإيمان والقُرْآن كَما فسره الصَّحابَة والتابعون والمَقْصُود أن من اتَّصَلت لَهُ هَذِه الأُمُور بِالله سُبْحانَهُ فقد وصل وإلّا فَهو مَقْطُوع عَن ربه مُتَّصِل بحظه ونَفسه ملبس عَلَيْهِ في مَعْرفَته وإرادته وسلوكه.
* (فصل)
والرحمة المقارنة للهدى في حق المؤمنين عاجلة وآجلة.
فأما العاجلة فما يعطيهم الله تعالى في الدنيا من محبة الخير والبر، وذوق طعم الإيمان، ووجد حلاوته، والفرح والسرور بأن هداهم الله تعالى لما أضل عنه غيرهم، ولما اختلف فيه من الحق، فهم يتقلبون في نور هداه، ويمشون به في الناس، ويرون غيرهم متحيرا في الظلمات، فهم أشد الناس فرحا بما آتاهم ربهم من الهدى، قال تعالى: ﴿قلْ بِفَضْل اللهِ وبِرَحْمَتِهِ فَبِذلكَ فَلْيَفْرَحُوا هو خَيْرٌ مَّمِا يَجْمَعُونَ﴾ [يونس: ٥٨].
فأمر سبحانه عباده المؤمنين المهتدين أن يفرحوا بفضله ورحمته.
وقد دارت عبارات السلف على أن الفضل والرحمة هو العلم والإيمان والقرآن، واتباع الرسول، وهذا من أعظم الرحمة التي يرحم الله بها من يشاء من عباده، فإن الأمن والعافية والسرور، ولذة القلب ونعيمه وبهجته، وطمأنينته: مع الإيمان والهدى إلى طريق الفلاح والسعادة، والخوف، ولهم، والغم، والبلاء، والألم، والقلق: مع الضلال والحيرة.
ومثل هذا بمسافرين أحدهما قد اهتدى لطريق مقصده، فسار آمنا مطمئنا، والآخر قد ضل الطريق فلم يدر أين يتوجه؟ كما قال تعالى: ﴿قلْ أنَدْعُو مِن دُونِ اللهِ ما لا يَنْفَعُنا ولا يَضُرُّنا ونُرَدُّ عَلى أعْقابِنا بَعْدَ إذْ هَدانا اللهُ كالّذِي اسْتهْوَتْهُ الشّياطِينُ في الأرْضِ حَيْرانَ لَهُ أصْحابٌ يَدْعُونَهُ إلى الهُدى ائْتِنا قُلْ إنّ هُدى الله هو الُهدى﴾ [الأنعام: ٧١].
فالرحمة التي تحصل لمن حصل له الهدى، هي بحسب هداه، فكلما كان نصيبه من الهدى أتم كان حظه من الرحمة أوفر، وهذه هي الرحمة الخاصة بعباده المؤمنين، وهي غير الرحمة العامة بالبر والفاجر.
وقد جمع الله سبحانه لأهل هدايته بين الهدى والرحمة والصلاة عليهم، فقال تعالى: ﴿أُولِئكَ عَلَيْهِمْ صَلَواتٌ مِن رَبِّهِمْ ورَحَمةٌ وأُولئِكَ هم المُهْتَدُونَ﴾ [البقرة: ١٥٧].
قال عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه "نعم العدلان، ونعمت العلاوة" فبالهدى خلصوا من الضلال، وبالرحمة نجوا من الشقاء والعذاب، وبالصلاة عليهم نالوا منزلة القرب والكرامة. والضالون حصل لهم ضد هذه الثلاثة: الضلال عن طريق السعادة، والوقوع في ضد الرحمة من الألم والعذاب، والذم واللعن، الذي هو ضد الصلاة.
ولما كان نصيب كل عبد من الرحمة على قدر نصيبه من الهدى كان أكمل المؤمنين إيمانا أعظمهم رحمة، كما قال تعالى في أصحاب رسوله ﷺ: ﴿مُحَمَّدٌ رَسُولُ الله والَّذِينَ مَعَهُ أشِدّاءُ على الكُفّارِ رُحَماء بَيْنَهُمْ﴾ [الفتح: ٢٩].
وكان الصديق رضي الله تعالى عنه من أرحم الأمة، وقد روى عن النبي صلى الله تعالى عليه وآله وسلم أنه قال: "أرحم أمتى بأمتى أبو بكر" رواه الترمذي، وكان أعلم الصحابة باتفاق الصحابة، كما قال أبو سعيد الخدري رضي الله عنه "وكان أبو بكر رضي الله عنه أعلمنا به، يعني النبي صلى الله تعالى وآله وسلم" فجمع الله له بين سعة العلم والرحمة.
وهكذا الرجل كلما اتسع علمه اتسعت رحمته، وقد وسع ربنا كل شيء رحمة وعلما. فوسعت رحمته كل شيء، وأحاط بكل شيء علما، فهو أرحم بعباده من الوالدة بولدها، بل هو أرحم بالعبد من نفسه، كما هو أعلم بمصلحة العبد من نفسه، والعبد لجهله بمصالح نفسه وظلمه لها يسعى فيما يضرها ويؤلمها، وينقص حظها من كرامته وثوابه، ويبعدها من قربه، وهو يظن أنه ينفعها ويكرمها، وهذا غاية الجهل والظلم والإنسان ظلوم جهول، فكم من مكرم لنفسه بزعمه، وهو لها مهين، ومرفه لها، وهو لها متعب، ومعطيها بعض غرضها ولذتها، وقد حال بينها وبين جميع لذاتها، فلا علم له بمصالحها التي هي مصالحها، ولا رحمة عنده لها، فما يبلغ عدوه منه ما يبلغ هو من نفسه. فقد بخسها حظها، وأضاع حقها، وعطل مصالحها، وباع نعيمها الباقى، ولذتها الدائمة الكاملة، بلذة فانية مشوبة بالتنغيص، إنما هي كأضغاث أحلام أو كطيف زار في المنام، وليس هذا بعجيب من شأنه، وقد فقد نصيبه من الهدى والرحمة. فلو هدى ورحم لكان شأنه غير هذا الشأن، ولكن الرب تعالى أعلم بالمحل الذي يصلح للهدى والرحمة. فهو الذي يؤتيها العبد. كما قال عن عبده الخضر: ﴿فَوَجَدا عَبْدًا مِن عِبادِنا آتَيْناهُ رَحْمَةً مِن عِنْدِنا وعَلمْناهُ مِن لَدُنّا عِلمًْا﴾ [الكهف: ٦٥]، ﴿رَبنا آتِنا مِن لَدُنْكَ رَحْمَةً وهِّيئْ لَنا مِن أمْرِنا رَشَدًا﴾ [الكهف: ١٠].
ومما ينبغي أن يعلم: أن الرحمة صفة تقتضي إيصال المنافع والمصالح إلى العبد، وإن كرهتها نفسه، وشقت عليها. فهذه هي الرحمة الحقيقية فأرحم الناس بك من شق عليك في إيصال مصالحك، ودفع المضار عنك.
فمن رحمة الأب بولده: أن يكرهه على التأدب بالعلم والعمل، ويشق عليه في ذلك بالضرب وغيره، ويمنعه شهواته التي تعود بضرره، ومتى أهمل من ولده كان لقلة رحمته به، وإن ظن أنه يرحمه [ويرفّهُهُ] ويريحه. فهذه رحمة مقرونة بجهل، كرحمة الأم.
ولهذا كان من إتمام رحمة أرحم الراحمين: تسليط أنواع البلاء على العبد، فإنه أعلم بمصلحته، فابتلاؤه له وامتحانه ومنعه من كثير من أعراضه وشهواته: من رحمته به ولكن العبد لجهله وظلمه يتهم ربه بابتلائه، ولا يعلم إحسانه إليه بابتلائه وامتحانه.
* (فائدة)
اعْلَمْ أنَّ العَبْدَ إذا لاحَظَ ما هو فِيهِ مِنَ الألْطافِ، وشَهِدَهُ مِن عَيْنِ المِنَّةِ، ومَحْضِ الجُودِ: شَهِدَ مَعَ ذَلِكَ فَقْرَهُ إلَيْهِ في كُلِّ لَحْظَةٍ، وعَدَمَ اسْتِغْنائِهِ عَنْهُ طَرْفَةَ عَيْنٍ. فَكانَ ذَلِكَ مِن أعْظَمِ أبْوابِ الشُّكْرِ، وأسْبابِ المَزِيدِ، وتَوالِي النِّعَمِ عَلَيْهِ.
وَكُلَّما تَوالَتْ عَلَيْهِ النِّعَمُ: أنْشَأتْ في قَلْبِهِ سَحائِبَ السُّرُورِ. وإذا انْبَسَطَتْ هَذِهِ السَّحائِبُ في سَماءِ قَلْبِهِ، وامْتَلَأ بِها أُفُقُهُ: أمْطَرَتْ عَلَيْهِ وابِلَ الطَّرَبِ بِما هو فِيهِ مِن لَذِيذِ السُّرُورِ. فَإنْ لَمْ يُصِبْهُ وابِلٌ فَطَلٌّ. وحِينَئِذٍ يَجْرِي عَلى لِسانِهِ وظاهِرِهِ نَهْرُ الِافْتِخارِ مِن غَيْرِ عُجْبٍ ولا فَخْرٍ، بَلْ فَرَحًا بِفَضْلِ اللَّهِ ورَحْمَتِهِ، كَما قالَ تَعالى ﴿قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا﴾ [يونس: ٥٨] فالِافْتِخارُ عَلى ظاهِرِهِ، والِافْتِقارُ والِانْكِسارُ في باطِنِهِ، ولا يُنافِي أحَدُهُما الآخَرَ.
وَتَأمَّلْ قَوْلَ النَّبِيِّ ﷺ «أنا سَيِّدُ ولَدِ آدَمَ ولا فَخْرَ» فَكَيْفَ أخْبَرَ بِفَضْلِ اللَّهِ ومِنَّتِهِ عَلَيْهِ. وأخْبَرَ أنَّ ذَلِكَ لَمْ يَصْدُرْ مِنهُ افْتِخارًا بِهِ عَلى مَن دُونَهُ، ولَكِنْ إظْهارًا لِنِعْمَةِ اللَّهِ عَلَيْهِ، وإعْلامًا لِلْأُمَّةِ بِقَدْرِ إمامِهِمْ ومَتْبُوعِهِمْ عِنْدَ اللَّهِ، وعُلُوِّ مَنزِلَتِهِ لَدَيْهِ. لِتَعْرِفَ الأُمَّةُ نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْهِ وعَلَيْهِمْ.
وَيُشْبِهُ هَذا قَوْلَ يُوسُفَ الصِّدِّيقِ لِلْعَزِيزِ ﴿اجْعَلْنِي عَلى خَزائِنِ الأرْضِ إنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ﴾ [يوسف: ٥٥] فَإخْبارُهُ عَنْ نَفْسِهِ بِذَلِكَ، لَمّا كانَ مُتَضَمِّنًا لِمَصْلَحَةٍ تَعُودُ عَلى العَزِيزِ وعَلى الأُمَّةِ، وعَلى نَفْسِهِ: كانَ حَسَنًا. إذْ لَمْ يَقْصِدْ بِهِ الفَخْرَ عَلَيْهِمْ، فَمَصْدَرُ الكَلِمَةِ والحامِلُ عَلَيْها يُحَسِّنُها ويُهَجِّنُها. وصُورَتُهُ واحِدَةٌ.
(فائدة أخرى)
الفرح بفضله ورحمته تبع للفرح به سبحانه.
فالمؤمن يفرح بربه أعظم من فرح كل أحد بما يفرح به: من حبيب أو حياة، أو مال، أو نعمة، أو ملك. يفرح المؤمن بربه أعظم من هذا كله، ولا ينال القلب حقيقة الحياة حتى يجد طعم هذه الفرحة والبهجة، فيظهر سرورها في قلبه ومضرتها في وجهه، فيصير له حال من حال أهل الجنة حيث لقّاهم الله نضرة وسرورًا.
فلمثل هذا فليعمل العاملون، وفي ذلك فليتنافس المتنافسون، فهذا هو العلم الذي شمر إليه أولو الهمم والعزائم، واستبق إليه أصحاب الخصائص والمكارم.
؎تلك المكارم لا قعبانِ من لبن ∗∗∗ شيبًا بماءٍ فماذا بعد أبوالا
* (فَصْلٌ)
قَوْلُهُ: ويُنْبِتُ السُّرُورَ، إلّا ما يَشُوبُهُ مِن حَذَرِ المَكْرِ.
يَعْنِي: أنَّ هَذا اللَّحْظَ مِنَ العَبْدِ يُنْبِتُ لَهُ السُّرُورَ، إذا عَلِمَ أنَّ فَضْلَ رَبِّهِ قَدْ سَبَقَ لَهُ بِذَلِكَ قَبْلَ أنْ يَخْلُقَهُ، مَعَ عِلْمِهِ بِهِ وبِأحْوالِهِ وتَقْصِيرِهِ، عَلى التَّفْصِيلِ. ولَمْ يَمْنَعْهُ عِلْمُهُ بِهِ: أنْ يُقَدِّرَ لَهُ ذَلِكَ الفَضْلَ والإحْسانَ. فَهو أعْلَمُ بِهِ إذْ أنْشَأهُ مِنَ الأرْضِ، وإذْ هو جَنِينٌ في بَطْنِ أُمِّهِ. ومَعَ ذَلِكَ فَقَدَّرَ لَهُ مِنَ الفَضْلِ والجُودِ ما قَدَّرَهُ بِدُونِ سَبَبٍ مِنهُ. بَلْ مَعَ عِلْمِهِ بِأنَّهُ يَأْتِي مِنَ الأسْبابِ ما يَقْتَضِي قَطْعَ ذَلِكَ ومَنعَهُ عَنْهُ.
فَإذا شاهَدَ العَبْدُ ذَلِكَ: اشْتَدَّ سُرُورُهُ بِرَبِّهِ، وبِمَواقِعِ فَضْلِهِ وإحْسانِهِ. وهَذا فَرَحٌ مَحْمُودٌ غَيْرُ مَذْمُومٍ. قالَ اللَّهُ تَعالى ﴿قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هو خَيْرٌ مِمّا يَجْمَعُونَ﴾ [يونس: ٥٨]
فَفَضْلُهُ: الإسْلامُ والإيمانُ، ورَحْمَتُهُ: العِلْمُ والقُرْآنُ. وهو يُحِبُّ مِن عَبْدِهِ: أنْ يَفْرَحَ بِذَلِكَ ويُسَرَّ بِهِ. بَلْ يُحِبُّ مِن عَبْدِهِ: أنْ يَفْرَحَ بِالحَسَنَةِ إذا عَمِلَها وأنَّ يُسَرَّ بِها. وهو في الحَقِيقَةِ فَرَحٌ بِفَضْلِ اللَّهِ، حَيْثُ وفَّقَهُ اللَّهُ لَها، وأعانَهُ عَلَيْها ويَسَّرَها لَهُ. فَفي الحَقِيقَةِ: إنَّما يَفْرَحُ العَبْدُ بِفَضْلِ اللَّهِ وبِرَحْمَتِهِ.
وَمِن أعْظَمِ مَقاماتِ الإيمانِ: الفَرَحُ بِاللَّهِ، والسُّرُورُ بِهِ. فَيَفْرَحُ بِهِ إذْ هو عَبْدُهُ ومُحِبُّهُ. ويَفْرَحُ بِهِ سُبْحانَهُ رَبًّا وإلَهًا، ومُنْعِمًا ومُرَبِّيًا، أشَدَّ مِن فَرَحِ العَبْدِ بِسَيِّدِهِ المَخْلُوقِ المُشْفِقِ عَلَيْهِ، القادِرِ عَلى ما يُرِيدُهُ العَبْدُ ويَطْلُبُهُ مِنهُ. المُتَنَوِّعُ في الإحْسانِ إلَيْهِ، والذَّبِّ عَنْهُ.
قَوْلُهُ " إلّا ما يَشُوبُهُ مِن حَذَرِ المَكْرِ " أيْ يُمازِجُهُ. فَإنَّ السُّرُورَ والفَرَحَ يَبْسُطُ النَّفْسَ ويُنَمِّيها. ويُنْسِيها عُيُوبَها وآفاتِها ونَقائِصَها. إذْ لَوْ شَهِدَتْ ذَلِكَ وأبْصَرَتْهُ لَشَغَلَها ذَلِكَ عَنِ الفَرَحِ.
وَأيْضًا فَإنَّ الفَرَحَ بِالنِّعْمَةِ قَدْ يُنْسِيهِ المُنْعِمَ. فَيَشْتَغِلُ بِالخِلْعَةِ الَّتِي خَلَعَها عَلَيْهِ عَنْهُ. فَيَطْفَحُ عَلَيْهِ السُّرُورُ، حَتّى يَغِيبَ بِنِعْمَتِهِ عَنْهُ. وهُنا يَكُونُ المَكْرُ إلَيْهِ أقْرَبَ مِنَ اليَدِ لِلْفَمِ.
وَلِلَّهِ كَمْ هاهُنا مِن مُسْتَرِدٍّ مِنهُ ما وهَبَ لَهُ عَزَّةً وحِكْمَةً! ورُبَّما كانَ ذَلِكَ رَحْمَةً بِهِ. إذْ لَوِ اسْتَمَرَّ عَلى تِلْكَ الوِلايَةِ لَخِيفَ عَلَيْهِ مِنَ الطُّغْيانِ. كَما قالَ تَعالى ﴿كَلّا إنَّ الإنْسانَ لَيَطْغى - أنْ رَآهُ اسْتَغْنى﴾ [العلق: ٦-٧] فَإذا كانَ هَذا غِنًى بِالحُطامِ الفانِي، فَكَيْفَ بِالغِنى بِما هو أعْلى مِن ذَلِكَ وأكْثَرُ؟ فَصاحِبُ هَذا إنْ لَمْ يَصْحَبْهُ حَذَرُ المَكْرِ: خِيفَ عَلَيْهِ أنْ يُسْلَبَهُ ويَنْحَطَّ عَنْهُ.
و" المَكْرُ " الَّذِي يُخافُ عَلَيْهِ مِنهُ: أنْ يُغَيِّبَ اللَّهُ سُبْحانَهُ عَنْهُ شُهُودَ أوَّلِيَّتِهِ في ذَلِكَ ومِنَّتِهِ وفَضْلِهِ، وأنَّهُ مَحْضُ مِنَّتِهِ عَلَيْهِ، وأنَّهُ بِهِ وحْدَهُ، ومِنهُ وحْدَهُ. فَيَغِيبُ عَنْ شُهُودِ حَقِيقَةِ قَوْلِهِ تَعالى ﴿وَما بِكم مِن نِعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ﴾ [النحل: ٥٣] وقَوْلِهِ ﴿قُلْ إنَّ الأمْرَ كُلَّهُ لِلَّهِ﴾ [آل عمران: ١٥٤] وقَوْلِهِ ﴿وَإنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلا كاشِفَ لَهُ إلّا هو وإنْ يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلا رادَّ لِفَضْلِهِ يُصِيبُ بِهِ مَن يَشاءُ مِن عِبادِهِ وهو الغَفُورُ الرَّحِيمُ﴾ [يونس: ١٠٧]
وَقَوْلِهِ ﴿وَما كُنْتَ تَرْجُو أنْ يُلْقى إلَيْكَ الكِتابُ إلّا رَحْمَةً مِن رَبِّكَ﴾ [القصص: ٨٦] وقَوْلِهِ ﴿وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكم ورَحْمَتُهُ ما زَكا مِنكم مِن أحَدٍ أبَدًا ولَكِنَّ اللَّهَ يُزَكِّي مَن يَشاءُ﴾ [النور: ٢١] وأمْثالِ ذَلِكَ.
فَيُغَيِّبُهُ عَنْ شُهُودِ ذَلِكَ. ويُحِيلُهُ عَلى مَعْرِفَتِهِ في كَسْبِهِ وطَلَبِهِ. فَيُحِيلُهُ عَلى نَفْسِهِ الَّتِي لَها الفَقْرُ بِالذّاتِ، ويَحْجُبُهُ عَنِ الحِوالَةِ عَلى المَلِيءِ الوَفِيِّ الَّذِي لَهُ الغِنى التّامُّ كُلُّهُ بِالذّاتِ فَهَذا مِن أعْظَمِ أسْبابِ المَكْرِ. واللَّهُ المُسْتَعانُ.
وَلَوْ بَلَغَ العَبْدُ مِنَ الطّاعَةِ ما بَلَغَ، فَلا يَنْبَغِي لَهُ أنْ يُفارِقَهُ هَذا الحَذَرُ. وقَدْ خافَهُ خِيارُ خَلْقِهِ، وصَفْوَتِهِ مِن عِبادِهِ. قالَ شُعَيْبٌ ﷺ، وقَدْ قالَ لَهُ قَوْمُهُ ﴿لَنُخْرِجَنَّكَ ياشُعَيْبُ والَّذِينَ آمَنُوا مَعَكَ مِن قَرْيَتِنا أوْ لَتَعُودُنَّ في مِلَّتِنا قالَ أوَلَوْ كُنّا كارِهِينَ قَدِ افْتَرَيْنا عَلى اللَّهِ كَذِبًا إنْ عُدْنا في مِلَّتِكم بَعْدَ إذْ نَجّانا اللَّهُ مِنها﴾ [الأعراف: ٨٨] - إلى قَوْلِهِ - ﴿عَلى اللَّهِ تَوَكَّلْنا﴾ [الأعراف: ٨٩] فَرَدَّ الأمْرَ إلى مَشِيئَةِ اللَّهِ تَعالى وعِلْمِهِ، أدَبًا مَعَ اللَّهِ، ومَعْرِفَةً بِحَقِّ الرُّبُوبِيَّةِ، وُوُقُوفًا مَعَ حَدِّ العُبُودِيَّةِ. وكَذَلِكَ قالَ إبْراهِيمُ ﷺ لِقَوْمِهِ - وقَدْ خَوَّفُوهُ بِآلِهَتِهِمْ - فَقالَ ﴿وَلا أخافُ ما تُشْرِكُونَ بِهِ إلّا أنْ يَشاءَ رَبِّي شَيْئًا وسِعَ رَبِّي كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا﴾ [الأنعام: ٨٠] فَرَدَّ الأمْرَ إلى مَشِيئَةِ اللَّهِ وعِلْمِهِ. وقَدْ قالَ تَعالى ﴿أفَأمِنُوا مَكْرَ اللَّهِ فَلا يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ إلّا القَوْمُ الخاسِرُونَ﴾ [الأعراف: ٩٩].
* (موعظة)
إذا اسْتغنى النّاس بالدنيا فاستغن أنْت بِالله وإذا فرحوا بالدنيا فافرح أنْت بِالله وإذا أنسوا بأحبابهم فاجْعَلْ أنسك بِالله وإذا تعرفوا إلى مُلُوكهمْ وكبرائهم وتقربوا إلَيْهِم لينالوا بهم العِزَّة والرفعة فتعرف أنْت إلى الله وتودد إلَيْهِ تنَلْ بذلك غايَة العِزّ والرفعة قالَ بعض الزهاد ما علمت أن أحدا سمع بِالجنَّةِ والنّار تَأتي عَلَيْهِ ساعَة لا يُطِيع الله فِيها بذكرا وصَلاة أو قراة أو إحْسان فَقالَ لَهُ رجل إنِّي أكثر البكاء فَقالَ إنَّك إن تضحك وأنت مقرّ بخطيئتك خير من أن تبْكي وأنت مدل بعملك وإن المدل لا يصعد عمله فَوق رَأسه فَقالَ أوصني فَقالَ دع الدُّنْيا لأهْلها كَما تركوهم الآخِرَة لأهْلها وكن في الدُّنْيا كالنحلة إن أكلت أكلت طيبا وإن أطعمت أطعمت طيبا وإن سَقَطت على شَيْء لم تكسره ولم تخدشه.
* [فَصْلٌ مَنزِلَةُ السُّرُورِ]
قالَ صاحِبُ المَنازِلِ:
بابُ السُّرُورِ، قالَ اللَّهُ تَعالى ﴿قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هو خَيْرٌ مِمّا يَجْمَعُونَ﴾ [يونس: ٥٨].
تَصْدِيرُ البابِ بِهَذِهِ الآيَةِ في غايَةِ الحُسْنِ. فَإنَّ اللَّهَ تَعالى أمَرَ عِبادَهُ بِالفَرَحِ بِفَضْلِهِ ورَحْمَتِهِ. وذَلِكَ تَبَعٌ لِلْفَرَحِ والسُّرُورِ بِصاحِبِ الفَضْلِ والرَّحْمَةِ. فَإنَّ مَن فَرِحَ بِما يَصِلُ إلَيْهِ مِن جَوادٍ كَرِيمٍ، مُحْسِنٍ، بَرٍّ. يَكُونُ فَرَحُهُ بِمَن أوْصَلَ ذَلِكَ إلَيْهِ: أوْلى وأحْرى.
وَنَذْكُرُ ما في هَذِهِ الآيَةِ مِنَ المَعْنى. ثُمَّ نَشْرَحُ كَلامَ المُصَنِّفِ.
قالَ ابْنُ عَبّاسٍ، وقَتادَةُ، ومُجاهِدٌ، والحَسَنُ، وغَيْرُهُمْ: فَضْلُ اللَّهِ: الإسْلامُ. ورَحْمَتُهُ: القُرْآنُ. فَجَعَلُوا رَحْمَتَهُ أخَصَّ مِن فَضْلِهِ، فَإنَّ فَضْلَهُ الخاصَّ عامٌّ عَلى أهْلِ الإسْلامِ، ورَحْمَتَهُ بِتَعْلِيمِ كِتابِهِ لِبَعْضِهِمْ دُونَ بَعْضٍ. فَجَعَلَهم مُسْلِمِينَ بِفَضْلِهِ. وأنْزَلَ إلَيْهِمْ كِتابَهُ بِرَحْمَتِهِ. قالَ تَعالى ﴿وَما كُنْتَ تَرْجُو أنْ يُلْقى إلَيْكَ الكِتابُ إلّا رَحْمَةً مِن رَبِّكَ﴾ [القصص: ٨٦] وقالَ أبُو سَعِيدٍ الخُدْرِيُّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: فَضْلُ اللَّهِ: القُرْآنُ، ورَحْمَتُهُ: أنْ جَعَلَنا مِن أهْلِهِ.
قُلْتُ: يُرِيدُ بِذَلِكَ. أنَّ هاهُنا أمْرَيْنِ.
أحَدُهُما: الفَضْلُ في نَفْسِهِ. والثّانِي: اسْتِعْدادُ المَحَلِّ لِقَبُولِهِ، كالغَيْثِ يَقَعُ عَلى الأرْضِ القابِلَةِ لِلنَّباتِ. فَيَتِمُّ المَقْصُودُ بِالفَضْلِ، وقَبُولُ المَحَلِّ لَهُ. واللَّهُ أعْلَمُ.
والفَرَحُ لَذَّةٌ تَقَعُ في القَلْبِ بِإدْراكِ المَحْبُوبِ ونَيْلِ المُشْتَهى. فَيَتَوَلَّدُ مِن إدْراكِهِ حالَةٌ تُسَمّى الفَرَحَ والسُّرُورَ. كَما أنَّ الحُزْنَ والغَمَّ مِن فَقْدِ المَحْبُوبِ. فَإذا فَقَدَهُ: تَوَلَّدَ مِن فَقْدِهِ حالَةٌ تُسَمّى الحُزْنَ والغَمَّ. وذَكَرَ سُبْحانَهُ الأمْرَ بِالفَرَحِ بِفَضْلِهِ وبِرَحْمَتِهِ عَقِيبَ قَوْلِهِ: ﴿ياأيُّها النّاسُ قَدْ جاءَتْكم مَوْعِظَةٌ مِن رَبِّكم وشِفاءٌ لِما في الصُّدُورِ وهُدًى ورَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ﴾ [يونس: ٥٧]
وَلا شَيْءَ أحَقُّ أنْ يَفْرَحَ العَبْدُ بِهِ مِن فَضْلِ اللَّهِ ورَحْمَتِهِ، الَّتِي تَتَضَمَّنُ المَوْعِظَةَ وشِفاءَ الصُّدُورِ مِن أدْوائِها بِالهُدى والرَّحْمَةِ. فَأخْبَرَ سُبْحانَهُ: أنَّ ما آتى عِبادَهُ مِنَ المَوْعِظَةِ - الَّتِي هي الأمْرُ والنَّهْيُ، المَقْرُونُ بِالتَّرْغِيبِ والتَّرْهِيبِ، وشِفاءَ الصُّدُورِ المُتَضَمِّنَ لِعافِيَتِها مِن داءِ الجَهْلِ، والظُّلْمَةِ، والغَيِّ، والسَّفَهِ - وهو أشَدُّ ألَمًا لَها مِن أدْواءِ البَدَنِ، ولَكِنَّها لَمّا ألِفَتْ هَذِهِ الأدْواءَ لَمْ تُحِسَّ بِألَمِها. وإنَّما يَقْوى إحْساسُها بِها عِنْدَ المُفارَقَةِ لِلدُّنْيا. فَهُناكَ يَحْضُرُها كُلُّ مُؤْلِمٍ مُحْزِنٍ. وما آتاها مِن رَبِّها الهُدى الَّذِي يَتَضَمَّنُ ثَلْجَ الصُّدُورِ بِاليَقِينِ، وطُمَأْنِينَةَ القَلْبِ بِهِ، وسُكُونَ النَّفْسِ إلَيْهِ، وحَياةَ الرُّوحِ بِهِ. والرَّحْمَةَ الَّتِي تَجْلِبُ لَها كُلَّ خَيْرٍ ولَذَّةٍ. وتَدْفَعُ عَنْها كُلَّ شَرٍّ ومُؤْلِمٍ.
فَذَلِكَ خَيْرٌ مِن كُلِّ ما يَجْمَعُ النّاسُ مِن أعْراضِ الدُّنْيا وزِينَتِها. أيْ هَذا هو الَّذِي يَنْبَغِي أنْ يُفْرَحَ بِهِ. ومَن فَرِحَ بِهِ فَقَدْ فَرِحَ بِأجَلِّ مَفْرُوحٍ بِهِ. لا ما يَجْمَعُ أهْلُ الدُّنْيا مِنها. فَإنَّهُ لَيْسَ بِمَوْضِعٍ لِلْفَرَحِ. لِأنَّهُ عُرْضَةٌ لِلْآفاتِ. ووَشِيكُ الزَّوالِ، ووَخِيمُ العاقِبَةِ، وهو طَيْفُ خَيالٍ زارَ الصَّبَّ في المَنامِ. ثُمَّ انْقَضى المَنامُ. ووَلّى الطَّيْفُ. وأعْقَبَ مَزارَهُ الهِجْرانَ.
وَقَدْ جاءَ الفَرَحُ في القُرْآنِ عَلى نَوْعَيْنِ. مُطْلَقٌ ومُقَيَّدٌ.
فالمُطْلَقُ: جاءَ في الذَّمِّ. كَقَوْلِهِ تَعالى: ﴿لا تَفْرَحْ إنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الفَرِحِينَ﴾ [القصص: ٧٦]. وقَوْلُهُ: ﴿إنَّهُ لَفَرِحٌ فَخُورٌ﴾ [هود: ١٠].
والمُقَيَّدُ: نَوْعانِ أيْضًا. مُقَيَّدٌ بِالدُّنْيا. يُنْسِي صاحِبَهُ فَضْلَ اللَّهِ ومِنَّتَهُ. فَهو مَذْمُومٌ. كَقَوْلِهِ: ﴿حَتّى إذا فَرِحُوا بِما أُوتُوا أخَذْناهم بَغْتَةً فَإذا هم مُبْلِسُونَ﴾ [الأنعام: ٤٤].
والثّانِي: مُقَيَّدٌ بِفَضْلِ اللَّهِ وبِرَحْمَتِهِ. وهو نَوْعانِ أيْضًا. فَضْلٌ ورَحْمَةٌ بِالسَّبَبِ. وفَضْلٌ بِالمُسَبَّبِ، فالأوَّلُ: كَقَوْلِهِ: ﴿قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هو خَيْرٌ مِمّا يَجْمَعُونَ﴾ [يونس: ٥٨] والثّانِي: كَقَوْلِهِ: ﴿فَرِحِينَ بِما آتاهُمُ اللَّهُ مِن فَضْلِهِ﴾ [آل عمران: ١٧٠].
فالفَرَحُ بِاللَّهِ، وبِرَسُولِهِ، وبِالإيمانِ، وبِالسُّنَّةِ، وبِالعِلْمِ، وبِالقُرْآنِ: مِن أعْلى مَقاماتِ العارِفِينَ: قالَ اللَّهُ تَعالى: ﴿وَإذا ما أُنْزِلَتْ سُورَةٌ فَمِنهم مَن يَقُولُ أيُّكم زادَتْهُ هَذِهِ إيمانًا فَأمّا الَّذِينَ آمَنُوا فَزادَتْهم إيمانًا وهم يَسْتَبْشِرُونَ﴾ [التوبة: ١٢٤].
وَقالَ: ﴿والَّذِينَ آتَيْناهُمُ الكِتابَ يَفْرَحُونَ بِما أُنْزِلَ إلَيْكَ﴾ [الرعد: ٣٦].
فالفَرَحُ بِالعِلْمِ والإيمانِ والسُّنَّةِ: دَلِيلٌ عَلى تَعْظِيمِهِ عِنْدَ صاحِبِهِ، ومَحَبَّتِهِ لَهُ، وإيثارِهِ لَهُ عَلى غَيْرِهِ، فَإنَّ فَرَحَ العَبْدِ بِالشَّيْءِ عِنْدَ حُصُولِهِ لَهُ: عَلى قَدْرِ مَحَبَّتِهِ لَهُ، ورَغْبَتِهِ فِيهِ. فَمَن لَيْسَ لَهُ رَغْبَةٌ في الشَّيْءِ لا يُفْرِحُهُ حُصُولُهُ لَهُ، ولا يُحْزِنُهُ فَواتُهُ.
فالفَرَحُ تابِعٌ لِلْمَحَبَّةِ والرَّغْبَةِ.
والفَرْقُ بَيْنَهُ وبَيْنَ الِاسْتِبْشارِ: أنَّ الفَرَحَ بِالمَحْبُوبِ بَعْدَ حُصُولِهِ، والِاسْتِبْشارُ يَكُونُ بِهِ قَبْلَ حُصُولِهِ إذا كانَ عَلى ثِقَةٍ مِن حُصُولِهِ. ولِهَذا قالَ تَعالى: ﴿فَرِحِينَ بِما آتاهُمُ اللَّهُ مِن فَضْلِهِ ويَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ مِن خَلْفِهِمْ﴾ [آل عمران: ١٧٠].
والفَرَحُ صِفَةُ كَمالٍ ولِهَذا يُوصَفُ الرَّبُّ تَعالى بِأعْلى أنْواعِهِ وأكْمَلِها، كَفَرَحِهِ بِتَوْبَةِ التّائِبِ أعْظَمُ مِن فَرْحَةِ الواجِدِ لِراحِلَتِهِ الَّتِي عَلَيْها طَعامُهُ وشَرابُهُ في الأرْضِ المُهْلِكَةِ بَعْدَ فَقْدِهِ لَها، واليَأْسِ مِن حُصُولِها.
والمَقْصُودُ: أنَّ الفَرَحَ أعْلى أنْواعِ نَعِيمِ القَلْبِ، ولَذَّتِهِ وبَهْجَتِهِ. والفَرَحُ والسُّرُورُ نَعِيمُهُ. والهَمُّ والحُزْنُ عَذابُهُ. والفَرَحُ بِالشَّيْءِ فَوْقَ الرِّضا بِهِ. فَإنَّ الرِّضا طُمَأْنِينَةٌ وسُكُونٌ وانْشِراحٌ. والفَرَحُ لَذَّةٌ وبَهْجَةٌ وسُرُورٌ. فَكُلُّ فَرِحٍ راضٍ. ولَيْسَ كُلُّ راضٍ فَرِحًا. ولِهَذا كانَ الفَرَحُ ضِدَّ الحُزْنِ، والرِّضا ضِدَّ السُّخْطِ. والحُزْنُ يُؤْلِمُ صاحِبَهُ، والسُّخْطُ لا يُؤْلِمُهُ، إلّا إنْ كانَ مَعَ العَجْزِ عَنِ الِانْتِقامِ. واللَّهُ أعْلَمُ.
* [فَصْلٌ: حَدُّ السُّرُورِ]
قالَ صاحِبُ المَنازِلِ:
السُّرُورُ: اسْمٌ لِاسْتِبْشارٍ جامِعٍ. وهو أصْفى مِنَ الفَرَحِ. لِأنَّ الأفْراحَ رُبَّما شابَها الأحْزانُ. ولِذَلِكَ نَزَلَ القُرْآنُ بِاسْمِهِ في أفْراحِ الدُّنْيا في مَواضِعَ. ووَرَدَ السُّرُورُ
فِي مَوْضِعَيْنِ مِنَ القُرْآنِ في حالِ الآخِرَةِ.
السُّرُورُ والمَسَرَّةُ: مَصْدَرُ سَرَّهُ سُرُورًا ومَسَرَّةً. وكَأنَّ مَعْنى سَرَّهُ: أثَّرَ في أسارِيرِ وجْهِهِ. فَإنَّهُ تَبْرُقُ مِنهُ أسارِيرُ الوَجْهِ. كَما قالَ شاعِرُ العَرَبِ:
؎وَإذا نَظَرْتَ إلى أسِرَّةِ وجْهِهِ ∗∗∗ بَرَقَتْ كَبَرْقِ العارِضِ المُتَهَلِّلِ
وَهَذا كَما يُقالُ: رَأسَهُ؛ إذا أصابَ رَأْسَهُ، وبَطَنَهُ وظَهَرَهُ؛ إذا أصابَ بَطْنَهُ وظَهْرَهُ، وأمَّهُ؛ إذا أصابَ أُمَّ رَأْسِهِ.
وَأمّا الِاسْتِبْشارُ: فَهو اسْتِفْعالٌ مِنَ البُشْرى. والبِشارَةُ: هي أوَّلُ خَبَرٍ صادِقٍ سارٍّ.
و" البُشْرى " يُرادُ بِها أمْرانِ. أحَدُهُما: بِشارَةُ المُخْبِرِ. والثّانِي: سُرُورُ المُخْبَرِ. قالَ اللَّهُ تَعالى: ﴿لَهُمُ البُشْرى في الحَياةِ الدُّنْيا وفي الآخِرَةِ﴾ [يونس: ٦٤]. فُسِّرَتِ البُشْرى بِهَذا وهَذا. فَفي حَدِيثِ عُبادَةَ بْنِ الصّامِتِ. وأبِي الدَّرْداءِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُما. عَنِ النَّبِيِّ ﷺ: «هِيَ الرُّؤْيا الصّالِحَةُ يَراها المُسْلِمُ، أوْ تُرى لَهُ».
وَقالَ ابْنُ عَبّاسٍ: بُشْرى الحَياةِ الدُّنْيا: هي عِنْدَ المَوْتِ تَأْتِيهِمْ مَلائِكَةُ الرَّحْمَةِ بِالبُشْرى مِنَ اللَّهِ، وفي الآخِرَةِ: عِنْدَ خُرُوجِ نَفْسِ المُؤْمِنِ إذا خَرَجَتْ يَعْرُجُونَ بِها إلى اللَّهِ، تُزَفُّ كَما تُزَفُّ العَرُوسُ، تُبَشَّرُ بِرِضْوانِ اللَّهِ.
وَقالَ الحَسَنُ: هي الجَنَّةُ. واخْتارَهُ الزَّجّاجُ والفَرّاءُ. وفُسِّرَتْ بُشْرى الدُّنْيا بِالثَّناءِ الحَسَنِ، يَجْرِي لَهُ عَلى ألْسِنَةِ النّاسِ. وكُلُّ ذَلِكَ صَحِيحٌ.
فالثَّناءُ: مِنَ البُشْرى، والرُّؤْيا الصّالِحَةُ مِنَ البُشْرى، وتَبْشِيرُ المَلائِكَةِ لَهُ عِنْدَ المَوْتِ مِنَ البُشْرى. والجَنَّةُ مِن أعْظَمِ البُشْرى. قالَ اللَّهُ تَعالى ﴿وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا وعَمِلُوا الصّالِحاتِ أنَّ لَهم جَنّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِها الأنْهارُ﴾ [البقرة: ٢٥]. وقالَ تَعالى: ﴿وَأبْشِرُوا بِالجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ﴾ [فصلت: ٣٠].
قِيلَ: وسُمِّيَتْ بِذَلِكَ لِأنَّها تُؤَثِّرُ في بَشَرَةِ الوَجْهِ. ولِذَلِكَ كانَتْ نَوْعَيْنِ: بُشْرى سارَّةٌ تُؤَثِّرُ فِيهِ نَضارَةً وبَهْجَةً، وبُشْرى مُحْزِنَةٌ تُؤَثِّرُ فِيهِ بُسُورًا وُعُبُوسًا. ولَكِنْ إذا أُطْلِقَتْ كانَتْ لِلسُّرُورِ. وإذا قُيِّدَتْ كانَتْ بِحَسَبِ ما تُقَيَّدُ بِهِ.
قَوْلُهُ " وهو أصْفى مِنَ الفَرَحِ " واحْتَجَّ عَلى ذَلِكَ بِأنَّ الأفْراحَ رُبَّما شابَها أحْزانٌ، أيْ رُبَّما مازَجَها ضِدُّها. بِخِلافِ السُّرُورِ.
فَيُقالُ: والمَسَرّاتُ رُبَّما شابَها أنْكادٌ وأحْزانٌ فَلا فَرْقَ.
قَوْلُهُ: ولِذَلِكَ نَزَلَ القُرْآنُ بِاسْمِهِ في أفْراحِ الدُّنْيا في مَواضِعَ
يُرِيدُ: أنَّ اللَّهَ تَعالى نَسَبَ الفَرَحَ إلى أحْوالِ الدُّنْيا في قَوْلِهِ تَعالى: ﴿حَتّى إذا فَرِحُوا بِما أُوتُوا أخَذْناهم بَغْتَةً﴾ [الأنعام: ٤٤] وفي قَوْلِهِ تَعالى: ﴿لا تَفْرَحْ إنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الفَرِحِينَ﴾ [القصص: ٧٦] وقَوْلِهِ تَعالى: ﴿إنَّهُ لَفَرِحٌ فَخُورٌ﴾ [هود: ١٠]. فَإنَّ الدُّنْيا لا تَتَخَلَّصُ أفْراحُها مِن أحْزانِها وأتْراحِها ألْبَتَّةَ. بَلْ ما مِن فَرْحَةٍ إلّا ومَعَها تَرْحَةٌ سابِقَةٌ، أوْ مُقارِنَةٌ، أوْ لاحِقَةٌ. ولا تَتَجَرَّدُ الفَرْحَةُ. بَلْ لا بُدَّ مِن تَرْحَةٍ تُقارِنُها. ولَكِنْ قَدْ تَقْوى الفَرْحَةُ عَلى الحُزْنِ فَيَنْغَمِرُ حُكْمُهُ وألَمُهُ مَعَ وُجُودِها. وبِالعَكْسِ.
فَيُقالُ: ولَقَدْ نَزَلَ القُرْآنُ أيْضًا بِالفَرَحِ في أُمُورِ الآخِرَةِ في مَواضِعَ، كَقَوْلِهِ تَعالى: ﴿فَرِحِينَ بِما آتاهُمُ اللَّهُ مِن فَضْلِهِ﴾ [آل عمران: ١٧٠]. وقَوْلِهِ تَعالى: ﴿فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا﴾ [يونس: ٥٨] فَلا فَرْقَ بَيْنَهُما مِن هَذا الوَجْهِ الَّذِي ذَكَرَهُ.
قَوْلُهُ: ووَرَدَ اسْمُ السُّرُورِ في القُرْآنِ في مَوْضِعَيْنِ في حالِ الآخِرَةِ.
يُرِيدُ بِهِما: قَوْلَهُ تَعالى ﴿فَأمّا مَن أُوتِيَ كِتابَهُ بِيَمِينِهِ فَسَوْفَ يُحاسَبُ حِسابًا يَسِيرًا ويَنْقَلِبُ إلى أهْلِهِ مَسْرُورًا﴾ [الانشقاق: ٧]
والمَوْضِعُ الثّانِي: قَوْلُهُ: ﴿وَلَقّاهم نَضْرَةً وسُرُورًا﴾ [الإنسان: ١١].
فَيُقالُ: ووَرَدَ السُّرُورُ في أحْوالِ الدُّنْيا في مَوْضِعٍ عَلى وجْهِ الذَّمِّ. كَقَوْلِهِ تَعالى: ﴿وَأمّا مَن أُوتِيَ كِتابَهُ وراءَ ظَهْرِهِ فَسَوْفَ يَدْعُو ثُبُورًا ويَصْلى سَعِيرًا إنَّهُ كانَ في أهْلِهِ مَسْرُورًا﴾ [الانشقاق: ١٠].
فَقَدْ رَأيْتَ وُرُودَ كُلِّ واحِدٍ مِنَ الفَرَحِ والسُّرُورِ في القُرْآنِ بِالنِّسْبَةِ إلى أحْوالِ الدُّنْيا وأحْوالِ الآخِرَةِ. فَلا يَظْهَرُ ما ذَكَرَهُ مِنَ التَّرْجِيحِ.
بَلْ قَدْ يُقالُ: التَّرْجِيحُ لِلْفَرَحِ: لِأنَّ الرَّبَّ تَبارَكَ وتَعالى يُوصَفُ بِهِ. ويُطْلَقُ عَلَيْهِ اسْمُهُ دُونَ السُّرُورِ، فَدَلَّ عَلى أنَّ مَعْناهُ أكْمَلُ مِن مَعْنى السُّرُورِ، وأمَرَ اللَّهُ بِهِ في قَوْلِهِ تَعالى ﴿فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا﴾ [يونس: ٥٨] وأثْنى عَلى السُّعَداءِ بِهِ في قَوْلِهِ: ﴿فَرِحِينَ بِما آتاهُمُ اللَّهُ مِن فَضْلِهِ﴾ [آل عمران: ١٧٠].
وَأمّا قَوْلُهُ تَعالى ﴿وَلَقّاهم نَضْرَةً وسُرُورًا﴾ [الإنسان: ١١] وقَوْلُهُ ﴿وَيَنْقَلِبُ إلى أهْلِهِ مَسْرُورًا﴾ [الانشقاق: ٩] فَعَدَلَ إلى لَفْظِ السُّرُورِ لِاتِّفاقِ رُءُوسِ الآيِ. ولَوْ أنَّهُ تَرْجَمَ البابَ بِبابِ الفَرَحِ، لَكانَ أشَدَّ مُطابَقَةً لِلْآيَةِ الَّتِي اسْتَشْهَدَ بِها. والأمْرُ في ذَلِكَ قَرِيبٌ. فالمَقْصُودُ أمْرٌ وراءَ ذَلِكَ.
{"ayah":"قُلۡ بِفَضۡلِ ٱللَّهِ وَبِرَحۡمَتِهِۦ فَبِذَ ٰلِكَ فَلۡیَفۡرَحُوا۟ هُوَ خَیۡرࣱ مِّمَّا یَجۡمَعُونَ"}
- أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.
أمّهات
جامع البيان
تفسير الطبري
نحو ٢٨ مجلدًا
تفسير القرآن العظيم
تفسير ابن كثير
نحو ١٩ مجلدًا
الجامع لأحكام القرآن
تفسير القرطبي
نحو ٢٤ مجلدًا
معالم التنزيل
تفسير البغوي
نحو ١١ مجلدًا
جمع الأقوال
منتقاة
عامّة
عامّة
فتح البيان
فتح البيان للقنوجي
نحو ١٢ مجلدًا
فتح القدير
فتح القدير للشوكاني
نحو ١١ مجلدًا
التسهيل لعلوم التنزيل
تفسير ابن جزي
نحو ٣ مجلدات
موسوعات
أخرى
لغة وبلاغة
معاصرة
الميسر
نحو مجلد
المختصر
المختصر في التفسير
نحو مجلد
تيسير الكريم الرحمن
تفسير السعدي
نحو ٤ مجلدات
أيسر التفاسير
نحو ٣ مجلدات
القرآن – تدبّر وعمل
القرآن – تدبر وعمل
نحو ٣ مجلدات
تفسير القرآن الكريم
تفسير ابن عثيمين
نحو ١٥ مجلدًا
مركَّزة العبارة
تفسير الجلالين
نحو مجلد
جامع البيان
جامع البيان للإيجي
نحو ٣ مجلدات
أنوار التنزيل
تفسير البيضاوي
نحو ٣ مجلدات
مدارك التنزيل
تفسير النسفي
نحو ٣ مجلدات
الوجيز
الوجيز للواحدي
نحو مجلد
تفسير القرآن العزيز
تفسير ابن أبي زمنين
نحو مجلدين
آثار
غريب ومعاني
السراج في بيان غريب القرآن
غريب القرآن للخضيري
نحو مجلد
الميسر في غريب القرآن الكريم
الميسر في الغريب
نحو مجلد
تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن قتيبة
نحو مجلد
التبيان في تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن الهائم
نحو مجلد
معاني القرآن وإعرابه
معاني الزجاج
نحو ٤ مجلدات
معاني القرآن
معاني القرآن للنحاس
نحو مجلدين
معاني القرآن
معاني القرآن للفراء
نحو مجلدين
مجاز القرآن
مجاز القرآن لمعمر بن المثنى
نحو مجلد
معاني القرآن
معاني القرآن للأخفش
نحو مجلد
أسباب النزول
إعراب ولغة
الإعراب الميسر
نحو ٣ مجلدات
إعراب القرآن
إعراب القرآن للدعاس
نحو ٤ مجلدات
الجدول في إعراب القرآن وصرفه وبيانه
الجدول في إعراب القرآن
نحو ٨ مجلدات
الدر المصون
الدر المصون للسمين الحلبي
نحو ١٠ مجلدات
اللباب
اللباب في علوم الكتاب
نحو ٢٤ مجلدًا
إعراب القرآن وبيانه
إعراب القرآن للدرويش
نحو ٩ مجلدات
المجتبى من مشكل إعراب القرآن
مجتبى مشكل إعراب القرآن
نحو مجلد
إعراب القرآن
إعراب القرآن للنحاس
نحو ٣ مجلدات
تحليل كلمات القرآن
نحو ٩ مجلدات
الإعراب المرسوم
نحو ٣ مجلدات
المجمّع
بالرسم الجديد
بالرسم القديم
حفص عن عاصم
شُعْبة عن عاصم
قالون عن نافع
ورش عن نافع
البَزِّي عن ابن كثير
قُنبُل عن ابن كثير
الدُّوري عن أبي عمرو
السُّوسِي عن أبي عمرو
نستعليق