الباحث القرآني

المخلوق ليس عنده للعبد نفع ولا ضر ولا عطاء ولا منع بل ربه سبحانه الذي خلقه ورزقه وبصره وهداه وأسبغ عليه نعمة وتحبب إليه بها مع غناه عنه ومع تبغض العبد إليه بالمعاصي مع فقره إليه، فإذا مسه الله بضر فلا كاشف له إلا هو، وإذا أصابه بنعمه فلا رادَّ لها ولا مانع كما قال تعالى: ﴿وَإن يَمْسَسْكَ اللهُ بِضُرّ فَلاَ كاشِفَ لَهُ إلاّ هو وإن يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلاَ رَآدّ لِفَضْلِهِ يُصَيبُ بِهِ مَن يَشَآءُ مِن عِبادِهِ وهو الغَفُورُ الرّحِيمُ﴾ [يونس: ١٠٧]، و ﴿مّا يَفْتَحِ اللهُ لِلنّاسِ مِن رّحْمَةٍ فَلاَ مُمْسِكَ لَها وما يُمْسِكْ فَلاَ مُرْسِلَ لَهُ مِن بَعْدِهِ وهو العَزِيزُ الحَكِيمُ﴾ [فاطر: ٢]، فالعبد لا ينفع ولا يضر ولا يعطي ولا يمنع إلا بإذن الله، فالأمر كله لله أولًا وآخرًا وظاهرًا وباطنًا، هو مقلب القلوب ومصرفها كيف يشاءُ، المتفرد بالضر والنفع والعطاءِ والمنع والخفض والرفع، ما من دابة إلا هو آخذ بناصيتها، ألا له الخلق والأمر تبارك الله رب العالمين، وهذا الوجه أعظم لعموم الناس من الوجه الأول، ولهذا خوطبوا به في القرآن أكثر من الأول، لكن من تدبر طريقة القرآن تبين له أن الله سبحانه يدعو عباده بهذا الوجه إلى لأول، فهذا الوجه يقتضي التوكل على الله والاستعانة به والدعاءَ له ومسألته دون ما سواه، ويقتضي أيضًا محبته وعبادته لإحسانه إلى عبده وإسباغ نعمه عليه، فإذا عبده وأحبه وتوكل عليه من هذا الوجه دخل في الوجه الأول. وهكذا كمن نزل به بلاءٌ عظيم وفاقة شديدة أو خوف مقلق فجعل يدعو الله ويتضرع إليه حتى فتح له من لذيذ مناجاته له باب الإيمان به والإنابة إليه وما هو أحب إليه من تلك الحاجة التي قصدها أولا لكنه لم يكن يعرف ذلك أولا حتى يطلبه ويشتاق إليه فعرفه إياه بما أقامه له من الأسباب التي أوصلته إليه. والقرآن مملوء من ذكر حاجة العباد إلى الله دون ما سواه ومن ذكر نعمائه عليهم، ومن ذكر ما وعدهم به في الآخرة من صنوف النعيم واللذات، وليس عند المخلوق شيء من هذا. فهذا الوجه يحقق التوكل على الله والشكر له ومحبته على إحسانه. ومما يوضح ذلك ويقويه أن في تعلق العبد بما سوى الله مضرة عليه إذا أخذ منه القدر الزائد على حاجته المعينة له على عبودية الله ومحبته وتفريغ قلبه له، فإنه إن نال من الطعام الشراب فوق حاجاته ضره أو أهلكه، وكذلك من النكاح واللباس، وإن أحب شيئًا بحيث يُخالِلُهُ فلا بد أن يسأمه أو يفارقه، فالضرر حاصل له إن وجد أو فقد، فإن فقد تعذب بالفراق وتَألم، وإن وجد فإنه يحصل له من الألم أكثر مما يحصل له من اللذة. وهذا أمر معلوم بالاعتبار والاستقراء أن كل من أحب شيئًا دون الله لغير الله فإن مضرته أكثر من منفعته وعذابه أعظم من نعيمه، ويزيد ذلك إيضاحًا أن اعتماده على المخلوق وتوكله عليه يوجب له الضرر من جهته، فإنه يخذل من تلك الجهة. وهذا أيضًا معلوم بالاعتبار والاستقراء فأإنه ما علق العبد رجاءَه وتوكله بغير الله إلا خاب من تلك الجهة، ولا استنصر بغيره إلا خذل، قال تعالى: ﴿واتّخَذُواْ مِن دُونِ اللهِ آلِهَةً لّيَكُونُواْ لَهم عِزًّا كَلاّ سَيَكْفُرُونَ بِعِبادَتِهِمْ ويَكُونُونَ عَلَيْهِمْ ضِدًّا﴾ [مريم: ٨١-٨٢]، وقال تعالى: ﴿واتّخَذُواْ مِن دُونِ اللهِ آلِهَةً لّعَلّهم يُنصَرُونَ لاَ يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَهم وهم لَهم جُندٌ مّحْضَرُونَ﴾ [يس: ٧٤-٧٥]. وقال تعالى عن إمام الحنفاء أنه قال للمشركين: ﴿إنّما اتّخَذْتُمْ مّن دُونِ اللهِ أوْثانًا مّوَدّةَ بَيْنِكم في الحَياةِ الدّنْيا ثُمّ يَوْمَ القِيامَةِ يَكْفُرُ بَعْضُكم بِبَعْضٍ ويَلْعَنُ بَعْضُكم بَعْضًا﴾ [العنكبوت: ٢٥]، ولما كان غاية صلاح العبد في عبادة الله وحده واستعانته وحده كان في عبادة غيره والاستعانة بغيره غاية مضرته. ومما يوضح الأمر في ذلك ويبينه أن الله سبحانه غنى حميد كريم رحيم، فهو محسن إلى عبده مع غناه عنه يريد به الخير ويكشف عنه الضر، لا لجلب منفعة إليه سبحانه ولا لدفع مضرة، بل رحمة وإحسانًا وجودًا محضًا فإنه رحيم لذاته محسن لذاته جواد لذاته كريم لذاته كما أنه غنى لذاته قادر لذاته حى لذاته، فإحسانه وجوده وبره ورحمته من لوازم ذاته لا يكون إلا كذلك، كما أن قيامه قدرته وغناه من لوازم ذاته فلا يكون إلا كذلك. وأما العباد فلا يتصور أن يحسنوا إلا لحظوظهم، فأكثر ما عندهم للعبد أن يحبوه ويعظموه ليجلبوا له منفعة ويدفعوا عنه مضرة، وذلك من تيسير الله وإذنه لهم به، فهو في الحقيقة ولى هذه النعمة ومسديها ومجريها على أيديهم، ومع هذا فإنهم يفعلون ذلك إلا لحظوظهم من العبد، فإنهم إذا أحبوه طلبوا أن ينالوا غرضهم من محبته سواءٌ أحبوه لجماله الباطن أو الظاهر فإذا أحبوا الأنبياءَ والأولياءَ فطلبوا لقاءَهم فهم يحبون التمتع برؤيتهم وسماع كلامهم ونحو ذلك، وكذلك من أحب إنسانًا لشجاعته أو رياسته أو جماله أو كرمه فهو يحب أن ينال حظه من تلك المحبة ولولا التذاذه بها لما أحب ذلك، وإن جلبوا له منفعة أو دفعوا عنه مضرة - كمرض وعدو - ولو بالدعاءِ فهم يطلبون العوض إذا لم يكن العمل لله، فأجناد الملوك وعبيد المماليك وأجراءُ المستأْجر وأعوان الرئيس كلهم إنما يسعون في نيل أغراضهم به، لا يعرج أكثرهم على قصد منفعة المخدوم إلا أن يكون قد علم وهذب من جهة أُخرى فيدخل ذلك في الجهة الدينية، أو يكون فيه طبع عدل وإحسان من باب المكافأة والرحمة، وإلا فالمقصود بالقصد الأول هو منفعة نفسه، وهذا من حكمة الله التي أقام بها مصالح خلقه إذ قسم بينهم معيشتهم في الحياة الدنيا ورفع بعضهم فوق بعض درجات ليتخذ بعضهم بعضًا سخريًا. * (فصل) لله سُبْحانَهُ على عَبده أمر أمره بِهِ وقَضاء يَقْضِيه عَلَيْهِ ونعمة ينعم بها عَلَيْهِ فَلا يَنْفَكّ من هَذِه الثَّلاثَة. والقَضاء نَوْعانِ إمّا مصائب، وإمّا معائب، وله عَلَيْهِ عبودية في هَذِه المَراتِب كلها فَأحب الخلق إلَيْهِ من عرف عبوديته في هَذِه المَراتِب ووفاها حَقّها، فَهَذا أقرب الخلق إلَيْهِ، وأبعدهم مِنهُ من جهل عبوديته في هَذِه المَراتِب فعطلها علما وعَملا فعبوديته في الأمر وامتثاله إخلاصا واقتداءا برَسُول الله، وفي النَّهْي اجتنابه خوفًا مِنهُ وإجلالا ومحبة وعبوديته في قَضاء المصائب الصَّبْر عَلَيْها ثمَّ الرِّضا بها وهو أعلى مِنهُ، ثمَّ الشُّكْر عَلَيْها وهو أعلى من الرِّضا، وهَذا إنَّما يأتي مِنهُ إذا تمكن حبه من قلبه وعلم حسن اخْتِياره لَهُ وبره بِهِ ولطفه بِهِ وإحسانه إلَيْهِ بالمصيبة وإن كره المُصِيبَة، وعبوديته في قَضاء المعائب المُبادرَة إلى التَّوْبَة مِنها والتنصل والوُقُوف في مقام الِاعْتِذار والانكسار عالما بِأنَّهُ لا يرفعها عَنهُ إلّا هُوَ، ولا يَقِيه شَرها سواهُ، وأنَّها إن استمرت أبعدته من ربه وطردته من بابه فيراها من الضّر الَّذِي لا يكشفه غَيره حَتّى إنه ليراها أعظم من ضرّ البدن فهو عائِذ بِرِضاهُ من سخطه وبعفوه من عُقُوبَته وبِه مِنهُ مستجير وملتجئ مِنهُ اليه بِعلم أنه إن تخلى عَنهُ وخلى بَينه وبَين نَفسه فعده أمْثالها وشر مِنها وأنه لا سَبِيل لَهُ إلى الإقلاع والتَّوْبَة إلّا بتوفيقه وإعانته وأن ذَلِك بِيَدِهِ سُبْحانَهُ لا بيد العَبْد فَهو أعجز وأضعف وأقل من أن يوفق نَفسه أو يَأْتِي بمرضاة سَيّده بِدُونِ إذْنه ومشيئته وإعانته فَهو ملتجئ إلَيْهِ متضرع ذليل مِسْكين مُلْقٍ نَفسه بَين يَدَيْهِ طريح بابه مستخذله أذلّ شَيْء وأكسره لَهُ وأفقره وأحوجه إلَيْهِ وأرغبه فِيهِ وأحبه لَهُ بدنه متصرف في أشغاله وقَلبه ساجد بَين يَدَيْهِ يعلم يَقِينا انه لا خبر فِيهِ ولا لَهُ ولا بِهِ ولا مِنهُ وأن الخَيْر كُله لله وفي يَدَيْهِ وبِه ومِنه فَهو ولي نعْمَته ومبتدئه بها من غير اسْتِحْقاق ومجريها عَلَيْهِ مَعَ تمقته إلَيْهِ بإعراضه وغفلته ومعصيته فحظه سُبْحانَهُ الحَمد والشُّكْر والثناء وحظ العَبْد الذَّم والنَّقْص والعَيْب قد اسْتَأْثر بالمحامد والمدح والثناء وولى العَبْد المَلامَة والنقائص ولعيوب فالحَمْد كُله لَهُ والخَيْر كُله في يَدَيْهِ والفضل كُله لَهُ والثناء كُله لَهُ والمنَّة كلها لَهُ فَمِنهُ الإحْسان ومن العَبْد الإساءَة ومِنه التودد إلى العَبْد بنعمه ومن العَبْد التبغض إلَيْهِ بمعاصيه ومِنه النصح لعَبْدِهِ ومن العَبْد الغِشّ لَهُ في مُعامَلَته. وَأما عبودية النعم فمعرقتها والِاعْتِراف بها أولا ثمَّ العياذ بِهِ أن يَقع في قلبه نسبتها وإضافتها إلى سواهُ وإن كانَ سَببا من الأسْباب فَهو مسببه ومقيمه فالنعمة مِنهُ وحده بِكُل وجه واعْتِبار ثمَّ الثَّناء بها عَلَيْهِ ومحبته عَلَيْها وشكره بِأن يستعملها في طاعَته ومن لطائف التَّعَبُّد بِالنعَم أن يكثر قليلها عَلَيْهِ ويستقل كثير شكره عَلَيْها وبعلم أنَّها وصلت إلَيْهِ من سَيّده من غير ثمن بذله فِيها ولا وسِيلَة مِنهُ توسل بها إلَيْهِ ولا اسْتِحْقاق مِنهُ لَها وأنَّها لله في الحَقِيقَة لا للْعَبد فَلا تزيده النعم إلّا انكسارا وذلا وتواضعا ومحبة للمنعم وكلما جدد لَهُ نعْمَة أحدث لَها عبودية ومحبة وخضوعا وذلا وكلما أحدث لَهُ قبضا أحدث لَهُ رضى وكلما أحدث ذَنبا أحدث لَهُ تَوْبَة وانكسارا واعتذارا فَهَذا هو العَبْد الكيّس والعاجِز بمعزل عَن ذَلِك وبِاللَّهِ التَّوْفِيق. * (فصل) قال سهل: إنما يكون الالتجاءُ، على معرفة الابتلاء، يعني وعلى قدر الابتلاءِ تكون المعرفة بالمبتلي، ومن عرف قوله ﷺ: "وأعُوذ بك منك"، وقام بهذه المعرفة شهودًا وذوقًا، وأعطاها حقها من العبودية، فهو الفقير حقًا، ومدار الفقر الصحيح على هذه الكلمة، فمن زرق فهم سر هذا فهم سر الفقر المحمدي، فهو سبحانه الذي ينجي من قضائه بقضائه، وهو الذي يعيذ بنفسه من نفسه، وهو الذي يدفع ما منه بما منه، فالخلق كله له، والأمر كله له والحكم كله له، وما شاءَ كان وما لم يشأْ لم يكن، وما شاءَ لم يستطع أن يصرفه إلا مشيئته، وما لم يشأْ لم يمكن أن يجلبه إلا مشيئته، فلا يأتي بالحسنات إلا هو، ولا يذهب بالسيئات إلا هو، ولا يهدي لأحسن الأعمال والأخلاق إلا هو، ولا يصرف سيئها إلا هو: ﴿وَإن يَمْسَسْكَ اللهُ بِضُرّ فَلاَ كاشِفَ لَهُ إلاّ هو وإن يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلاَ رَآدّ لِفَضْلِهِ﴾ [يونس: ١٠٧] والتحقق بمعرفة هذا يوجب صحة الاضطرار وكمال الفقر والفاقة، ويحول بين العبد وبين رؤية أعماله وأحواله والاستغناءِ بها والخروج عن رفقة العبودية إلى دعوى ما ليس له. وكيف يدعي مع الله حالًا أو ملكة أو مقامًا من قلبه وإرادته وحركاته الظاهرة والباطنة بيد ربه ومليكة لا يملك هو منها شيئًا، وإنما هي بيد مقلب القلوب ومصرفها كيف يشاءُ فالإيمان بهذا والتحقق به نظام التوحيد، ومتى من القلب انحل نظام التوحيد، فسبحان من لا يوصل إليه إلا به. ولا يطاع إلا بمشيئته، ولا ينال ما عنده من الكرامة إلا بطاعته ولا سبيل إلى طاعته إلا بتوفيقه ومعونته فعاد الأمر كله إليه كما ابتدأ الأمر كله منه، فهو الأول والآخر ﴿وأن إلى ربك المنتهى﴾. ومن وصل إلى هذا الحال وقع في يد التقطع والتجريد، وأشرف على مقام التوحيد الخاص، فإن التوحيد نوعان: عام وخاص، كما أن الصلاة نوعان، والذكر نوعان، وسائر القرب كذلك خاصية وعامية، فالخاصية ما بذل فيها العامل نصحه وقصده بحيث يوقعها على أحسن الوجوه وأكملها، والعامية ما لم يكن كذلك. فالمسلمون كلهم مشتركون في إتيانهم بشهادة أن لا إله إلا الله، وتفاوتهم في معرفتهم بمضمون هذه الشهادة وقيامهم باطنًا وظاهرًا أمر لا يحصيه إلا الله عَزَّ وجَلَّ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب