الباحث القرآني

ولقوله: ﴿الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ﴾ عبودية تخصها، وهي شهود عموم رحمته، وسعتها لكل شيء، وأخْذ كل موجود بنصيبه منها، ولاسيما الرحمة الخاصة به التي أقامت عبده بين يديه في خدمته، يناجيه بكلامه ويتملَّقه ويسترحمه ويسأله هدايته ورحمته، وإتمامَ نعمته عليه، فهذا من رحمته بعبده، فرحمتُه وسعتْ كلَّ شيء، كما أن حمده وسعَ كل شيء. * [فَصْلٌ: ذِكْرُ أسْماءِ اللَّهِ بَعْدَ الحَمْدِ] فِي ذِكْرِ هَذِهِ الأسْماءِ بَعْدَ الحَمْدِ، وإيقاعِ الحَمْدِ عَلى مَضْمُونِها ومُقْتَضاها ما يَدُلُّ عَلى أنَّهُ مَحْمُودٌ في إلَهِيَّتِهِ، مَحْمُودٌ في رُبُوبِيَّتِهِ، مَحْمُودٌ في رَحْمانِيَّتِهِ، مَحْمُودٌ في مُلْكِهِ، وأنَّهُ إلَهٌ مَحْمُودٌ، ورَبٌّ مَحْمُودٌ، ورَحْمَنٌ مَحْمُودٌ، ومَلِكٌ مَحْمُودٌ، فَلَهُ بِذَلِكَ جَمِيعُ أقْسامِ الكَمالِ: كَمالٌ مِن هَذا الِاسْمِ بِمُفْرَدِهِ، وكَمالٌ مِنَ الآخَرِ بِمُفْرَدِهِ، وكَمالٌ مِنِ اقْتِرانِ أحَدِهِما بِالآخَرِ. مِثالُ ذَلِكَ: قَوْلُهُ تَعالى ﴿واللَّهُ غَنِيٌّ حَمِيدٌ﴾ [التغابن: ٦]، ﴿واللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ﴾ [النساء: ٢٦]، ﴿واللَّهُ قَدِيرٌ﴾ [الممتحنة: ٧]، ﴿واللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ﴾ [البقرة: ٢١٨] فالغِنى صِفَةُ كَمالٍ، والحَمْدُ صِفَةُ كَمالٍ، واقْتِرانُ غِناهُ بِحَمْدِهِ كَمالٌ أيْضًا، وعِلْمُهُ كَمالٌ، وحِكْمَتُهُ كَمالٌ، واقْتِرانُ العِلْمِ بِالحِكْمَةِ كَمالٌ أيْضًا، وقُدْرَتُهُ كَمالٌ ومَغْفِرَتُهُ كَمالٌ، واقْتِرانُ القُدْرَةِ بِالمَغْفِرَةِ كَمالٌ، وكَذَلِكَ العَفْوُ بَعْدَ القُدْرَةِ ﴿إنَّ اللَّهَ كانَ عَفُوًّا غَفُورًا﴾ [النساء: ٤٣] واقْتِرانُ العِلْمِ بِالحِلْمِ ﴿واللَّهُ عَلِيمٌ حَلِيمٌ﴾ [النساء: ١٢]. وَحَمَلَةُ العَرْشِ أرْبَعَةٌ: اثْنانِ يَقُولانِ سُبْحانَكَ اللَّهُمَّ وبِحَمْدِكَ، لَكَ الحَمْدُ عَلى حِلْمِكَ بَعْدَ عِلْمِكَ، واثْنانِ يَقُولانِ: سُبْحانَكَ اللَّهُمَّ وبِحَمْدِكَ، لَكَ الحَمْدُ عَلى عَفْوِكَ بَعْدَ قُدْرَتِكَ، فَما كُلُّ مَن قَدَرَ عَفا، ولا كُلُّ مَن عَفا يَعْفُو عَنْ قُدْرَةٍ، ولا كُلُّ مَن عَلِمَ يَكُونُ حَلِيمًا، ولا كُلُّ حَلِيمٍ عالِمٌ، فَما قُرِنَ شَيْءٌ إلى شَيْءٍ أزْيَنُ مِن حِلْمٍ إلى عِلْمٍ، ومِن عَفْوٍ إلى قُدْرَةٍ، ومِن مُلْكٍ إلى حَمْدٍ، ومِن عِزَّةٍ إلى رَحْمَةٍ ﴿وَإنَّ رَبَّكَ لَهو العَزِيزُ الرَّحِيمُ﴾ [الشعراء: ٩] وَمِن هاهُنا كانَ قَوْلُ المَسِيحِ عَلَيْهِ السَّلامُ ﴿إنْ تُعَذِّبْهم فَإنَّهم عِبادُكَ وإنْ تَغْفِرْ لَهم فَإنَّكَ أنْتَ العَزِيزُ الحَكِيمُ﴾ [المائدة: ١١٨] أحْسَنُ مِن أنْ يَقُولَ: وإنْ تَغْفِرْ لَهم فَإنَّكَ أنْتَ الغَفُورُ الرَّحِيمُ، أيْ إنْ غَفَرْتَ لَهم كانَ مَصْدَرُ مَغْفِرَتِكَ عَنْ عِزَّةٍ، وهي كَمالُ القُدْرَةِ، وعَنْ حِكْمَةٍ، وهي كَمالُ العِلْمِ، فَمَن غَفَرَ عَنْ عَجْزٍ وجَهْلٍ بِجُرْمِ الجانِي، فَأنْتَ لا تَغْفِرُ إلّا عَنْ قُدْرَةٍ تامَّةٍ، وعِلْمٍ تامٍّ، وحِكْمَةٍ تَضَعُ بِها الأشْياءَ مَواضِعَها، فَهَذا أحْسَنُ مِن ذِكْرِ الغَفُورِ الرَّحِيمِ في هَذا المَوْضِعِ، الدّالِّ ذِكْرُهُ عَلى التَّعْرِيضِ بِطَلَبِ المَغْفِرَةِ في غَيْرِ حِينِها، وقَدْ فاتَتْ، فَإنَّهُ لَوْ قالَ: وإنْ تَغْفِرْ لَهم فَإنَّكَ أنْتَ الغَفُورُ الرَّحِيمُ، كانَ في هَذا مِنَ الِاسْتِعْطافِ والتَّعْرِيضِ بِطَلَبِ المَغْفِرَةِ لِمَن لا يَسْتَحِقُّها ما يُنَزَّهُ عَنْهُ مَنصِبُ المَسِيحِ عَلَيْهِ السَّلامُ، لا سِيَّما والمَوْقِفُ مَوْقِفُ عَظَمَةٍ وجَلالٍ، ومَوْقِفُ انْتِقامٍ مِمَّنْ جَعَلَ لِلَّهِ ولَدًا، واتَّخَذَهُ إلَهًا مِن دُونِهِ، فَذِكْرُ العِزَّةِ والحِكْمَةِ فِيهِ ألْيَقُ مِن ذِكْرِ الرَّحْمَةِ والمَغْفِرَةِ. وَهَذا بِخِلافِ قَوْلِ الخَلِيلِ عَلَيْهِ السَّلامُ {واجْنُبْنِي وبَنِيَّ أنْ نَعْبُدَ الأصْنامَ رَبِّ إنَّهُنَّ أضْلَلْنَ كَثِيرًا مِنَ النّاسِ فَمَن تَبِعَنِي فَإنَّهُ مِنِّي ومَن عَصانِي فَإنَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [إبراهيم: ٣٥] وَلَمْ يَقِلْ: فَإنَّكَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ، لِأنَّ المَقامَ مَقامُ اسْتِعْطافٍ وتَعْرِيضٍ بِالدُّعاءِ، أيْ إنْ تَغْفِرْ لَهم وتَرْحَمْهُمْ، بِأنْ تُوَفِّقَهم لِلرُّجُوعِ مِنَ الشِّرْكِ إلى التَّوْحِيدِ، ومِنَ المَعْصِيَةِ إلى الطّاعَةِ، كَما في الحَدِيثِ «اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِقَوْمِي فَإنَّهم لا يَعْلَمُونَ». وَفِي هَذا أظْهَرُ الدِّلالَةِ عَلى أنَّ أسْماءَ الرَّبِّ تَعالى مُشْتَقَّةٌ مِن أوْصافٍ ومَعانٍ قامَتْ بِهِ، وأنَّ كُلَّ اسْمٍ يُناسِبُ ما ذُكِرَ مَعَهُ، واقْتَرَنَ بِهِ، مِن فِعْلِهِ وأمْرِهِ، واللَّهُ المُوَفِّقُ لِلصَّوابِ. * [فَصْلٌ ارْتِباطُ الخَلْقِ بِأسْماءِ اللَّهِ] وَتَأمَّلِ ارْتِباطَ الخَلْقِ والأمْرِ بِهَذِهِ الأسْماءِ الثَّلاثَةِ، وهي اللَّهُ، والرَّبُّ، والرَّحْمَنُ كَيْفَ نَشَأ عَنْها الخَلْقُ، والأمْرُ، والثَّوابُ، والعِقابُ؟ وكَيْفَ جَمَعَتِ الخَلْقَ وفَرَّقَتْهُمْ؟ فَلَها الجَمْعُ، ولَها الفَرْقُ. فاسْمُ الرَّبِّ لَهُ الجَمْعُ الجامِعُ لِجَمِيعِ المَخْلُوقاتِ، فَهو رَبُّ كُلَّ شَيْءٍ وخالِقُهُ، والقادِرُ عَلَيْهِ، لا يَخْرُجُ شَيْءٌ عَنْ رُبُوبِيَّتِهِ، وكُلُّ مَن في السَّماواتِ والأرْضِ عَبْدٌ لَهُ في قَبْضَتِهِ، وتَحْتَ قَهْرِهِ، فاجْتَمَعُوا بِصِفَةِ الرُّبُوبِيَّةِ، وافْتَرَقُوا بِصِفَةِ الإلَهِيَّةِ، فَألَّهَهُ وحْدَهُ السُّعَداءُ، وأقَرُّوا لَهُ طَوْعًا بِأنَّهُ اللَّهُ الَّذِي لا إلَهَ إلّا هُوَ، الَّذِي لا تَنْبَغِي العِبادَةُ والتَّوَكُّلُ، والرَّجاءُ والخَوْفُ، والحُبُّ والإنابَةُ والإخْباتُ والخَشْيَةُ، والتَّذَلُّلُ والخُضُوعُ إلّا لَهُ. وَهُنا افْتَرَقَ النّاسُ، وصارُوا فَرِيقَيْنِ: فَرِيقًا مُشْرِكِينَ في السَّعِيرِ، وفَرِيقًا مُوَحِّدِينَ في الجَنَّةِ. فالإلَهِيَّةُ هي الَّتِي فَرَّقَتْهُمْ، كَما أنَّ الرُّبُوبِيَّةَ هي الَّتِي جَمَعَتْهم. فالدِّينُ والشَّرْعُ، والأمْرُ والَنَّهْيُ مَظْهَرُهُ، وقِيامُهُ مِن صِفَةِ الإلَهِيَّةِ، والخَلْقُ والإيجادُ والتَّدْبِيرُ والفِعْلُ مِن صِفَةِ الرُّبُوبِيَّةِ، والجَزاءُ بِالثَّوابِ والعِقابِ والجَنَّةِ والنّارِ مِن صِفَةِ المُلْكِ، وهو مَلِكُ يَوْمِ الدِّينِ، فَأمَرَهم بِإلَهِيَّتِهِ، وأعانَهم ووَفَّقَهم وهَداهم وأضَلَّهم بِرُبُوبِيَّتِهِ، وأثابَهم وعاقَبَهم بِمُلْكِهِ وعَدْلِهِ، وكُلُّ واحِدَةٍ مِن هَذِهِ الأُمُورِ لا تَنْفَكُّ عَنِ الأُخْرى. وَأمّا الرَّحْمَةُ فَهي التَّعَلُّقُ، والسَّبَبُ الَّذِي بَيْنَ اللَّهِ وبَيْنَ عِبادِهِ، فالتَّأْلِيهُ مِنهم لَهُ، والرُّبُوبِيَّةُ مِنهُ لَهُمْ، والرَّحْمَةُ سَبَبٌ واصِلٌ بَيْنَهُ وبَيْنَ عِبادِهِ، بِها أرْسَلَ إلَيْهِمْ رُسُلَهُ، وأنْزَلَ عَلَيْهِمْ كُتُبَهُ، وبِها هَداهُمْ، وبِها أسْكَنَهم دارَ ثَوابِهِ، وبِها رَزَقَهم وعافاهم وأنْعَمَ عَلَيْهِمْ، فَبَيْنَهم وبَيْنَهُ سَبَبُ العُبُودِيَّةِ، وبَيْنَهُ وبَيْنَهم سَبَبُ الرَّحْمَةِ. واقْتِرانُ رُبُوبِيَّتِهِ بِرَحْمَتِهِ كاقْتِرانِ اسْتِوائِهِ عَلى عَرْشِهِ بِرَحْمَتِهِ، فَ ﴿الرَّحْمَنُ عَلى العَرْشِ اسْتَوى﴾ [طه: ٥] مُطابِقٌ لِقَوْلِهِ ﴿رَبِّ العالَمِينَ - الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ﴾ [الفاتحة: ٢-٣] فَإنَّ شُمُولَ الرُّبُوبِيَّةِ وسِعَتْها بِحَيْثُ لا يَخْرُجُ شَيْءٌ عَنْها أقْصى شُمُولِ الرَّحْمَةِ وسِعَتِها، فَوَسِعَ كُلَّ شَيْءٍ بِرَحْمَتِهِ ورُبُوبِيَّتِهِ، مَعَ أنَّ في كَوْنِهِ رَبًّا لِلْعالَمِينَ ما يَدُلُّ عَلى عُلُوِّهِ عَلى خَلْقِهِ، وكَوْنِهِ فَوْقَ كُلِّ شَيْءٍ، كَما يَأْتِي بَيانُهُ إنْ شاءَ اللَّهُ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب