الباحث القرآني
* [فصل: اشْتِمالُ الفاتِحَةِ عَلى أُمَّهاتِ المَطالِبِ]
اعْلَمْ أنَّ هَذِهِ السُّورَةَ اشْتَمَلَتْ عَلى أُمَّهاتِ المَطالِبِ العالِيَةِ أتَمَّ اشْتِمالٍ، وتَضَمَّنَتْها أكْمَلَ تَضَمُّنٍ.
فاشْتَمَلَتْ عَلى التَّعْرِيفِ بِالمَعْبُودِ تَبارَكَ وتَعالى بِثَلاثَةِ أسْماءٍ، مَرْجِعُ الأسْماءِ الحُسْنى والصِّفاتِ العُلْيا إلَيْها، ومَدارُها عَلَيْها، وهِيَ: اللَّهُ، والرَّبُّ، والرَّحْمَنُ، وبُنِيَتِ السُّورَةُ عَلى الإلَهِيَّةِ، والرُّبُوبِيَّةِ، والرَّحْمَةِ، فَ ﴿إيّاكَ نَعْبُدُ﴾ [الفاتحة: ٥] مَبْنِيٌّ عَلى الإلَهِيَّةِ، ﴿إيّاكَ نَسْتَعِينُ﴾ [الفاتحة: ٥] عَلى الرُّبُوبِيَّةِ، وطَلَبُ الهِدايَةِ إلى الصِّراطِ المُسْتَقِيمِ بِصِفَةِ الرَّحْمَةِ، والحَمْدُ يَتَضَمَّنُ الأُمُورَ الثَّلاثَةَ، فَهو المَحْمُودُ في إلَهِيَّتِهِ، ورُبُوبِيَّتِهِ، ورَحْمَتِهِ، والثَّناءُ والمَجْدُ كَمالانِ لِجَدِّهِ.
وَتَضَمَّنَتْ إثْباتَ المَعادِ، وجَزاءَ العِبادِ بِأعْمالِهِمْ، حَسَنِها وسَيِّئِها، وتَفَرُّدَ الرَّبِّ تَعالى بِالحُكْمِ إذْ ذاكَ بَيْنَ الخَلائِقِ، وكَوْنَ حُكْمِهِ بِالعَدْلِ، وكُلُّ هَذا تَحْتَ قَوْلِهِ ﴿مالِكِ يَوْمِ الدِّينِ﴾ [الفاتحة: ٤].
وَتَضَمَّنَتْ إثْباتَ النُّبُوّاتِ مِن جِهاتٍ عَدِيدَةٍ:
أحَدُها: كَوْنُهُ رَبَّ العالَمِينَ، فَلا يَلِيقُ بِهِ أنْ يَتْرُكَ عِبادَهُ سُدًى هَمَلًا لا يُعَرِّفُهم ما يَنْفَعُهم في مَعاشِهِمْ ومَعادِهِمْ وما يَضُرُّهم فِيهِما، فَهَذا هَضْمٌ لِلرُّبُوبِيَّةِ، ونِسْبَةُ الرَّبِّ تَعالى إلى ما لا يَلِيقُ بِهِ، وما قَدَرَهُ حَقَّ قَدْرِهِ مَن نَسَبَهُ إلَيْهِ.
الثّانِي: أخْذُها مِنَ اسْمِ اللَّهِ، وهو المَأْلُوهُ المَعْبُودُ، ولا سَبِيلَ لِلْعِبادِ إلى مَعْرِفَةِ عِبادَتِهِ إلّا مِن طَرِيقِ رُسُلِهِ.
المَوْضِعُ الثّالِثُ: مِنِ اسْمِهِ الرَّحْمَنِ فَإنَّ رَحْمَتَهُ تَمْنَعُ إهْمالَ عِبادِهِ، وعَدَمَ تَعْرِيفِهِمْ ما يَنالُونَ بِهِ غايَةَ كَمالِهِمْ، فَمَن أعْطى اسْمَ الرَّحْمَنِ حَقَّهُ عَرَفَ أنَّهُ مُتَضَمِّنٌ لِإرْسالِ الرُّسُلِ، وإنْزالِ الكُتُبِ، أعْظَمَ مِن تَضَمُّنِهِ إنْزالَ الغَيْثِ، وإنْباتَ الكَلَأِ، وإخْراجَ الحَبِّ، فاقْتِضاءُ الرَّحْمَةِ لِما تَحْصُلُ بِهِ حَياةُ القُلُوبِ والأرْواحِ أعْظَمُ مِنِ اقْتِضائِها لِما تَحْصُلُ بِهِ حَياةُ الأبْدانِ والأشْباحِ، لَكِنِ المَحْجُوبُونَ إنَّما أدْرَكُوا مِن هَذا الِاسْمِ حَظَّ البَهائِمِ والدَّوابِّ، وأدْرَكَ مِنهُ أُولُو الألْبابِ أمْرًا وراءَ ذَلِكَ.
المَوْضِعُ الرّابِعُ: مِن ذِكْرِ يَوْمِ الدِّينِ فَإنَّهُ اليَوْمُ الَّذِي يُدِينُ اللَّهُ العِبادَ فِيهِ بِأعْمالِهِمْ، فَيُثِيبُهم عَلى الخَيْراتِ، ويُعاقِبُهم عَلى المَعاصِي والسَّيِّئاتِ، وما كانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَ أحَدًا قَبْلَ إقامَةِ الحُجَّةِ عَلَيْهِ، والحُجَّةُ إنَّما قامَتْ بِرُسُلِهِ وكُتُبِهِ، وبِهِمُ اسْتُحِقَّ الثَّوابُ والعِقابُ، وبِهِمْ قامَ سُوقُ يَوْمِ الدِّينِ، وسِيقَ الأبْرارُ إلى النَّعِيمِ، والفُجّارُ إلى الجَحِيمِ.
المَوْضِعُ الخامِسُ: مِن قَوْلِهِ ﴿إيّاكَ نَعْبُدُ﴾ [الفاتحة: ٥] فَإنَّ ما يُعْبَدُ بِهِ الرَّبُّ تَعالى لا يَكُونُ إلّا عَلى ما يُحِبُّهُ ويَرْضاهُ، وعِبادَتُهُ وهي شُكْرُهُ وحُبُّهُ وخَشْيَتُهُ فِطْرِيٌّ ومَعْقُولٌ لِلْعُقُولِ السَّلِيمَةِ، لَكِنَّ طَرِيقَ التَّعَبُّدِ وما يُعْبَدُ بِهِ لا سَبِيلَ إلى مَعْرِفَتِهِ إلّا بِرُسُلِهِ وبَيانِهِمْ، وفي هَذا بَيانُ أنَّ إرْسالَ الرُّسُلِ أمْرٌ مُسْتَقِرٌّ في العُقُولِ، يَسْتَحِيلُ تَعْطِيلُ العالَمِ عَنْهُ، كَما يَسْتَحِيلُ تَعْطِيلُهُ عَنِ الصّانِعِ، فَمَن أنْكَرَ الرَّسُولَ فَقَدْ أنْكَرَ المُرْسِلَ ولَمْ يُؤْمِن بِهِ، ولِهَذا جَعَلَ اللَّهُ سُبْحانَهُ الكُفْرَ بِرُسُلِهِ كُفْرًا بِهِ.
* [فصل]
أول سورة في القرآن وهي الفاتحة، تدل على أن الأرواح مخلوقة من عدة أوجه:
- أحدها قوله تعالى: ﴿الحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ العالَمِينَ﴾ والأرواح من جملة العالم فهو ربها.
- الثاني قوله تعالى: ﴿إيّاكَ نَعْبُدُ وإيّاكَ نَسْتَعِينُ﴾ فالأرواح عابدة له مستعينة، ولو كانت غير مخلوقة لكانت معبودة مستعانا بها.
- الثالث: أنها فقيرة إلى هواية فاطرها وربها، تسأله أن يهديها صراطه المستقيم.
- الرابع: أنها منعم عليها مرحومة، ومغضوب عليها ضالة شقية، وهذا المربوب والمملوك لا شأن القديم غير المخلوق.
* [فَصْل: شَرائِطُ التَّوْبَةِ]
وَلَمّا كانَتِ التَّوْبَةُ هي رُجُوعُ العَبْدِ إلى اللَّهِ، ومُفارَقَتُهُ لِصِراطِ المَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ والضّالِّينَ، وذَلِكَ لا يَحْصُلُ إلّا بِهِدايَةِ اللَّهِ إلى الصِّراطِ المُسْتَقِيمِ، ولا تَحْصُلُ هِدايَتُهُ إلّا بِإعانَتِهِ وتَوْحِيدِهِ، فَقَدِ انْتَظَمَتْها سُورَةُ الفاتِحَةِ أحْسَنَ انْتِظامٍ، وتَضَمَّنَتْها أبْلَغَ تَضَمُّنٍ، فَمَن أعْطى الفاتِحَةَ حَقَّها - عِلْمًا وشُهُودًا وحالًا مَعْرِفَةً - عَلِمَ أنَّهُ لا تَصِحُّ لَهُ قِراءَتُها عَلى العُبُودِيَّةِ إلّا بِالتَّوْبَةِ النَّصُوحِ، فَإنَّ الهِدايَةَ التّامَّةَ إلى الصِّراطِ المُسْتَقِيمِ لا تَكُونُ مَعَ الجَهْلِ بِالذُّنُوبِ، ولا مَعَ الإصْرارِ عَلَيْها، فَإنَّ الأوَّلَ جَهْلٌ يُنافِي مَعْرِفَةَ الهُدى، والثّانِيَ غَيٌّ يُنافِي قَصْدَهُ وإرادَتَهُ، فَلِذَلِكَ لا تَصِحُّ التَّوْبَةُ إلّا بَعْدَ مَعْرِفَةِ الذَّنْبِ، والِاعْتِرافِ بِهِ، وطَلَبِ التَّخَلُّصِ مِن سُوءِ عَواقِبِهِ أوَّلًا وآخِرًا.
[فائِدَة للْإنْسان قوتان قُوَّة علمية نظرية وقُوَّة عملية إرادية]
وسعادته التّامَّة مَوْقُوفَة على استكمال قوتيه العلمية الإرادية واستكمال القُوَّة العلمية إنَّما يكون بِمَعْرِفَة فاطره وبارئه ومَعْرِفَة أسْمائِهِ وصِفاته ومَعْرِفَة الطَّرِيق الَّتِي توصل إلَيْهِ ومَعْرِفَة آفاتها ومَعْرِفَة نَفسه ومَعْرِفَة عيوبها فبهذه المعارف الخَمْسَة يحصل كَمال قوته العلمية، وأعلم النّاس أعرفهم بها وأفقههم فِيها استكمال القُوَّة العلمية الإرادية لا تحصل إلّا بمراعاة حُقُوقه سُبْحانَهُ على العَبْد والقِيام بها إخلاصا وصدقا ونصحا وإحسانا ومتابعة وشهودا لمنّته عَلَيْهِ وتقصيره هو في أداء حقّه فَهو مستحي من مواجهته بِتِلْكَ الخدمَة لعلمه أنَّها دون ما يستحقّه عَلَيْهِ ودون دون ذَلِك وأنه لا سَبِيل لَهُ إلى استكمال هاتين القوتين إلّا بمعونته فَهو مُضْطَر إلى أن يهديه الصِّراط المُسْتَقيم الَّذِي هدى إلَيْهِ أولياءه وخاصّته وأن يجنّبه الخُرُوج عَن ذَلِك الصِّراط إمّا بِفساد في قوته العلمية فَيَقَع في الضلال واما في قوّته العملية فَيُوجب لَهُ الغَضَب.
فكمال الإنْسان وسعادته لا تتمّ إلّا بِمَجْمُوع هَذِه الأُمُور وقد تضمنّتها سُورَة الفاتِحَة وانتظمتها أكمل انتظام
فَإن قَوْله ﴿الحَمد لله رب العالَمِينَ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ مالِكِ يَوْمِ الدِّينِ﴾ يتضمّن الأصْل الأوّل وهو معرفَة الرب تَعالى ومَعْرِفَة أسْمائِهِ وصِفاته وأفعاله والأسماء المَذْكُورَة في هَذِه السُّورَة هي أصُول الأسْماء الحسنى وهِي اسْم الله والرب والرحمن فاسم الله متضمّن لصفات الألوهيّة واسم الرب متضمّن الربوبية واسم الرَّحْمَن مُتَضَمّن لصفات الإحْسان والجود والبر ومعاني أسْمائِهِ تَدور على هَذا وقَوله ﴿إيّاكَ نَعْبُدُ وإيّاكَ نَسْتَعِينُ﴾ يتضمّن معرفَة الطَّرِيق الموصلة إلَيْهِ وأنَّها لَيست إلّا عِبادَته وحده بِما يحبّه ويرضاه واستعانته على عِبادَته وقَوله ﴿اهْدِنا الصِّراط المُسْتَقيم﴾ يتضمّن بَيان أن العَبْد لا سَبِيل لَهُ إلى سعادته إلّا باستقامته على الصِّراط المُسْتَقيم وأنه لا سَبِيل لَهُ إلى الاسْتقامَة إلّا بهداية ربه لَهُ كَما لا سَبِيل لَهُ إلى عِبادَته بمعونته فَلا سَبِيل لَهُ إلى الاسْتقامَة على الصِّراط إلّا بهدايته وقَوله ﴿غَيْرِ المَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ ولا الضّالِّينَ﴾
يتضمّن بَيان طرفِي الانحراف عَن الصِّراط المُسْتَقيم وأن الانحراف إلى أحد الطَّرفَيْنِ انحراف إلى الضلال الَّذِي هو فَساد العلم والاعتقاد والانحراف إلى الطّرف الآخر انحراف إلى الغَضَب الَّذِي سَببه فَساد القَصْد والعَمَل.
فأوّل السُّورَة رَحْمَة وأوسطها هِدايَة وآخِرها نعْمَة، وحظ العَبْد من النِّعْمَة على قدر حظّه من الهِدايَة وحظّه مِنها على قدر حظّه من الرَّحْمَة فَعاد الأمر كلّه إلى نعْمَته ورَحمته والنعْمَة والرَّحْمَة من لَوازِم ربوبيّته فَلا يكون إلّا رحِيما منعما وذَلِكَ من مُوجبات الهيّته فَهو الإلَه الحق وإن جَحده الجاحدون وعدل بِهِ المُشْركُونَ فَمن تحقّق بمعاني الفاتِحَة علما ومَعْرِفَة وعَملا وحالا فقد فازَ من كَماله بأوفر نصيب وصارَت عبوديّته عبوديّة الخاصّة الَّذين ارْتَفَعت درجتهم عَن عوام المتعبّدين والله المُسْتَعان.
* [فَصْلٌ هَدْيِهِ ﷺ في رُقْيَةِ اللَّدِيغِ بِالفاتِحَةِ]
أخْرَجا في " الصَّحِيحَيْنِ " مِن حَدِيثِ أبِي سَعِيدٍ الخُدْرِيِّ، قالَ: «انْطَلَقَ نَفَرٌ مِن أصْحابِ النَّبِيِّ ﷺ في سَفْرَةٍ سافَرُوها حَتّى نَزَلُوا عَلى حَيٍّ مِن أحْياءِ العَرَبِ، فاسْتَضافُوهم فَأبَوْا أنْ يُضَيِّفُوهم فَلُدِغَ سَيِّدُ ذَلِكَ الحَيِّ فَسَعَوْا لَهُ بِكُلِّ شَيْءٍ لا يَنْفَعُهُ شَيْءٌ فَقالَ بَعْضُهُمْ: لَوْ أتَيْتُمْ هَؤُلاءِ الرَّهْطَ الَّذِينَ نَزَلُوا لَعَلَّهم أنْ يَكُونَ عِنْدَ بَعْضِهِمْ شَيْءٌ فَأتَوْهم فَقالُوا: يا أيُّها الرَّهْطُ إنَّ سَيَّدَنا لُدِغَ، وسَعَيْنا لَهُ بِكُلِّ شَيْءٍ لا يَنْفَعُهُ، فَهَلْ عِنْدَ أحَدٍ مِنكم مِن شَيْءٍ؟ فَقالَ بَعْضُهُمْ: نَعَمْ واللَّهِ إنِّي لَأرْقِي، ولَكِنِ اسْتَضَفْناكم فَلَمْ تُضَيِّفُونا فَما أنا بَراقٍ حَتّى تَجْعَلُوا لَنا جُعْلًا، فَصالَحُوهم عَلى قَطِيعٍ مِنَ الغَنَمِ، فانْطَلَقَ يَتْفُلُ عَلَيْهِ، ويَقْرَأُ: الحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ العالَمِينَ، فَكَأنَّما أُنْشِطَ مِن عِقالٍ، فانْطَلَقَ يَمْشِي، وما بِهِ قَلَبَةٌ قالَ: فَأوْفَوْهم جُعْلَهُمُ الَّذِي صالَحُوهم عَلَيْهِ، فَقالَ بَعْضُهُمْ: اقْتَسِمُوا فَقالَ الَّذِي رَقى: لا تَفْعَلُوا حَتّى نَأْتِيَ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ فَنَذْكُرَ لَهُ الَّذِي كانَ، فَنَنْظُرَ ما يَأْمُرُنا، فَقَدِمُوا عَلى رَسُولِ اللَّهِ ﷺ فَذَكَرُوا لَهُ ذَلِكَ فَقالَ: " وما يُدْرِيكَ أنَّها رُقْيَةٌ؟ "
ثُمَّ قالَ: قَدْ أصَبْتُمْ، اقْسِمُوا واضْرِبُوا لِي مَعَكم سَهْمًا».
وَقَدْ رَوى ابْنُ ماجَهْ في " سُنَنِهِ " مِن حَدِيثِ علي قالَ: قالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ:
«خَيْرُ الدَّواءِ القُرْآنُ».
وَمِنَ المَعْلُومِ أنَّ بَعْضَ الكَلامِ لَهُ خَواصُّ ومَنافِعُ مُجَرَّبَةٌ، فَما الظَّنُّ بِكَلامِ رَبِّ العالَمِينَ، الَّذِي فَضْلُهُ عَلى كُلِّ كَلامٍ كَفَضْلِ اللَّهِ عَلى خَلْقِهِ الَّذِي هو الشِّفاءُ التّامُّ، والعِصْمَةُ النّافِعَةُ، والنُّورُ الهادِي، والرَّحْمَةُ العامَّةُ الَّذِي لَوْ أُنْزِلَ عَلى جَبَلٍ؛ لَتَصَدَّعَ مِن عَظَمَتِهِ وجَلالَتِهِ. قالَ تَعالى: ﴿وَنُنَزِّلُ مِنَ القُرْآنِ ما هو شِفاءٌ ورَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ﴾ [الإسراء: ٨٢]
وَ" مِن " هاهُنا لِبَيانِ الجِنْسِ لا لِلتَّبْعِيضِ، هَذا أصَحُّ القَوْلَيْنِ كَقَوْلِهِ تَعالى: ﴿وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وعَمِلُوا الصّالِحاتِ مِنهم مَغْفِرَةً وأجْرًا عَظِيمًا﴾ [الفتح: ٢٩] وكُلُّهم مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا وعَمِلُوا الصّالِحاتِ، فَما الظَّنُّ بِفاتِحَةِ الكِتابِ الَّتِي لَمْ يُنْزَلْ في القُرْآنِ، ولا في التَّوْراةِ، ولا في الإنْجِيلِ، ولا في الزَّبُورِ مِثْلُها، المُتَضَمِّنَةِ لِجَمِيعِ مَعانِي كُتُبِ اللَّهِ المُشْتَمِلَةِ عَلى ذِكْرِ أُصُولِ أسْماءِ الرَّبِّ - تَعالى - ومَجامِعِها، وهي اللَّهُ، والرَّبُّ، والرَّحْمَنُ، وإثْباتِ المَعادِ، وذِكْرِ التَّوْحِيدَيْنِ: تَوْحِيدِ الرَّبُوبِيَّةِ، وتَوْحِيدِ الإلَهِيَّةِ، وذِكْرِ الِافْتِقارِ إلى الرَّبِّ سُبْحانَهُ في طَلَبِ الإعانَةِ، وطَلَبِ الهِدايَةِ، وتَخْصِيصِهِ سُبْحانَهُ بِذَلِكَ، وذِكْرِ أفْضَلِ الدُّعاءِ عَلى الإطْلاقِ، وأنْفَعِهِ وأفْرَضِهِ، وما العِبادُ أحْوَجُ شَيْءٍ إلَيْهِ، وهو الهِدايَةُ إلى صِراطِهِ المُسْتَقِيمِ، المُتَضَمِّنِ كَمالَ مَعْرِفَتِهِ، وتَوْحِيدِهِ وعِبادَتِهِ بِفِعْلِ ما أمَرَ بِهِ، واجْتِنابِ ما نَهى عَنْهُ، والِاسْتِقامَةِ عَلَيْهِ إلى المَماتِ، ويَتَضَمَّنُ ذِكْرَ أصْنافِ الخَلائِقِ، وانْقِسامَهم إلى مُنْعَمٍ عَلَيْهِ بِمَعْرِفَةِ الحَقِّ، والعَمَلِ بِهِ، ومَحَبَّتِهِ، وإيثارِهِ، ومَغْضُوبٍ عَلَيْهِ بِعُدُولِهِ عَنِ الحَقِّ بَعْدَ مَعْرِفَتِهِ لَهُ، وضالٍّ بِعَدَمِ مَعْرِفَتِهِ لَهُ.
وَهَؤُلاءِ أقْسامُ الخَلِيقَةِ مَعَ تَضَمُّنِها لِإثْباتِ القَدَرِ، والشَّرْعِ، والأسْماءِ، والصِّفاتِ، والمَعادِ، والنُّبُوّاتِ، وتَزْكِيَةِ النُّفُوسِ، وإصْلاحِ القُلُوبِ، وذِكْرِ عَدْلِ اللَّهِ، وإحْسانِهِ، والرَّدِّ عَلى جَمِيعِ أهْلِ البِدَعِ والباطِلِ، كَما ذَكَرْنا ذَلِكَ في كِتابِنا الكَبِيرِ " مَدارِجِ السّالِكِينَ " في شَرْحِها.
وَحَقِيقٌ بِسُورَةٍ هَذا بَعْضُ شَأْنِها أنْ يُسْتَشْفى بِها مِنَ الأدْواءِ، ويُرْقى بِها اللَّدِيغُ.
وَبِالجُمْلَةِ فَما تَضَمَّنَتْهُ الفاتِحَةُ مِن إخْلاصِ العُبُودِيَّةِ والثَّناءِ عَلى اللَّهِ، وتَفْوِيضِ الأمْرِ كُلِّهِ إلَيْهِ، والِاسْتِعانَةِ بِهِ، والتَّوَكُّلِ عَلَيْهِ، وسُؤالِهِ مَجامِعَ النِّعَمِ كُلِّها، وهي الهِدايَةُ الَّتِي تَجْلِبُ النِّعَمَ، وتَدْفَعُ النِّقَمَ مِن أعْظَمِ الأدْوِيَةِ الشّافِيَةِ الكافِيَةِ.
وَقَدْ قِيلَ: إنَّ مَوْضِعَ الرُّقْيَةِ مِنها: ﴿إيّاكَ نَعْبُدُ وإيّاكَ نَسْتَعِينُ﴾ ولا رَيْبَ أنَّ هاتَيْنِ الكَلِمَتَيْنِ مِن أقْوى أجْزاءِ هَذا الدَّواءِ، فَإنَّ فِيهِما مِن عُمُومِ التَّفْوِيضِ والتَّوَكُّلِ، والِالتِجاءِ والِاسْتِعانَةِ، والِافْتِقارِ والطَّلَبِ، والجَمْعِ بَيْنَ أعْلى الغاياتِ، وهي عِبادَةُ الرَّبِّ وحْدَهُ، وأشْرَفِ الوَسائِلِ وهي الِاسْتِعانَةُ بِهِ عَلى عِبادَتِهِ، ما لَيْسَ في غَيْرِها، ولَقَدْ مَرَّ بِي وقْتٌ بِمَكَّةَ سَقِمْتُ فِيهِ، وفَقَدْتُ الطَّبِيبَ والدَّواءَ، فَكُنْتُ أتَعالَجُ بِها آخُذُ شَرْبَةً مِن ماءِ زَمْزَمَ وأقْرَؤُها عَلَيْها مِرارًا، ثُمَّ أشْرَبُهُ فَوَجَدْتُ بِذَلِكَ البُرْءَ التّامَّ، ثُمَّ صِرْتُ أعْتَمِدُ ذَلِكَ عِنْدَ كَثِيرٍ مِنَ الأوْجاعِ فَأنْتَفِعُ بِها غايَةَ الِانْتِفاعِ.
* [فَصْلٌ نَفْسُ الرّاقِي تَفْعَلُ في نَفْسِ المَرْقِيِّ فَتَدْفَعُ عَنْهُ المَرَضَ بِإذْنِ اللَّهِ]
وَفِي تَأْثِيرِ الرُّقى بِالفاتِحَةِ وغَيْرِها في عِلاجِ ذَواتِ السُّمُومِ سِرٌّ بَدِيعٌ، فَإنَّ ذَواتِ السُّمُومِ أثَّرَتْ بِكَيْفِيّاتِ نُفُوسِها الخَبِيثَةِ، كَما تَقَدَّمَ وسِلاحُها حُماتُها الَّتِي تَلْدَغُ بِها، وهي لا تَلْدَغُ حَتّى تَغْضَبَ، فَإذا غَضِبَتْ ثارَ فِيها السُّمُّ، فَتَقْذِفُهُ بِآلَتِها، وقَدْ جَعَلَ اللَّهُ سُبْحانَهُ لِكُلِّ داءٍ دَواءً، ولِكُلِّ شَيْءٍ ضِدًّا، ونَفْسُ الرّاقِي تَفْعَلُ في نَفْسِ المَرْقِيِّ، فَيَقَعُ بَيْنَ نَفْسَيْهِما فِعْلٌ وانْفِعالٌ، كَما يَقَعُ بَيْنَ الدّاءِ والدَّواءِ، فَتَقْوى نَفْسُ الرّاقِي وقُوَّتُهُ بِالرُّقْيَةِ عَلى ذَلِكَ الدّاءِ فَيَدْفَعُهُ بِإذْنِ اللَّهِ، ومَدارُ تَأْثِيرِ الأدْوِيَةِ والأدْواءِ عَلى الفِعْلِ والِانْفِعالِ، وهو كَما يَقَعُ بَيْنَ الدّاءِ والدَّواءِ الطَّبِيعِيَّيْنِ، يَقَعُ بَيْنَ الدّاءِ والدَّواءِ الرُّوحانِيَّيْنِ، والرُّوحانِيُّ، والطَّبِيعِيُّ، وفي النَّفْثِ والتَّفْلِ اسْتِعانَةٌ بِتِلْكَ الرُّطُوبَةِ والهَواءِ، والنَّفَسِ المُباشِرِ لِلرُّقْيَةِ، والذِّكْرِ، والدُّعاءِ، فَإنَّ الرُّقْيَةَ تَخْرُجُ مِن قَلْبِ الرّاقِي وفَمِهِ، فَإذا صاحَبَها شَيْءٌ مِن أجْزاءِ باطِنِهِ مِنَ الرِّيقِ والهَواءِ والنَّفَسِ، كانَتْ أتَمَّ تَأْثِيرًا، وأقْوى فِعْلًا ونُفُوذًا، ويَحْصُلُ بِالِازْدِواجِ بَيْنَهُما كَيْفِيَّةٌ مُؤَثِّرَةٌ شَبِيهَةٌ بِالكَيْفِيَّةِ الحادِثَةِ عِنْدَ تَرْكِيبِ الأدْوِيَةِ.
وَبِالجُمْلَةِ: فَنَفْسُ الرّاقِي تُقابِلُ تِلْكَ النَّفُوسَ الخَبِيثَةَ، وتَزِيدُ بِكَيْفِيَّةِ نَفْسِهِ، وتَسْتَعِينُ بِالرُّقْيَةِ وبِالنَّفْثِ عَلى إزالَةِ ذَلِكَ الأثَرِ، وكُلَّما كانَتْ كَيْفِيَّةُ نَفْسِ الرّاقِي أقْوى كانَتِ الرُّقْيَةُ أتَمَّ، واسْتِعانَتُهُ بِنَفْثِهِ كاسْتِعانَةِ تِلْكَ النُّفُوسِ الرَّدِيئَةِ بِلَسْعِها.
وَفِي النَّفْثِ سِرٌّ آخَرُ فَإنَّهُ مِمّا تَسْتَعِينُ بِهِ الأرْواحُ الطَّيِّبَةُ والخَبِيثَةُ، ولِهَذا تَفْعَلُهُ السَّحَرَةُ كَما يَفْعَلُهُ أهْلُ الإيمانِ.
قالَ تَعالى: ﴿وَمِن شَرِّ النَّفّاثاتِ في العُقَدِ﴾ [الفلق: ٤] وذَلِكَ؛ لِأنَّ النَّفْسَ تَتَكَيَّفُ بِكَيْفِيَّةِ الغَضَبِ والمُحارَبَةِ، وتُرْسِلُ أنْفاسَها سِهامًا لَها، وتَمُدُّها بِالنَّفْثِ والتَّفْلِ الَّذِي مَعَهُ شَيْءٌ مِنَ الرِّيقِ مُصاحِبٌ لِكَيْفِيَّةٍ مُؤَثِّرَةٍ، والسَّواحِرُ تَسْتَعِينُ بِالنَّفْثِ اسْتِعانَةً بَيِّنَةً، وإنْ لَمْ تَتَّصِلْ بِجِسْمِ المَسْحُورِ، بَلْ تَنْفُثُ عَلى العُقْدَةِ وتَعْقِدُها، وتَتَكَلَّمُ بِالسِّحْرِ فَيَعْمَلُ ذَلِكَ في المَسْحُورِ بِتَوَسُّطِ الأرْواحِ السُّفْلِيَّةِ الخَبِيثَةِ، فَتُقابِلُها الرُّوحُ الزَّكِيَّةُ الطَّيِّبَةُ بِكَيْفِيَّةِ الدَّفْعِ، والتَّكَلُّمِ بِالرُّقْيَةِ وتَسْتَعِينُ بِالنَّفْثِ، فَأيُّهُما قَوِيَ كانَ الحُكْمُ لَهُ، ومُقابَلَةُ الأرْواحِ بَعْضِها لِبَعْضٍ، ومُحارَبَتُها وآلَتُها مِن جِنْسِ مُقابَلَةِ الأجْسامِ، ومُحارَبَتُها وآلَتُها سَواءٌ، بَلِ الأصْلُ في المُحارَبَةِ والتَّقابُلِ لِلْأرْواحِ والأجْسامِ آلَتُها وجُنْدُها، ولَكِنْ مَن غَلَبَ عَلَيْهِ الحِسُّ لا يَشْعُرُ بِتَأْثِيراتِ الأرْواحِ وأفْعالِها وانْفِعالاتِها لِاسْتِيلاءِ سُلْطانِ الحِسِّ عَلَيْهِ، وبُعْدِهِ مِن عالَمِ الأرْواحِ وأحْكامِها وأفْعالِها.
والمَقْصُودُ: أنَّ الرُّوحَ إذا كانَتْ قَوِيَّةً وتَكَيَّفَتْ بِمَعانِي الفاتِحَةِ، واسْتَعانَتْ بِالنَّفْثِ والتَّفْلِ، قابَلَتْ ذَلِكَ الأثَرَ الَّذِي حَصَلَ مِنَ النُّفُوسِ الخَبِيثَةِ فَأزالَتْهُ، واللَّهُ أعْلَمُ.
* [فَصْلٌ: في بَيانِ اشْتِمالِ الفاتِحَةِ عَلى الشِفاءَيْنِ شِفاءِ القُلُوبِ وشِفاءِ الأبْدانِ]
فَأمّا اشْتِمالُها عَلى شِفاءِ القُلُوبِ: فَإنَّها اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ أتَمَّ اشْتِمالٍ، فَإنَّ مَدارَ اعْتِلالِ القُلُوبِ وأسْقامِها عَلى أصْلَيْنِ: فَسادِ العِلْمِ، وفَسادِ القَصْدِ.
وَيَتَرَتَّبُ عَلَيْهِما داءانِ قاتِلانِ، وهُما الضَّلالُ والغَضَبُ، فالضَّلالُ نَتِيجَةُ فَسادِ العِلْمِ، والغَضَبُ نَتِيجَةُ فَسادِ القَصْدِ، وهَذانَ المَرَضانِ هُما مِلاكُ أمْراضِ القُلُوبِ جَمِيعِها، فَهِدايَةُ الصِّراطِ المُسْتَقِيمِ تَتَضَمَّنُ الشِّفاءَ مِن مَرَضِ الضَّلالِ، ولِذَلِكَ كانَ سُؤالُ هَذِهِ الهِدايَةِ أفْرَضَ دُعاءٍ عَلى كُلِّ عَبْدٍ، وأوْجَبَهُ عَلَيْهِ كُلَّ يَوْمٍ ولَيْلَةٍ في كُلِّ صَلاةٍ، لِشِدَّةِ ضَرُورَتِهِ وفاقَتِهِ إلى الهِدايَةِ المَطْلُوبَةِ، ولا يَقُومُ غَيْرُ هَذا السُّؤالِ مَقامَهُ.
والتَّحَقُّقُ بِ ﴿إيّاكَ نَعْبُدُ وإيّاكَ نَسْتَعِينُ﴾ [الفاتحة: ٥] عِلْمًا ومَعْرِفَةً، وعَمَلًا وحالًا يَتَضَمَّنُ الشِّفاءَ مِن مَرَضِ فَسادِ القَلْبِ والقَصْدِ، فَإنَّ فَسادَ القَصْدِ يَتَعَلَّقُ بِالغاياتِ والوَسائِلِ، فَمَن طَلَبَ غايَةً مُنْقَطِعَةً مُضْمَحِلَّةً فانِيَةً، وتَوَسَّلَ إلَيْها بِأنْواعِ الوَسائِلِ المُوَّصِلَةِ إلَيْها كانَ كِلا نَوْعِي قَصْدِهِ فاسِدًا، وهَذا شَأْنُ كُلِّ مَن كانَ غايَةُ مَطْلُوبِهِ غَيْرَ اللَّهِ وعُبُودِيَّتِهِ مِنَ المُشْرِكِينَ، ومُتَّبِعِي الشَّهَواتِ، الَّذِينَ لا غايَةَ لَهم وراءَها، وأصْحابِ الرِّياساتِ المُتَّبِعِينَ لِإقامَةِ رِياسَتِهِمْ بِأيِّ طَرِيقٍ كانَ مِن حَقٍّ أوْ باطِلٍ، فَإذا جاءَ الحَقُّ مُعارِضًا في طَرِيقِ رِياسَتِهِمْ طَحَنُوهُ وداسُوهُ بِأرْجُلِهِمْ، فَإنْ عَجَزُوا عَنْ ذَلِكَ دَفَعُوهُ دَفْعَ الصّائِلِ، فَإنْ عَجَزُوا عَنْ ذَلِكَ حَبَسُوهُ في الطَّرِيقِ، وحادُوا عَنْهُ إلى طَرِيقٍ أُخْرى، وهم مُسْتَعِدُّونَ لِدَفْعِهِ بِحَسَبِ الإمْكانِ، فَإذا لَمْ يَجِدُوا مِنهُ بُدًّا أعْطَوْهُ السِّكَّةَ والخُطْبَةَ وعَزَلُوهُ عَنِ التَّصَرُّفِ والحُكْمِ والتَّنْفِيذِ، وإنْ جاءَ الحَقُّ ناصِرًا لَهم وكانَ لَهم صالُوا بِهِ وجالُوا، وأتَوْا إلَيْهِ مُذْعِنِينَ، لا لِأنَّهُ حَقٌّ، بَلْ لِمُوافَقَتِهِ غَرَضَهم وأهْواءَهُمْ، وانْتِصارِهِمْ بِهِ ﴿وَإذا دُعُوا إلى اللَّهِ ورَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهم إذا فَرِيقٌ مِنهم مُعْرِضُونَ وإنْ يَكُنْ لَهُمُ الحَقُّ يَأْتُوا إلَيْهِ مُذْعِنِينَ أفِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ أمِ ارْتابُوا أمْ يَخافُونَ أنْ يَحِيفَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ ورَسُولُهُ بَلْ أُولَئِكَ هُمُ الظّالِمُونَ﴾ [النور: ٤٨].
والمَقْصُودُ: أنَّ قَصْدَ هَؤُلاءِ فاسِدٌ في غاياتِهِمْ ووَسائِلِهِمْ، وهَؤُلاءِ إذا بَطَلَتِ الغاياتُ الَّتِي طَلَبُوها، واضْمَحَلَّتْ وفَنِيَتْ، حَصَلُوا عَلى أعْظَمِ الخُسْرانِ والحَسَراتِ، وهم أعْظَمُ النّاسِ نَدامَةً وتَحَسُّرًا إذا حَقَّ الحَقُّ وبَطَلَ الباطِلُ، وتَقَطَّعَتْ بِهِمْ أسْبابُ الوَصْلِ الَّتِي كانَتْ بَيْنَهُمْ، وتَيَقَّنُوا انْقِطاعَهم عَنْ رَكْبِ الفَلاحِ والسَّعادَةِ، وهَذا يَظْهَرُ كَثِيرًا في الدُّنْيا، ويَظْهَرُ أقْوى مِن ذَلِكَ عِنْدَ الرَّحِيلِ مِنها والقُدُومِ عَلى اللَّهِ، ويَشْتَدُّ ظُهُورُهُ وتَحَقُّقُهُ في البَرْزَخِ، ويَنْكَشِفُ كُلَّ الِانْكِشافِ يَوْمَ اللِّقاءِ، إذا حَقَّتِ الحَقائِقُ، وفازَ المُحِقُّونَ وخَسِرَ المُبْطِلُونَ، وعَلِمُوا أنَّهم كانُوا كاذِبِينَ، وكانُوا مَخْدُوعِينَ مَغْرُورِينَ، فِيالَهُ هُناكَ مِن عِلْمٍ لا يَنْفَعُ عالِمَهُ، ويَقِينٍ لا يُنْجِي مُسْتَيْقِنَهُ.
وَكَذَلِكَ مَن طَلَبَ الغايَةَ العُلْيا والمَطْلَبَ الأسْمى، ولَكِنْ لَمْ يَتَوَسَّلْ إلَيْهِ بِالوَسِيلَةِ المُوَصِّلَةِ لَهُ وإلَيْهِ، بَلْ تَوَسَّلَ إلَيْهِ بِوَسِيلَةٍ ظَنَّها مُوَصِّلَةً إلَيْهِ، وهي مِن أعْظَمِ القَواطِعِ عَنْهُ، فَحالُهُ أيْضًا كَحالِ هَذا، وكِلاهُما فاسِدُ القَصْدِ، ولا شِفاءَ مِن هَذا المَرَضِ إلّا بِدَواءِ " ﴿إيّاكَ نَعْبُدُ وإيّاكَ نَسْتَعِينُ﴾ [الفاتحة: ٥] ".
فَإنَّ هَذا الدَّواءَ مُرَكَّبٌ مِن سِتَّةِ أجْزاءٍ (١) عُبُودِيَّةِ اللَّهِ لا غَيْرِهِ (٢) بِأمْرِهِ وشَرْعِهِ (٣) لا بِالهَوى (٤) ولا بِآراءِ الرِّجالِ وأوْضاعِهِمْ، ورُسُومِهِمْ، وأفْكارِهِمْ (٥) بِالِاسْتِعانَةِ عَلى عُبُودِيَّتِهِ بِهِ (٦) لا بِنَفْسِ العَبْدِ وقُوَّتِهِ وحَوْلِهِ ولا بِغَيْرِهِ.
فَهَذِهِ هي أجْزاءُ ﴿إيّاكَ نَعْبُدُ وإيّاكَ نَسْتَعِينُ﴾ [الفاتحة: ٥] فَإذا رَكَّبَها الطَّبِيبُ اللَّطِيفُ، العالِمُ بِالمَرَضِ، واسْتَعْمَلَها المَرِيضُ، حَصَلَ بِها الشِّفاءُ التّامُّ، وما نَقَصَ مِنَ الشِّفاءِ فَهو لِفَواتِ جُزْءٍ مِن أجْزائِها، أوِ اثْنَيْنِ أوْ أكْثَرَ.
ثُمَّ إنَّ القَلْبَ يَعْرِضُ لَهُ مَرَضانِ عَظِيمانِ، إنْ لَمْ يَتَدارَكْهُما العَبْدُ تَرامَيا بِهِ إلى التَّلَفِ ولا بُدَّ، وهُما الرِّياءُ، والكِبْرُ، فَدَواءُ الرِّياءِ بِ ﴿إيّاكَ نَعْبُدُ﴾ [الفاتحة: ٥] ودَواءُ الكِبْرِ بِ ﴿إيّاكَ نَسْتَعِينُ﴾ [الفاتحة: ٥].
وَكَثِيرًا ما كُنْتُ أسْمَعُ شَيْخَ الإسْلامِ ابْنَ تَيْمِيَّةَ قَدَّسَ اللَّهُ رُوحَهُ يَقُولُ: ﴿إيّاكَ نَعْبُدُ﴾ [الفاتحة: ٥] تَدْفَعُ الرِّياءَ ﴿وَإيّاكَ نَسْتَعِينُ﴾ [الفاتحة: ٥] تَدْفَعُ الكِبْرِياءَ.
فَإذا عُوفِيَ مِن مَرَضِ الرِّياءِ بِ ﴿إيّاكَ نَعْبُدُ﴾ [الفاتحة: ٥] ومِن مَرَضِ الكِبْرِياءِ والعُجْبِ بِ ﴿إيّاكَ نَسْتَعِينُ﴾ [الفاتحة: ٥] ومِن مَرَضِ الضَّلالِ والجَهْلِ بِ ﴿اهْدِنا الصِّراطَ المُسْتَقِيمَ﴾ [الفاتحة: ٦] عُوفِيَ مِن أمْراضِهِ وأسْقامِهِ، ورَفَلَ في أثْوابِ العافِيَةِ، وتَمَّتْ عَلَيْهِ النِّعْمَةُ، وكانَ مِنَ المُنْعَمِ عَلَيْهِمْ غَيْرِ المَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وهم أهْلُ فَسادِ القَصْدِ، الَّذِينَ عَرَفُوا الحَقَّ وعَدَلُوا عَنْهُ والضّالِّينَ وهم أهْلُ فَسادِ العِلْمِ، الَّذِينَ جَهِلُوا الحَقَّ ولَمْ يَعْرِفُوهُ.
وَحُقَّ لِسُورَةٍ تَشْتَمِلُ عَلى هَذَيْنِ الشِفاءَيْنِ أنْ يُسْتَشْفى بِها مِن كُلِّ مَرَضٍ، ولِهَذا لَمّا اشْتَمَلَتْ عَلى هَذا الشِّفاءِ الَّذِي هو أعْظَمُ الشِفاءَيْنِ، كانَ حُصُولُ الشِّفاءِ الأدْنى بِها أوْلى، كَما سَنُبَيِّنُهُ، فَلا شَيْءَ أشَفى لِلْقُلُوبِ الَّتِي عَقَلَتْ عَنِ اللَّهِ وكَلامِهِ، وفَهِمَتْ عَنْهُ فَهْمًا خاصًّا، اخْتَصَّها بِهِ مِن مَعْنى هَذِهِ السُّورَةِ.
وَسَنُبَيِّنُ إنْ شاءَ اللَّهُ تَعالى تَضَمُّنَها لِلرَّدِّ عَلى جَمِيعِ أهْلِ البِدَعِ بِأوْضَحِ البَيانِ وأحْسَنِ الطُّرُقِ.
[تَضَمُّنُها لِشِفاءِ الأبْدانِ]
وَأمّا تَضَمُّنُها لِشِفاءِ الأبْدانِ فَنَذْكُرُ مِنهُ ما جاءَتْ بِهِ السُّنَّةُ، وما شَهِدَتْ بِهِ قَواعِدُ الطِّبِّ، ودَلَّتْ عَلَيْهِ التَّجْرِبَةُ.
فَأمّا ما دَلَّتْ عَلَيْهِ السُّنَّةُ: فَفي الصَّحِيحِ مِن حَدِيثِ أبِي المُتَوَكِّلِ النّاجِيِّ عَنْ أبِي سَعِيدٍ الخُدْرِيِّ «أنَّ ناسًا مِن أصْحابِ النَّبِيِّ ﷺ مَرُّوا بِحَيٍّ مِنَ العَرَبِ، فَلَمْ يُقْرُوهُمْ، ولِمَ يُضَيِّفُوهُمْ، فَلُدِغَ سَيِّدُ الحَيِّ، فَأتَوْهُمْ، فَقالُوا: هَلْ عِنْدَكم مِن رُقْيَةٍ، أوَ هَلْ فِيكم مِن راقٍ؟ فَقالُوا: نَعَمْ، ولَكِنَّكم لَمْ تُقِرُّونا، فَلا نَفْعَلُ حَتّى تَجْعَلُوا لَنا جُعْلًا، فَجَعَلُوا لَهم عَلى ذَلِكَ قَطِيعًا مِنَ الغَنَمِ، فَجَعَلَ رَجُلٌ مِنّا يَقْرَأُ عَلَيْهِ بِفاتِحَةِ الكِتابِ، فَقامَ كَأنْ لَمْ يَكُنْ بِهِ قَلْبَةٌ، فَقُلْنا: لا تَعْجَلُوا حَتّى نَأْتِيَ النَّبِيَّ ﷺ، فَأتَيْناهُ، فَذَكَرْنا لَهُ ذَلِكَ، فَقالَ: ما يُدْرِيكَ
أنَّها رُقْيَةٌ؟ كُلُوا، واضْرِبُوا لِي مَعَكم بِسَهْمٍ.»
فَقَدْ تَضَمَّنَ هَذا الحَدِيثُ حُصُولَ شِفاءِ هَذا اللَّدِيغِ بِقِراءَةِ الفاتِحَةِ عَلَيْهِ، فَأغْنَتْهُ عَنِ الدَّواءِ، ورُبَّما بَلَغَتْ مِن شِفائِهِ ما لَمْ يَبْلُغْهُ الدَّواءُ.
هَذا مَعَ كَوْنِ المَحَلِّ غَيْرَ قابِلٍ، إمّا لِكَوْنِ هَؤُلاءِ الحَيِّ غَيْرَ مُسْلِمِينَ، أوْ أهْلَ بُخْلٍ ولُؤْمٍ، فَكَيْفَ إذا كانَ المَحَلُّ قابِلًا.
* (فَصْلٌ)
وَأمّا شَهادَةُ قَواعِدِ الطِّبِّ بِذَلِكَ فاعْلَمْ أنَّ اللَّدْغَةَ تَكُونُ مِن ذَواتِ الحُماتِ والسُّمُومِ، وهي ذَواتُ الأنْفُسِ الخَبِيثَةِ الَّتِي تَتَكَيَّفُ بِكَيْفِيَّةٍ غَضَبِيَّةٍ، تُثِيرُ فِيها سُمِيَّةً نارِيَّةً، يَحْصُلُ بِها اللَّدْغُ، وهي مُتَفاوِتَةٌ بِحَسَبِ تَفاوُتِ خُبْثِ تِلْكَ النُّفُوسِ وقُوَّتِها وكَيْفِيَّتِها، فَإذا تَكَيَّفَتْ أنْفُسُها الخَبِيثَةُ بِتِلْكَ الكَيْفِيَّةِ الغَضَبِيَّةِ أحْدَثَ لَها ذَلِكَ طَبِيعَةً سُمِّيَّةً، تَجِدُ راحَةً ولَذَّةً في إلْقائِها إلى المَحَلِّ القابِلِ، كَما يَجِدُ الشِّرِّيرُ مِنَ النّاسِ راحَةً ولَذَّةً في إيصالِ شَرِّهِ إلى مَن يُوَصِّلُهُ إلَيْهِ، وكَثِيرٌ مِنَ النّاسِ لا يَهْنَأُ لَهُ عَيْشٌ في يَوْمٍ لا يُؤْذِي فِيهِ أحَدًا مِن بَنِي جِنْسِهِ، ويَجِدُ في نَفْسِهِ تَأذِّيًا بِحَمْلِ تِلْكَ السُّمِّيَّةِ والشَّرِّ الَّذِي فِيهِ، حَتّى يُفَرِّغَهُ في غَيْرِهِ، فَيَبْرُدَ عِنْدَ ذَلِكَ أنِينُهُ، وتَسْكُنَ نَفْسُهُ، ويُصِيبُهُ في ذَلِكَ نَظِيرُ ما يُصِيبُ مَنِ اشْتَدَّتْ شَهْوَتُهُ إلى الجِماعِ، فَيَسُوءُ خُلُقُهُ، وتَثْقُلُ نَفْسُهُ حَتّى يَقْضِيَ وطَرَهُ، هَذا في قُوَّةِ الشَّهْوَةِ، وذاكَ في قُوَّةِ الغَضَبِ.
وَقَدْ أقامَ اللَّهُ تَعالى بِحِكْمَتِهِ السُّلْطانَ وازِعًا لِهَذِهِ النُّفُوسِ الغَضَبِيَّةِ، فَلَوْلا هو لَفَسَدَتِ الأرْضُ وخَرِبَتْ ﴿وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النّاسَ بَعْضَهم بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الأرْضُ ولَكِنَّ اللَّهَ ذُو فَضْلٍ عَلى العالَمِينَ﴾ [البقرة: ٢٥١] وأباحَ اللَّهُ بِلُطْفِهِ ورَحْمَتِهِ لِهَذِهِ النُّفُوسِ مِنَ الأزْواجِ ومِلْكِ اليَمِينِ ما يَكْسِرُ حِدَّتَها.
والمَقْصُودُ أنَّ هَذِهِ النُّفُوسَ الغَضَبِيَّةَ إذا اتَّصَلَتْ بِالمَحَلِّ القابِلِ أثَّرَتْ فِيهِ، ومِنها ما يُؤَثِّرُ في المَحِلِّ بِمُجَرَّدِ مُقابَلَتِهِ لَهُ، وإنْ لَمْ يَمَسَّهُ، فَمِنها ما يَطْمِسُ البَصَرَ، ويُسْقِطُ الحَبَلَ.
وَمِن هَذا نَظَرُ العائِنِ، فَإنَّهُ إذا وقَعَ بَصَرُهُ عَلى المَعِينِ حَدَثَتْ في نَفْسِهِ كَيْفِيَّةٌ سُمِّيَّةٌ أثَّرَتْ في المَعِينِ بِحَسَبِ عَدَمِ اسْتِعْدادِهِ، وكَوْنِهِ أعْزَلَ مِنَ السِّلاحِ، وبِحَسَبِ قُوَّةِ تِلْكَ النَّفْسِ، وكَثِيرٌ مِن هَذِهِ النُّفُوسِ يُؤَثِّرُ في المَعِينِ إذا وُصِفَ لَهُ، فَتَتَكَيَّفُ نَفْسُهُ وتُقابِلُهُ عَلى البُعْدِ فَيَتَأثَّرُ بِهِ، ومُنْكِرُ هَذا لَيْسَ مَعْدُودًا مِن بَنِي آدَمَ إلّا بِالصُّورَةِ والشَّكْلِ، فَإذا قابَلَتِ النَّفْسُ الزَّكِيَّةُ العَلَوِيَّةُ الشَّرِيفَةُ الَّتِي فِيها غَضَبٌ وحَمِيَّةٌ لِلْحَقِّ هَذِهِ النُّفُوسَ الخَبِيثَةَ السُّمِّيَّةَ، وتَكَيَّفَتْ بِحَقائِقِ الفاتِحَةِ وأسْرارِها ومَعانِيها، وما تَضَمَّنَتْهُ مِنَ التَّوْحِيدِ والتَّوَكُّلِ، والثَّناءِ عَلى اللَّهِ، وذِكْرِ أُصُولِ أسْمائِهِ الحُسْنى، وذِكْرِ اسْمِهِ الَّذِي ما ذُكِرَ عَلى شَرٍّ إلّا أزالَهُ ومَحَقَهُ، ولا عَلى خَيْرٍ إلّا نَمّاهُ وزادَهُ، دَفَعَتْ هَذِهِ النَّفْسُ بِما تَكَيَّفَتْ بِهِ مِن ذَلِكَ أثَرَ تِلْكَ النَّفْسِ الخَبِيثَةِ الشَّيْطانِيَّةِ، فَحَصَلَ البُرْءُ، فَإنَّ مَبْنى الشِّفاءِ والبُرْءِ عَلى دَفْعِ الضِّدِّ بِضِدِّهِ، وحِفْظِ الشَّيْءِ بِمِثْلِهِ، فالصِّحَّةُ تُحْفَظُ بِالمِثْلِ، والمَرَضُ يُدْفَعُ بِالضِّدِّ، أسْبابٌ رَبَطَها بِمُسَبِّباتِها الحَكِيمُ العَلِيمُ خَلْقًا وأمْرًا، ولا يَتِمُّ هَذا إلّا بِقُوَّةٍ مِنَ النَّفْسِ الفاعِلَةِ، وقَبُولٍ مِنَ الطَّبِيعَةِ المُنْفَعِلَةِ، فَلَوْ لَمْ تَنْفَعِلْ نَفْسُ المَلْدُوغِ لِقَبُولِ الرُّقْيَةِ، ولَمْ تَقْوَ نَفْسُ الرّاقِي عَلى التَّأْثِيرِ، لَمْ يَحْصُلِ البُرْءُ.
فَهُنا أُمُورٌ ثَلاثَةٌ: مُوافَقَةُ الدَّواءِ لِلدّاءِ، وبَذْلُ الطَّبِيبِ لَهُ، وقَبُولُ طَبِيعَةِ العَلِيلِ، فَمَتى تَخَلَّفَ واحِدٌ مِنها لَمْ يَحْصُلِ الشِّفاءُ، وإذا اجْتَمَعَتْ حَصَلَ الشِّفاءُ ولا بُدَّ بِإذْنِ اللَّهِ سُبْحانَهُ وتَعالى.
وَمَن عَرَفَ هَذا كَما يَنْبَغِي تَبَيَّنَ لَهُ أسْرارُ الرُّقى، ومَيَّزَ بَيْنَ النّافِعِ مِنها وغَيْرِهِ، ورَقى الدّاءَ بِما يُناسِبُهُ مِنَ الرُّقى، وتَبَيَّنَ لَهُ أنَّ الرُّقْيَةَ بِراقِيها وقَبُولِ المَحَلِّ، كَما أنَّ السَّيْفَ بِضارِبِهِ مَعَ قَبُولِ المَحَلِّ لِلْقَطْعِ، وهَذِهِ إشارَةٌ مُطْلِعَةٌ عَلى ما وراءَها لِمَن دَقَّ نَظَرُهُ، وحَسُنَ تَأمُّلُهُ، واللَّهُ أعْلَمُ.
وَأمّا شَهادَةُ التَّجارِبِ بِذَلِكَ فَهي أكْثَرُ مِن أنْ تُذْكَرَ، وذَلِكَ في كُلِّ زَمانٍ، وقَدْ جَرَّبْتُ أنا مِن ذَلِكَ في نَفْسِي وفي غَيْرِي أُمُورًا عَجِيبَةً، ولا سِيَّما مُدَّةَ المُقامِ بِمَكَّةَ، فَإنَّهُ كانَ يَعْرِضُ لِي آلامٌ مُزْعِجَةٌ، بِحَيْثُ تَكادُ تَقْطَعُ الحَرَكَةَ مِنِّي، وذَلِكَ في أثْناءِ الطَّوافِ وغَيْرِهِ، فَأُبادِرُ إلى قِراءَةِ الفاتِحَةِ، وأمْسَحُ بِها عَلى مَحَلِّ الألَمِ فَكَأنَّهُ حَصاةٌ تَسْقُطُ، جَرَّبْتُ ذَلِكَ مِرارًا عَدِيدَةً، وكُنْتُ آخُذُ قَدَحًا مِن ماءِ زَمْزَمٍ فَأقْرَأُ عَلَيْهِ الفاتِحَةَ مِرارًا، فَأشْرَبُهُ فَأجِدُ بِهِ مِنَ النَّفْعِ والقُوَّةِ ما لَمْ أعْهَدْ مِثْلَهُ في الدَّواءِ، والأمْرُ أعْظَمُ مِن ذَلِكَ، ولَكِنْ بِحَسَبِ قُوَّةِ الإيمانِ، وصِحَّةِ اليَقِينِ، واللَّهُ المُسْتَعانُ.
* [فَصْلٌ: في اشْتِمالِ الفاتِحَةِ عَلى الرَّدِّ عَلى جَمِيعِ المُبْطِلِينَ مِن أهْلِ المِلَلِ والنِّحَلِ، والرَّدِّ عَلى أهْلِ البِدَعِ والضَّلالِ مِن هَذِهِ الأُمَّةِ]
وَهَذا يُعْلَمُ بِطَرِيقَيْنِ، مُجْمَلٍ ومُفَصَّلٍ:
أمّا المُجْمَلُ: فَهو أنَّ الصِّراطَ المُسْتَقِيمَ مُتَضَمِّنٌ مَعْرِفَةَ الحَقِّ، وإيثارَهُ، وتَقْدِيمَهُ عَلى غَيْرِهِ، ومَحَبَّتَهُ والِانْقِيادَ لَهُ، والدَّعْوَةَ إلَيْهِ، وجِهادَ أعْدائِهِ بِحَسَبِ الإمْكانِ.
والحَقُّ: هو ما كانَ عَلَيْهِ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ وأصْحابُهُ، وما جاءَ بِهِ عِلْمًا وعَمَلًا في بابِ صِفاتِ الرَّبِّ سُبْحانَهُ، وأسْمائِهِ وتَوْحِيدِهِ، وأمْرِهِ ونَهْيِهِ، ووَعْدِهِ ووَعِيدِهِ، وفي حَقائِقِ الإيمانِ، الَّتِي هي مَنازِلُ السّائِرِينَ إلى اللَّهِ تَعالى، وكُلُّ ذَلِكَ مُسَلَّمٌ إلى رَسُولِ اللَّهِ ﷺ، دُونَ آراءِ الرِّجالِ وأوْضاعِهِمْ وأفْكارِهِمْ واصْطِلاحاتِهِمْ.
فَكُلُّ عِلْمٍ أوْ عَمَلٍ أوْ حَقِيقَةٍ، أوْ حالٍ أوْ مَقامٍ خَرَجَ مِن مِشْكاةِ نُبُوَّتِهِ، وعَلَيْهِ السِّكَّةُ المُحَمَّدِيَّةُ، بِحَيْثُ يَكُونُ مِن ضَرْبِ المَدِينَةِ، فَهو مِنَ الصِّراطِ المُسْتَقِيمِ، وما لَمْ يَكُنْ كَذَلِكَ فَهو مِن صِراطِ أهْلِ الغَضَبِ والضَّلالِ، فَما ثَمَّ خُرُوجٌ عَنْ هَذِهِ الطُّرُقِ الثَّلاثِ: طَرِيقِ الرَّسُولِ ﷺ وما جاءَ بِهِ، وطَرِيقِ أهْلِ الغَضَبِ، وهي طَرِيقُ مَن عَرَفَ الحَقَّ وعانَدَهُ، وطَرِيقِ أهْلِ الضَّلالِ وهي طَرِيقُ مَن أضَلَّهُ اللَّهُ عَنْهُ، ولِهَذا قالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبّاسٍ وجابِرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ: " الصِّراطُ المُسْتَقِيمُ: هو الإسْلامُ "، وقالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ وعَلِيُّ بْنُ أبِي طالِبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُما: " هو القُرْآنُ "، وفِيهِ حَدِيثٌ مَرْفُوعٌ في التِّرْمِذِيِّ وغَيْرِهِ، وقالَ سَهْلُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ: " طَرِيقُ السُّنَّةِ والجَماعَةِ "، وقالَ بَكْرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ المُزَنِيُّ: " طَرِيقُ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ ".
وَلا رَيْبَ أنَّ ما كانَ عَلَيْهِ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ وأصْحابُهُ عِلْمًا وعَمَلًا وهو مَعْرِفَةُ الحَقِّ وتَقْدِيمُهُ، وإيثارُهُ عَلى غَيْرِهِ، فَهو الصِّراطُ المُسْتَقِيمُ.
وَكُلُّ هَذِهِ الأقْوالِ المُتَقَدِّمَةِ دالَّةٌ عَلَيْهِ جامِعَةٌ لَهُ.
فَبِهَذا الطَّرِيقِ المُجْمَلِ يُعْلَمُ أنَّ كُلَّ ما خالَفَهُ فَباطِلٌ، وهو مِن صِراطِ الأُمَّتَيْنِ: الأُمَّةِ الغَضَبِيَّةِ، وأُمَّةِ أهْلِ الضَّلالِ.
* [فَصْل]
وَأمّا المُفَصَّلُ: فَبِمَعْرِفَةِ المَذاهِبِ الباطِلَةِ، واشْتِمالِ كَلِماتِ الفاتِحَةِ عَلى إبْطالِها، فَنَقُولُ:
النّاسُ قِسْمانِ: مُقِرٌّ بِالحَقِّ تَعالى، وجاحِدٌ لَهُ، فَتَضَمَّنَتِ الفاتِحَةُ إثْباتَ الخالِقِ تَعالى، والرَّدَّ عَلى مَن جَحَدَهُ، بِإثْباتِ رُبُوبِيَّتِهِ تَعالى لِلْعالَمِينَ.
وَتَأمَّلْ حالَ العالَمِ كُلِّهِ، عُلْوِيِّهِ وسُفْلِيِّهِ، بِجَمِيعِ أجْزائِهِ: تَجِدُهُ شاهِدًا بِإثْباتِ صانِعِهِ وفاطِرِهِ ومَلِيكِهِ، فَإنْكارُ صانِعِهِ وجَحْدُهُ في العُقُولِ والفِطَرِ بِمَنزِلَةِ إنْكارِ العِلْمِ وجَحْدِهِ، لا فَرْقَ بَيْنَهُما، بَلْ دِلالَةُ الخالِقِ عَلى المَخْلُوقِ، والفَعّالِ عَلى الفِعْلِ، والصّانِعِ عَلى أحْوالِ المَصْنُوعِ عِنْدَ العُقُولِ الزَّكِيَّةِ المُشْرِقَةِ العُلْوِيَّةِ، والفِطَرِ الصَّحِيحَةِ أظْهَرُ مِنَ العَكْسِ.
فالعارِفُونَ أرْبابُ البَصائِرِ يَسْتَدِلُّونَ بِاللَّهِ عَلى أفْعالِهِ وصُنْعِهِ، إذا اسْتَدَلَّ النّاسُ بِصُنْعِهِ وأفْعالِهِ عَلَيْهِ، ولا رَيْبَ أنَّهُما طَرِيقانِ صَحِيحانِ، كُلٌّ مِنهُما حَقٌّ، والقُرْآنُ مُشْتَمِلٌ عَلَيْهِما.
فَأمّا الِاسْتِدْلالُ بِالصَّنْعَةِ فَكَثِيرٌ، وأمّا الِاسْتِدْلالُ بِالصّانِعِ فَلَهُ شَأْنٌ، وهو الَّذِي أشارَتْ إلَيْهِ الرُّسُلُ بِقَوْلِهِمْ لِأُمَمِهِمْ ﴿أفِي اللَّهِ شَكٌّ﴾ [إبراهيم: ١٠] أيْ أيُشَكُّ في اللَّهِ حَتّى يُطْلَبَ إقامَةُ الدَّلِيلِ عَلى وُجُودِهِ؟ وأيُّ دَلِيلٍ أصَحُّ وأظْهَرُ مِن هَذا المَدْلُولِ؟ فَكَيْفَ يُسْتَدَلُّ عَلى الأظْهَرِ بِالأخْفى؟ ثُمَّ نَبَّهُوا عَلى الدَّلِيلِ بِقَوْلِهِمْ ﴿فاطِرِ السَّماواتِ والأرْضِ﴾ [الأنعام: ١٤].
وَسَمِعْتُ شَيْخَ الإسْلامِ تَقِيَّ الدِّينِ ابْنَ تَيْمِيَّةَ قَدَّسَ اللَّهُ رُوحَهُ يَقُولُ: كَيْفَ يُطْلَبُ الدَّلِيلُ عَلى مَن هو دَلِيلٌ عَلى كُلِّ شَيْءٍ؟ وكانَ كَثِيرًا ما يَتَمَثَّلُ بِهَذا البَيْتِ:
؎وَلَيْسَ يَصِحُّ في الأذْهانِ شَيْءٌ ∗∗∗ إذا احْتاجَ النَّهارُ إلى دَلِيلٍ
وَمَعْلُومٌ أنَّ وُجُودَ الرَّبِّ تَعالى أظْهَرُ لِلْعُقُولِ والفِطَرِ مِن وُجُودِ النَّهارِ، ومَن لَمْ يَرَ ذَلِكَ في عَقْلِهِ وفِطْرَتِهِ فَلْيَتَّهِمْهُما.
وَإذا بَطَلَ قَوْلُ هَؤُلاءِ بَطَلَ قَوْلُ أهْلِ الإلْحادِ، القائِلِينَ بِوَحْدَةِ الوُجُودِ، وأنَّهُ ما ثَمَّ وُجُودٌ قَدِيمٌ خالِقٌ ووُجُودٌ حادِثٌ مَخْلُوقٌ، بَلْ وُجُودُ هَذا العالَمِ هو عَيْنُ وُجُودِ اللَّهِ، وهو حَقِيقَةُ وُجُودِ هَذا العالَمِ، فَلَيْسَ عِنْدَ القَوْمِ رَبٌّ وعَبْدٌ، ولا مالِكٌ ومَمْلُوكٌ، ولا راحِمٌ ومَرْحُومٌ، ولا عابِدٌ ومَعْبُودٌ، ولا مُسْتَعِينٌ ومُسْتَعانٌ بِهِ، ولا هادٍ ولا مَهْدِيٌّ، ولا مُنْعِمٌ ولا مُنْعَمٌ عَلَيْهِ، ولا غَضْبانُ ومَغْضُوبٌ عَلَيْهِ، بَلِ الرَّبُّ هو نَفْسُ العَبْدِ وحَقِيقَتُهُ، والمالِكُ هو عَيْنُ المَمْلُوكِ، والرّاحِمُ هو عَيْنُ المَرْحُومِ، والعابِدُ هو نَفْسُ المَعْبُودِ، وإنَّما التَّغايُرُ أمْرٌ اعْتِبارِيٌّ بِحَسَبِ مَظاهِرِ الذّاتِ وتَجَلِّيّاتِها، فَتَظْهَرُ تارَةً في صُورَةِ مَعْبُودٍ، كَما ظَهَرَتْ في صُورَةِ فِرْعَوْنَ، وفي صُورَةِ عَبْدٍ، كَما ظَهَرَتْ في صُورَةِ العَبِيدِ، وفي صُورَةِ هادٍ، كَما في صُورَةِ الأنْبِياءِ والرُّسُلِ والعُلَماءِ، والكُلُّ مِن عَيْنٍ واحِدَةٍ، بَلْ هو العَيْنُ الواحِدَةُ، فَحَقِيقَةُ العابِدِ ووُجُودُهُ أوْ أنِّيَّتُهُ: هي حَقِيقَةُ المَعْبُودِ ووُجُودُهُ وأنِّيَّتُهُ.
والفاتِحَةُ مِن أوَّلِها إلى آخِرِها تُبَيِّنُ بُطْلانَ قَوْلِ هَؤُلاءِ المَلاحِدَةِ وضَلالَهم.
* [فَصْلٌ: في تَضَمُّنِها الرَّدَّ عَلى الجَهْمِيَّةِ مُعَطِّلَةِ الصِّفاتِ]
وَذَلِكَ مِن وُجُوهٍ:
أحَدُها: مِن قَوْلِهِ ﴿الحَمْدُ لِلَّهِ﴾ [الفاتحة: ٢] فَإنَّ إثْباتَ الحَمْدِ الكامِلِ لَهُ يَقْتَضِي ثُبُوتَ كُلِّ ما يُحْمَدُ عَلَيْهِ، مِن صِفاتِ كَمالِهِ، ونُعُوتِ جَلالِهِ، إذْ مَن عُدِمَ صِفاتِ الكَمالِ فَلَيْسَ بِمَحْمُودٍ عَلى الإطْلاقِ، وغايَتُهُ: أنَّهُ مَحْمُودٌ مِن وجْهٍ دُونَ وجْهٍ، ولا يَكُونُ مَحْمُودًا بِكُلِّ وجْهٍ،
وَبِكُلِّ اعْتِبارٍ، بِجَمِيعِ أنْواعِ الحَمْدِ إلّا مَنِ اسْتَوْلى عَلى صِفاتِ الكَمالِ جَمِيعِها، فَلَوْ عُدِمَ مِنها صِفَةً واحِدَةً لَنَقَصَ مِن حَمْدِهِ بِحَسَبِها.
وَكَذَلِكَ في إثْباتِ صِفَةِ الرَّحْمَةِ لَهُ ما يَتَضَمَّنُ إثْباتَ الصِّفاتِ الَّتِي تَسْتَلْزِمُها مِنَ الحَياةِ، والإرادَةِ والقُدْرَةِ، والسَّمْعِ والبَصَرِ، وغَيْرِها.
وَكَذَلِكَ صِفَةُ الرُّبُوبِيَّةِ تَسْتَلْزِمُ جَمِيعَ صِفاتِ الفِعْلِ وصِفَةُ الإلَهِيَّةِ تَسْتَلْزِمُ جَمِيعَ أوْصافِ الكَمالِ ذاتًا وأفْعالًا، كَما تَقَدَّمَ بَيانُهُ.
فَكَوْنُهُ مَحْمُودًا إلَهًا رَبًّا، رَحْمانًا رَحِيمًا، مَلِكًا مَعْبُودًا، مُسْتَعانًا، هادِيًا مُنْعِمًا، يَرْضى ويَغْضَبُ مَعَ نَفْيِ قِيامِ الصِّفاتِ بِهِ جَمْعٌ بَيْنَ النَّقِيضَيْنِ، وهو مَن أمْحَلِ المُحالَ.
وَهَذِهِ الطَّرِيقُ تَتَضَمَّنُ إثْباتَ الصِّفاتِ الخَبَرِيَّةِ مِن وجْهَيْنِ:
أحَدُهُما: أنَّها مِن لَوازِمِ كَمالِهِ المُطْلَقِ، فَإنَّ اسْتِواءَهُ عَلى عَرْشِهِ مِن لَوازِمِ عُلُوِّهِ، ونُزُولَهُ كُلَّ لَيْلَةٍ إلى سَماءِ الدُّنْيا في نِصْفِ اللَّيْلِ الثّانِي مِن لَوازِمِ رَحْمَتِهِ ورُبُوبِيَّتِهِ، وهَكَذا سائِرُ الصِّفاتِ الخَبَرِيَّةِ.
الوَجْهُ الثّانِي: أنَّ السَّمْعَ ورَدَ بِها، ثَناءً عَلى اللَّهِ ومَدْحًا لَهُ، وتَعَرُّفًا مِنهُ إلى عِبادِهِ بِها، فَجَحْدُها وتَحْرِيفُها عَمّا دَلَّتْ عَلَيْهِ، وعَمّا أُرِيدَ بِها مُناقِضٌ لِما جاءَتْ بِهِ، فَلَكَ أنْ تَسْتَدِلَّ بِطَرِيقِ السَّمْعِ عَلى أنَّها كَمالٌ، وأنْ تَسْتَدِلَّ بِالعَقْلِ كَما تَقَدَّمَ.
* [فَصْلٌ: في تَضَمُّنِها لِلرَّدِّ عَلى الجَبْرِيَّةِ]
وَذَلِكَ مِن وُجُوهٍ:
أحَدُها: مِن إثْباتِ عُمُومِ حَمْدِهِ سُبْحانَهُ، فَإنَّهُ يَقْتَضِي أنْ لا يُعاقِبَ عَبِيدَهُ عَلى ما لا قُدْرَةَ لَهم عَلَيْهِ، ولا هو مِن فِعْلِهِمْ، بَلْ هو بِمَنزِلَةِ ألْوانِهِمْ، وطُولِهِمْ وقِصَرِهِمْ، بَلْ هو يُعاقِبُهم عَلى نَفْسِ فِعْلِهِ بِهِمْ، فَهو الفاعِلُ لِقَبائِحِهِمْ في الحَقِيقَةِ، وهو المُعاقِبُ لَهم عَلَيْها، فَحَمْدُهُ عَلَيْها يَأْبى ذَلِكَ أشَدَّ الإباءِ، ويَنْفِيهِ أعْظَمَ النَّفْيِ، فَتَعالى مَن لَهُ الحَمْدُ كُلُّهُ عَنْ ذَلِكَ عُلُوًّا كَبِيرًا، بَلْ إنَّما يُعاقِبُهم عَلى نَفْسِ أفْعالِهِمُ الَّتِي فَعَلُوها حَقِيقَةً، فَهي أفْعالُهم لا أفْعالُهُ، وإنَّما أفْعالُهُ العَدْلُ، والإحْسانُ والخَيْراتُ.
الوَجْهُ الثّانِي: إثْباتُ رَحْمَتِهِ ورَحْمانِيَّتِهِ يَنْفِي ذَلِكَ إذْ لا يُمْكِنُ اجْتِماعُ هَذَيْنِ الأمْرَيْنِ قَطُّ أنْ يَكُونَ رَحْمانًا رَحِيمًا ويُعاقِبُ العَبْدَ عَلى ما لا قُدْرَةَ لَهُ عَلَيْهِ، ولا هو مِن فِعْلِهِ، بَلْ يُكَلِّفُهُ ما لا يُطِيقُهُ، ولا لَهُ عَلَيْهِ قُدْرَةٌ ألْبَتَّةَ، ثُمَّ يُعاقِبُهُ عَلَيْهِ، وهَلْ هَذا إلّا ضِدُّ الرَّحْمَةِ، ونَقْضٌ لَها وإبْطالٌ؟ وهَلْ يَصِحُّ في مَعْقُولِ أحَدٍ اجْتِماعُ ذَلِكَ والرَّحْمَةِ التّامَّةِ الكامِلَةِ في ذاتٍ واحِدَةٍ؟
الوَجْهُ الثّالِثُ: إثْباتُ العِبادَةِ والِاسْتِعانَةِ لَهُمْ، ونِسْبَتُها إلَيْهِمْ، بِقَوْلِهِمْ " نَعْبُدُ، ونَسْتَعِينُ " وهي نِسْبَةٌ حَقِيقِيَّةٌ لا مَجازِيَّةٌ، واللَّهُ لا يَصِحُّ وصْفُهُ بِالعِبادَةِ والِاسْتِعانَةِ الَّتِي هي مِن أفْعالِ عَبِيدِهِ، بَلِ العَبْدُ حَقِيقَةً هو العابِدُ المُسْتَعِينُ، واللَّهُ هو المَعْبُودُ المُسْتَعانُ بِهِ.
* [فَصْلٌ: في بَيانِ تُضَمُّنِها لِلرَّدِّ عَلى القائِلِينَ بِالمُوجَبِ بِالذّاتِ دُونَ الِاخْتِيارِ والمَشِيئَةِ، وبَيانِ أنَّهُ سُبْحانَهُ فاعِلٌ مُخْتارٌ]
وَذَلِكَ مِن وُجُوهٍ:
أحَدُها: مِن إثْباتِ حَمْدِهِ، إذْ كَيْفَ يُحْمَدُ عَلى ما لَيْسَ مُخْتارًا لِوُجُودِهِ، ولا هو بِمَشِيئَتِهِ وفِعْلِهِ؟ وهَلْ يَصِحُّ حَمْدُ الماءِ عَلى آثارِهِ ومُوجَباتِهِ؟ أوِ النّارِ والحَدِيدِ وغَيْرِها في عَقْلٍ أوْ فِطْرَةٍ؟ وإنَّما يُحْمَدُ الفاعِلُ المُخْتارُ بِقُدْرَتِهِ ومَشِيئَتِهِ عَلى أفْعالِهِ الحَمِيدَةِ، هَذا الَّذِي لَيْسَ يَصِحُّ في العُقُولِ والفِطَرِ سِواهُ، فَخِلافُهُ خارِجٌ عَنِ الفِطْرَةِ والعَقْلِ وهو لا يُنْكِرُ خُرُوجَهُ عَنِ الشَّرائِعِ والنُّبُوّاتِ، بَلْ يَتَبَجَّحُ بِذَلِكَ ويَعُدُّهُ فَخْرًا.
الثّانِي: إثْباتُ رُبُوبِيَّتِهِ تَعالى يَقْتَضِي فِعْلَهُ بِمَشِيئَتِهِ واخْتِيارِهِ، وتَدْبِيرِهِ وقُدْرَتِهِ، ولَيْسَ يَصِحُّ في عَقْلٍ ولا فِطْرَةٍ رُبُوبِيَّةُ الشَّمْسِ لِضَوْئِها، والماءِ لِتَبْرِيدِهِ، ولِلنَّباتِ الحاصِلِ بِهِ، ولا رُبُوبِيَّةُ شَيْءٍ أبَدًا لِما لا قُدْرَةَ لَهُ عَلَيْهِ ألْبَتَّةَ، وهَلْ هَذا إلّا تَصْرِيحٌ بِجَحْدِ الرُّبُوبِيَّةِ؟
فالقَوْمُ كَنَّوْا لِلْأغْمارِ، وصَرَّحُوا لِأُولِي الأفْهامِ.
الثّالِثُ: إثْباتُ مِلْكِهِ، وحُصُولُ مِلْكٍ لِمَن لا اخْتِيارَ لَهُ ولا فِعْلَ ولا مَشِيئَةَ غَيْرُ مَعْقُولٍ، بَلْ كُلُّ مَمْلُوكٍ لَهُ مَشِيئَةٌ واخْتِيارٌ وفِعْلٌ أتَمُّ مِن هَذا المَلِكِ وأكْمَلُ ﴿أفَمَن يَخْلُقُ كَمَن لا يَخْلُقُ أفَلا تَذَكَّرُونَ﴾ [النحل: ١٧].
الرّابِعُ: مِن كَوْنِهِ مُسْتَعانًا، فَإنَّ الِاسْتِعانَةَ بِمَن لا اخْتِيارَ لَهُ ولا مَشِيئَةَ ولا قُدْرَةَ مُحالٌ.
الخامِسُ: مِن كَوْنِهِ مَسْئُولًا أنْ يَهْدِيَ عِبادَهُ، فَسُؤالُ مَن لا اخْتِيارَ لَهُ مُحالٌ، وكَذَلِكَ مِن كَوْنِهِ مُنْعِمًا.
* [فَصْلٌ: في تَضَمُّنِها لِلرَّدِّ عَلى مُنْكِرِي تَعَلُّقِ عِلْمِهِ تَعالى بِالجُزْئِيّاتِ]
وَذَلِكَ مِن وُجُوهٍ:
أحَدُها: كَمالُ حَمْدِهِ، وكَيْفَ يَسْتَحِقُّ الحَمْدَ مَن لا يَعْلَمُ شَيْئًا مِنَ العالَمِ وأحْوالِهِ وتَفاصِيلِهِ، ولا عَدَدَ الأفْلاكِ، ولا عَدَدَ النُّجُومِ، ولا مَن يُطِيعُهُ مِمَّنْ يَعْصِيهِ، ولا مَن يَدْعُوهُ مِمَّنْ لا يَدْعُوهُ؟
الثّانِي: أنَّ هَذا مُسْتَحِيلٌ أنْ يَكُونَ إلَهًا، وأنْ يَكُونَ رَبّا، فَلا بُدَّ لِلْإلَهِ المَعْبُودِ،
والرَّبِّ المُدَبِّرِ، مِن أنْ يَعْلَمَ عابِدَهُ، ويَعْلَمَ حالَهُ.
الثّالِثُ: مِن إثْباتِ رَحْمَتِهِ، فَإنَّهُ يَسْتَحِيلُ أنْ يَرْحَمَ مَن لا يَعْلَمُ.
الرّابِعُ: إثْباتُ مِلْكِهِ، فَإنَّ مَلِكًا لا يَعْرِفُ أحَدًا مِن رَعِيَّتِهِ ألْبَتَّةَ، ولا شَيْئًا مِن أحْوالِ مَمْلَكَتِهِ ألْبَتَّةَ، لَيْسَ بِمَلِكٍ بِوَجْهٍ مِنَ الوُجُوهِ.
الخامِسُ: كَوْنُهُ مُسْتَعانًا.
السّادِسُ: كَوْنُهُ مَسْئُولًا أنْ يَهْدِيَ سائِلَهُ ويُجِيبَهُ.
السّابِعُ: كَوْنُهُ هادِيًا.
الثّامِنُ: كَوْنُهُ مُنْعِمًا.
التّاسِعُ: كَوْنُهُ غَضْبانَ عَلى مَن خالَفَهُ.
العاشِرُ: كَوْنُهُ مُجازِيًا، يَدِينُ النّاسَ بِأعْمالِهِمْ يَوْمَ الدِّينِ.
فَنَفْيُ عِلْمِهِ بِالجُزْئِيّاتِ مُبْطِلٌ لِذَلِكَ كُلِّهِ.
* [فَصْلٌ في بَيانِ تَضَمُّنِها لِلرَّدِّ عَلى مُنْكِرِي النُّبُوّاتِ]
وَذَلِكَ مِن وُجُوهٍ:
أحَدُها: إثْباتُ حَمْدِهِ التّامِّ، فَإنَّهُ يَقْتَضِي كَمالَ حِكْمَتِهِ، وأنْ لا يَخْلُقَ خَلْقَهُ عَبَثًا، ولا يَتْرُكَهم سُدًى، لا يُؤْمَرُونَ ولا يُنْهَوْنَ، ولِذَلِكَ نَزَّهَ اللَّهُ نَفْسَهُ عَنْ هَذا في غَيْرِ مَوْضِعٍ مِن كِتابِهِ، وأخْبَرَ أنَّ مَن أنْكَرَ الرِّسالَةَ والنُّبُوَّةَ وأنْ يَكُونَ ما أُنْزِلَ عَلى بَشَرٍ مِن شَيْءٍ فَإنَّهُ ما عَرَفَهُ حَقَّ مَعْرِفَتِهِ، ولا عَظَّمَهُ حَقَّ تَعْظِيمِهِ، ولا قَدَرَهُ حَقَّ قَدْرِهِ، بَلْ نَسَبَهُ إلى ما لا يَلِيقُ بِهِ، ويَأْباهُ حَمْدُهُ ومَجْدُهُ.
فَمَن أعْطى الحَمْدَ حَقَّهُ عِلْمًا ومَعْرِفَةً وبَصِيرَةً اسْتَنْبَطَ مِنهُ " أشْهَدُ أنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ " كَما يَسْتَنْبِطُ مِنهُ أشْهَدُ أنْ لا إلَهَ إلّا اللَّهُ، وعَلِمَ قَطْعًا أنَّ تَعْطِيلَ النُّبُوّاتِ في مُنافاتِهِ لِلْحَمْدِ، كَتَعْطِيلِ صِفاتِ الكَمالِ، وكَإثْباتِ الشُّرَكاءِ والأنْدادِ.
الثّانِي: إلَهِيَّتُهُ، وكَوْنُهُ إلَهًا، فَإنَّ ذَلِكَ مُسْتَلْزِمٌ لِكَوْنِهِ مَعْبُودًا مُطاعًا، ولا سَبِيلَ إلى مَعْرِفَةِ ما يُعْبَدُ بِهِ ويُطاعُ إلّا مِن جِهَةِ رُسُلِهِ.
الثّالِثُ: كَوْنُهُ رَبًّا، فَإنَّ الرُّبُوبِيَّةَ تَقْتَضِي أمْرَ العِبادِ ونَهْيَهُمْ، وجَزاءَ مُحْسِنِهِمْ بِإحْسانِهِ، ومُسِيئِهِمْ بِإساءَتِهِ، هَذا حَقِيقَةُ الرُّبُوبِيَّةِ، وذَلِكَ لا يَتِمُّ إلّا بِالرِّسالَةِ والنُّبُوَّةِ.
الرّابِعُ: كَوْنُهُ رَحْمانًا رَحِيمًا، فَإنَّ مِن كَمالِ رَحْمَتِهِ أنْ يُعَرِّفَ عِبادَهُ نَفْسَهُ وصِفاتِهِ ويَدُلَّهم عَلى ما يُقَرِّبُهم إلَيْهِ، ويُباعِدُهم مِنهُ، ويُثِيبَهم عَلى طاعَتِهِ، ويَجْزِيَهم بِالحُسْنى، وذَلِكَ لا يَتِمُّ إلّا بِالرِّسالَةِ والنُّبُوَّةِ، فَكانَتْ رَحْمَتُهُ مُقْتَضِيَةً لَها.
الخامِسُ: مِلْكُهُ، فَإنَّ المِلْكَ يَقْتَضِي التَّصَرُّفَ بِالقَوْلِ، كَما أنَّ المِلْكَ يَقْتَضِي التَّصَرُّفَ بِالفِعْلِ، فالمَلِكُ هو المُتَصَرِّفُ بِأمْرِهِ وقَوْلِهِ، فَتَنْفُذُ أوامِرُهُ ومَراسِيمُهُ حَيْثُ شاءَ، والمالِكُ هو المُتَصَرِّفُ في مُلْكِهِ بِفِعْلِهِ، واللَّهُ لَهُ المُلْكُ، ولَهُ المِلْكُ، فَهو المُتَصَرِّفُ في خَلْقِهِ بِالقَوْلِ والفِعْلِ.
وَتَصَرُّفُهُ بِقَوْلِهِ نَوْعانِ: تَصَرُّفٌ بِكَلِماتِهِ الكَوْنِيَّةِ، وتَصَرُّفٌ بِكَلِماتِهِ الدِّينِيَّةِ، وكَمالُ المُلْكِ بِهِما.
فَإرْسالُ الرُّسُلِ مُوجَبُ كَمالِ مُلْكِهِ وسُلْطانِهِ، وهَذا هو المُلْكُ المَعْقُولُ في فِطَرِ النّاسِ وعُقُولِهِمْ، فَكُلُّ مَلِكٍ لا تَكُونُ لَهُ رُسُلٌ يَبُثُّهم في أقْطارِ مَمْلَكَتِهِ فَلَيْسَ بِمَلِكٍ.
وَبِهَذِهِ الطَّرِيقِ يُعْلَمُ وُجُودُ مَلائِكَتِهِ، وأنَّ الإيمانَ بِهِمْ مِن لَوازِمِ الإيمانِ بِمُلْكِهِ، فَإنَّهم رُسُلُ اللَّهِ في خَلْقِهِ وأمْرِهِ.
السّادِسُ: " ثُبُوتُ يَوْمِ " الدِّينِ وهو يَوْمُ الجَزاءِ الَّذِي يَدِينُ اللَّهُ فِيهِ العِبادَ بِأعْمالِهِمْ خَيْرًا وشَرًّا، وهَذا لا يَكُونُ إلّا بَعْدَ ثُبُوتِ الرِّسالَةِ والنُّبُوَّةِ، وقِيامِ الحُجَّةِ الَّتِي بِسَبَبِها يُدانُ المُطِيعُ والعاصِي.
السّابِعُ: كَوْنُهُ مَعْبُودًا، فَإنَّهُ لا يُعْبَدُ إلّا بِما يُحِبُّهُ ويَرْضاهُ، ولا سَبِيلَ لِلْخَلْقِ إلى مَعْرِفَةِ ما يُحِبُّهُ ويَرْضاهُ إلّا مِن جِهَةِ رُسُلِهِ، فَإنْكارُ رُسُلِهِ إنْكارٌ لِكَوْنِهِ مَعْبُودًا.
الثّامِنُ: كَوْنُهُ هادِيًا إلى الصِّراطِ المُسْتَقِيمِ، وهو مَعْرِفَةُ الحَقِّ والعَمَلُ بِهِ، وهو أقْرَبُ الطُّرُقِ المُوَصِّلَةِ إلى المَطْلُوبِ، فَإنَّ الخَطَّ المُسْتَقِيمَ: هو أقْرَبُ خَطٍّ مُوَصِّلٍ بَيْنَ نُقْطَتَيْنِ، وذَلِكَ لا يُعْلَمُ إلّا مِن جِهَةِ الرُّسُلِ، فَتَوَقُّفُهُ عَلى الرُّسُلِ ضَرُورِيٌّ، أعْظَمُ مِن تَوَقُّفِ الطَّرِيقِ الحِسِّيِّ عَلى سَلامَةِ الحَواسِ.
التّاسِعُ: كَوْنُهُ مُنْعِمًا عَلى أهْلِ الهِدايَةِ إلى الصِّراطِ المُسْتَقِيمِ: فَإنَّ إنْعامَهُ عَلَيْهِمْ إنَّما تَمَّ بِإرْسالِ الرُّسُلِ إلَيْهِمْ، وجَعْلِهِمْ قابِلِينَ الرِّسالَةَ، مُسْتَجِيبِينَ لِدَعْوَتِهِ، وبِذَلِكَ ذَكَّرَهم مِنَّتَهُ عَلَيْهِمْ وإنْعامَهُ في كِتابِهِ.
العاشِرُ: انْقِسامُ خَلْقِهِ إلى مُنْعَمٍ عَلَيْهِمْ، ومَغْضُوبٍ عَلَيْهِمْ، وضالِّينَ، فَإنَّ هَذا الِانْقِسامَ ضَرُورِيٌّ بِحَسَبِ انْقِسامِهِمْ في مَعْرِفَةِ الحَقِّ، والعَمَلِ بِهِ إلى عالِمٍ بِهِ، عامِلٍ بِمُوجَبِهِ، وهم أهْلُ النِّعْمَةِ، وعالِمٍ بِهِ مُعانِدٍ لَهُ، وهم أهْلُ الغَضَبِ، وجاهِلٍ بِهِ وهُمُ الضّالُّونَ، هَذا الِانْقِسامُ إنَّما نَشَأ بَعْدَ إرْسالِ الرُّسُلِ، فَلَوْلا الرُّسُلُ لَكانُوا أُمَّةً واحِدَةً، فانْقِسامُهم إلى هَذِهِ الأقْسامِ مُسْتَحِيلٌ بِدُونِ الرِّسالَةِ، وهَذا الِانْقِسامُ ضَرُورِيٌّ بِحَسَبِ الواقِعِ، فالرِّسالَةُ ضَرُورِيَّةٌ.
وَقَدْ تَبَيَّنَ لَكَ بِهَذِهِ الطَّرِيقِ والَّتِي قَبْلَها بَيانُ تَضَمُّنِها لِلرَّدِّ عَلى مَن أنْكَرَ المَعادَ الجُسْمانِيَّ، وقِيامَةَ الأبْدانِ، وعَرَفْتَ اقْتِضاءَها ضَرُورَةً لِثُبُوتِ الثَّوابِ والعِقابِ والأمْرِ والنَّهْيِ وهو الحَقُّ الَّذِي خُلِقَتْ بِهِ ولَهُ السَّماواتُ والأرْضُ والدُّنْيا والآخِرَةُ وهو مُقْتَضى الخَلْقِ والأمْرِ، ونَفْيُهُ نَفْيٌ لَهُما.
* [فَصْلٌ: إذا ثَبَتَتِ النُّبُوّاتُ والرِّسالَةُ ثَبَتَتْ صِفَةُ التَّكَلُّمِ والتَّكْلِيمِ]
فَإنَّ حَقِيقَةَ الرِّسالَةِ تَبْلِيغُ كَلامِ المُرْسِلِ، فَإذا لَمْ يَكُنْ ثَمَّ كَلامٌ فَماذا يُبَلِّغُ الرَّسُولُ؟ بَلْ كَيْفَ يُعْقَلُ كَوْنُهُ رَسُولًا؟ ولِهَذا قالَ غَيْرُ واحِدٍ مِنَ السَّلَفِ: مَن أنْكَرَ أنْ يَكُونَ اللَّهُ مُتَكَلِّمًا، أوْ يَكُونَ القُرْآنُ كَلامَهُ: فَقَدْ أنْكَرَ رِسالَةَ مُحَمَّدٍ ﷺ، بَلْ ورِسالَةَ جَمِيعِ الرُّسُلِ الَّتِي حَقِيقَتُها تَبْلِيغُ كَلامِ اللَّهِ تَبارَكَ وتَعالى، ولِهَذا قالَ مُنْكِرُو رِسالَتِهِ ﷺ عَنِ القُرْآنِ ﴿إنْ هَذا إلّا سِحْرٌ يُؤْثَرُ إنْ هَذا إلّا قَوْلُ البَشَرِ﴾ [المدثر: ٢٤] إنَّما عَنَوُا القُرْآنَ المَسْمُوعَ الَّذِي بُلِّغُوهُ، وأُنْذِرُوا بِهِ.
فَمَن قالَ: إنَّ اللَّهَ لَمْ يَتَكَلَّمْ بِهِ، فَقَدْ ضاهَأ قَوْلُهُ قَوْلَهُمْ: تَعالى اللَّهُ عَمّا يَقُولُ الظّالِمُونَ عُلُوًّا كَبِيرًا.
* [فَصْلٌ: في بَيانِ تَضَمُّنِها لِلرَّدِّ عَلى مَن قالَ بِقِدَمِ العالَمِ]
وَذَلِكَ مِن وُجُوهٍ:
أحَدُها: إثْباتُ حَمْدِهِ، فَإنَّهُ يَقْتَضِي ثُبُوتَ أفْعالِهِ لاسِيَّما وعامَّةُ مَوادِّ الحَمْدِ في القُرْآنِ أوْ كُلُّها إنَّما هي عَلى الأفْعالِ، وكَذَلِكَ هو هاهُنا، فَإنَّهُ حَمِدَ نَفْسَهُ عَلى رُبُوبِيَّتِهِ،
المُتَضَمِّنَةِ لِأفْعالِهِ الِاخْتِيارِيَّةِ، ومِنَ المُسْتَحِيلِ مُقارَنَةُ الفِعْلِ لِفاعِلِهِ، هَذا مُمْتَنِعٌ في كُلِّ عَقْلٍ سَلِيمٍ، وفِطْرَةٍ مُسْتَقِيمَةٍ، فالفِعْلُ مُتَأخِّرٌ عَنْ فاعِلِهِ بِالضَّرُورَةِ.
وأيْضًا فَإنَّهُ مُتَعَلِّقُ الإرادَةِ والتَّأْثِيرِ والقُدْرَةِ، ولا يَكُونُ مُتَعَلِّقُها قَدِيمًا ألْبَتَّةَ.
الثّانِي: إثْباتُ رُبُوبِيَّتِهِ لِلْعالَمِينَ، وتَقْرِيرُ ما ذَكَرْناهُ، والعالَمُ كُلُّ ما سِواهُ فَثَبَتَ أنَّ كُلَّ ما سِواهُ مَرْبُوبٌ، والمَرْبُوبُ مَخْلُوقٌ بِالضَّرُورَةِ، وكُلُّ مَخْلُوقٍ حادِثٌ بَعْدَ أنْ لَمْ يَكُنْ، فَإذًا رُبُوبِيَّتُهُ تَعالى لِكُلِّ ما سِواهُ تَسْتَلْزِمُ تَقَدُّمَهُ عَلَيْهِ، وحُدُوثَ المَرْبُوبِ، ولا يُتَصَوَّرُ أنْ يَكُونَ العالَمُ قَدِيمًا وهو مَرْبُوبٌ أبَدًا، فَإنَّ القَدِيمَ مُسْتَغْنٍ بِأزَلِيَّتِهِ عَنْ فاعِلٍ لَهُ، وكُلُّ مَرْبُوبٍ فَهو فَقِيرٌ بِالذّاتِ، فَلا شَيْءَ مِنَ المَرْبُوبِ يُغْنِي ولا قَدِيمَ.
الثّالِثُ: إثْباتُ تَوْحِيدِهِ، فَإنَّهُ يَقْتَضِي عَدَمَ مُشارَكَةِ شَيْءٍ مِنَ العالَمِ لَهُ في خَصائِصِ الرُّبُوبِيَّةِ، والقُدْرَةُ مِن خَصائِصِ الرُّبُوبِيَّةِ، فالتَّوْحِيدُ يَنْفِي ثُبُوتَهُ لِغَيْرِهِ ضَرُورَةً، كَما يَنْفِي ثُبُوتَ الرُّبُوبِيَّةِ والإلَهِيَّةِ لِغَيْرِهِ.
* [فَصْلٌ: في اشْتِمالِ هَذِهِ السُّورَةِ عَلى أنْواعِ التَّوْحِيدِ الثَّلاثَةِ الَّتِي اتَّفَقَتْ عَلَيْها الرُّسُلُ صَلَواتُ اللَّهِ وسَلامُهُ عَلَيْهِمْ]
التَّوْحِيدُ نَوْعانِ: نَوْعٌ في العِلْمِ والِاعْتِقادِ، ونَوْعٌ في الإرادَةِ والقَصْدِ، ويُسَمّى الأوَّلُ: التَّوْحِيدَ العِلْمِيَّ، والثّانِي: التَّوْحِيدَ القَصْدِيَّ الإرادِيَّ، لِتَعَلُّقِ الأوَّلِ بِالأخْبارِ والمَعْرِفَةِ، والثّانِي بِالقَصْدِ والإرادَةِ، وهَذا الثّانِي أيْضًا نَوْعانِ: تَوْحِيدٌ في الرُّبُوبِيَّةِ، وتَوْحِيدٌ في الإلَهِيَّةِ، فَهَذِهِ ثَلاثَةُ أنْواعٍ.
فَأمّا تَوْحِيدُ العِلْمِ: فَمَدارُهُ عَلى إثْباتِ صِفاتِ الكَمالِ، وعَلى نَفْيِ التَّشْبِيهِ والمِثالِ، والتَّنْزِيهِ عَنِ العُيُوبِ والنَّقائِصِ، وقَدْ دَلَّ عَلى هَذا شَيْئانِ: مُجْمَلٌ، ومُفَصَّلٌ.
أمّا المُجْمَلُ: فَإثْباتُ الحَمْدِ لَهُ سُبْحانَهُ، وأمّا المُفَصَّلُ: فَذِكْرُ صِفَةِ الإلَهِيَّةِ والرُّبُوبِيَّةِ، والرَّحْمَةِ والمُلْكِ، وعَلى هَذِهِ الأرْبَعِ مَدارُ الأسْماءِ والصِّفاتِ.
فَأمّا تَضَمُّنُ الحَمْدِ لِذَلِكَ: فَإنَّ الحَمْدَ يَتَضَمَّنُ مَدْحَ المَحْمُودِ بِصِفاتِ كَمالِهِ، ونُعُوتِ جَلالِهِ، مَعَ مَحَبَّتِهِ والرِّضا عَنْهُ، والخُضُوعِ لَهُ، فَلا يَكُونُ حامِدًا مَن جَحَدَ صِفاتِ المَحْمُودِ، ولا مَن أعْرَضَ عَنْ مَحَبَّتِهِ والخُضُوعِ لَهُ، وكُلَّما كانَتْ صِفاتُ كَمالِ المَحْمُودِ أكْثَرَ كانَ حَمْدُهُ أكْمَلَ، وكُلَّما نَقَصَ مِن صِفاتِ كَمالِهِ نَقَصَ مِن حَمْدِهِ بِحَسَبِها، ولِهَذا كانَ الحَمْدُ كُلُّهُ لِلَّهِ حَمْدًا لا يُحْصِيهِ سِواهُ، لِكَمالِ صِفاتِهِ وكَثْرَتِها، ولِأجْلِ هَذا لا يُحْصِي أحَدٌ مِن خَلْقِهِ ثَناءً عَلَيْهِ، لِما لَهُ مِن صِفاتِ الكَمالِ، ونُعُوتِ الجَلالِ الَّتِي لا يُحْصِيها سِواهُ، ولِهَذا ذَمَّ اللَّهُ تَعالى آلِهَةَ الكُفّارِ، وعابَها بِسَلْبِ أوْصافِ الكَمالِ عَنْها، فَعابَها بِأنَّها لا تَسْمَعُ ولا تُبْصِرُ، ولا تَتَكَلَّمُ ولا تَهْدِي، ولا تَنْفَعُ ولا تَضُرُّ، وهَذِهِ صِفَةُ إلَهِ الجَهْمِيَّةِ، الَّتِي عابَ بِها الأصْنامَ، نَسَبُوها إلَيْهِ، تَعالى اللَّهُ عَمّا يَقُولُ الظّالِمُونَ والجاحِدُونَ عُلُوًّا كَبِيرًا، فَقالَ تَعالى حِكايَةً عَنْ خَلِيلِهِ إبْراهِيمَ عَلَيْهِ السَّلامُ في مُحاجَّتِهِ لِأبِيهِ ﴿ياأبَتِ لِمَ تَعْبُدُ ما لا يَسْمَعُ ولا يُبْصِرُ ولا يُغْنِي عَنْكَ شَيْئًا﴾ [مريم: ٤٢] فَلَوْ كانَ إلَهُ إبْراهِيمَ بِهَذِهِ الصِّفَةِ والمَثابَةِ لَقالَ لَهُ آزَرُ: وأنْتَ إلَهُكَ بِهَذِهِ المَثابَةِ، فَكَيْفَ تُنْكِرُ عَلَيَّ؟ لَكِنْ كانَ مَعَ شِرْكِهِ أعْرَفَ بِاللَّهِ مِنَ الجَهْمِيَّةِ، وكَذَلِكَ كَفّارُ قُرَيْشٍ كانُوا مَعَ شِرْكِهِمْ مُقِرِّينَ بِصِفاتِ الصّانِعِ سُبْحانَهُ وعُلُوِّهِ عَلى خَلْقِهِ، وقالَ تَعالى ﴿واتَّخَذَ قَوْمُ مُوسى مِن بَعْدِهِ مِن حُلِيِّهِمْ عِجْلًا جَسَدًا لَهُ خُوارٌ ألَمْ يَرَوْا أنَّهُ لا يُكَلِّمُهم ولا يَهْدِيهِمْ سَبِيلًا اتَّخَذُوهُ وكانُوا ظالِمِينَ﴾ [الأعراف: ١٤٨] فَلَوْ كانَ إلَهُ الخَلْقِ سُبْحانَهُ كَذَلِكَ لَمْ يَكُنْ في هَذا إنْكارٌ عَلَيْهِمْ، واسْتِدْلالٌ عَلى بُطْلانِ الإلَهِيَّةِ بِذَلِكَ.
فَإنْ قِيلَ: فاللَّهُ تَعالى لا يُكَلِّمُ عِبادَهُ.
قِيلَ: بَلى، قَدْ كَلَّمَهُمْ، فَمِنهم مَن كَلَّمَهُ اللَّهُ مِن وراءِ حِجابٍ، مِنهُ إلَيْهِ بِلا واسِطَةٍ كَمُوسى، ومِنهم مَن كَلَّمَهُ اللَّهُ عَلى لِسانِ رَسُولِهِ المَلَكِيِّ، وهُمُ الأنْبِياءُ، وكَلَّمَ اللَّهُ سائِرَ النّاسِ عَلى ألْسِنَةِ رُسُلِهِ، فَأنْزَلَ عَلَيْهِمْ كَلامَهُ الَّذِي بَلَّغَتْهُ رُسُلُهُ عَنْهُ، وقالُوا لَهُمْ: هَذا كَلامُ اللَّهِ الَّذِي تَكَلَّمَ بِهِ، وأمَرَنا بِتَبْلِيغِهِ إلَيْكُمْ، ومِن هاهُنا قالَ السَّلَفُ: مَن أنْكَرَ كَوْنَ اللَّهِ مُتَكَلِمًا فَقَدْ أنْكَرَ رِسالَةَ الرُّسُلِ كُلِّهِمْ، لِأنَّ حَقِيقَتَها تَبْلِيغُ كَلامِهِ الَّذِي تَكَلَّمَ بِهِ إلى عِبادِهِ، فَإذا انْتَفى كَلامُهُ انْتَفَتِ الرِّسالَةُ، وقالَ تَعالى في سُورَةِ طه عَنِ السّامِرِيِّ ﴿فَأخْرَجَ لَهم عِجْلًا جَسَدًا لَهُ خُوارٌ فَقالُوا هَذا إلَهُكم وإلَهُ مُوسى فَنَسِيَ أفَلا يَرَوْنَ ألّا يَرْجِعُ إلَيْهِمْ قَوْلًا ولا يَمْلِكُ لَهم ضَرًّا ولا نَفْعًا﴾ [طه: ٨٨] ورَجْعُ القَوْلِ: هو التَّكَلُّمُ والتَّكْلِيمُ، وقالَ تَعالى ﴿وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا رَجُلَيْنِ أحَدُهُما أبْكَمُ لا يَقْدِرُ عَلى شَيْءٍ وهو كَلٌّ عَلى مَوْلاهُ أيْنَما يُوَجِّهْهُ لا يَأْتِ بِخَيْرٍ هَلْ يَسْتَوِي هو ومَن يَأْمُرُ بِالعَدْلِ وهو عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ﴾ [النحل: ٧٦] فَجَعَلَ نَفْيَ صِفَةِ الكَلامِ مُوجِبًا لِبُطْلانِ الإلَهِيَّةِ، وهَذا أمْرٌ مَعْلُومٌ بِالفِطَرِ والعُقُولِ السَّلِيمَةِ والكُتُبِ السَّماوِيَّةِ: أنَّ فاقِدَ صِفاتِ الكَمالِ لا يَكُونُ إلَهًا، ولا مُدَبِّرًا، ولا رَبًّا، بَلْ هو مَذْمُومٌ، مَعِيبٌ ناقِصٌ، لَيْسَ لَهُ الحَمْدُ، لا في الأُولى، ولا في الآخِرَةِ، وإنَّما الحَمْدُ في الأُولى والآخِرَةِ لِمَن لَهُ صِفاتُ الكَمالِ، ونُعُوتُ الجَلالِ، الَّتِي لِأجْلِها اسْتَحَقَّ الحَمْدَ، ولِهَذا سَمّى السَّلَفُ كُتُبَهُمُ الَّتِي صَنَّفُوها في السُّنَّةِ وإثْباتِ صِفاتِ الرَّبِّ وعُلُوِّهِ عَلى خَلْقِهِ وكَلامِهِ وتَكْلِيمِهِ تَوْحِيدًا، لِأنَّ نَفْيَ ذَلِكَ وإنْكارَهُ والكُفْرَ بِهِ إنْكارٌ لِلصّانِعِ وجَحْدٌ لَهُ، وإنَّما تَوْحِيدُهُ: إثْباتُ صِفاتِ كَمالِهِ، وتَنْزِيهُهُ عَنِ التَّشْبِيهِ والنَّقائِصِ، فَجَعَلَ المُعَطِّلَةُ جَحْدَ الصِّفاتِ وتَعْطِيلَ الصّانِعِ عَنْها تَوْحِيدًا، وجَعَلُوا إثْباتَها لِلَّهِ تَشْبِيهًا وتَجْسِيمًا وتَرْكِيبًا، فَسَمَّوُا الباطِلَ بِاسْمِ الحَقِّ، تَرْغِيبًا فِيهِ، وزُخْرُفًا يُنْفِقُونَهُ بِهِ، وسَمَّوُا الحَقَّ بِاسْمِ الباطِلِ تَنْفِيرًا عَنْهُ، والنّاسُ أكْثَرُهم مَعَ ظاهِرِ السِّكَّةِ، لَيْسَ لَهم نَقْدُ النُّقّادِ ﴿مَن يَهْدِ اللَّهُ فَهو المُهْتَدِ ومَن يُضْلِلْ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ ولِيًّا مُرْشِدًا﴾ [الكهف: ١٧] والمَحْمُودُ لا يُحْمَدُ عَلى العَدَمِ والسُّكُوتِ ألْبَتَّةَ، إلّا إذا كانَتْ سَلْبَ عُيُوبٍ ونَقائِصَ، تَتَضَمَّنُ إثْباتَ أضْدادِها مِنَ الكِمالاتِ الثُبُوتِيَّةِ، وإلّا فالسَّلْبُ المَحْضُ لا حَمْدَ فِيهِ، ولا مَدْحَ ولا كَمالَ.
وَكَذَلِكَ حَمْدُهُ لِنَفْسِهِ عَلى عَدَمِ اتِّخاذِ الوَلَدِ المُتَضَمِّنِ لِكَمالِ صَمَدِيَّتِهِ وغِناهُ ومُلْكِهِ، وتَعْبِيدِ كُلِّ شَيْءٍ لَهُ، فاتِّخاذُ الوَلَدِ يُنافِي ذَلِكَ، كَما قالَ تَعالى ﴿قالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ ولَدًا سُبْحانَهُ هو الغَنِيُّ لَهُ ما في السَّماواتِ وما في الأرْضِ﴾ [يونس: ٦٨].
وَحَمْدُ نَفْسِهِ عَلى عَدَمِ الشَّرِيكِ، المُتَضَمِّنِ تَفَرُّدَهُ بِالرُّبُوبِيَّةِ والإلَهِيَّةِ، وتَوَحُّدَهُ بِصِفاتِ الكَمالِ الَّتِي لا يُوصَفُ بِها غَيْرُهُ، فَيَكُونُ شَرِيكًا لَهُ، فَلَوْ عُدِمَها لَكانَ كُلُّ مَوْجُودٍ أكْمَلَ مِنهُ، لِأنَّ المَوْجُودَ أكْمَلُ مِنَ المَعْدُومِ، ولِهَذا لا يَحْمَدُ نَفْسَهُ سُبْحانَهُ بِعَدَمٍ إلّا إذا كانَ مُتَضَمِّنًا لِثُبُوتِ كَمالٍ، كَما حَمِدَ نَفْسَهُ بِكَوْنِهِ لا يَمُوتُ لِتَضَمُّنِهِ كَمالَ حَياتِهِ، وحَمِدَ نَفْسَهُ بِكَوْنِهِ لا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ ولا نَوْمٌ، لِتَضَمُّنِ ذَلِكَ كَمالَ قَيُّومِيَّتِهِ، وحَمِدَ نَفْسَهُ بِأنَّهُ لا يَعْزُبُ عَنْ عِلْمِهِ مِثْقالُ ذَرَّةٍ في الأرْضِ ولا في السَّماءِ، ولا أصْغَرَ مِن ذَلِكَ ولا أكْبَرَ، لِكَمالِ عِلْمِهِ وإحاطَتِهِ، وحَمِدَ نَفْسَهُ بِأنَّهُ لا يَظْلِمُ أحَدًا، لِكَمالِ عَدْلِهِ وإحْسانِهِ، وحَمِدَ نَفْسَهُ بِأنَّهُ لا تُدْرِكُهُ الأبْصارُ، لِكَمالِ عَظَمَتِهِ، يَرى ولا يُدْرَكُ، كَما أنَّهُ يَعْلَمُ ولا يُحاطُ بِهِ عِلْمًا، فَمُجَرَّدُ نَفْيِ الرُّؤْيَةِ لَيْسَ بِكَمالٍ؛ لِأنَّ العَدَمَ لا يُرى، فَلَيْسَ في كَوْنِ الشَّيْءِ لا يُرى كَمالٌ ألْبَتَّةَ، وإنَّما الكَمالُ في كَوْنِهِ لا يُحاطُ بِهِ رُؤْيَةً ولا إدْراكًا، لِعَظَمَتِهِ في نَفْسِهِ، وتَعالِيهِ عَنْ إدْراكِ المَخْلُوقِ لَهُ، وكَذَلِكَ حَمِدَ نَفْسَهُ بِعَدَمِ الغَفْلَةِ والنِّسْيانِ، لِكَمالِ عِلْمِهِ.
فَكُلُّ سَلْبٍ في القُرْآنِ حَمِدَ اللَّهُ بِهِ نَفْسَهُ فَلِمُضادَّتِهِ لِثُبُوتِ ضِدِّهِ، ولِتَضَمُّنِهِ كَمالَ ثُبُوتِ ضِدِّهِ.
فَعَلِمْتُ أنَّ حَقِيقَةَ الحَمْدِ تابِعَةٌ لِثُبُوتِ أوْصافِ الكَمالِ، وأنَّ نَفْيَها نَفْيٌ لِحَمْدِهِ، ونَفْيُ الحَمْدِ مُسْتَلْزِمٌ لِثُبُوتِ ضِدِّهِ.
* [فَصْلٌ دِلالَةٌ عَلى تَوْحِيدِ الأسْماءِ والصِّفاتِ]
وَأمّا دِلالَةُ الأسْماءِ الخَمْسَةِ عَلَيْها، وهي " اللَّهُ، والرَّبُّ، والرَّحْمَنُ، والرَّحِيمُ، والمَلِكُ " فَمَبْنِيٌّ عَلى أصْلَيْنِ:
أحَدُهُما: أنَّ أسْماءَ الرَّبِّ تَبارَكَ وتَعالى دالَّةٌ عَلى صِفاتِ كَمالِهِ، فَهي مُشْتَقَّةٌ مِنَ الصِّفاتِ، فَهي أسْماءٌ، وهي أوْصافٌ، وبِذَلِكَ كانَتْ حُسْنى، إذْ لَوْ كانَتْ ألْفاظًا لا مَعانِيَ فِيها لَمْ تَكُنْ حُسْنى، ولا كانَتْ دالَّةً عَلى مَدْحٍ ولا كَمالٍ، ولَساغَ وُقُوعُ أسْماءِ الِانْتِقامِ والغَضَبِ في مَقامِ الرَّحْمَةِ والإحْسانِ، وبِالعَكْسِ، فَيُقالُ: اللَّهُمَّ إنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي، فاغْفِرْ لِي إنَّكَ أنْتَ المُنْتَقِمُ، واللَّهُمَّ أعْطِنِي، فَإنَّكَ أنْتَ الضّارُّ المانِعُ، ونَحْوَ ذَلِكَ.
وَنَفْيُ مَعانِي أسْمائِهِ الحُسْنى مِن أعْظَمِ الإلْحادِ فِيها، قالَ تَعالى ﴿وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ في أسْمائِهِ سَيُجْزَوْنَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ﴾ [الأعراف: ١٨٠] ولِأنَّها لَوْ لَمْ تَدُلَّ عَلى مَعانٍ وأوْصافٍ لَمْ يَجُزْ أنْ يُخْبَرَ عَنْها بِمَصادِرِها ويُوصَفُ بِها، لَكِنَّ اللَّهَ أخْبَرَ عَنْ نَفْسِهِ بِمَصادِرِها، وأثْبَتَها لِنَفْسِهِ، وأثْبَتَها لَهُ رَسُولُهُ، كَقَوْلِهِ تَعالى ﴿إنَّ اللَّهَ هو الرَّزّاقُ ذُو القُوَّةِ المَتِينُ﴾ [الذاريات: ٥٨] فَعَلِمَ أنَّ القَوِيَّ مِن أسْمائِهِ، ومَعْناهُ المَوْصُوفُ بِالقُوَّةِ، وكَذَلِكَ قَوْلُهُ ﴿فَلِلَّهِ العِزَّةُ جَمِيعًا﴾ [فاطر: ١٠] فالعَزِيزُ مَن لَهُ العِزَّةُ، فَلَوْلا ثُبُوتُ القُوَّةِ والعِزَّةِ لَهُ لَمْ يُسَمَّ قَوِيًّا ولا عَزِيزًا، وكَذَلِكَ قَوْلُهُ ﴿أنْزَلَهُ بِعِلْمِهِ﴾ [النساء: ١٦٦]، ﴿فاعْلَمُوا أنَّما أُنْزِلَ بِعِلْمِ اللَّهِ﴾ [هود: ١٤]، ﴿وَلا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِن عِلْمِهِ﴾ [البقرة: ٢٥٥].
وَفِي الصَّحِيحِ عَنِ النَّبِيِّ ﷺ «إنَّ اللَّهَ لا يَنامُ، ولا يَنْبَغِي لَهُ أنْ يَنامَ، يَخْفِضُ القِسْطَ ويَرْفَعُهُ، يُرْفَعُ إلَيْهِ عَمَلُ اللَّيْلِ قَبْلَ النَّهارِ، وعَمَلُ النَّهارِ قَبْلَ اللَّيْلِ، حِجابُهُ النُّورُ، لَوْ كَشَفَهُ لَأحْرَقَتْ سُبُحاتُ وجْهِهِ ما انْتَهى إلَيْهِ بَصَرُهُ مِن خَلْقِهِ» فَأُثْبِتَ المَصْدَرُ الَّذِي اشْتُقَّ مِنهُ اسْمُهُ البَصِيرُ.
وَفِي صَحِيحِ البُخارِيِّ عَنْ عائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْها «الحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي وسِعَ سَمْعُهُ الأصْواتَ».
وَفِي الصَّحِيحِ حَدِيثُ الِاسْتِخارَةِ «اللَّهُمَّ إنِّي أسَتُخَيِّرُكَ بِعِلْمِكَ، وأسْتَقْدِرُكَ بِقُدْرَتِكَ» فَهو قادِرٌ بِقُدْرَةٍ.
وَقالَ تَعالى لِمُوسى ﴿إنِّي اصْطَفَيْتُكَ عَلى النّاسِ بِرِسالاتِي وبِكَلامِي﴾ [الأعراف: ١٤٤] فَهو مُتَكَلِّمٌ بِكَلامٍ.
وَهُوَ العَظِيمُ الَّذِي لَهُ العَظَمَةٌ كَما في الصَّحِيحِ عَنْهُ ﷺ «يَقُولُ اللَّهُ تَعالى: العَظَمَةُ إزارِي، والكِبْرِياءُ رِدائِي» وهو الحَكِيمُ الَّذِي لَهُ الحُكْمُ ﴿فالحُكْمُ لِلَّهِ العَلِيِّ الكَبِيرِ﴾ [غافر: ١٢] وأجْمَعَ المُسْلِمُونَ أنَّهُ لَوْ حَلَفَ بِحَياةِ اللَّهِ، أوْ سَمْعِهِ، أوْ بَصَرِهِ، أوْ قُوَّتِهِ، أوْ عِزَّتِهِ أوْ عَظَمَتِهِ انْعَقَدَتْ يَمِينُهُ، وكانَتْ مُكَفِّرَةً، لِأنَّ هَذِهِ صِفاتُ كَمالِهِ الَّتِي اشْتُقَّتْ مِنها أسْماؤُهُ.
وأيْضًا لَوْ لَمْ تَكُنْ أسْماؤُهُ مُشْتَمِلَةً عَلى مَعانٍ وصِفاتٍ لَمْ يَسُغْ أنْ يُخْبِرَ عَنْهُ بِأفْعالِها، فَلا يُقالُ: يَسْمَعُ ويَرى، ويَعْلَمُ ويَقْدِرُ ويُرِيدُ، فَإنَّ ثُبُوتَ أحْكامِ الصِّفاتِ فَرْعُ ثُبُوتِها، فَإذا انْتَفى أصْلُ الصِّفَةِ اسْتَحالَ ثُبُوتُ حُكْمِها.
وأيْضًا فَلَوْ لَمْ تَكُنْ أسْماؤُهُ ذَواتِ مَعانٍ وأوْصافٍ لَكانَتْ جامِدَةً كالأعْلامِ المَحْضَةِ، الَّتِي لَمْ تُوضَعْ لِمُسَمّاها بِاعْتِبارِ مَعْنى قامَ بِهِ، فَكانَتْ كُلُّها سَواءَ، ولَمْ يَكُنْ فَرْقٌ بَيْنَ مَدْلُولاتِها، وهَذا مُكابَرَةٌ صَرِيحَةٌ، وبُهْتٌ بَيِّنٌ، فَإنَّ مَن جَعَلَ مَعْنى اسْمِ القَدِيرِ هو مَعْنى اسْمِ السَّمِيعِ البَصِيرِ، ومَعْنى اسْمِ التَّوّابِ هو مَعْنى اسْمِ المُنْتَقِمِ، ومَعْنى اسْمِ المُعْطِي هو مَعْنى اسْمِ المانِعِ فَقَدْ كابَرَ العَقْلَ واللُّغَةَ والفِطْرَةَ.
فَنَفْيُ مَعانِي أسْمائِهِ مِن أعْظَمِ الإلْحادِ فِيها، والإلْحادُ فِيها أنْواعٌ هَذا أحُدُها.
الثّانِي: تَسْمِيَةُ الأوْثانِ بِها، كَما يُسَمُّونَها آلِهَةً، وقالَ ابْنُ عَبّاسٍ ومُجاهِدٌ: عَدَلُوا بِأسْماءِ اللَّهِ تَعالى عَمّا هي عَلَيْهِ، فَسَمَّوْا بِها أوْثانَهُمْ، فَزادُوا ونَقَصُوا، فاشْتَقُّوا اللّاتَ مِنَ اللَّهِ، والعُزّى مِنَ العَزِيزِ، ومَناةَ مِنَ المَنّانِ، ورُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ ﴿يُلْحِدُونَ في أسْمائِهِ﴾ [الأعراف: ١٨٠] يَكْذِبُونَ عَلَيْهِ، وهَذا تَفْسِيرٌ بِالمَعْنى.
وَحَقِيقَةُ الإلْحادِ فِيها العُدُولُ بِها عَنِ الصَّوابِ فِيها، وإدْخالُ ما لَيْسَ مِن مَعانِيها فِيها، وإخْراجُ حَقائِقِ مَعانِيها عَنْها، هَذا حَقِيقَةُ الإلْحادِ، ومَن فَعَلَ ذَلِكَ فَقَدْ كَذَبَ عَلى اللَّهِ، فَفَسَّرَ ابْنُ عَبّاسٍ الإلْحادَ بِالكَذِبِ، أوْ هو غايَةُ المُلْحِدِ في أسْمائِهِ تَعالى، فَإنَّهُ إذا أدْخَلَ في مَعانِيها ما لَيْسَ مِنها، وخَرَجَ بِها عَنْ حَقائِقِها، أوْ بَعْضِها، فَقَدْ عَدَلَ بِها عَنِ الصَّوابِ والحَقِّ، وهو حَقِيقَةُ الإلْحادِ.
فالإلْحادُ إمّا بِجَحْدِها وإنْكارِها، وإمّا بِجَحْدِ مَعانِيها وتَعْطِيلِها، وإمّا بِتَحْرِيفِها عَنِ الصَّوابِ، وإخْراجِها عَنِ الحَقِّ بِالتَّأْوِيلاتِ الباطِلَةِ، وإمّا بِجَعْلِها أسْماءً لِهَذِهِ المَخْلُوقاتِ المَصْنُوعاتِ، كَإلْحادِ أهْلِ الِاتِّحادِ، فَإنَّهم جَعَلُوها أسْماءَ هَذا الكَوْنِ، مَحْمُودَها ومَذْمُومَها، حَتّى قالَ زَعِيمُهُمْ: وهو المُسَمّى بِكُلِّ اسْمٍ مَمْدُوحٍ عَقْلًا، وشَرْعًا وعُرْفًا، وبِكُلِّ اسْمٍ مَذْمُومٍ عَقْلًا وشَرْعًا وعُرْفًا، تَعالى اللَّهُ عَمّا يَقُولُ المُلْحِدُونَ عُلُوًّا كَبِيرًا.
* (فصل: في الموازنة بين ذوق السماع وذوق الصلاة، وبيان أن أحد الذوقين مباين للآخر)
فإنه كلّما قوي ذوق أحدهما وسلطانه ضعف ذوق الآخر وسلطانه.
ولا ريب أن الصلاة قرة عين المحبين ولذة أرواح الموحدين، ومحكُّ أحوال الصادقين، وميزان أحوال السالكين، وهي رحمته المهداة إلى عبيده، هداهم إليها وعرَّفهم بها رحمةً بهم وإكرامًا لهم، لينالوا بها شرف كرامته والفوز بقربه، لا حاجة منه إليهم، بل منَّةً منه وفضلًا منه عليهم، وتعبد بها القلب والجوارح جميعًا، وجعل حظ القلب منها أكمل الحظين وأعظمهما، وهو إقباله على ربه سبحانه وفرحه وتلذذه بقربه وتنعمه بحبه وابتهاجه بالقيام بين يديه، وانصرافه حال القيام بالعبودية عن الالتفات إلى غير معبوده، وتكميل حقوق عبوديته حتى تقع على الوجه الذي يرضاه.
ولمّا امتحن سبحانه عبده بالشهوات وأسبابها من داخلٍ فيه وخارجٍ عنه، اقتضت تمام رحمته به وإحسانه إليه أن هيَّأ له مأدبة قد جمعت من جميع الألوان والتحف والخِلَع والعطايا، ودعاه إليه كل يوم خمس مرات، وجعل في كل لون من ألوان تلك المأدبة لذة ومنفعة ومصلحةً لهذا العبد الذي قد دعاه إلى المأدبة، ليست في اللون الآخر، لتكمل لذة عبده في كل لون من ألوان العبودية، ويكرمه بكل صنف من أصناف الكرامة، ويكون كل فعل من أفعال تلك العبودية مكفرًا لمذموم كان يكرهه بإزائه، ليُثيبه عليه نورًا خاصًا وقوة في قلبه وجوارحه وثوابًا خاصًّا يوم لقائه.
فيصدر المدعو من هذه المأدبة وقد أشبعه وأرواه، وخلع عليه بخلع القبول وأغناه؛ لأن القلب كان قبلُ قد ناله من القحط والجدب والجوع والظمأ والعُرْي والسقم ما ناله، فأصدره من عنده وقد أغناه عن الطعام والشراب واللباس والتحف ما يغنيه.
ولمّا كانت الجدوب متتابعة، وقحط النفوس متواليًا، جدد له الدعوة إلى هذه المأدبة وقتًا بعد وقت رحمة منه به، فلا يزال مستسقيًا من بيده غيث القلوب وسَقْيها، مستمطرًا سحائبَ رحمته لئلا ييبَسَ ما أنبتته له تلك من كلأ الإيمان وعُشْبه وثمارِه، ولئلا تنقطع مادة النبات. والقلب في استسقاء واستمطار هكذا دائمًا، يشكو إلى ربه جَدْبه وقَحْطَه وضرورته إلى سقيا رحمته وغيثِ بِرِّه، فهذا دأب العبد أيام حياته.
فإن الغفلة التي تنزل بالقلب هي القحط والجدب، فما دام في ذكر الله والإقبال عليه فغيث الرحمة واقع عليه كالمطر المتدارك، فإذا غفلَ ناله من القحط بحسب غفلته قلة وكثرة، فإذا تمكنت الغفلةُ واستحكمتْ صارتْ أرضُه ميتةً، وسَنَتُه جرداءَ يابسةً، وحريقُ الشهوات فيها من كل جانبٍ السمائم.
وإذا تدارك عليه غيث الرحمة اهتزَّتْ أرضه ورَبَتْ وأنبتت من كل زوج بهيج، فإذا ناله القحط والجدب كان بمنزلة شجرة رطوبتها ولينها وثمارها من الماء، فإذا مُنِعتْ من الماء يَبِستْ عروقها، وذَبلتْ أغصانها، وحُبِست ثمارها وربما يبست الأغصان والشجرة، فإذا مددتَ منها غصنًا إلى نفسك لم يمتد ولم ينقَدْ لك وانكسر، فحينئذٍ تقتضي حكمة قيّم البستان قطعَ تلك الشجرة وجعلها وقودًا للنار، فكذلك القلب، إنما ييبس إذا خلا من توحيد الله وحبه ومعرفته وذكره ودعائه، فتصيبه حرارةُ النفس ونار الشهوات، فتمتنع أغصان الجوارح عن الامتداد إذا مددتها والانقياد إذا قُدتَها، فلا تَصلحُ بعدُ هي والشجرة إلا للنار، ﴿فَوَيْلٌ لِلْقاسِيَةِ قُلُوبُهم مِن ذِكْرِ اللَّهِ أُولَئِكَ في ضَلالٍ مُبِينٍ﴾ [الزمر: ٢٢].
فإذا كان القلب ممطورًا بمطر الرحمة كانت الأغصان لينة منقادة رطبة، فإذا مددتها إلى أمر الله انقادت معك، وأقبلتْ سريعةً لينة وادعة، فجَنيتَ منها من ثمار العبودية ما يحمله كلُّ غصن من تلك الأغصان، ومادتها من رطوبة القلب ورِيّه، فالمادة تعمل عملها في القلب والجوارح، وإذا يبس القلبُ تعطلتِ الأغصانُ من أعمال البر، لأن مادة القلب وحياته قد انقطعت منه، فلم تنتشر في الجوارح، فتحمل كلُّ جارحة ثمرَها من العبودية.
ولله في كل جارحة من جوارح العبد عبوديةٌ تخصُّه، وطاعة مطلوبة منها، خُلِقت لأجلها وهُيِّئتْ لها.
والناس بعد ذلك ثلاثة أقسام:
أحدها: مَن استعمل تلك الجوارح فيما خُلِقتْ له وأريدَ منها، فهذا هو الذي تاجرَ الله بأربح التجارة، وباع نفسَه لله بأربح البيع، والصلاة وضعت لاستعمال الجوارحِ جميعِها في العبودية تبعًا لقيام القلب بها.
الثاني: مَن استعملها فيما لم تُخلَق له، ولم يُخلَقْ لها، فهذا هو الذي خاب سعيه وخسرت تجارته، وفاته رِضى ربِّه عنه وجزيلُ ثوابه، وحصل على سخطه وأليم عقابه.
الثالث: مَن عطّل جوارحَه وأماتها بالبطالة، فهذا أيضًا خاسرٌ أعظم خسارة، فإن العبد خُلِق للعبادة والطاعة لا للبطالة، وأبغض الخلق إلى الله البطّال الذي لا في شغل الدنيا ولا في سعي الآخرة، فهذا كَلٌّ على الدنيا والدين.
فالأول كرجل أُقطِع أرضًا واسعةً، وأُعِين بآلاتِ الحرث والبذار، وأُعطي ما يكفيها لسقيها، فحرثَها وهيّأها للزراعة، وبذَرَ فيها من أنواع الغلال، وغَرَسَ فيها من أنواع الثمار والفواكه المختلفة الأنواع، ثم لم يُهمِلها، بل أقام عليها الحرسَ وحفظها من المفسدين، وجعل يتعاهدها كل يوم فيصلح ما فسدَ منها، ويَغرِس عوضَ ما يَبِسَ، ويَنفِي دغلَها، ويقطع شَوكَها، ويستعين بمغلّها على عمارتها.
والثاني بمنزلة رجل أخذ تلك الأرض، فجعلَها مأوى للسباع والهوامّ ومطرحًا للجِيَفِ والأنتان، وجعلها معقلًا يأوي إليه كلُّ مفسد ومؤذٍ ولصّ، وأخذ ما أعين به على بذارها وصلاحها، وصرفه معونة ومعيشة لمن فيها من أهل الشر والفساد.
والثالث بمنزلة رجل عطَّلها وأهملها وأرسل ذلك الماء ضائعًا في القِفار والصحاري، فقعد مذمومًا محسورًا، فهذا مثال أهل الغفلة، والذي قبله مثال أهل الخيانة والجناية، والأول مثال أهل اليقظة والاستعداد لما خُلقوا له.
فالأول إذا تحرّك أو سكن أو قام أو قعد أو أكل أو شرب أو نام أو لبس أو نطق أو سكت كان ذلك كله له لا عليه، وكان في ذكر وطاعة وقربة ومزيد.
والثاني إذا فعل ذلك كان عليه لا له، وكان في طرد وإبعاد وخسران.
والثالث إذا فعل ذلك كان في غفلة وبطالة وتفريط.
فالأول يتقلب فيما يتقلب فيه بحكم الطاعة والقربة.
والثاني يتقلب في ذلك بحكم الخيانة والتعدي، فإن الله لم يُملِّكه ما ملكه ليستعين به على مخالفته، فهو جانٍ متعدٍّ خائن لله في نعمه، معاقَبٌ على التنعم بها في غير طاعته.
والثالث يتقلب في ذلك ويتناوله بحكم الغفلة وبهجة النفس وطبيعتها، لم يبتغِ بذلك رضوان الله والتقرب إليه، فهذا خسران بيّن، إذ عطَّل أوقاتَ عمره التي لا قيمة لها عن أفضل الأرباح والتجارات.
فدعا الله سبحانه الموحدين إلى هذه الصلوات الخمس رحمةً منه عليهم، وهيّأ لهم فيها أنواعَ العبادة، لينال العبد من كل قول وفعل وحركة وسكون حظَّه من عطاياه.
وكان سرُّ الصلاة ولبُّها إقبال القلب فيها على الله وحضوره بكليته بين يديه، فإذا لم يُقبل عليه واشتغل بغيره ولها بحديث النفس، كان بمنزلة وافدٍ وفد إلى باب الملك معتذرًا من خطئه وزللِه، مستمطرًا لسحائب جوده ورحمته، مستطعمًا له ما يقوت قلبه، ليقوى على القيام في خدمته، فلمّا وصل إلى الباب ولم يبق إلا مناجاة الملك، التفت عن الملك وزاغ عنه يمينًا أو ولّاه ظهره، واشتغل عنه بأمقت شيء إلى الملك وأقلِّه عنده قدرًا، فآثره عليه، وصيَّره قبلةَ قلبه، ومحلَّ توجهه، وموضع سِرّه، وبعث غلمانه وخَدَمَه ليقفوا في طاعة الملك، ويعتذروا عنه وينوبوا عنه في الخدمة، والملك شاهد ذلك ويرى حاله، ومع هذا فكرم الملك وجوده وسعة بره وإحسانه يأبى أن ينصرف عنه تلك الخدم والأتباع، فيصيبها من رحمته وإحسانه، لكن فرق بين قسمة الغنائم على أهل السُّهمان من الغانمين وبين الرَّضْخ لمن لا سهمَ له، ﴿وَلِكُلٍّ دَرَجاتٌ مِمّا عَمِلُوا ولِيُوَفِّيَهم أعْمالَهم وهم لا يُظْلَمُونَ﴾ [الأحقاف: ١٩].
والله سبحانه خلق هذا النوع الإنساني لنفسه، واختصَّه، وخلق له كل شيء، كما في الأثر الإلهي: "ابنَ آدم خلقتُك لنفسي، وخلقت كل شيء لك، فبحقِّي عليك لا تشتغلْ بما خلقته لك عما خلقتك له".
وفي أثر آخر: "خلقتك لنفسي فلا تلعبْ، وتكفلتُ برزقك فلا تتعب، ابنَ آدم اطلبني تجِدْني، وإن وجدتني وجدتَ كل شيء، وإن فُتُّك فاتَك كل شيء، وأنا خير لك من كل شيء".
وجعل الصلاة سببًا موصلًا له إلى قربه ومناجاته ومحبته والأنس به، وما بين صلاتين تحدثُ له الغفلة والجفوة والإعراض والزلات والخطايا، فيُبعِده ذلك عن ربه، وينحّيه عن قربه، ويصير كأنه أجنبي عن العبودية ليس من جملة العبيد، وربما ألقى بيده إلى أسر العدو، فأسَره وغلَّه وقيّده وحبسَه في سجن نفسه وهواه، فحظّه ضيق الصدر ومعالجة الهموم والغموم والأحزان والحسرات، ولا يدري السبب في ذلك.
فاقتضت رحمة ربه الرحيم به أن جعل له من عبوديته عبودية جامعة مختلفة الأجزاء والحالات، بسبب اختلاف الأحداث التي جاءت من العبد، وبحسب شدة حاجته إلى نصيبه من كل جزء من أجزاء تلك العبودية.
فبالوضوء يتطهر من الأوساخ ويَقدُم على ربه متطهرًا، والوضوء له ظاهر وباطن، وظاهره طهارة البدن وأعضاء العبادة، وباطنه وسره طهارة القلب من أوساخه وأدرانه بالتوبة. ولهذا يقرن سبحانه بين التوبة والطهارة في قوله: ﴿إنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوّابِينَ ويُحِبُّ المُتَطَهِّرِينَ﴾ [البقرة: ٢٢٢]، وشرع النبي ﷺ للمتطهر بعد فراغه من الوضوء أن يتشهد، ثم يقول: "اللهم اجعلني من التوابين واجعلني من المتطهرين"، فكمل له مراتب الطهارة باطنًا وظاهرًا.
فإنه بالشهادة يتطهر من الشرك، وبالتوبة يتطهر من الذنوب، وبالماء يتطهر من الأوساخ الظاهرة. فشرع أكمل مراتب الطهارة قبل الدخول على الله والوقوف بين يديه، فلما طهر ظاهرًا وباطنًا أذن له بالدخول عليه بالقيام بين يديه، إذ تخلص من الإباق بمجيئه إلى داره ومحل عبوديته.
ولهذا كان المجيء إلى المسجد من تمام عبودية الصلاة الواجبة عند قوم، والمستحبة عند آخرين، والعبد كان في حال غفلته كالآبق عن ربه، وقد عطَّل جوارحه وقلبه عن الخدمة التي خلق لها، فإذا جاء إليه فقد رجع من إباقه، فإذا وقف بين يديه موقف العبودية والتذلل والانكسار، فقد استدعى عطف سيده عليه وإقباله عليه بعد الإعراض.
وأمر بأن يستقبل القبلة بيته الحرام بوجهه، ويستقبل الله - عز وجل - بقلبه، لينسلخ مما كان فيه من التولي والإعراض، ثم قام بين يديه مقام الذليل الخاضع المسكين المستعطف لسيده، وألقى بيديه مسلمًا مستسلمًا ناكسَ الرأس خاشعَ القلب مُطرِقَ الطرف، لا يلتفت قلبه عنه ولا طرفُه يمنةً ولا يسرةً، بل قد توجه بقلبه كله إليه، وأقبل بكليته عليه.
ثم كبره بالتعظيم والإجلال، وواطأ قلبُه في التكبير لسانَه، فكان الله أكبرَ في قلبه من كل شيء، وصدَّقَ هذا التكبير بأنه لم يكن في قلبه شيء أكبر من الله يشغله عنه، فإذا اشتغل عن الله بغيره وكان ما اشتغل به أهمَّ عنده من الله كان تكبيره بلسانه دون قلبه، فالتكبير يُخرِجه من لُبْسِ رداء التكبر المنافي للعبودية، ويمنعه من التفات قلبه إلى غير الله، إذ كان الله عنده وفي قلبه أكبر من كل شيء، فمنعَه حقُّ قوله الله أكبر والقيام بعبودية التكبير عن هاتين الآفتين، اللتين هما من أعظم الحجب بينه وبين الله.
فإذا قال: "سبحانك اللهم وبحمدك"، وأثنى على الله بما هو أهله، فقد خرج عن الغفلة التي هي حجاب أيضًا بينه وبين الله، وأتى بالتحية والثناء الذي يخاطب به الملك عند الدخول عليه تعظيمًا له وتمجيدًا ومقدمةً بين يدَيْ حاجته، فكان في هذا الثناء من أدب العبودية ما يستجلب به إقباله عليه ورضاه عنه وإسعافه بحوائجه.
فإذا شرع في القراءة قدَّم أمامها الاستعاذة بالله من الشيطان، فإنه أحرص ما يكون على العبد في مثل هذا المقام الذي هو أشرف مقاماته وأنفعها له في دنياه وآخرته، فهو أحرص شيء على صرفه عنه واقتطاعه دونه بالبدن والقلب، فإن عجز عن اقتطاعه وتعطيله عنه بالبدن اقتطع قلبه وعطَّله عن القيام بين يدي الرب تعالى، فأمر العبد بالاستعاذة بالله منه ليسلم له مقامه بين يدي ربه، وليحيا قلبه ويستنير بما يتدبره ويتفهمه من كلام سيده الذي هو سبب حياته ونعيمه وفلاحه، فالشيطان أحرص على اقتطاع قلبه عن مقصود التلاوة.
ولما علم سبحانه جِدَّ العدو وتفرغَه للعبد وعَجْز العبد عنه، أمره بأن يستعيذ به سبحانه ويلتجئ إليه في صرفه عنه، فيُكْفى بالاستعاذة مؤونةَ محاربته ومقاومتهِ، فكأنه قيل له: لا طاقةَ لك بهذا العدو، فاستعذْ بي واستجر بي، أكْفِكَه وأمنعْك منه.
وقال لي شيخ الإسلام قدس الله روحه يومًا: "إذا هاشَ عليك كلبُ الغنم فلا تشتغل بمحاربته ومدافعته، وعليك بالراعي فاستغِثْ به، فهو يَصرِف عنك الكلب".
فإذا استعاذ بالله من الشيطان بَعُد منه، فأفضى القلب إلى معاني القرآن، ووقع في رياضه المؤنقة، وشاهد عجائبه التي تَبْهَر العقول، واستخرج من كنوزه وذخائره ما لا عينٌ رأت، ولا أذن سمعت، وكان الحائل بينه وبين ذلك النفس والشيطان، والنفس فمنفعلةٌ للشيطان سامعة منه، فإذا بَعُد عنها وطُرِد لَمَّ بها الملَكُ وثبَّتها وذكَّرها بما فيه سعادتها ونجاتها.
فإذا أخذ في قراءة القرآن فقد قام في مقام مخاطبة ربه ومناجاته، فليحذر كل الحذر من التعرض لمقته وسخطه أن يناجيه ويخاطبه وهو مُعرِض عنه، ملتفتٌ إلى غيره، فإنه يستدعي بذلك مقتَه، ويكون بمنزلة رجل قرَّبه ملِكٌ من ملوك الدنيا، فأقامه بين يديه، فجعل يخاطب الملك وقد ولّاه قفاه أو التفت عنه بوجهه يَمنةً ويسرةً، فما الظن بمقت الملك لهذا؟ فما الظن بالملك الحق المبين الذي هو رب العالمين وقيوم السماوات والأرض؟
وليقف عند كل آية من الفاتحة ينتظر جواب ربه له، وكأنه سمعه يقول: حمدني عبدي حين يقول: ﴿الحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ العالَمِينَ﴾، فإذا قال: ﴿الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ﴾، وقف لحظةً ينتظر قوله: أثنى عليَّ عبدي، فإذا قال: ﴿مالِكِ يَوْمِ الدِّينِ﴾، انتظر قوله: مجَّدني عبدي، فإذا قال: ﴿إيّاكَ نَعْبُدُ وإيّاكَ نَسْتَعِينُ﴾، انتظر قوله: هذا بيني وبين عبدي، فإذا قال: ﴿اهْدِنا الصِّراطَ المُسْتَقِيمَ﴾ إلى آخرها، انتظر قوله: هؤلاء لعبدي، ولعبدي ما سأل.
ومن ذاق طعمَ الصلاة علم أنه لا يقوم غير التكبير والفاتحة مقامهما، كما لا يقوم غير القيام والركوع والسجود مقامها فلكل عبودية من عبودية الصلاة سرٌّ وتأثير وعبوديةٌ لا تحصل من غيرها، ثم لكل آية من آيات الفاتحة عبودية وذوق ووَجْدٌ يخصها.
* [فَصْلٌ: اسْمُ (اللَّه) يَدُلُّ عَلى الصِّفَةِ بِمُفْرَدِها ويَدُلُّ عَلى الذّاتِ المُجَرَّدَةِ]
الأصْلُ الثّانِي: أنَّ الِاسْمَ مِن أسْمائِهِ تَبارَكَ وتَعالى كَما يَدُلُّ عَلى الذّاتِ والصِّفَةِ الَّتِي اشْتُقَّ مِنها بِالمُطابَقَةِ، فَإنَّهُ يَدُلُّ عَلَيْهِ دَلالَتَيْنِ أُخْرَيَيْنِ بِالتَّضَمُّنِ واللُّزُومِ، فَيَدُلُّ عَلى الصِّفَةِ بِمُفْرَدِها بِالتَّضَمُّنِ، وكَذَلِكَ عَلى الذّاتِ المُجَرَّدَةِ عَنِ الصِّفَةِ، ويَدُلُّ عَلى الصِّفَةِ الأُخْرى بِاللُّزُومِ، فَإنَّ اسْمَ السَّمِيعِ يَدُلُّ عَلى ذاتِ الرَّبِّ وسَمْعِهِ بِالمُطابَقَةِ، وعَلى الذّاتِ وحْدَها، وعَلى السَّمْعِ وحْدَهُ بِالتَّضَمُّنِ، ويَدُلُّ عَلى اسْمِ الحَيِّ وصِفَةِ الحَياةِ بِالِالتِزامِ، وكَذَلِكَ سائِرُ أسْمائِهِ وصِفاتِهِ، ولَكِنْ يَتَفاوَتُ النّاسُ في مَعْرِفَةِ اللُّزُومِ وعَدَمِهِ، ومِن هاهُنا يَقَعُ اخْتِلافُهم في كَثِيرٍ مِنَ الأسْماءِ والصِّفاتِ والأحْكامِ، فَإنَّ مَن عَلِمَ أنَّ الفِعْلَ الِاخْتِيارِيَّ لازِمٌ لِلْحَياةِ، وأنَّ السَّمْعَ والبَصَرَ لازِمٌ لِلْحَياةِ الكامِلَةِ، وأنَّ سائِرَ الكَمالِ مِن لَوازِمِ الحَياةِ الكامِلَةِ أثْبَتَ مِن أسْماءِ الرَّبِّ وصِفاتِهِ وأفْعالِهِ ما يُنْكِرُهُ مَن لَمْ يَعْرِفْ لُزُومَ ذَلِكَ، ولا عَرِفَ حَقِيقَةَ الحَياةِ ولَوازِمَها، وكَذَلِكَ سائِرُ صِفاتِهِ.
فَإنَّ اسْمَ العَظِيمِ لَهُ لَوازِمُ يُنْكِرُها مَن لَمْ يَعْرِفْ عَظْمَةَ اللَّهِ ولَوازِمَها.
وَكَذَلِكَ اسْمُ العَلِيِّ، واسْمُ الحَكِيمِ وسائِرُ أسْمائِهِ، فَإنَّ مِن لَوازِمِ اسْمِ العَلِيِّ العُلُوَّ المُطْلَقَ بِكُلِّ اعْتِبارٍ، فَلَهُ العُلُوُّ المُطْلَقُ مِن جَمِيعِ الوُجُوهِ: عُلُوُّ القَدْرِ، وعُلُوُّ القَهْرِ، وعُلُوُّ الذّاتِ، فَمَن جَحَدَ عُلُوَّ الذّاتِ فَقَدْ جَحَدَ لَوازِمَ اسْمِهِ العَلِيِّ.
وَكَذَلِكَ اسْمُهُ الظّاهِرُ مِن لَوازِمِهِ: أنْ لا يَكُونَ فَوْقَهُ شَيْءٌ، كَما في الصَّحِيحِ عَنِ النَّبِيِّ ﷺ
«وَأنْتَ الظّاهِرُ فَلَيْسَ فَوْقَكَ شَيْءٌ» بَلْ هو سُبْحانَهُ فَوْقَ كُلِّ شَيْءٍ، فَمَن جَحَدَ فَوْقِيَّتَهُ سُبْحانَهُ فَقَدْ جَحَدَ لَوازِمَ اسْمِهِ الظّاهِرِ، ولا يَصِحُّ أنْ يَكُونَ الظّاهِرُ هو مَن لَهُ فَوْقِيَّةُ القَدْرِ فَقَطْ، كَما يُقالُ: الذَّهَبُ فَوْقَ الفِضَّةِ، والجَوْهَرُ فَوْقَ الزُّجاجِ؛ لِأنَّ هَذِهِ الفَوْقِيَّةَ تَتَعَلَّقُ بِالظُّهُورِ، بَلْ قَدْ يَكُونُ المُفَوَّقُ أظْهَرَ مِنَ الفائِقِ فِيها، ولا يَصِحُّ أنْ يَكُونَ ظُهُورُ القَهْرِ والغَلَبَةِ فَقَطْ، وإنْ كانَ سُبْحانَهُ ظاهِرًا بِالقَهْرِ والغَلَبَةِ، لِمُقابَلَةِ الِاسْمِ بِ " الباطِنِ " وهو الَّذِي لَيْسَ دُونَهُ شَيْءٌ، كَما قابَلَ الأوَّلَ الَّذِي لَيْسَ قَبْلَهُ شَيْءٌ، بِ " الآخِرِ " الَّذِي لَيْسَ بَعْدَهُ شَيْءٌ.
وَكَذَلِكَ اسْمُ " الحَكِيمِ " مِن لَوازِمِهِ ثُبُوتُ الغاياتِ المَحْمُودَةِ المَقْصُودَةِ لَهُ بِأفْعالِهِ، ووَضْعُهُ الأشْياءَ في مَوْضِعِها، وإيقاعُها عَلى أحْسَنِ الوُجُوهِ، فَإنْكارُ ذَلِكَ إنْكارٌ لِهَذا الِاسْمِ ولَوازِمِهِ، وكَذَلِكَ سائِرُ أسْمائِهِ الحُسْنى.
* [فَصْلٌ اسْمُ (اللَّه) يَدُلُّ عَلى الأسْماءِ الحُسْنى]
إذا تَقَرَّرَ هَذانِ الأصْلانِ، فاسْمُ اللَّهِ دالٌّ عَلى جَمِيعِ الأسْماءِ الحُسْنى، والصِّفاتِ العُلْيا بِالدِّلالاتِ الثَّلاثِ، فَإنَّهُ دالٌّ عَلى إلَهِيَّتِهِ المُتَضَمِّنَةِ لِثُبُوتِ صِفاتِ الإلَهِيَّةِ لَهُ مَعَ نَفْيِ أضْدادِها عَنْهُ.
وَصِفاتُ الإلَهِيَّةِ: هي صِفاتُ الكَمالِ، المُنَزَّهَةُ عَنِ التَّشْبِيهِ والمِثالِ، وعَنِ العُيُوبِ والنَّقائِصِ، ولِهَذا يُضِيفُ اللَّهُ تَعالى سائِرَ الأسْماءِ الحُسْنى إلى هَذا الِاسْمِ العَظِيمِ، كَقَوْلِهِ تَعالى ﴿وَلِلَّهِ الأسْماءُ الحُسْنى﴾ [الأعراف: ١٨٠] ويُقالُ: الرَّحْمَنُ والرَّحِيمُ، والقُدُّوسُ، والسَّلامُ، والعَزِيزُ، والحَكِيمُ مِن أسْماءِ اللَّهِ، ولا يُقالُ: اللَّهُ مِن أسْماءِ الرَّحْمَنِ، ولا مِن أسْماءِ العَزِيزِ، ونَحْوُ ذَلِكَ.
فَعُلِمَ أنَّ اسْمَهُ اللَّهُ مُسْتَلْزِمٌ لِجَمِيعِ مَعانِي الأسْماءِ الحُسْنى، دالٌّ عَلَيْها بِالإجْمالِ، والأسْماءُ الحُسْنى تَفْصِيلٌ وتَبْيِينٌ لِصِفاتِ الإلَهِيَّةِ الَّتِي اشْتُقَّ مِنها اسْمُ اللَّهِ، واسْمُ اللَّهِ دالٌّ عَلى كَوْنِهِ مَأْلُوهًا مَعْبُودًا، تُؤَلِّهُهُ الخَلائِقُ مَحَبَّةً وتَعْظِيمًا وخُضُوعًا، وفَزَعًا إلَيْهِ في الحَوائِجِ والنَّوائِبِ، وذَلِكَ مُسْتَلْزِمٌ لِكَمالِ رُبُوبِيَّتِهِ ورَحْمَتِهِ، المُتَضَمِّنَيْنِ لِكَمالِ المُلْكِ والحَمْدِ، وإلَهِيَّتُهُ ورُبُوبِيَّتُهُ ورَحْمانِيَّتُهُ ومُلْكُهُ مُسْتَلْزِمٌ لِجَمِيعِ صِفاتِ كَمالِهِ، إذْ يَسْتَحِيلُ ثُبُوتُ ذَلِكَ لِمَن لَيْسَ بِحَيٍّ، ولا سَمِيعٍ، ولا بَصِيرٍ، ولا قادِرٍ، ولا مُتَكَلِّمٍ، ولا فَعّالٍ لِما يُرِيدُ، ولا حَكِيمٍ في أفْعالِهِ.
وَصِفاتُ الجَلالِ والجَمالِ: أخَصُّ بِاسْمِ اللَّهِ.
وَصِفاتُ الفِعْلِ والقُدْرَةِ، والتَّفَرُّدِ بِالضُّرِّ والنَّفْعِ، والعَطاءِ والمَنعِ، ونُفُوذِ المَشِيئَةِ وكَمالِ القُوَّةِ، وتَدْبِيرِ أمْرِ الخَلِيقَةِ أخَصُّ بِاسْمِ الرَّبِّ.
وَصِفاتُ الإحْسانِ، والجُودِ والبِرِّ، والحَنانِ والمِنَّةِ، والرَّأْفَةِ واللُّطْفِ أخَصُّ بِاسْمِ الرَّحْمَنِ، وكُرِّرَ إيَذانًا بِثُبُوتِ الوَصْفِ، وحُصُولِ أثَرِهِ، وتَعَلُّقِهِ بِمُتَعَلِّقاتِهِ.
فالرَّحْمَنُ الَّذِي الرَّحْمَةُ وصْفُهُ، والرَّحِيمُ الرّاحِمُ لِعِبادِهِ، ولِهَذا يَقُولُ تَعالى ﴿وَكانَ بِالمُؤْمِنِينَ رَحِيمًا﴾ [الأحزاب: ٤٣]، ﴿إنَّهُ بِهِمْ رَءُوفٌ رَحِيمٌ﴾ [التوبة: ١١٧] ولَمْ يَجِئْ: رَحْمَنُ بِعِبادِهِ، ولا رَحْمَنُ بِالمُؤْمِنِينَ، مَعَ ما في اسْمِ الرَّحْمَنِ الَّذِي هو عَلى وزْنِ فَعْلانِ مِن سِعَةِ هَذا الوَصْفِ، وثُبُوتِ جَمِيعِ مَعْناهُ المَوْصُوفِ بِهِ.
ألا تَرى أنَّهم يَقُولُونَ: غَضْبانُ، لِلْمُمْتَلِئِ غَضَبًا، ونَدْمانُ وحَيْرانُ وسَكْرانُ ولَهْفانُ
لِمَن مُلِئَ بِذَلِكَ، فَبِناءُ فَعْلانِ لِلسَّعَةِ والشُّمُولِ، ولِهَذا يَقْرِنُ اسْتِواءَهُ عَلى العَرْشِ بِهَذا الِاسْمِ كَثِيرًا، كَقَوْلِهِ تَعالى ﴿الرَّحْمَنُ عَلى العَرْشِ اسْتَوى﴾ [طه: ٥]، ﴿ثُمَّ اسْتَوى عَلى العَرْشِ الرَّحْمَنُ﴾ [الفرقان: ٥٩] فاسْتَوى عَلى عَرْشِهِ بِاسْمِ الرَّحْمَنِ، لِأنَّ العَرْشَ مُحِيطٌ بِالمَخْلُوقاتِ قَدْ وسِعَها، والرَّحْمَةُ مُحِيطَةٌ بِالخَلْقِ واسِعَةٌ لَهُمْ، كَما قالَ تَعالى ﴿وَرَحْمَتِي وسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ﴾ [الأعراف: ١٥٦] فاسْتَوى عَلى أوْسَعِ المَخْلُوقاتِ بِأوْسَعِ الصِّفاتِ، فَلِذَلِكَ وسِعَتْ رَحْمَتُهُ كُلَّ شَيْءٍ، وفي الصَّحِيحِ مِن حَدِيثِ أبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قالَ: قالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ «لَمّا قَضى اللَّهُ الخَلْقَ كَتَبَ في كِتابٍ فَهو عِنْدَهُ مَوْضُوعٌ عَلى العَرْشِ إنَّ رَحْمَتِي تَغْلِبُ غَضَبِي» وفي لَفْظٍ «فَهُوَ عِنْدَهُ عَلى العَرْشِ».
فَتَأمَّلِ اخْتِصاصَ هَذا الكِتابِ بِذِكْرِ الرَّحْمَةِ، ووَضْعَهُ عِنْدَهُ عَلى العَرْشِ، وطابِقْ بَيْنَ ذَلِكَ وبَيْنَ قَوْلِهِ ﴿الرَّحْمَنُ عَلى العَرْشِ اسْتَوى﴾ [طه: ٥] وقَوْلِهِ ﴿ثُمَّ اسْتَوى عَلى العَرْشِ الرَّحْمَنُ فاسْألْ بِهِ خَبِيرًا﴾ [الفرقان: ٥٩] يَنْفَتِحُ لَكَ بابٌ عَظِيمٌ مِن مَعْرِفَةِ الرَّبِّ تَبارَكَ وتَعالى إنْ لَمْ يُغْلِقْهُ عَنْكَ التَّعْطِيلُ والتَّجَهُّمُ.
وَصِفاتُ العَدْلِ، والقَبْضِ والبَسْطِ، والخَفْضِ والرَّفْعِ، والعَطاءِ والمَنعِ، والإعْزازِ والإذْلالِ، والقَهْرِ والحُكْمِ، ونَحْوُها أخَصُّ بِاسْمِ المَلِكِ وخَصَّهُ بِيَوْمِ الدِّينِ، وهو الجَزاءُ بِالعَدْلِ، لِتَفَرُّدِهِ بِالحُكْمِ فِيهِ وحْدَهُ، ولِأنَّهُ اليَوْمُ الحَقُّ، وما قَبْلَهُ كَساعَةٍ، ولِأنَّهُ الغايَةُ، وأيّامُ الدُّنْيا مَراحِلُ إلَيْهِ.
* (لطيفة)
قال ابن القيم - رحمه الله -:
وقد رأيت لابن فورك نحو من هذا في اسم (الله)
قال الحكمة في وجود الألف في أوله أنها من أقصى مخارج الصوت قريبا من القلب الذي هو محل المعرفة إليه، ثم الهاء في آخره مخرجها من هناك أيضا لأن المبتدأ منه والمعاد إليه، والإعادة أهون من الابتداء.
وكذلك لفظ الهاء أهون من لفظ الهمزة.
هذا معنى كلامه.
فلم يقل ما قلناه في المضمرات إلا اقتضابا من أصول أئمة النحاة واستنباطا من قواعد اللغة فتأمل هذه الأسرار ولا يزهدنك فيها نبو طباع أكثر الناس عنها واستغناؤهم بظاهر من الحياة الدنيا عن الفكر والتنبيه عليها، فإني لم أفحص عن هذه الأسرار وخفي التعليل في الظواهر والإضمار إلا قصد التفكر والاعتبار في حكمة من ﴿خلق الإنسان علمه البيان﴾
فمتى لاح لك من هذه الأسرار وكشف لك عن مكنونها فكر فاشكر الواهب للنعمة ﴿قُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْمًا﴾.
[فائدة: في الاسم والمسمى والتسمية]
اللفظ المؤلف من الزاي والياء والدال مثلا له حقيقة متميزة متحصلة فاستحق أن يوضع له لفظ يدل عليه لأنه شيء موجود في اللسان مسموع بالآذان فاللفظ المؤلف من همزة الوصل والسين والميم عبارة عن اللفظ المؤلف من الزاي والياء والدال مثلا واللفظ المؤلف من الزاي والياء والدال عبارة عن الشخص الموجود في الأعيان والأذهان وهو المسمى واللفظ الدال عليه الذي هو الزاي والياء والدال هو الاسم وهذا اللفظ أيضا قد صار مسمى من حيث كان لفظ الهمزة والسين والميم عبارة عنه فقد بان لك أن الاسم في أصل الوضع ليس هو المسمى ولهذا تقول سميت هذا الشخص بهذا الاسم كما تقول حليته بهذه الحلية والحلية غير المحلى فكذلك الاسم غير المسمى صرح بذلك سيبويه وأخطأ من نسب إليه غير هذا وادعى أن مذهبه اتحادهما والذي غر من ادعى ذلك قوله الأفعال أمثلة أخذت من لفظ أحداث الأسماء وهذا لا يعارض نصه قبل هذا فإنه نص على أن الاسم غير المسمى فقال اسم وفعل وحرف فقد صرح بأن الاسم كلمة فكيف تكون الكلمة هي المسمى والمسمى شخص ثم قال بعد هذا تقول سميت زيدا بهذا الاسم كما تقول علمته بهذه العلامة وفي كتابه قريب من ألف موضع أن الاسم هو اللفظ الدال على المسمى ومتى ذكر الخفض أو النصب أو التنوين أو اللام أو جميع ما يلحق الاسم من زيادة ونقصان وتصغير وتكسير وإعراب وبناء فذلك كله من عوارض الاسم لا تعلق لشيء من ذلك بالمسمى أصلا هل الاسم عين المسمى.
لم يقل نحوي قط ولا عربي أن الاسم هو المسمى ويقولون أجل مسمى ولا يقولون أجل اسم ويقولون مسمى هذا الاسم كذا ولا يقول أحد اسم هذا الاسم كذا ويقولون هذا الرجل مسمى بزيد ولا يقولون هذا الرجل اسم زيد ويقولون بسم الله ولا يقولون بمسمى الله وقال رسول الله: "لي خمسة أسماء " رواه البخاري ومسلم ولا يصح أن يقال: لي خمس مسميات "وتسموا باسمي " رواه مسلم
ولا يصح أن يقال: تسموا بمسمياتي
"ولله تسعة وتسعون اسما" رواه البخاري ومسلم وأحمد.
ولا يصح أن يقال تسعة وتسعون مسمى وإذا ظهر الفرق بين الاسم والمسمى بقيت هاهنا التسمية وهي التي اعتبرها من قال باتحاد الاسم والمسمى والتسمية عبارة عن فعل المسمى ووضعه الاسم للمسمى كما أن التحلية عبارة عن فعل المحلي ووضعه الحلية على المحلى فهنا ثلاث حقائق اسم ومسمى وتسمية كحلية ومحلى وتحلية وعلامة ومعلم وتعليم ولا سبيل إلى جعل لفظين منها مترادفين على معنى واحد لتباين حقائقهما وإذا جعلت الاسم هو المسمى بطل واحد من هذه الحقائق الثلاثة ولا بد.
فإن قيل فحلوا لنا شبه من قال باتحادهما ليتم الدليل فإنكم أقمتم الدليل فعليكم الجواب عن المعارض فمنها أن الله وحده هو الخالق وما سواه مخلوق فلو كانت أسماؤه غيره لكانت مخلوقة وللزم أن لا يكون له اسم في الأزل ولا صفة لأن أسماءه صفات وهذا هو السؤال الأعظم الذي قاد متكلمي الإثبات إلى أن يقولوا الاسم هو المسمى فما عندكم في دفعه؟
الجواب أن منشأ الغلط في هذا الباب من إطلاق ألفاظ مجملة محتملة لمعنيين صحيح وباطل فلا ينفصل النزاع إلا بتفصيل تلك المعاني وتنزيل ألفاظها عليها ولا ريب أن الله تبارك وتعالى لم يزل ولا يزال موصوفا بصفات الكمال المشتقة أسماؤه منها فلم يزل بأسمائه وصفاته وهو إله واحد له الأسماء الحسنى والصفات العلى وأسماؤه وصفاته داخلة في مسمى اسمه وإن كان لا يطلق على الصفة أنها إله يخلق ويرزق فليست صفاته وأسماؤه غيره وليست هي نفس الإله وبلاء القوم من لفظة الغير فإنه يراد بهما معنيين أحدهما المغاير لتلك الذات المسماة بالله وكل ما غاير الله مغايرة محضة بهذا الاعتبار فلا يكون إلا مخلوقا ويراد به مغايرة الصفة للذات إذا خرجت عنها فإذا قيل علم الله وكلام الله غيره بمعنى أنه غير الذات المجردة عن العلم والكلام كان المعنى صحيحا ولكن الإطلاق باطل وإذا أريد أن العلم والكلام مغاير لحقيقته المختصة التي امتاز بها عن غيره كان باطلا لفظا ومعنى وبهذا أجاب أهل السنة المعتزلة القائلين بخلق القرآن وقالوا كلامه تعالى داخل في مسمى اسمه فالله تعالى اسم الذات الموصوفة بصفات الكمال ومن تلك الصفات صفة الكلام كما أن علمه وقدرته وحياته وسمعه وبصره غير مخلوقة وإذا كان القرآن كلامه وهو صفة من صفاته فهو متضمن لأسمائه الحسنى فإذا كان القرآن غير مخلوق ولا يقال إنه غير الله فكيف يقال إن بعض ما تضمنه وهو أسماؤه مخلوقة وهي غيره فقد حصحص الحق بحمد الله وانحسم الإشكال وأن أسماءه الحسنى التي في القرآن من كلامه وكلامه غير مخلوق ولا يقال هو غيره ولا هو هو وهذا المذهب مخالف لمذهب المعتزلة الذين يقولون أسماؤه تعالى غيره وهي مخلوقة ولمذهب من رد عليهم ممن يقول اسمه نفس ذاته لا غيره وبالتفصيل تزول الشبه ويتبين الصواب والحمد لله حجة ثانية لهم قالوا: قال تبارك وتعالى: ﴿تَبارَكَ اسْمُ رَبِّكَ﴾ ﴿واذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ﴾: ﴿سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الأعْلى﴾ وهذه الحجة عليهم في الحقيقة لأن النبي امتثل هذا الأمر وقال سبحان ربي الأعلى سبحان ربي العظيم ولو كان الأمر كما زعموا لقال سبحان اسم ربي العظيم ثم إن الأمة كلهم لا يجوز لأحد منهم أن يقول عبدت اسم ربي ولا سجدت لاسم ربي ولا ركعت لاسم ربي ولا باسم ربي ارحمني وهذا يدل على أن الأشياء متعلقة بالمسمى لا بالاسم وأما الجواب عن تعلق الذكر والتسبيح المأمور به بالاسم فقد قيل فيه إن التعظيم والتنزيه إذا وجب للمعظم فقد تعظم ما هو من سببه ومتعلق به كما يقال سلام على والباب السامي والمجلس الكريم ونحوه وهذا جواب غير مرض لوجهين: أحدهما أن رسول الله ﷺ لم يفهم هذا المعنى وإنما قال سبحان ربي فلم يعرج على ما ذكرتموه.
الثاني أنه يلزمه أن يطلق على الاسم التكبير والتحميد والتهليل وسائر ما يطلق على المسمى فيقال الحمد لاسم الله ولا إله إلا اسم الله ونحوه وهذا مما لم يقله أحد بل الجواب الصحيح أن الذكر الحقيقي محله القلب لأنه ضد النسيان والتسبيح نوع من الذكر فلو أطلق الذكر والتسبيح لما فهم منه إلا ذلك دون اللفظ باللسان والله تعالى أراد من عباده الأمرين جميعا ولم يقبل الإيمان وعقد الإسلام إلا باقترانهما واجتماعهما فصار معنى الآيتين سبح ربك بقلبك ولسانك واذكر ربك بقلبك ولسانك فأقحم الاسم تنبيها على هذا المعنى حتى لا يخلو الذكر والتسبيح من اللفظ باللسان لأن ذكر القلب متعلقه المسمى المدلول عليه بالاسم دون ما سواه والذكر باللسان متعلقه اللفظ مع مدلوله لأن اللفظ لا يراد لنفسه فلا يتوهم أحد أن اللفظ هو المسبح دون ما يدل عليه من المعنى وعبر لي شيخنا أبو العباس ابن تيمية قدس الله روحه عن هذا المعنى بعبارة لطيفة وجيزة فقال: "المعنى سبح ناطقا باسم ربك" متكلما به وكذا: ﴿ما تَعْبُدُونَ مِن دُونِهِ إلاّ أسْماءً سَمَّيْتُمُوها﴾ ﴿سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ﴾ المعنى سبح ربك ذاكرا اسمه وهذه الفائدة تساوي رحلة لكن لمن يعرف قدرها فالحمد لله المنان بفضله ونسأله تمام نعمته
حجة ثالثة قالوا قال تعالى: ﴿ما تَعْبُدُونَ مِن دُونِهِ إلاّ أسْماءً سَمَّيْتُمُوها﴾ وإنما عبدوا مسمياتها والجواب: أنه كما قلتم إنما عبدوا المسميات ولكن من أجل أنهم نحلوها أسماء باطلة كاللات والعزى وهي مجرد أسماء كاذبة باطلة لا مسمى لها في الحقيقة فإنهم سموها آلهة وعبدوها لاعتقادهم حقيقة الإلهية لها وليس لها من الألوهية إلا مجرد الأسماء لا حقيقة المسمى فما عبدوا إلا أسماء لا حقائق لمسمياتها وهذا كمن سمى قشور البصل لحما وأكلها فيقال ما أكلت من اللحم إلا اسمه لا مسماه وكمن سمى التراب خبزا وأكله يقال: ما أكلت إلا اسم الخبز بل هذا النفي أبلغ في آلهتهم فإنه لا حقيقة لإلهيتها بوجه وما الحكمة ثم إلا مجرد الاسم فتأمل هذه الفائدة الشريفة في كلامه تعالى.
فإن قيل: فما الفائدة في دخول الباء في قوله: ﴿فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ العَظِيمِ﴾ ولم تدخل في قوله: ﴿سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الأعْلى﴾؟
قيل التسبيح يراد به التنزيه والذكر المجرد دون معنى آخر ويراد به ذلك مع الصلاة وهو ذكر وتنزيه مع عمل ولهذا تسمى الصلاة تسبيحا فإذا أريد التسبيح المجرد فلا معنى للباء لأنه لا يتعدى بحرف جر لا تقول سبحت بالله وإذا أردت المقرون بالفعل وهو الصلاة أدخلت الباء تنبيها على ذلك المراد كأنك قلت سبح مفتتحا باسم ربك أو ناطقا باسم ربك كما تقول صل مفتتحا أو ناطقا باسمه ولهذا السر والله أعلم دخلت اللام في قوله تعالى ﴿سَبَّحَ لِلَّهِ ما في السَّماواتِ والأرْضِ﴾ والمراد التسبيح الذي هو السجود والخضوع والطاعة ولم يقل في موضع سبح الله ما في السماوات والأرض كما قال ﴿ولله يسجد من في السماوات والأرض﴾
وتأمل قوله تعالى ﴿إن الذين عند ربك لا يستكبرون عن عبادته ويسبحونه وله يسجدون﴾ فكيف قال ﴿ويسبحونه﴾ لما ذكر السجود باسمه الخاص فصار التسبيح ذكرهم له وتنزيههم إياه حجة رابعة قالوا قد قال الشاعر:
؎إلى الحول ثم اسم السلام عليكما ∗∗∗ ومن يبك حولا كاملا فقد اعتذر
وكذلك قول الأعشى:
داع يناديه باسم الماء مبغوم
وهذه حجة عليهم لا لهم أما قوله ثم اسم السلام عليكما فالسلام هو الله تعالى والسلام أيضا التحية فإن أراد الأول فلا إشكال فكأنه قال ثم اسم السلام عليكما أي بركة اسمه وإن أراد التحية فيكون المراد بالسلام المعنى المدلول وباسمه لفظه الدال عليه والمعنى ثم اسم هذا المسمى عليكما فيراد بالأول اللفظ وبالثاني المعنى كما تقول: زيد بطة ونحوه مما يراد بأحدهما اللفظ وبالآخر المدلول فيه وفيه نكتة حسنة كأنه أراد ثم هذا اللفظ باق عليكما جار لا ينقطع مني بل أنا مراعيه دائما وقد أجاب السهيلي عن البيت بجواب آخر وهذا حكاية لفظه فقال لبيد: لم يرد إيقاع التسليم عليهم لحينه وإنما أراد بعد الحول ولو قال: السلام عليكما كان مسلما لوقته الذي نطق فيه بالبيت فكذلك ذكر الاسم الذي هو عبارة عن اللفظ أي إنما اللفظ بالتسليم بعد الحول وذلك أن السلام دعاء فلا يتقيد بالزمان المستقبل وإنما هو لحينه ألا ترى أنه لا يقال بعد الجمعة اللهم ارحم زيدا ولا بعد الموت اللهم اغفر لي إنما يقال اللهم اغفر لي بعد الموت فيكون بعد ظرفا للمغفرة والدعاء واقع لحينه فإن أردت أن تجعل الوقت ظرفا للدعاء صرحت بلفظ الفعل فقلت بعد الجمعة أدعو بكذا أو أسلم أو ألفظ بكذا لأن الظروف إنما يريد بها الأحداث الواقعة فيها خبرا أو أمرا أو نهيا وأما غيرها من المعاني كالطلاق واليمين والدعاء والتمني والاستفهام وغيرها من المعاني فإنما هي واقعة لحين النطق بها وكذلك يقع الطلاق ممن قال بعد يوم الجمعة أنت طالق وهو مطلق لحينه ولو قال: بعد الحول والله لأخرجن انعقدت اليمين في الحال ولا ينفعه أن يقول أردت أن لا أوقع اليمين إلا بعد الحول فإنه لو أراد ذلك لقال بعد الحول أحلف أو بعد الجمعة أطلقك فأما الأمر والنهي والخبر فإنما تقيدت بالظروف لأن الظروف في الحقيقة إنما يقع فيها الفعل المأمور به والمخبر به دون الأمر والخبر فإنهما واقعان لحين النطق بهما فإذا قلت اضرب زيدا يوم الجمعة فالضرب هو المقيد بيوم الجمعة وأما الأمر فأنت في الحال آمر به وكذلك إذا قلت سافر زيد يوم الجمعة فالمتقيد باليوم المخبر به لا الخبر كما أن في قوله: اضربه يوم الجمعة المقيد بالظرف المأمور به لا أمرك أنت فلا تعلق للظرف إلا بالأحداث فقد رجع الباب كله بابا واحدا فلو أن لبيدا قال إلى الحول ثم السلام عليكما لكان مسلما لحينه ولكنه أراد أن لا يوقع اللفظ بالتسليم والوداع إلا بعد الحول وكذلك ذكر الاسم الذي هو بمعنى اللفظ بالتسليم ليكون ما بعد الحول ظرفا له وهذا الجواب من أحد أعاجيبه وبدائعه رحمه الله وأما قوله: باسم الماء والماء المعروف هنا هو الحقيقة المشروبة ولهذا عرفه تعريف الحقيقة الذهنية والبيت لذي الرمة وصدره:
لا ينعش الطرف إلا ما تحونه
ثم قال: داع يناديه باسم الماء فظن الغالط أنه أراد حكاية صوت الظبية وأنها دعت ولدها بهذا الصوت وهو ماما وليس هذا مراده وإنما الشاعر ألغز لما وقع الإشتراك بين لفظ الماء المشروب وصوتها به فصار صوتها كأنه هو اللفظ المعبر عن الماء المشروب فكأنها تصوت باسم هذا الماء المشروب وهذا لأن صوتها ماما وهذا في غاية الوضوح.
[فائدة: اسم (الله) والاشتقاق]
زعم أبو القاسم السهيلي وشيخه ابن العربي: أن اسم الله غير مشتق لأن الاشتقاق يستلزم مادة يشتق منها واسمه تعالى قديم والقديم لا مادة له فيستحيل الاشتقاق ولا ريب أنه إن أريد بالاشتقاق هذا المعنى وأنه مستمد من أصل آخر فهو باطل ولكن الذين قالوا بالاشتقاق لم يريدوا هذا المعنى ولا ألم بقلوبهم وإنما أرادوا أنه دال على صفة له تعالى وهي الإلهية كسائر أسمائه الحسنى كالعليم والقدير والغفور والرحيم والسميع والبصير فإن هذه الأسماء مشتقة من مصادرها بلا ريب وهي قديمة والقديم لا مادة له فما كان جوابكم عن هذه الأسماء فهو جواب القائلين باشتقاق اسم الله ثم الجواب عن الجميع أننا لا نعني بالإشتقاق إلا أنها ملاقية لمصادرها في اللفظ والمعنى لا أنها متولدة منها تولد الفرع من أصله وتسمية النحاة للمصدر والمشتق منه أصلا وفرعا ليس معناه أن أحدهما تولد من الآخر وإنما هو العرب تكلموا بالأسماء أولا ثم اشتقوا منها الأفعال فإن التخاطب بالأفعال ضروري كالتخاطب بالأسماء لا فرق بينهما فالإشتقاق هنا ليس هو اشتقاق مادي وإنما هو اشتقاق تلازم سمي المتضمن باعتبار أن أحدهما يتضمن الآخر وزيادة وقول سيبويه إن الفعل أمثلة أخذت من لفظ أحداث الأسماء هو بهذا الاعتبار لا أن العرب تكلموا بالأسماء أولا ثم اشتقوا منها الأفعال فإن التخاطب بالأفعال ضروري كالتخاطب بالأسماء لا فرق بينهما فالاشتقاق هنا ليس هو اشتقاق مادي وإنما هو اشتقاق تلازم سمي المتضمِّن بالكسر مشتقا والمتضمَّن بالفتح مشتقا منه ولا محذور في اشتقاق أسماء الله تعالى بهذا المعنى.
[فائدة: هل الرحمن في البسملة نعت؟]
استبعد قوم أن يكون الرحمن نعتا لله تعالى من قولنا: ﴿بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ﴾ وقالوا الرحمن علم والأعلام لا ينعت بها ثم قالوا: هو بدل من اسم الله قالوا: ويدل على هذا أن الرحمن علم مختص بالله تعالى لا يشاركه فيه غيره فليس هو كالصفات التي هي العليم القدير والسميع والبصير ولهذا تجري على غيره تعالى قالوا ويدل عليه أيضا وروده في القرآن غير تابع لما قبله كقوله: ﴿الرَّحْمَنُ عَلى العَرْشِ اسْتَوى﴾ و ﴿الرَّحْمَنُ عَلَّمَ القُرْآنَ﴾ و ﴿أمَّنْ هَذا الَّذِي هو جُنْدٌ لَكم يَنْصُرُكم مِن دُونِ الرَّحْمَنِ﴾ وهذا شأن الأسماء المحضة لأن الصفات لا يقتصر على ذكرها دون الموصوف قال السهيلي: والبدل عندي فيه ممتنع وكذلك عطف البيان لأن الاسم الأول لا يفتقر إلى تبيين فإنه أعرف المعارف كلها وأبينها ولهذا قالوا: وما الرحمن ولم يقولوا وما الله ولكنه وإن جرى مجرى الأعلام فهو وصف يراد به الثناء وكذلك الرحيم إلا أن الرحمن من أبنية المبالغة كغضبان ونحوه وإنما دخله معنى المبالغة من حيث كان في آخره ألف ونون كالتثنية فإن التثنية في الحقيقة تضعيف وكذلك هذه الصفة فكأن غضبان وسكران كامل لضعفين من الغضب والسكر فكان اللفظ مضارعا للفظ التثنية لأن التثنية ضعفان في الحقيقة ألا ترى أنهم أيضا قد شبهوا التثنية بهذا البناء إذا كانت لشيئين متلازمين فقالوا الحكمان والعلمان وأعربوا النون كأنه اسم لشيء واحد فقالوا اشترك باب فعلان وباب التثنية ومنه قول فاطمة يا حسنان يا حسينان برفع النون لابنيها ولمضارعة التثنية امتنع جمعه فلا يقال غضابين وامتنع تأنيثه فلا يقال غضبانة وامتنع تنوينه كما لا تنون نون المثنى فجرت عليه كثير من أحكام التثنية لمضارعته إياها لفظا ومعنى.
وفائدة الجمع بين الصفتين (الرحمن والرحيم) الإنباء عن رحمة عاجلة وآجلة وخاصة وعامة تم كلامه.
قلت: أسماء الرب تعالى هي أسماء ونعوت فإنها دالة على صفات كماله فلا تنافي فيها بين العلمية والوصفية فالرحمن اسمه تعالى ووصفه لا تنافي اسميته وصفيته فمن حيث هو صفة جرى تابعا على اسم الله ومن حيث هو اسم ورد في القرآن غير تابع بل ورود الاسم العلم ولما كان هذا الاسم مختصا به تعالى حسن مجيئه مفردا غير تابع كمجيء اسم الله كذلك وهذا لا ينافي دلالته على صفة الرحمن كاسم الله تعالى فإنه دال على صفة الألوهية ولم يجئ قط تابعا لغيره بل متبوعا وهذا بخلاف العليم والقدير والسميع والبصير ونحوها ولهذا لا تجيء هذه مفردة بل تابعة فتأمل هذه النكتة البديعة يظهر لك بها أن الرحمن اسم وصفة لا ينافي أحدهما الآخر وجاء استعمال القرآن بالأمرين جميعا، وأما الجمع بين الرحمن الرحيم ففيه معنى هو أحسن من المعنيين اللذين ذكرهما وهو أن الرحمن دال على الصفة القائمة به سبحانه والرحيم دال على تعلقها بالمرحوم فكان الأول للوصف والثاني للفعل فالأول دال أن الرحمة صفته والثاني دال على أنه يرحم خلقه برحمته وإذا أردت فهم هذا فتأمل قوله: ﴿وَكانَ بِالمُؤْمِنِينَ رَحِيمًا﴾ ﴿إنَّهُ بِهِمْ رَءوفٌ رَحِيمٌ﴾ ولم يجئ قط رحمن بهم فعلم أن الرحمن هو الموصوف بالرحمة ورحيم هو الراحم برحمته وهذه نكتة لا تكاد تجدها في كتاب وإن تنفست عندها مرآة قلبك لم تنجل لك صورتها.
[فائدة: حذف العامل في (بسم الله)]
لحذف العامل في بسم الله فوائد عديدة منها: أنه موطن لا ينبغي أن يتقدم فيه سوى ذكر الله فلو ذكرت الفعل وهو لا يستغني عن فاعله كان ذلك مناقضا للمقصود فكان في حذفه مشاكلة اللفظ للمعنى ليكون المبدوء به اسم الله كما نقول في الصلاة الله أكبر ومعناه من كل شيء ولكن لا نقول هذا المقدر وليكون اللفظ مطابقا لمقصود الجنان وهو أن لا يكون في القلب إلا الله وحده فكما تجرد ذكره في قلب المصلي تجرد ذكره في لسانه ومنها أن الفعل إذا حذف صح الابتداء بالتسمية في كل عمل وقول وحركة وليس فعل أولى بها من فعل فكان الحذف أعم من الذكر فإن أي فعل ذكرته كان المحذوف أعم منه ومنها أن الحذف أبلغ لأن المتكلم بهذه الكلمة كأنه يدعي الاستغناء بالمشاهدة عن النطق بالفعل فكأنه لا حاجة إلى النطق به لأن المشاهدة والحال دالة على أن هذا وكل فعل فإنما هو باسمه تبارك وتعالى والحوالة على شاهد الحال أبلغ من الحوالة على شاهد النطق كما قيل:
؎ومن عجب قول العواذل من به ∗∗∗ وهل غير من أهوى يحب ويعشق
[فائدة: عطف الصلاة على البسملة]
استشكل طائفة قول المصنفين ﴿بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ﴾ وصلى الله على محمد وآله وقالوا الفعل بعد الواو دعاء بالصلاة والتسمية قبله خبر والدعاء لا يحسن عطفه على الخبر لو قلت مررت بزيد وغفر الله لك لكان غثا من الكلام والتسمية في معنى الخبر لأن المعنى افعل كذا باسم الله وحجة من أثبتها الاقتداء بالسلف.
والجواب عما قاله هو أن الواو لم تعطف دعاء على خبر وإنما عطفت الجملة على كلام محكي كأنك تقول بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ وصلى الله على محمد أو أقول هذا وهذا أو أكتب هذا وهذا.
{"ayah":"بِسۡمِ ٱللَّهِ ٱلرَّحۡمَـٰنِ ٱلرَّحِیمِ"}
- أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.
أمّهات
جامع البيان
تفسير الطبري
نحو ٢٨ مجلدًا
تفسير القرآن العظيم
تفسير ابن كثير
نحو ١٩ مجلدًا
الجامع لأحكام القرآن
تفسير القرطبي
نحو ٢٤ مجلدًا
معالم التنزيل
تفسير البغوي
نحو ١١ مجلدًا
جمع الأقوال
منتقاة
عامّة
عامّة
فتح البيان
فتح البيان للقنوجي
نحو ١٢ مجلدًا
فتح القدير
فتح القدير للشوكاني
نحو ١١ مجلدًا
التسهيل لعلوم التنزيل
تفسير ابن جزي
نحو ٣ مجلدات
موسوعات
أخرى
لغة وبلاغة
معاصرة
الميسر
نحو مجلد
المختصر
المختصر في التفسير
نحو مجلد
تيسير الكريم الرحمن
تفسير السعدي
نحو ٤ مجلدات
أيسر التفاسير
نحو ٣ مجلدات
القرآن – تدبّر وعمل
القرآن – تدبر وعمل
نحو ٣ مجلدات
تفسير القرآن الكريم
تفسير ابن عثيمين
نحو ١٥ مجلدًا
مركَّزة العبارة
تفسير الجلالين
نحو مجلد
جامع البيان
جامع البيان للإيجي
نحو ٣ مجلدات
أنوار التنزيل
تفسير البيضاوي
نحو ٣ مجلدات
مدارك التنزيل
تفسير النسفي
نحو ٣ مجلدات
الوجيز
الوجيز للواحدي
نحو مجلد
تفسير القرآن العزيز
تفسير ابن أبي زمنين
نحو مجلدين
آثار
غريب ومعاني
السراج في بيان غريب القرآن
غريب القرآن للخضيري
نحو مجلد
الميسر في غريب القرآن الكريم
الميسر في الغريب
نحو مجلد
تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن قتيبة
نحو مجلد
التبيان في تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن الهائم
نحو مجلد
معاني القرآن وإعرابه
معاني الزجاج
نحو ٤ مجلدات
معاني القرآن
معاني القرآن للنحاس
نحو مجلدين
معاني القرآن
معاني القرآن للفراء
نحو مجلدين
مجاز القرآن
مجاز القرآن لمعمر بن المثنى
نحو مجلد
معاني القرآن
معاني القرآن للأخفش
نحو مجلد
أسباب النزول
إعراب ولغة
الإعراب الميسر
نحو ٣ مجلدات
إعراب القرآن
إعراب القرآن للدعاس
نحو ٤ مجلدات
الجدول في إعراب القرآن وصرفه وبيانه
الجدول في إعراب القرآن
نحو ٨ مجلدات
الدر المصون
الدر المصون للسمين الحلبي
نحو ١٠ مجلدات
اللباب
اللباب في علوم الكتاب
نحو ٢٤ مجلدًا
إعراب القرآن وبيانه
إعراب القرآن للدرويش
نحو ٩ مجلدات
المجتبى من مشكل إعراب القرآن
مجتبى مشكل إعراب القرآن
نحو مجلد
إعراب القرآن
إعراب القرآن للنحاس
نحو ٣ مجلدات
تحليل كلمات القرآن
نحو ٩ مجلدات
الإعراب المرسوم
نحو ٣ مجلدات
المجمّع
بالرسم الجديد
بالرسم القديم
حفص عن عاصم
شُعْبة عن عاصم
قالون عن نافع
ورش عن نافع
البَزِّي عن ابن كثير
قُنبُل عن ابن كثير
الدُّوري عن أبي عمرو
السُّوسِي عن أبي عمرو
نستعليق