الباحث القرآني

وَلَمّا كانَتْ الدُّنْيا عُرْضَةً لِهَذِهِ الآفاتِ، والجَنَّةُ سَلِيمَةً مِنها قالَ: ﴿واللَّهُ يَدْعُو إلى دارِ السَّلامِ﴾ فَسَمّاها هُنا دارَ السَّلامِ لِسَلامَتِها مِن هَذِهِ الآفاتِ الَّتِي ذَكَرَها في الدُّنْيا، فَعَمَّ بِالدَّعْوَةِ إلَيْها، وخَصَّ بِالهِدايَةِ مَن يَشاءُ، فَذاكَ عَدْلُهُ وهَذا فَضْلُهُ. * (فائدة) قوله تعالى: ﴿واللَّهُ يَدْعُو إلى دارِ السَّلامِ ويَهْدِي مَن يَشاءُ إلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ﴾ فَعَمَّ بِدَعْوَتِهِ البَيانَ والدَّلالَةَ، وخَصَّ بِهِدايَتِهِ التَّوْفِيقَ والإلْهامَ. * (فصل) وَقَدِ اخْتُلِفَ في تَسْمِيَةِ الجَنَّةِ بِدارِ السَّلامِ، فَقِيلَ: السَّلامُ هو اللَّهُ، والجَنَّةُ دارُهُ. وَقِيلَ: السَّلامُ هو السَّلامَةُ، والجَنَّةُ دارُ السَّلامَةِ مِن كُلِّ آفَةٍ وعَيْبٍ ونَقْصٍ. وَقِيلَ: سُمِّيَتْ دارَ السَّلامِ؛ لِأنَّ تَحِيَّتَهم فِيها سَلامٌ ولا تَنافِيَ بَيْنَ هَذِهِ المَعانِي كُلِّها. * (لطيفة) وفي إضافة الجنة إلى السلام ثلاثة أقوال: أحدها أنها إضافة إلى مالكها السلام سبحانه. الثاني أنها إضافة إلى تحية أهلها فإن تحيتهم فيها السلام. الثالث أنها إضافة إلى معنى السلام أي دار السلام من كل آفة ونقص وشر والثلاثة متلازمة وإن كان الثالث أظهرها فإنه لو كانت الإضافة إلى مالكها لأضيفت إلى اسم من أسمائه غير السلام، وكان يقال دار الرحمن أو دار الله أو دار الملك ونحو ذلك. فإذا عهدت إضافتها إليه ثم جاء دار السلام حملت على المعهود. وأيضا فإن المعهود في القرآن إضافتها إلى صفتها أو إلى أهلها. أما الأول: فنحو: دار القرار، دار المجد، جنة المأوى، جنات النعيم، جنات الفردوس. وأما الثاني: فنحو دار المتقين، ولم تعهد إضافتها إلى اسم من أسماء الله تعالى في القرآن، فالأولى حمل الإضافة على المعهود في القرآن. وكذلك إضافتها إلى التحية ضعيف من وجهين: أحدهما: أن التحية بالسلام مشتركة بين دار الدنيا والآخرة وما يضاف إلى الجنة لا يكون إلا مختصا بها كالخلد والقرار والبقاء. الثاني: أن من أوصافها غير التحية ما هو أكمل منها مثل كونها دائمة وباقية ودار الخلد والتحية فيها عارضة عند التلاقي والتزاور بخلاف السلامة من كل عيب ونقص وشر فإنها من أكمل أوصافها المقصودة على الدوام التي لا يتم النعيم فيها إلا به فإضافتها إليه أولى وهذا ظاهر. وإذا عرفت هذان فإطلاق السلام على الله تعالى اسما من أسمائه هو أولى من هذا كله وأحق بهذا الاسم من كل مسمى به لسلامته سبحانه من كل عيب ونقص من كل وجه، فهو السلام الحق بكل اعتبار والمخلوق سلام بالإضافة. * (فصل) وفي صحيح مسلم من حديث حماد بن سلمة عن ثابت عن عبد الرحمن ابن أبي ليلى عن صهيب أن النبي ﷺ قال:"إذا دخل أهل الجنة الجنة وأهل النار النار نادى مناد يا أهل الجنة إن لكم عند الله موعدا فيقولون ما هو ألم يثقل موازيننا ويبيض وجوهنا ويدخلنا الجنة وينجنا من النار فيكشف الحجاب فينظرون إلى الله فوالله ما أعطاهم الله شيئا هو أحب اليهم من النظر إليه" وقال عبد الله بن المبارك أنبأنا أبو بكر الألهاني أخبرني أبو تميم الهجيمي قال: سمعت أبا موسى الأشعري يخطب على منبر البصرة يقول: إن الله عز وجل يبعث يوم القيامة ملكا إلى أهل الجنة فيقول يا أهل الجنة هل أنجزكم الله ما وعدكم؟ فينظرون فيرون الحلي والحلل والأنهار والأزواج المطهرة فيقولون نعم قد أنجزنا ما وعدنا قالوا ذلك ثلاث مرات فينظرون فلا يفتقدون شيئا مما وعدوا فيقولون نعم فيقول قد بقي شيء إن الله يقول: ﴿لِلَّذِينَ أحْسَنُوا الحُسْنى وزِيادَةٌ﴾ قال: ألا إن الحسنى الجنة والزيادة: النظر إلى وجه الله" وفي الصحيحين من حديث أبي سعيد الخدري قال قال رسول الله ﷺ: "إن الله عز وجل يقول لأهل الجنة فيقولون لبيك ربنا وسعديك فيقول هل رضيتم فيقولون وما لنا لا نرضى وقد أعطيتنا ما لم تعط أحدا من خلقك فيقول أنا أعطيكم أفضل من ذلك قالوا ربنا وأي شيء أفضل من ذلك قال أحل عليكم رضواني فلا أسخط عليكم بعده أبدا. وفي الصحيحين من حديث نافع عن ابن عمر أن رسول الله ﷺ قال: "يدخل أهل الجنة الجنة وأهل النار النار، ثم يقوم مؤذن بينهم فيقول يا أهل الجنة لا موت، ويا أهل النار لا موت كل خالد فيما هو فيه" وهذا الأذان وإن كان بين الجنة والنار فهو يبلغ جميع أهل الجنة والنار، ولهم فيها نداء آخر يوم زيارتهم ربهم تبارك وتعالى يرسل إليهم ملكا فيؤذن فيهم بذلك فيتسارعون إلى الزيارة كما يؤذن مؤذن الجمعة إليها وذلك في مقدار يوم الجمعة. والله أعلم. * (فصل آخر) وَفِي صَحِيحٍ مُسْلِمٍ عَنْ أبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أنَّ النَّبِيَّ صَلّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآلِهِ وسَلَّمَ قالَ: «والَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ ما مِن رَجُلٍ يَدْعُو امْرَأتَهُ إلى فِراشِهِ فَتَأْبى عَلَيْهِ إلّا كانَ الَّذِي في السَّماءِ ساخِطًا عَلَيْها حَتّى يَرْضى عَنْها» " ورَوى الشّافِعِيُّ في مُسْنَدِهِ مِن حَدِيثِ أنَسِ بْنِ مالِكٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قالَ: " «أتى جِبْرِيلُ وفي كَفِّهِ مِرْآةٌ بَيْضاءُ فِيها نُكْتَةٌ سَوْداءُ إلى النَّبِيِّ صَلّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآلِهِ وسَلَّمَ فَقالَ النَّبِيُّ ﷺ ما هَذِهِ يا (جِبْرِيلُ)؟ قالَ: هَذِهِ الجُمْعَةُ فُضِّلْتَ بِها أنْتَ وأُمَّتُكَ فالنّاسُ لَكم فِيها تَبَعٌ اليَهُودُ والنَّصارى ولَكم فِيها خَيْرٌ وفِيها ساعَةٌ لا يُوافِقُها مُؤْمِنٌ يَدْعُو اللَّهَ بِخَيْرٍ إلّا اسْتُجِيبَ لَهُ وهي عِنْدُنا يَوْمُ المَزِيدِ، فَقالَ النَّبِيُّ صَلّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآلِهِ وسَلَّمَ: يا جِبْرِيلُ وما يَوْمُ المَزِيدُ؟ قالَ: إنَّ رَبَّكَ اتَّخَذَ في الجَنَّةِ وادِيًا أفْيَحَ فِيهِ كُثُبٌ مِن مِسْكٍ فَإذا كانَ يَوْمُ الجُمْعَةِ أنْزَلَ اللَّهُ تَبارَكَ وتَعالى ما شاءَ مِن مَلائِكَتِهِ وحَوْلَهُ مَنابِرُ مِن نُورٍ عَلَيْها مَقاعِدُ النَّبِيِّينَ وحَفَّ تِلْكَ المَنابِرَ بِمَنابِرَ مِن ذَهَبٍ مُكَلَّلَةٍ بِالياقُوتِ والزَّبَرْجَدِ عَلَيْها الشُّهَداءُ والصِّدِّيقُونَ فَجَلَسُوا مِن ورائِهِمْ عَلى تِلْكَ الكُثُبِ فَيَقُولُ اللَّهُ عَزَّ وجَلَّ: أنا رَبُّكم وقَدْ صَدَقْتُكم وعْدِي فاسْألُونِي أُعْطِكم فَيَقُولُونَ: رَبَّنا نَسْألُكَ رِضْوانَكَ فَيَقُولُ: قَدْ رَضِيتُ عَنْكم ولَكم ما تَمَنَّيْتُمْ ولَدَيَّ مَزِيدٌ، فَهم يُحِبُّونَ يَوْمَ الجُمْعَةِ لِما يُعْطِيهِمْ فِيهِ رَبُّهم مِنَ الخَيْرِ وهو اليَوْمُ الَّذِي اسْتَوى فِيهِ رَبُّكَ سُبْحانَهُ وتَعالى عَلى العَرْشِ، وفِيهِ خُلِقَ آدَمُ، وفِيهِ تَقُومُ السّاعَةُ». وَلِهَذا الحَدِيثِ عِدَّةُ طُرُقٍ جَمَعَها أبُو بَكْرِ بْنُ أبِي داوُدَ في جُزْءٍ، وفي سُنَنِ ابْنِ ماجَهْ مِن حَدِيثِ جابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُما قالَ: قالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: " «بَيْنا أهْلُ الجَنَّةِ في نَعِيمِهِمْ إذْ سَطَعَ لَهم نُورٌ فَرَفَعُوا رُءُوسَهم فَإذا الرَّبُّ تَعالى قَدْ أشْرَفَ عَلَيْهِمْ مِن فَوْقِهِمْ فَقالَ السَّلامَ عَلَيْكم يا أهْلَ الجَنَّةِ قالَ: وذَلِكَ قَوْلُهُ تَعالى: ﴿سَلامٌ قَوْلًا مِن رَبٍّ رَحِيمٍ﴾ [يس: ٥٨]، قالَ فَيَنْظُرُ إلَيْهِمْ ويَنْظُرُونَ إلَيْهِ فَلا يَلْتَفِتُونَ إلى شَيْءٍ مِنَ النَّعِيمِ ما دامُوا يَنْظُرُونَ إلَيْهِ حَتّى يَحْتَجِبَ عَنْهم ويَبْقى نُورُهُ وبَرَكَتُهُ عَلَيْهِمْ في دِيارِهِمْ». * (موعظة) تزينت الجنة للخطاب فجدوا في تحصيل المهور. تعرف رب العزة للمحبين فعملوا على اللقاء وأنت مشغول بالجيف. ما يساوى ربع الدينار خجل الفضيحة فكيف بألم القطع. المعرفة بساط لا يطأ عليه إلا مقرب والمحبة نشيد لا يطرب عليها إلا محب مغرم والحب غدير في صحراء ليس عليه جادة فلهذا قل وراده. المحب يهرب إلى العزلة والخلوة بمحبوبة والتعلق بذكره كهرب الحوت إلى الماء والطفل إلى أمه. وأخرج من بين البيوت لعلني ... أحدث عنك النفس بالسر خاليا لو رأيت المحبين في الدجى تمر عليهم زمر النجوم مر الوصائف إلى أن تقبل هوادج هل من سائل فينثرون عليه الأرواح نثر الفراش على النار. ليس للعابدين مستراح إلا تحت شجرة طوبى ولا للمحبين قرار إلا يوم المزيد فمثل لقلبك الاستراحة تحت شجرة طوبى يهن عليك النصب واستحضر يوم المزيد يهن عليك ما تتحمل من أجله. كنوز الجواهر مودعة في مصر الليل فتتبع آثار المحبين لعلك تظفر بكنز. أنت طفل في حجر العادة مشدود بقماط الهوى فما لك ولمزاحمة الرجال. أين أنت والمحبة وأنت أسير الحبة. تمسكت بالدنيا تمسك الرضيع بالظئر والقوم ما أعاروها الطرف. أف لبدوي لا يطربه ذكر حاجر. انقسم الصالحون عند السباق: فمنهم من أخذه القلق فكان يقول "ويل لي إن لم يغفرها أنا أمضي إلى النار أو يغفر" ومنهم من غلبه عليه الرجاء كبلال الحبشي كانت زوجته تقول: "واحزناه" وهو يقول: "واطرباه غدا ألقى الأحبة محمدا وحزبه" واها لبلال علم أن الإمام لا ينسى المؤذن. اشتغل به في الحياة يكفك ما بعد الموت. دق كؤوس الرحيل فسار الركب وتأهبوا للمسير وعكمت أحمال الزاد وسار رفقة المجدين وأنت في الرقدة الأولى بعد كيف تطيق السهر مع الشيع أم كيف تزاحم أهل العزائم بمناكب الكسل. هيهات ما وصل القوم إلى المنزل إلا بعد مواصلة السرى ولا عبروا إلى مقر الراحة إلا على جسر التعب. ؎وأطيب الأرض ما للقلب فيه هوى ∗∗∗ سم الخياط مع المحبوب ميدان لو رأيت أهل القبور في وثاق الأسر فلا يستطيعون الحركة إلى نجاة ﴿وَحِيلَ بَيْنَهم وبَيْنَ ما يَشْتَهُونَ﴾. يا منفقا بضاعة العمر في مخالفة حبيبه والبعد منه ليس في أعدائك أشد شرا عليك منك.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب