الباحث القرآني
﴿ألَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ﴾ ﴿ووَضَعْنا عَنْكَ وِزْرَكَ﴾ ﴿الَّذِي أنْقَضَ ظَهْرَكَ﴾ ﴿ورَفَعْنا لَكَ ذِكْرَكَ﴾ .
اسْتِفْهامٌ تَقْرِيرِيٌّ عَلى النَّفْيِ. والمَقْصُودُ التَّقْرِيرُ عَلى إثْباتِ المَنفِيِّ كَما تَقَدَّمَ غَيْرَ مَرَّةٍ. وهَذا التَّقْرِيرُ مَقْصُودٌ بِهِ التَّذْكِيرُ لِأجْلِ أنْ يُراعِيَ هَذِهِ المِنَّةَ عِنْدَما يُخالِجُهُ ضِيقُ صَدْرٍ مِمّا يَلْقاهُ مِن أذى قَوْمٍ يُرِيدُ صَلاحَهم وإنْقاذَهم مِنَ النّارِ ورَفْعَ شَأْنِهِمْ بَيْنَ الأُمَمِ، لِيَدُومَ عَلى دَعْوَتِهِ العَظِيمَةِ نَشِيطًا غَيْرَ ذِي أسَفٍ ولا كَمَدٍ.
والشَّرْحُ حَقِيقَتُهُ: فَصْلُ أجْزاءِ اللَّحْمِ بَعْضِها عَنْ بَعْضٍ، ومِنهُ الشَّرِيحَةُ لِلْقِطْعَةِ مِنَ اللَّحْمِ، والتَّشْرِيحُ في الطِّبِّ، ويُطْلَقُ عَلى انْفِعالِ النَّفْسِ بِالرِّضى بِالحالِ المُتَلَبِّسِ بِها. وظاهِرُ كَلامِ الأساسِ أنَّ هَذا إطْلاقٌ حَقِيقِيٌّ. ولَعَلَّهُ راعى كَثْرَةَ الِاسْتِعْمالِ، أيْ: هو مِنَ المَجازِ الَّذِي يُساوِي الحَقِيقَةَ؛ لِأنَّ الظّاهِرَ أنَّ الشَّرْحَ الحَقِيقِيَّ خاصٌّ بِشَرْحِ اللَّحْمِ، وأنَّ إطْلاقَ الشَّرْحِ عَلى رِضى النَّفْسِ بِالحالِ أصْلُهُ اسْتِعارَةٌ ناشِئَةٌ عَنْ إطْلاقِ لَفْظِ الضِّيقِ وما تَصَرَّفَ مِنهُ عَلى الإحْساسِ بِالحُزْنِ والكَمَدِ، قالَ تَعالى: (﴿وضائِقٌ بِهِ صَدْرُكَ أنْ يَقُولُوا لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْهِ كَنْزٌ﴾ [هود: ١٢]) الآيَةَ. فَجُعِلَ إزالَةُ ما في النَّفْسِ مِن حُزْنٍ مِثْلَ شَرْحِ اللَّحْمِ وهَذا الأنْسَبُ بِقَوْلِهِ: (﴿فَإنَّ مَعَ العُسْرِ يُسْرًا﴾ [الشرح: ٥]) .
وتَقَدَّمَ قَوْلُهُ: (﴿قالَ رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي﴾ [طه: ٢٥]) في سُورَةِ طه.
فالصَّدْرُ مُرادٌ بِهِ الإحْساسُ الباطِنِيُّ الجامِعُ لِمَعْنى العَقْلِ والإدْراكِ. وشَرْحُ صَدْرِهِ كِنايَةٌ عَنِ الإنْعامِ عَلَيْهِ بِكُلِّ ما تَطْمَحُ إلَيْهِ نَفْسُهُ الزَّكِيَّةُ مِنَ الكِمالاتِ وإعْلامِهِ بِرِضى اللَّهِ عَنْهُ وبِشارَتِهِ بِما سَيَحْصُلُ لِلدِّينِ الَّذِي جاءَ بِهِ مِنَ النَّصْرِ.
هَذا تَفْسِيرُ الآيَةِ بِما يُفِيدُهُ نَظْمُها واسْتِقْلالُها عَنِ المَرْوِيّاتِ الخارِجِيَّةِ، فَفَسَّرَها ابْنُ عَبّاسٍ بِأنَّ اللَّهَ شَرَحَ قَلْبَهُ بِالإسْلامِ، وعَنِ الحَسَنِ قالَ: شَرْحُ صَدْرِهِ أنْ مُلِئَ عِلْمًا وحُكْمًا، وقالَ سَهْلُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ التُّسْتَرِيُّ: شَرَحَ صَدْرَهُ بِنُورِ الرِّسالَةِ. (p-٤٠٩)وعَلى هَذا الوَجْهِ حَمَلَهُ كَثِيرٌ مِنَ المُفَسِّرِينَ ونَسَبَهُ ابْنُ عَطِيَّةَ إلى الجُمْهُورِ.
ويَجُوزُ أنْ يُجْعَلَ الشَّرْحُ شَرْحًا بَدَنِيًّا. ورُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ أنَّهُ فَسَّرَ بِهِ وهو ظاهِرُ صَنِيعِ التِّرْمِذِيِّ، إذْ أخْرَجَ حَدِيثَ شَقِّ الصَّدْرِ الشَّرِيفِ في تَفْسِيرِ هَذِهِ السُّورَةِ، فَتَكُونُ الآيَةُ إشارَةً إلى مَرْوِيّاتٍ في شَقِّ صَدْرِهِ ﷺ شَقًّا قُدُسِيًّا، وهو المَرْوِيُّ بَعْضُ خَبَرِهِ في الصَّحِيحَيْنِ، والمَرْوِيُّ مُطَوَّلًا في السِّيرَةِ والمَسانِيدِ، فَوَقَعَ في بَعْضِ الرِّواياتِ في الصَّحِيحَيْنِ أنَّهُ كانَ في رُؤْيا النَّوْمِ ورُؤْيا الأنْبِياءِ وحْيٌ، وفي بَعْضِها أنَّهُ كانَ يَقَظَةً، وهو ظاهِرُ ما في البُخارِيِّ، وفي صَحِيحِ مُسْلِمٍ أنَّهُ يَقَظَةٌ وبِمَرْأًى مِن غِلْمانٍ أتْرابِهِ، وفي حَدِيثِ مُسْلِمٍ عَنْ أنَسِ بْنِ مالِكٍ أنَّهُ قالَ: رَأيْتُ أثَرَ الشَّقِّ في جِلْدِ صَدْرِ النَّبِيءِ ﷺ . وفي بَعْضِ الرِّواياتِ أنَّ النَّبِيءَ ﷺ كانَ بَيْنَ النّائِمِ واليَقْظانِ، والرِّواياتُ مُخْتَلِفَةٌ في زَمانِهِ ومَكانِهِ مَعَ اتِّفاقِها عَلى أنَّهُ كانَ بِمَكَّةَ. واخْتِلافُ الرِّواياتِ حَمَلَ بَعْضَ أهْلِ العِلْمِ عَلى القَوْلِ بِأنَّ شَقَّ صَدْرِهِ الشَّرِيفِ تَكَرَّرَ مَرَّتَيْنِ إلى أرْبَعٍ، مِنها حِينَ كانَ عِنْدَ حَلِيمَةَ. وفي حَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ أنَّ الشَّقَّ كانَ وعُمُرُ النَّبِيءِ ﷺ عَشْرَ سِنِينَ.
والَّذِي في الصَّحِيحِ عَنْ أبِي ذَرٍّ أنَّهُ كانَ عِنْدَ المِعْراجِ بِهِ إلى السَّماءِ، ولَعَلَّ بَعْضَها كانَ رُؤْيا وبَعْضَها حِسًّا. ولَيْسَ في شَيْءٍ مِن هَذِهِ الأخْبارِ عَلى اخْتِلافِ مَراتِبِها ما يَدُلُّ عَلى أنَّهُ الشَّرْحُ المُرادُ في الآيَةِ، وإذْ قَدْ كانَ ذَلِكَ الشَّقُّ مُعْجِزَةً خارِقَةً لِلْعادَةِ يَجُوزُ أنْ يَكُونَ مُرادًا، وهو ما نَحّاهُ أبُو بَكْرِ بْنُ العَرَبِيِّ في الأحْكامِ، وعَلَيْهِ يَكُونُ الصَّدْرُ قَدْ أُطْلِقَ عَلى حَقِيقَتِهِ وهو الباطِنُ الحاوِي لِلْقَلْبِ، ومِنَ العُلَماءِ مَن فَسَّرَ الصَّدْرَ بِالقَلْبِ، حَكاهُ عِياضٌ في الشِّفا، يُشِيرُ إلى ما جاءَ في خَبَرِ شَقِّ الصَّدْرِ مِن إخْراجِ قَلْبِهِ وإزالَةِ مَقَرِّ الوَسْوَسَةِ مِنهُ، وكِلا المَعْنَيَيْنِ لِلشَّرْحِ يُفِيدُ أنَّهُ إيقاعُ مَعْنًى عَظِيمٍ لِنَفْسِ النَّبِيءِ ﷺ إمّا مُباشَرَةً وإمّا بِاعْتِبارِ مَغْزاهُ كَما لا يَخْفى.
واللّامُ في قَوْلِهِ: (لَكَ) لامُ التَّعْلِيلِ، وهو يُفِيدُ تَكْرِيمًا لِلنَّبِيءِ ﷺ بِأنَّ اللَّهَ فَعَلَ ذَلِكَ لِأجْلِهِ.
وفِي ذِكْرِ الجارِّ والمَجْرُورِ قَبْلَ ذِكْرِ المَشْرُوحِ سُلُوكُ طَرِيقَةِ الإبْهامِ لِلتَّشْوِيقِ فَإنَّهُ لَمّا ذُكِرَ فِعْلُ (﴿نَشْرَحْ﴾) عَلِمَ السّامِعُ أنَّ ثَمَّ مَشْرُوحًا، فَلَمّا وقَعَ قَوْلُهُ (لَكَ) قَوِيَ الإبْهامُ فَزادَ التَّشْوِيقُ؛ لِأنَّ (لَكَ) يُفِيدُ مَعْنى: شَيْئًا لِأجْلِكَ، فَلَمّا وقَعَ بَعْدَهُ قَوْلُهُ: (p-٤١٠)(صَدْرَكَ) تَعَيَّنَ المَشْرُوحُ المُتَرَقَّبُ فَتَمَكَّنَ في الذِّهْنِ كَمالَ تَمَكُّنٍ، وهَذا ما أشارَ إلَيْهِ في الكَشّافِ وقَفّى عَلَيْهِ صاحِبُ المِفْتاحِ في مَبْحَثِ الإطْنابِ.
والوِزْرُ: الحَرَجُ، ووَضْعُهُ: حَطُّهُ عَنْ حامِلِهِ، والكَلامُ تَمْثِيلٌ لِحالِ إزالَةِ الشَّدائِدِ والكُرُوبِ بِحالِ مَن يَحُطُّ ثِقْلًا عَنْ حامِلِهِ لِيُرِيحَهُ مِن عَناءِ الثِّقَلِ.
والمَعْنى: أنَّ اللَّهَ أزالَ عَنْهُ كُلَّ ما كانَ يَتَحَرَّجُ مِنهُ مِن عاداتِ أهْلِ الجاهِلِيَّةِ الَّتِي لا تُلائِمُ ما فَطَرَ اللَّهُ عَلَيْهِ نَفْسَهُ مِنَ الزَّكاءِ والسُّمُوِّ، ولا يَجِدُ بُدًّا مِن مُسايَرَتِهِمْ عَلَيْهِ، فَوَضَعَ عَنْهُ ذَلِكَ حِينَ أوْحى إلَيْهِ بِالرِّسالَةِ، وكَذَلِكَ ما كانَ يَجِدُهُ في أوَّلِ بِعْثَتِهِ مِن ثِقَلِ الوَحْيِ فَيَسَّرَهُ اللَّهُ عَلَيْهِ بِقَوْلِهِ: (﴿سَنُقْرِئُكَ فَلا تَنْسى﴾ [الأعلى: ٦]) إلى قَوْلِهِ: (﴿ونُيَسِّرُكَ لِلْيُسْرى﴾ [الأعلى: ٨]) .
و(أنْقَضَ): جَعَلَ الشَّيْءَ ذا نَقِيضٍ، والنَّقِيضُ: صَوْتُ صَرِيرِ المَحْمِلِ والرَّحْلِ، وصَوْتُ عِظامِ المَفاصِلِ، وفَرْقَعَةُ الأصابِعِ، وفِعْلُهُ القاصِرُ مِن بابِ نَصَرَ ويُعَدّى بِالهَمْزَةِ.
وإسْنادُ (أنْقَضَ) إلى الوِزْرِ مَجازٌ عَقْلِيٌّ، وتَعْدِيَتُهُ إلى الظَّهْرِ تَبَعٌ لِتَشْبِيهِ المَشَقَّةِ بِالحَمْلِ، فالتَّرْكِيبُ تَمْثِيلٌ لِمُتَجَشِّمِ المَشاقِّ الشَّدِيدَةِ بِالحَمُولَةِ المُثْقَلَةِ بِالإجْمالِ تَثْقِيلًا شَدِيدًا حَتّى يُسْمَعَ لِعِظامِ ظَهْرِها فَرْقَعَةٌ وصَرِيرٌ، وهو تَمْثِيلٌ بَدِيعٌ لِأنَّهُ تَشْبِيهٌ مُرَكَّبٌ قابِلٌ لِتَفْرِيقِ التَّشْبِيهِ عَلى أجْزائِهِ.
ووَصْفُ الوِزْرِ بِهَذا الوَصْفِ تَكْمِيلٌ لِلتَّمْثِيلِ بِأنَّهُ وِزْرٌ عَظِيمٌ.
واعْلَمْ أنَّ في قَوْلِهِ: (﴿أنْقَضَ ظَهْرَكَ﴾) اتِّصالُ حَرْفَيِ الضّادِ والظّاءِ وهُما مُتَقارِبا المَخْرَجِ، فَرُبَّما يَحْصُلُ مِنَ النُّطْقِ بِهِما شَيْءٌ مِنَ الثِّقَلِ عَلى اللِّسانِ ولَكِنَّهُ لا يُنافِي الفَصاحَةَ، إذْ لا يَبْلُغُ مَبْلَغَ ما يُسَمّى بِتَنافُرِ الكَلِماتِ، بَلْ مِثْلُهُ مُغْتَفَرٌ في كَلامِ الفُصَحاءِ. والعَرَبُ فُصَحاءُ الألْسُنِ فَإذا اقْتَضى نَظْمُ الكَلامِ وُرُودَ مِثْلِ هَذَيْنِ الحَرْفَيْنِ المُتَقارِبَيْنِ لَمْ يَعْبَأِ البَلِيغُ بِما يَعْرِضُ عِنْدَ اجْتِماعِهِما مِن بَعْضِ الثِّقَلِ، ومِثْلُ ذَلِكَ قَوْلُهُ تَعالى: (وسَبِّحْهُ) في اجْتِماعِ الحاءِ مَعَ الهاءِ، وذَلِكَ حَيْثُ لا يَصِحُّ الإدْغامُ. وقَدْ أوْصى عُلَماءُ التَّجْوِيدِ بِإظْهارِ الضّادِ مَعَ الظّاءِ إذا تَلاقَيا كَما في هَذِهِ الآيَةِ وقَوْلِهِ: (﴿ويَوْمَ يَعَضُّ الظّالِمُ﴾ [الفرقان: ٢٧]) ولَها نَظائِرُ في القُرْآنِ.
(p-٤١١)وهَذِهِ الآيَةُ هي المُشْتَهَرَةُ ولَمْ يَزَلِ الأيِمَّةُ في المَساجِدِ يَتَوَخَّوْنَ الحَذَرَ مِن إبْدالِ أحَدِ هَذَيْنِ الحَرْفَيْنِ بِالآخَرِ لِلْخِلافِ الواقِعِ بَيْنَ الفُقَهاءِ في بُطْلانِ صَلاةِ اللَّحّانِ ومَن لا يُحْسِنُ القِراءَةَ مُطْلَقًا، أوْ إذا كانَ عامِدًا إذا كانَ فَذًّا، وفي بُطْلانِ صَلاةِ مَن خَلْفَهُ أيْضًا إذا كانَ اللّاحِنُ إمامًا.
ورَفْعُ الذِّكْرِ: جَعْلُ ذِكْرِهِ بَيْنَ النّاسِ بِصِفاتِ الكَمالِ، وذَلِكَ بِما نَزَلَ مِنَ القُرْآنِ ثَناءً عَلَيْهِ وكَرامَةً، وبِإلْهامِ النّاسِ التَّحَدُّثَ بِما جَبَلَهُ اللَّهُ عَلَيْهِ مِنَ المَحامِدِ مُنْذُ نَشْأتِهِ.
وعَطْفُ (﴿ووَضَعْنا﴾)، (ورَفَعْنا) بِصِيغَةِ المُضِيِّ عَلى فِعْلِ (﴿نَشْرَحْ﴾) بِصِيغَةِ المُضارِعِ؛ لِأنَّ (لَمْ) قَلَبَتْ زَمَنَ الحالِ إلى المُضِيِّ فَعُطِفَ عَلَيْهِ الفِعْلانِ بِصِيغَةِ المُضِيِّ لِأنَّهُما داخِلانِ في حَيِّزِ التَّقْرِيرِ فَلَمّا لَمْ يَقْتَرِنْ بِهِما حَرْفُ (لَمْ) صُيِّرَ بِهِما إلى ما تُفِيدُهُ (لَمْ) مِن مَعْنى المُضِيِّ.
والآيَةُ تُشِيرُ إلى أحْوالٍ كانَ النَّبِيءُ ﷺ في حَرَجٍ مِنها أوْ مِن شَأْنِهِ أنْ يَكُونَ في حَرَجٍ، وأنَّ اللَّهَ كَشَفَ عَنْهُ ما بِهِ مِن حَرَجٍ مِنها أوْ هَيَّأ نَفْسَهُ لِعَدَمِ النَّوْءِ بِها.
وكانَ النَّبِيءُ ﷺ يَعْلَمُها كَما أشْعَرَ بِهِ إجْمالُها في الِاسْتِفْهامِ التَّقْرِيرِيِّ المُقْتَضِي عِلْمَ المُقَرَّرِ بِما قُرِّرَ عَلَيْهِ، ولَعَلَّ تَفْصِيلَها فِيما سَبَقَ في سُورَةِ الضُّحى فَلَعَلَّها كانَتْ مِن أحْوالِ كَراهِيَتِهِ ما عَلَيْهِ أهْلُ الجاهِلِيَّةِ مِن نَبْذِ تَوْحِيدِ اللَّهِ ومِن مَساوِي الأعْمالِ.
وكانَ في حَرَجٍ مِن كَوْنِهِ بَيْنَهم ولا يَسْتَطِيعُ صَرْفَهم عَمّا هم فِيهِ، ولَمْ يَكُنْ يَتَرَقَّبُ طَرِيقًا لِأنْ يَهْدِيَهم أوْ لَمْ يَصِلْ إلى مَعْرِفَةِ كُنْهِ الحَقِّ الَّذِي يَجِبُ أنْ يَكُونَ قَوْمُهُ عَلَيْهِ ولَمْ يَطْمَعْ إلّا في خُوَيْصَّةِ نَفْسِهِ، يَوَدُّ أنْ يَجِدَ لِنَفْسِهِ قَبَسَ نُورٍ يُضِيءُ لَهُ سَبِيلَ الحَقِّ مِمّا كانَ باعِثًا لَهُ عَلى التَّفَكُّرِ والخَلْوَةِ والِالتِجاءِ إلى اللَّهِ، فَكانَ يَتَحَنَّثُ في غارِ حِراءٍ، فَلَمّا انْتَشَلَهُ اللَّهُ مِن تِلْكَ الوَحْلَةِ بِما أكْرَمَهُ بِهِ مِنَ الوَحْيِ، كانَ ذَلِكَ شَرْحًا مِمّا كانَ يَضِيقُ بِهِ صَدْرُهُ يَوْمَئِذٍ، فانْجَلى لَهُ النُّورُ وأُمِرَ بِإنْقاذِ قَوْمِهِ، وقَدْ يَظُنُّهم طُلّابَ حَقٍّ وأزْكِياءَ نُفُوسٍ، فَلَمّا قابَلُوا إرْشادَهُ بِالإعْراضِ ومُلاطَفَتَهُ لَهم بِالِامْتِعاضِ، حَدَثَ في صَدْرِهِ ضِيقٌ آخَرُ أشارَ إلى مَثَلِهِ قَوْلُهُ تَعالى: (﴿لَعَلَّكَ باخِعٌ نَفْسَكَ ألّا يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ﴾ [الشعراء: ٣]) وذَلِكَ الَّذِي لَمْ يَزَلْ يَنْزِلُ عَلَيْهِ في شَأْنِهِ رَبْطُ جَأْشِهِ بِنَحْوِ قَوْلِهِ تَعالى: (﴿لَيْسَ عَلَيْكَ هُداهم ولَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَن يَشاءُ﴾ [البقرة: ٢٧٢]) فَكُلَّما نَزَلَ (p-٤١٢)عَلَيْهِ وحْيٌ مِن هَذا أكْسَبَهُ شَرْحًا لِصَدْرِهِ، وكانَ لِحِمايَةِ أبِي طالِبٍ إيّاهُ وصَدِّهِ قُرَيْشًا عَنْ أذاهُ مُنَفَّسٌ عَلَيْهِ، وأقْوى مُؤَيِّدٍ لَهُ لِدَعْوَتِهِ يَنْشَرِحُ لَهُ صَدْرُهُ. وكُلَّما آمَنَ أحَدٌ مِنَ النّاسِ تَزَحْزَحَ بَعْضُ الضِّيقِ عَنْ صَدْرِهِ، وكانَتْ شِدَّةُ قُرَيْشٍ عَلى المُؤْمِنِينَ يَضِيقُ لَها صَدْرُهُ، فَكُلَّما خَلَصَ بَعْضُ المُؤْمِنِينَ مِن أذى قُرَيْشٍ بِنَحْوِ عِتْقِ الصِّدِّيقِ بِلالًا وغَيْرَهُ، وبِما بَشَّرَهُ اللَّهُ مِن عاقِبَةِ النَّصْرِ لَهُ ولِلْمُؤْمِنِينَ تَصْرِيحًا وتَعْرِيضًا نَحْوَ قَوْلِهِ في السُّورَةِ قَبْلَها: (﴿ولَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضى﴾ [الضحى: ٥]) فَذَلِكَ مِنَ الشَّرْحِ المُرادِ هُنا. وجُمّاعُ القَوْلِ في ذَلِكَ أنَّ تَجَلِّياتِ هَذا الشَّرْحِ عَدِيدَةٌ وأنَّها سِرٌّ بَيْنَ اللَّهِ تَعالى وبَيْنَ رَسُولِهِ ﷺ المُخاطَبِ بِهَذِهِ الآيَةِ.
وأمّا وضْعُ الوِزْرِ عَنْهُ فَحاصِلٌ بِأمْرَيْنِ: بِهِدايَتِهِ إلى الحَقِّ الَّتِي أزالَتْ حَيْرَتَهُ بِالتَّفَكُّرِ في حالِ قَوْمِهِ، وهو ما أشارَ إلَيْهِ قَوْلُهُ تَعالى: (﴿ووَجَدَكَ ضالًّا فَهَدى﴾ [الضحى: ٧])، وبِكِفايَتِهِ مُؤْنَةَ كُلَفِ عَيْشِهِ الَّتِي قَدْ تَشْغَلُهُ عَمّا هو فِيهِ مِنَ الأُنْسِ بِالفِكْرَةِ في صَلاحِ نَفْسِهِ، وهو ما أشارَ إلَيْهِ قَوْلُهُ: (﴿ووَجَدَكَ عائِلًا فَأغْنى﴾ [الضحى: ٨]) .
ورَفْعُ الذِّكْرِ مَجازٌ في إلْهامِ النّاسِ لِأنْ يَذْكُرُوهُ بِخَيْرٍ، وذَلِكَ بِإيجادِ أسْبابِ تِلْكَ السُّمْعَةِ حَتّى يَتَحَدَّثَ بِها النّاسُ، اسْتُعِيرَ الرَّفْعُ لِحُسْنِ الذِّكْرِ؛ لِأنَّ الرَّفْعَ جَعْلُ الشَّيْءِ عالِيًا لا تَنالُهُ جَمِيعُ الأيْدِي ولا تَدُوسُهُ الأرْجُلُ، فَقَدْ فَطَرَ اللَّهُ رَسُولَهُ ﷺ عَلى مَكارِمَ يَعِزُّ وُجُودُ نَوْعِها ولَمْ يَبْلُغْ أحَدٌ شَأْوَ ما بَلَغَهُ مِنها حَتّى لُقِّبَ في قَوْمِهِ بِالأمِينِ. وقَدْ قِيلَ إنَّ قَوْلَهُ تَعالى: (﴿إنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ﴾ [التكوير: ١٩] ﴿ذِي قُوَّةٍ عِنْدَ ذِي العَرْشِ مَكِينٍ﴾ [التكوير: ٢٠] ﴿مُطاعٍ ثَمَّ أمِينٍ﴾ [التكوير: ٢١]) مُرادٌ بِهِ النَّبِيءُ ﷺ .
ومِن عَظِيمِ رَفْعِ ذِكْرِهِ أنَّ اسْمَهُ مُقْتَرِنٌ بِاسْمِ اللَّهِ تَعالى في كَلِمَةِ الإسْلامِ وهي كَلِمَةُ الشَّهادَةِ.
ورُوِيَ هَذا التَّفْسِيرُ عَنِ النَّبِيءِ ﷺ في حَدِيثِ أبِي سَعِيدٍ الخُدْرِيِّ عِنْدَ ابْنِ حِبّانَ وأبِي يَعْلى، قالَ السُّيُوطِيُّ: وإسْنادُهُ حَسَنٌ، وأخْرَجَهُ عِياضٌ في الشِّفا بِدُونِ سَنَدٍ. والقَوْلُ في ذِكْرِ كَلِمَةِ (لَكَ) مَعَ (ورَفَعْنا) كالقَوْلِ في ذِكْرِ نَظِيرِها مَعَ قَوْلِهِ: (﴿ألَمْ نَشْرَحْ﴾) .
وإنَّما لَمْ يُذْكَرْ مَعَ (﴿ووَضَعْنا عَنْكَ وِزْرَكَ﴾) لِلِاسْتِغْناءِ بِقَوْلِهِ: (عَنْكَ) فَإنَّهُ في إفادَةِ الإبْهامِ ثُمَّ التَّفْصِيلِ مُساوٍ لِكَلِمَةِ (لَكَ) (p-٤١٣)وهِيَ في إفادَةِ العِنايَةِ بِهِ تُساوِي كَلِمَةَ (لَكَ)؛ لِأنَّ فِعْلَ الوَضْعِ المُعَدّى إلى الوِزْرِ يَدُلُّ عَلى أنَّ الوَضْعَ عَنْهُ فَكانَتْ زِيادَةُ (عَنْكَ) إطْنابًا يُشِيرُ إلى أنَّ ذَلِكَ عِنايَةٌ بِهِ نَظِيرَ قَوْلِهِ (لَكَ) الَّذِي قَبْلَهُ، فَحَصَلَ بِذِكْرِ (عَنْكَ) إيفاءٌ إلى تَعْدِيَةِ فِعْلِ (وضَعْنا) مَعَ الإيفاءِ بِحَقِّ الإبْهامِ ثُمَّ البَيانِ.
{"ayahs_start":1,"ayahs":["أَلَمۡ نَشۡرَحۡ لَكَ صَدۡرَكَ","وَوَضَعۡنَا عَنكَ وِزۡرَكَ","ٱلَّذِیۤ أَنقَضَ ظَهۡرَكَ","وَرَفَعۡنَا لَكَ ذِكۡرَكَ"],"ayah":"أَلَمۡ نَشۡرَحۡ لَكَ صَدۡرَكَ"}
- أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.
أمّهات
جامع البيان
تفسير الطبري
نحو ٢٨ مجلدًا
تفسير القرآن العظيم
تفسير ابن كثير
نحو ١٩ مجلدًا
الجامع لأحكام القرآن
تفسير القرطبي
نحو ٢٤ مجلدًا
معالم التنزيل
تفسير البغوي
نحو ١١ مجلدًا
جمع الأقوال
منتقاة
عامّة
عامّة
فتح البيان
فتح البيان للقنوجي
نحو ١٢ مجلدًا
فتح القدير
فتح القدير للشوكاني
نحو ١١ مجلدًا
التسهيل لعلوم التنزيل
تفسير ابن جزي
نحو ٣ مجلدات
موسوعات
أخرى
لغة وبلاغة
معاصرة
الميسر
نحو مجلد
المختصر
المختصر في التفسير
نحو مجلد
تيسير الكريم الرحمن
تفسير السعدي
نحو ٤ مجلدات
أيسر التفاسير
نحو ٣ مجلدات
القرآن – تدبّر وعمل
القرآن – تدبر وعمل
نحو ٣ مجلدات
تفسير القرآن الكريم
تفسير ابن عثيمين
نحو ١٥ مجلدًا
مركَّزة العبارة
تفسير الجلالين
نحو مجلد
جامع البيان
جامع البيان للإيجي
نحو ٣ مجلدات
أنوار التنزيل
تفسير البيضاوي
نحو ٣ مجلدات
مدارك التنزيل
تفسير النسفي
نحو ٣ مجلدات
الوجيز
الوجيز للواحدي
نحو مجلد
تفسير القرآن العزيز
تفسير ابن أبي زمنين
نحو مجلدين
آثار
غريب ومعاني
السراج في بيان غريب القرآن
غريب القرآن للخضيري
نحو مجلد
الميسر في غريب القرآن الكريم
الميسر في الغريب
نحو مجلد
تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن قتيبة
نحو مجلد
التبيان في تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن الهائم
نحو مجلد
معاني القرآن وإعرابه
معاني الزجاج
نحو ٤ مجلدات
معاني القرآن
معاني القرآن للنحاس
نحو مجلدين
معاني القرآن
معاني القرآن للفراء
نحو مجلدين
مجاز القرآن
مجاز القرآن لمعمر بن المثنى
نحو مجلد
معاني القرآن
معاني القرآن للأخفش
نحو مجلد
أسباب النزول
إعراب ولغة
الإعراب الميسر
نحو ٣ مجلدات
إعراب القرآن
إعراب القرآن للدعاس
نحو ٤ مجلدات
الجدول في إعراب القرآن وصرفه وبيانه
الجدول في إعراب القرآن
نحو ٨ مجلدات
الدر المصون
الدر المصون للسمين الحلبي
نحو ١٠ مجلدات
اللباب
اللباب في علوم الكتاب
نحو ٢٤ مجلدًا
إعراب القرآن وبيانه
إعراب القرآن للدرويش
نحو ٩ مجلدات
المجتبى من مشكل إعراب القرآن
مجتبى مشكل إعراب القرآن
نحو مجلد
إعراب القرآن
إعراب القرآن للنحاس
نحو ٣ مجلدات
تحليل كلمات القرآن
نحو ٩ مجلدات
الإعراب المرسوم
نحو ٣ مجلدات
المجمّع
بالرسم الجديد
بالرسم القديم
حفص عن عاصم
شُعْبة عن عاصم
قالون عن نافع
ورش عن نافع
البَزِّي عن ابن كثير
قُنبُل عن ابن كثير
الدُّوري عن أبي عمرو
السُّوسِي عن أبي عمرو
نستعليق