الباحث القرآني
﴿ورَبُّكَ الأكْرَمُ﴾ ﴿الَّذِي عَلَّمَ بِالقَلَمِ﴾ ﴿عَلَّمَ الإنْسانَ ما لَمْ يَعْلَمْ﴾ .
جُمْلَةٌ مَعْطُوفَةٌ عَلى جُمْلَةِ (﴿اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ﴾ [العلق: ١]) فَلَها حُكْمُ الِاسْتِئْنافِ، و(رَبُّكَ) مُبْتَدَأٌ وخَبَرُهُ إمّا (﴿الَّذِي عَلَّمَ بِالقَلَمِ﴾) وإمّا جُمْلَةُ (﴿عَلَّمَ الإنْسانَ ما لَمْ يَعْلَمْ﴾) وهَذا الِاسْتِئْنافُ بَيانِيٌّ.
فَإذا نَظَرْتَ إلى الآيَةِ مُسْتَقِلَّةً عَمّا تَضَمَّنَهُ حَدِيثُ عائِشَةَ في وصْفِ سَبَبِ نُزُولِها كانَ الِاسْتِئْنافُ ناشِئًا عَنْ سُؤالٍ يَجِيشُ في خاطِرِ الرَّسُولِ ﷺ أنْ يَقُولَ: كَيْفَ أقْرَأُ وأنا لا أُحْسِنُ القِراءَةَ والكِتابَةَ، فَأُجِيبُ بِأنَّ الَّذِي عَلَّمَ القِراءَةَ بِواسِطَةِ القَلَمِ، أيْ: بِواسِطَةِ الكِتابَةِ يُعَلِّمُكَ ما لَمْ تَعْلَمْ.
وإذا قَرَنْتَ بَيْنَ الآيَةِ وبَيْنَ الحَدِيثِ المَذْكُورِ كانَ الِاسْتِئْنافُ جَوابًا عَنْ قَوْلِهِ لِجِبْرِيلَ: ”ما أنا بِقارِئٍ“ فالمَعْنى: لا عَجَبَ في أنْ تَقْرَأ وإنْ لَمْ تَكُنْ مِن قَبْلُ عالِمًا بِالقِراءَةِ، إذِ العِلْمُ بِالقِراءَةِ يَحْصُلُ بِوَسائِلَ أُخْرى مِثْلَ الإمْلاءِ والتَّلْقِينِ والإلْهامِ وقَدْ عَلَّمَ اللَّهُ آدَمَ الأسْماءَ ولَمْ يَكُنْ آدَمُ قارِئًا.
ومُقْتَضى الظّاهِرِ: وعَلَّمَ بِالقَلَمِ، فَعُدِلَ عَنِ الإضْمارِ لِتَأْكِيدِ ما يُشْعِرُ بِهِ (رَبُّكَ) مِنَ العِنايَةِ المُسْتَفادَةِ مِن قَوْلِهِ: (﴿اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ﴾ [العلق: ١]) وأنَّ هَذِهِ القِراءَةَ شَأْنٌ مَن شُئُونِ الرَّبِّ اخْتَصَّ بِها عَبْدَهُ إتْمامًا لِنِعْمَةِ الرُّبُوبِيَّةِ عَلَيْهِ.
ولِيَجْرِيَ عَلى لَفْظِ الرَّبِّ وصْفُ (﴿الأكْرَمُ﴾) .
ووَصْفُ (﴿الأكْرَمُ﴾) مَصُوغٌ لِلدَّلالَةِ عَلى قُوَّةِ الِاتِّصافِ بِالكَرَمِ ولَيْسَ مَصُوغًا لِلْمُفاضَلَةِ، فَهو مَسْلُوبُ المُفاضَلَةِ.
(p-٤٤٠)والكَرَمُ: التَّفَضُّلُ بِعَطاءِ ما يَنْفَعُ المُعْطى، ونِعَمُ اللَّهِ عَظِيمَةٌ لا تُحْصى، ابْتِداءً مِن نِعْمَةِ الإيجادِ وكَيْفِيَّةِ الخَلْقِ والإمْدادِ.
وقَدْ جَمَعَتْ هَذِهِ الآياتُ الخَمْسُ مِن أوَّلِ السُّورَةِ أُصُولَ الصِّفاتِ الإلَهِيَّةِ، فَوَصْفُ الرَّبِّ يَتَضَمَّنُ الوُجُودَ والوَحْدانِيَّةَ، ووَصْفُ (﴿الَّذِي خَلَقَ﴾ [العلق: ١]) ووَصْفُ (﴿الَّذِي عَلَّمَ بِالقَلَمِ﴾) يَقْتَضِيانِ صِفاتِ الأفْعالِ، مَعَ ما فِيهِ مِنَ الِاسْتِدْلالِ القَرِيبِ عَلى ثُبُوتِ ما أُشِيرَ إلَيْهِ مِنَ الصِّفاتِ بِما تَقْتَضِيهِ المَوْصُولِيَّةُ مِنَ الإيماءِ إلى وجْهِ بِناءِ الخَبَرِ الَّذِي يُذْكَرُ مَعَها. ووَصْفُ (﴿الأكْرَمُ﴾) يَتَضَمَّنُ صِفاتِ الكَمالِ والتَّنْزِيهَ عَنِ النَّقائِصِ.
ومَفْعُولا (﴿عَلَّمَ بِالقَلَمِ﴾) مَحْذُوفانِ دَلَّ عَلَيْهِما قَوْلُهُ: (﴿بِالقَلَمِ﴾) وتَقْدِيرُهُ: عَلَّمَ الكاتِبِينَ أوْ عَلَّمَ ناسًا الكِتابَةَ، وكانَ العَرَبُ يُعَظِّمُونَ عِلْمَ الكِتابَةِ ويَعُدُّونَها مِن خَصائِصِ أهْلِ الكِتابِ كَما قالَ أبُو حَيَّةَ النُّمَيْرِيُّ:
كَما خُطَّ الكِتابُ بِكَفِّ يَوْمًا يَهُودِيٍّ يُقارِبُ أوْ يُزِيلُ
ويَتَفاخَرُ مَن يَعْرِفُ الكِتابَةَ بِعِلْمِهِ، وقالَ الشّاعِرُ:
؎تَعَلَّمْتُ باجادَ وآلَ مُرامِرٍ ∗∗∗ وسَوَّدْتُ أثْوابِي ولَسْتُ بِكاتِبِ
وذُكِرُ أنَّ ظُهُورَ الخَطِّ في العَرَبِ أوَّلَ ما كانَ عِنْدَ أهْلِ الأنْبارِ. وأدْخَلَ الكِتابَةَ إلى الحِجازِ حَرْبُ بْنُ أُمَيَّةَ تَعَلَّمَهُ مِن أسْلَمَ بْنِ سِدْرَةَ وتَعَلَّمَهُ أسْلَمُ مِن مُرامِرِ بْنِ مُرَّةَ وكانَ الخَطُّ سابِقًا عِنْدَ حِمْيَرَ بِاليَمَنِ ويُسَمّى المُسْنَدَ.
وتَخْصِيصُ هَذِهِ الصِّلَةِ بِالذِّكْرِ وجَعْلِها مُعْتَرِضَةً بَيْنَ المُبْتَدَأِ والخَبَرِ لِلْإيماءِ إلى إزالَةِ ما خَطَرَ بِبالِ النَّبِيءِ ﷺ مِن تَعَذُّرِ القِراءَةِ عَلَيْهِ؛ لِأنَّهُ لا يَعْلَمُ الكِتابَةَ فَكَيْفَ القِراءَةُ إذْ قالَ لِلْمَلَكِ ”«ما أنا بِقارِئٍ» “ ثَلاثَ مَرّاتٍ، لِأنَّ قَوْلَهُ: ”«ما أنا بِقارِئٍ» “ اعْتِذارٌ عَنْ تَعَذُّرِ امْتِثالِ أمْرِهِ بِقَوْلِهِ: (اقْرَأْ) فالمَعْنى أنَّ الَّذِي عَلَّمَ النّاسَ الكِتابَةَ بِالقَلَمِ والقِراءَةَ قادِرٌ عَلى أنْ يُعَلِّمَكَ القِراءَةَ وأنْتَ لا تَعْلَمُ الكِتابَةَ.
والقَلَمُ: شَظِيَّةٌ مِن قَصَبٍ تُرَقَّقُ وتُثَقَّفُ وتُبْرى بِالسِّكِّينِ لِتَكُونَ مَلْساءَ بَيْنَ الأصابِعِ ويُجْعَلُ طَرَفُها مَشْقُوقًا شَقًّا في طُولِ نِصْفِ الأُنْمُلَةِ، فَإذا بُلَّ ذَلِكَ الطَّرَفُ (p-٤٤١)بِسائِلِ المِدادِ يُخَطُّ بِهِ عَلى الوَرَقِ وشِبْهِهِ، وقَدْ تَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعالى: (﴿إذْ يُلْقُونَ أقْلامَهم أيُّهم يَكْفُلُ مَرْيَمَ﴾ [آل عمران: ٤٤]) في سُورَةِ آلِ عِمْرانَ.
وجُمْلَةُ (﴿عَلَّمَ الإنْسانَ ما لَمْ يَعْلَمْ﴾) خَبَرٌ عَنْ قَوْلِهِ: (﴿ورَبُّكَ الأكْرَمُ﴾) وما بَيْنَهُما اعْتِراضٌ.
وتَعْرِيفُ (الإنْسانَ) يَجُوزُ أنْ يَكُونَ تَعْرِيفَ الجِنْسِ، فَيَكُونُ ارْتِقاءً في الإعْلامِ بِما قَدَّرَهُ اللَّهُ تَعالى مِن تَعْلِيمِ الإنْسانِ بِتَعْمِيمِ التَّعْلِيمِ بَعْدَ تَخْصِيصِ التَّعْلِيمِ بِالقَلَمِ.
وقَدْ حَصَلَتْ مِن ذِكْرِ التَّعْلِيمِ بِالقَلَمِ والتَّعْلِيمِ الأعَمِّ إشارَةٌ إلى ما يَتَلَقّاهُ الإنْسانُ مِنَ التَّعالِيمِ، سَواءٌ كانَ بِالدَّرْسِ أمْ بِمُطالَعَةِ الكُتُبِ، وأنَّ تَحْصِيلَ العُلُومِ يَعْتَمِدُ أُمُورًا ثَلاثَةً: أحَدُها: الأخْذُ عَنِ الغَيْرِ بِالمُراجَعَةِ والمُطالَعَةِ، وطَرِيقُهُما الكِتابَةُ وقِراءَةُ الكُتُبِ، فَإنَّ بِالكِتابَةِ أمْكَنَ لِلْأُمَمِ تَدْوِينُ آراءِ عُلَماءِ البَشَرِ ونَقْلُها إلى الأقْطارِ النّائِيَةِ وفي الأجْيالِ الجائِيَةِ.
والثّانِي: التَّلَقِّي مِنَ الأفْواهِ بِالدَّرْسِ والإمْلاءِ.
والثّالِثُ: ما تَنْقَدِحُ بِهِ العُقُولُ مِنَ المُسْتَنْبَطاتِ والمُخْتَرَعاتِ. وهَذانِ داخِلانِ تَحْتَ قَوْلِهِ تَعالى: (﴿عَلَّمَ الإنْسانَ ما لَمْ يَعْلَمْ﴾) .
وفِي ذَلِكَ اطْمِئْنانٌ لِنَفْسِ النَّبِيءِ ﷺ بِأنَّ عَدَمَ مَعْرِفَتِهِ الكِتابَةَ لا يَحُولُ دُونَ قِراءَتِهِ؛ لِأنَّ اللَّهَ عَلَّمَ الإنْسانَ ما لَمْ يَعْلَمْ، فالَّذِي عَلَّمَ القِراءَةَ لِأصْحابِ المَعْرِفَةِ بِالكِتابَةِ قادِرٌ عَلى أنْ يُعَلِّمَكَ القِراءَةَ دُونَ سَبْقِ مَعْرِفَةٍ بِالكِتابَةِ.
وأشْعَرَ قَوْلُهُ: (﴿ما لَمْ يَعْلَمْ﴾) أنَّ العِلْمَ مَسْبُوقٌ بِالجَهْلِ، فَكُلُّ عِلْمٍ يَحْصُلُ فَهو عِلْمُ ما لَمْ يَكُنْ يُعْلَمُ مِن قَبْلُ، أيْ: فَلا يُؤْيِسَنَّكَ مِن أنْ تَصِيرَ عالِمًا بِالقُرْآنِ والشَّرِيعَةِ أنَّكَ لا تَعْرِفُ قِراءَةَ ما يُكْتَبُ بِالقَلَمِ. وفي الآيَةِ إشارَةٌ إلى الِاهْتِمامِ بِعِلْمِ الكِتابَةِ وبِأنَّ اللَّهَ يُرِيدُ أنْ يُكْتَبَ لِلنَّبِيءِ ﷺ ما يَنْزِلُ عَلَيْهِ مِنَ القُرْآنِ، فَمِن أجْلِ ذَلِكَ اتَّخَذَ النَّبِيءُ ﷺ كُتّابًا لِلْوَحْيِ مِن مَبْدَأِ بَعْثِهِ.
وفِي الِاقْتِصارِ عَلى أمْرِ الرَّسُولِ ﷺ بِالقِراءَةِ ثُمَّ إخْبارِهِ بِأنَّ اللَّهَ عَلَّمَ الإنْسانَ (p-٤٤٢)بِالقَلَمِ إيماءٌ إلى اسْتِمْرارِ صِفَةِ الأُمِّيَّةِ لِلنَّبِيءِ ﷺ؛ لِأنَّها وصْفٌ مُكَمِّلٌ لِإعْجازِ القُرْآنِ قالَ تَعالى: (﴿وما كُنْتَ تَتْلُو مِن قَبْلِهِ مِن كِتابٍ ولا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إذًا لارْتابَ المُبْطِلُونَ﴾ [العنكبوت: ٤٨]) .
وهَذِهِ آخِرُ الخَمْسِ الآياتِ الَّتِي هي أوَّلُ ما أُنْزِلَ عَلى النَّبِيءِ ﷺ في غارِ حِراءٍ.
{"ayahs_start":3,"ayahs":["ٱقۡرَأۡ وَرَبُّكَ ٱلۡأَكۡرَمُ","ٱلَّذِی عَلَّمَ بِٱلۡقَلَمِ","عَلَّمَ ٱلۡإِنسَـٰنَ مَا لَمۡ یَعۡلَمۡ"],"ayah":"عَلَّمَ ٱلۡإِنسَـٰنَ مَا لَمۡ یَعۡلَمۡ"}
- أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.
أمّهات
جامع البيان
تفسير الطبري
نحو ٢٨ مجلدًا
تفسير القرآن العظيم
تفسير ابن كثير
نحو ١٩ مجلدًا
الجامع لأحكام القرآن
تفسير القرطبي
نحو ٢٤ مجلدًا
معالم التنزيل
تفسير البغوي
نحو ١١ مجلدًا
جمع الأقوال
منتقاة
عامّة
عامّة
فتح البيان
فتح البيان للقنوجي
نحو ١٢ مجلدًا
فتح القدير
فتح القدير للشوكاني
نحو ١١ مجلدًا
التسهيل لعلوم التنزيل
تفسير ابن جزي
نحو ٣ مجلدات
موسوعات
أخرى
لغة وبلاغة
معاصرة
الميسر
نحو مجلد
المختصر
المختصر في التفسير
نحو مجلد
تيسير الكريم الرحمن
تفسير السعدي
نحو ٤ مجلدات
أيسر التفاسير
نحو ٣ مجلدات
القرآن – تدبّر وعمل
القرآن – تدبر وعمل
نحو ٣ مجلدات
تفسير القرآن الكريم
تفسير ابن عثيمين
نحو ١٥ مجلدًا
مركَّزة العبارة
تفسير الجلالين
نحو مجلد
جامع البيان
جامع البيان للإيجي
نحو ٣ مجلدات
أنوار التنزيل
تفسير البيضاوي
نحو ٣ مجلدات
مدارك التنزيل
تفسير النسفي
نحو ٣ مجلدات
الوجيز
الوجيز للواحدي
نحو مجلد
تفسير القرآن العزيز
تفسير ابن أبي زمنين
نحو مجلدين
آثار
غريب ومعاني
السراج في بيان غريب القرآن
غريب القرآن للخضيري
نحو مجلد
الميسر في غريب القرآن الكريم
الميسر في الغريب
نحو مجلد
تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن قتيبة
نحو مجلد
التبيان في تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن الهائم
نحو مجلد
معاني القرآن وإعرابه
معاني الزجاج
نحو ٤ مجلدات
معاني القرآن
معاني القرآن للنحاس
نحو مجلدين
معاني القرآن
معاني القرآن للفراء
نحو مجلدين
مجاز القرآن
مجاز القرآن لمعمر بن المثنى
نحو مجلد
معاني القرآن
معاني القرآن للأخفش
نحو مجلد
أسباب النزول
إعراب ولغة
الإعراب الميسر
نحو ٣ مجلدات
إعراب القرآن
إعراب القرآن للدعاس
نحو ٤ مجلدات
الجدول في إعراب القرآن وصرفه وبيانه
الجدول في إعراب القرآن
نحو ٨ مجلدات
الدر المصون
الدر المصون للسمين الحلبي
نحو ١٠ مجلدات
اللباب
اللباب في علوم الكتاب
نحو ٢٤ مجلدًا
إعراب القرآن وبيانه
إعراب القرآن للدرويش
نحو ٩ مجلدات
المجتبى من مشكل إعراب القرآن
مجتبى مشكل إعراب القرآن
نحو مجلد
إعراب القرآن
إعراب القرآن للنحاس
نحو ٣ مجلدات
تحليل كلمات القرآن
نحو ٩ مجلدات
الإعراب المرسوم
نحو ٣ مجلدات
المجمّع
بالرسم الجديد
بالرسم القديم
حفص عن عاصم
شُعْبة عن عاصم
قالون عن نافع
ورش عن نافع
البَزِّي عن ابن كثير
قُنبُل عن ابن كثير
الدُّوري عن أبي عمرو
السُّوسِي عن أبي عمرو
نستعليق