الباحث القرآني
( ﴿إنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِن أهْلِ الكِتابِ والمُشْرِكِينَ في نارِ جَهَنَّمَ خالِدِينَ فِيها أُولَئِكَ هم شَرُّ البَرِيئَةِ﴾
بَعْدَ أنْ أنَحى عَلى أهْلِ الكِتابِ والمُشْرِكِينَ مَعًا، ثُمَّ خَصَّ أهْلَ الكِتابِ بِالطَّعْنِ في تَعَلُّلاتِهِمْ، والإبْطالِ لِشُبُهاتِهِمُ الَّتِي يُتابِعُهُمُ المُشْرِكُونَ عَلَيْها، أعْقَبَهُ بِوَعِيدِ الفَرِيقَيْنِ (p-٤٨٣)جَمْعًا بَيْنَهُما كَما ابْتَدَأ الجَمْعُ بَيْنَهُما في أوَّلِ السُّورَةِ؛ لِأنَّ ما سَبَقَ مِنَ المَوْعِظَةِ والدَّلالَةِ كافٍ في تَدْلِيلِ أنْفُسِهِمْ لِلْمَوْعِظَةِ.
فالجُمْلَةُ اسْتِئْنافٌ ابْتِدائِيٌّ، وقَدَّمَ أهْلَ الكِتابِ عَلى المُشْرِكِينَ في الوَعِيدِ؛ اسْتِتْباعًا لِتَقْدِيمِهِمْ عَلَيْهِمْ في سَبَبِهِ كَما تَقَدَّمَ في أوَّلِ السُّورَةِ، ولِأنَّ مُعْظَمَ الرَّدِّ كانَ مُوَجَّهًا إلى أحْوالِهِمْ في قَوْلِهِ: ﴿وما تَفَرَّقَ الَّذِينَ أُوتُوا الكِتابَ﴾ [البينة: ٤] إلى قَوْلِهِ: دِينُ القَيِّمَةِ، ولِأنَّهُ لَوْ آمَنَ أهْلُ الكِتابِ لَقامَتِ الحُجَّةُ عَلى أهْلِ الشِّرْكِ.
و(مِن) بَيانِيَّةٌ مِثْلَ الَّتِي في قَوْلِهِ: ﴿لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِن أهْلِ الكِتابِ والمُشْرِكِينَ﴾ [البينة: ١] .
وتَأْكِيدُ الخَبَرِ بِـ (إنَّ) لِلرَّدِّ عَلى أهْلِ الكِتابِ الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أنَّهم لا تَمَسُّهُمُ النّارُ إلّا أيّامًا مَعْدُودَةً، فَإنَّ الظَّرْفِيَّةَ الَّتِي اقْتَضَتْها (في) تُفِيدُ أنَّهم غَيْرُ خارِجِينَ مِنها، وتَأكَّدَ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ: خالِدِينَ فِيها، وأمّا المُشْرِكُونَ فَقَدْ أنْكَرُوا الجَزاءَ رَأْسًا.
والإخْبارُ عَنْهم بِالكَوْنِ في نارِ جَهَنَّمَ إخْبارٌ بِما يَحْصُلُ في المُسْتَقْبَلِ بِقَرِينَةِ مَقامِ الوَعِيدِ، فَإنَّ الوَعِيدَ كالوَعْدِ يَتَعَلَّقُ بِالمُسْتَقْبَلِ وإنْ كانَ شَأْنُ الجُمْلَةِ الِاسْمِيَّةِ غَيْرِ المُقَيَّدَةِ بِما يُعَيِّنُ زَمانَ وُقُوعِها أنْ تُفِيدَ حُصُولَ مَضْمُونِها في الحالِ كَما تَقُولُ: زَيْدٌ في نِعْمَةٍ.
وجُمْلَةُ (﴿أُولَئِكَ هم شَرُّ البَرِيئَةِ﴾)، كالنَّتِيجَةِ لِكَوْنِهِمْ في نارِ جَهَنَّمَ خالِدِينَ فِيها، فَلِذَلِكَ فُصِلَتْ عَنِ الجُمْلَةِ الَّتِي قَبْلَها. وهو إخْبارٌ بِسُوءِ عاقِبَتِهِمْ في الآخِرَةِ وأُرِيدَ بِالبَرِيئَةِ هُنا البَرِيئَةُ المَشْهُورَةُ في الِاسْتِعْمالِ وهُمُ البَشَرُ، فَلا اعْتِبارَ لِلشَّياطِينِ في هَذا الِاسْمِ، وهَذا يُشْبِهُ الِاسْتِغْراقَ العُرْفِيَّ.
والبَرِيئَةُ: فَعِيلَةُ مِن بَرَأ اللَّهُ الخَلْقَ، أيْ: صَوَّرَهم.
ومَعْنى كَوْنِهِمْ (﴿شَرُّ البَرِيئَةِ﴾) أنَّهم أشَدُّ النّاسِ شَرًّا، فَـ (شَرُّ) هُنا أفْعَلُ تَفْضِيلٍ أصْلُهُ أشَرُّ، مِثْلَ خَيْرٍ الَّذِي هو بِمَعْنى أخْيَرَ، فَإضافَةُ (شَرٍّ) إلى (البَرِيئَةِ) عَلى نِيَّةِ (مِنَ) التَّفْضِيلِيَّةِ.
وإنَّما كانُوا كَذَلِكَ لِأنَّهم ضَلُّوا بَعْدَ تَلَبُّسِهِمْ بِأسْبابِ الهُدى، فَأمّا أهْلُ الكِتابِ فَلِأنَّ لَدَيْهِمْ كِتابًا فِيهِ هُدًى ونُورٌ فَعَدَلُوا عَنْهُ، وأمّا المُشْرِكُونَ فَلِأنَّهم كانُوا (p-٤٨٤)عَلى الحَنِيفِيَّةِ فَأدْخَلُوا فِيها عِبادَةَ الأصْنامِ، ثُمَّ إنَّهم أصَرُّوا عَلى دِينِهِمْ بَعْدَ ما شاهَدُوا مِن دَلائِلِ صِدْقِ مُحَمَّدٍ ﷺ وما جاءَ بِهِ القُرْآنُ مِنَ الإعْجازِ والإنْباءِ بِما في كُتُبِ أهْلِ الكِتابِ، وذَلِكَ مِمّا لَمْ يُشارِكْهم فِيهِ غَيْرُهم فَقَدِ اجْتَنَوْا لِأنْفُسِهِمُ الشَّرَّ مِن حَيْثُ كانُوا أهْلًا لِنَوالِ الخَيْرِ، فَحَسْرَتُهم عَلى أنْفُسِهِمْ يَوْمَ القِيامَةِ أشَدُّ مِن حَسْرَةِ مَن عَداهم، فَكانَ الفَرِيقانِ شَرًّا مِنَ الوَثَنِيِّينَ والزَّنادِقَةِ في اسْتِحْقاقِ العِقابِ، لا فِيما يُرْجى مِنهم مِنَ الِاقْتِرابِ.
وأُقْحِمَ اسْمُ الإشارَةِ بَيْنَ اسْمِ (إنَّ) وخَبَرِها لِلتَّنْبِيهِ عَلى أنَّهم أحْرِياءُ بِالحُكْمِ الوارِدِ بَعْدَ اسْمِ الإشارَةِ مِن أجْلِ الأوْصافِ الَّتِي قَبْلَ اسْمِ الإشارَةِ، كَما في قَوْلِهِ: ﴿أُولَئِكَ عَلى هُدًى مِن رَبِّهِمْ﴾ [البقرة: ٥] . وتَوْسِيطُ ضَمِيرِ الفَصْلِ لِإفادَةِ اخْتِصاصِهِمْ بِكَوْنِهِمْ شَرَّ البَرِيئَةِ لا يُشارِكُهم في ذَلِكَ غَيْرُهم مِن فِرَقِ أهْلِ الكُفْرِ لِما عَلِمْتَ آنِفًا. ولا يَرِدُ أنَّ الشَّياطِينَ أشَدُّ شَرًّا مِنهم لِما عَلِمْتَ أنَّ اسْمَ البَرِيئَةِ اعْتُبِرَ إطْلاقُهُ عَلى البَشَرِ.
و(البَرِيئَةِ) قَرَأهُ نافِعٌ وحْدَهُ وابْنُ ذَكْوانَ عَنِ ابْنِ عامِرٍ بِهَمْزٍ بَعْدَ الياءِ. فَعِيلَةٌ مِن بَرَأ اللَّهُ، إذا خَلَقَ.
وقَرَأهُ بَقِيَّةُ العَشَرَةِ بِياءٍ تَحْتِيَّةٍ مُشَدَّدَةٍ دُونَ هَمْزٍ عَلى تَسْهِيلِ الهَمْزَةِ بَعْدَ الكَسْرَةِ ياءً، وإدْغامِ الياءِ الأُولى في الياءِ الثّانِيَةِ تَخْفِيفًا.
وإثْباتُ الهَمْزَةِ لُغَةُ أهْلِ الحِجازِ، والتَّخْفِيفُ لُغَةُ بَقِيَّةِ العَرَبِ، كَما تَرَكُوا الهَمْزَ في الدَّرِيَّةِ والنَّبِيِّ. قالَ سِيبَوَيْهِ: لَيْسَ أحَدٌ مِنَ العَرَبِ إلّا ويَقُولُ: تَنَبَّأ مُسَيْلِمَةُ بِالهَمْزِ. غَيْرَ أنَّهم تَرَكُوا الهَمْزَ في النَّبِيءِ، كَما تَرَكُوهُ في: الدَّرِيَّةِ والبَرِيَّةِ إلّا أهْلَ مَكَّةَ، فَإنَّهم يَهْمِزُونَها ويُخالِفُونَ العَرَبَ في ذَلِكَ.
{"ayah":"إِنَّ ٱلَّذِینَ كَفَرُوا۟ مِنۡ أَهۡلِ ٱلۡكِتَـٰبِ وَٱلۡمُشۡرِكِینَ فِی نَارِ جَهَنَّمَ خَـٰلِدِینَ فِیهَاۤۚ أُو۟لَـٰۤىِٕكَ هُمۡ شَرُّ ٱلۡبَرِیَّةِ"}
- أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.
أمّهات
جامع البيان
تفسير الطبري
نحو ٢٨ مجلدًا
تفسير القرآن العظيم
تفسير ابن كثير
نحو ١٩ مجلدًا
الجامع لأحكام القرآن
تفسير القرطبي
نحو ٢٤ مجلدًا
معالم التنزيل
تفسير البغوي
نحو ١١ مجلدًا
جمع الأقوال
منتقاة
عامّة
عامّة
فتح البيان
فتح البيان للقنوجي
نحو ١٢ مجلدًا
فتح القدير
فتح القدير للشوكاني
نحو ١١ مجلدًا
التسهيل لعلوم التنزيل
تفسير ابن جزي
نحو ٣ مجلدات
موسوعات
أخرى
لغة وبلاغة
معاصرة
الميسر
نحو مجلد
المختصر
المختصر في التفسير
نحو مجلد
تيسير الكريم الرحمن
تفسير السعدي
نحو ٤ مجلدات
أيسر التفاسير
نحو ٣ مجلدات
القرآن – تدبّر وعمل
القرآن – تدبر وعمل
نحو ٣ مجلدات
تفسير القرآن الكريم
تفسير ابن عثيمين
نحو ١٥ مجلدًا
مركَّزة العبارة
تفسير الجلالين
نحو مجلد
جامع البيان
جامع البيان للإيجي
نحو ٣ مجلدات
أنوار التنزيل
تفسير البيضاوي
نحو ٣ مجلدات
مدارك التنزيل
تفسير النسفي
نحو ٣ مجلدات
الوجيز
الوجيز للواحدي
نحو مجلد
تفسير القرآن العزيز
تفسير ابن أبي زمنين
نحو مجلدين
آثار
غريب ومعاني
السراج في بيان غريب القرآن
غريب القرآن للخضيري
نحو مجلد
الميسر في غريب القرآن الكريم
الميسر في الغريب
نحو مجلد
تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن قتيبة
نحو مجلد
التبيان في تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن الهائم
نحو مجلد
معاني القرآن وإعرابه
معاني الزجاج
نحو ٤ مجلدات
معاني القرآن
معاني القرآن للنحاس
نحو مجلدين
معاني القرآن
معاني القرآن للفراء
نحو مجلدين
مجاز القرآن
مجاز القرآن لمعمر بن المثنى
نحو مجلد
معاني القرآن
معاني القرآن للأخفش
نحو مجلد
أسباب النزول
إعراب ولغة
الإعراب الميسر
نحو ٣ مجلدات
إعراب القرآن
إعراب القرآن للدعاس
نحو ٤ مجلدات
الجدول في إعراب القرآن وصرفه وبيانه
الجدول في إعراب القرآن
نحو ٨ مجلدات
الدر المصون
الدر المصون للسمين الحلبي
نحو ١٠ مجلدات
اللباب
اللباب في علوم الكتاب
نحو ٢٤ مجلدًا
إعراب القرآن وبيانه
إعراب القرآن للدرويش
نحو ٩ مجلدات
المجتبى من مشكل إعراب القرآن
مجتبى مشكل إعراب القرآن
نحو مجلد
إعراب القرآن
إعراب القرآن للنحاس
نحو ٣ مجلدات
تحليل كلمات القرآن
نحو ٩ مجلدات
الإعراب المرسوم
نحو ٣ مجلدات
المجمّع
بالرسم الجديد
بالرسم القديم
حفص عن عاصم
شُعْبة عن عاصم
قالون عن نافع
ورش عن نافع
البَزِّي عن ابن كثير
قُنبُل عن ابن كثير
الدُّوري عن أبي عمرو
السُّوسِي عن أبي عمرو
نستعليق