﴿إنَّ هَذا لَفي الصُّحُفِ الأُولى﴾ ﴿صُحُفِ إبْراهِيمَ ومُوسى﴾ .
تَذْيِيلٌ لِلْكَلامِ وتَنْوِيهٌ بِهِ بِأنَّهُ مِنَ الكَلامِ النّافِعِ الثّابِتِ في كُتُبِ إبْراهِيمَ ومُوسى عَلَيْهِما السَّلامُ، قَصَدَ بِهِ الإبْلاغَ لِلْمُشْرِكِينَ الَّذِينَ كانُوا يَعْرِفُونَ رِسالَةَ إبْراهِيمَ ورِسالَةَ مُوسى، ولِذَلِكَ أكَّدَ هَذا الخَبَرَ بِـ إنَّ ولامِ الِابْتِداءِ لِأنَّهُ مَسُوقٌ إلى المُنْكِرِينَ.
(p-٢٩١)والإشارَةُ بِكَلِمَةِ هَذا إلى مَجْمُوعِ قَوْلِهِ: ﴿قَدْ أفْلَحَ مَن تَزَكّى﴾ [الأعلى: ١٤] إلى قَوْلِهِ: وأبْقى فَإنَّ ما قَبْلَ ذَلِكَ مِن أوَّلِ السُّورَةِ إلى قَوْلِهِ: ﴿قَدْ أفْلَحَ مَن تَزَكّى﴾ [الأعلى: ١٤] لَيْسَ مِمّا ثَبَتَ مَعْناهُ في صُحُفِ إبْراهِيمَ ومُوسى عَلَيْهِما السَّلامُ.
رَوى ابْنُ مَرْدَوَيْهِ والآجُرِّيُّ عَنْ أبِي ذَرٍّ قالَ: قُلْتُ يا رَسُولَ اللَّهِ، هَلْ أُنْزِلَ عَلَيْكَ شَيْءٌ مِمّا كانَ في صُحُفِ إبْراهِيمَ ومُوسى ؟ قالَ: نَعَمْ ﴿قَدْ أفْلَحَ مَن تَزَكّى﴾ [الأعلى: ١٤] ﴿وذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلّى﴾ [الأعلى: ١٥] ﴿بَلْ تُؤْثِرُونَ الحَياةَ الدُّنْيا﴾ [الأعلى: ١٦] ﴿والآخِرَةُ خَيْرٌ وأبْقى﴾ [الأعلى: ١٧] لَمْ أقِفْ عَلى مَرْتَبَةِ هَذا الحَدِيثِ.
ومَعْنى الظَّرْفِيَّةِ في قَوْلِهِ: ﴿لَفِي الصُّحُفِ﴾ أنَّ مُماثِلَهُ في المَعْنى مَكْتُوبٌ في الصُّحُفِ الأُولى، فَأُطْلِقَتِ الصُّحُفُ عَلى ما هو مَكْتُوبٌ فِيها عَلى وجْهِ المَجازِ المُرْسَلِ كَما في قَوْلِهِ تَعالى: ﴿وقالُوا رَبَّنا عَجِّلْ لَنا قِطَّنا﴾ [ص: ١٦] أيْ: ما في قِطِّنا وهو صَكُّ الأعْمالِ.
والصُّحُفُ: جَمْعُ صَحِيفَةٍ عَلى غَيْرِ قِياسٍ؛ لِأنَّ قِياسَ جَمْعِهِ صَحائِفُ، ولَكِنَّهُ مَعَ كَوْنِهِ غَيْرَ مَقِيسٍ هو الأفْصَحُ كَما قالُوا: سُفُنٌ في جَمْعِ سَفِينَةٍ، ووَجْهُ جَمْعِ الصُّحُفِ أنَّ إبْراهِيمَ كانَ لَهُ صُحُفٌ وأنَّ مُوسى كانَتْ لَهُ صُحُفٌ كَثِيرَةٌ وهي مَجْمُوعُ صُحُفِ أسْفارِ التَّوْراةِ.
وجاءَ نَظْمُ الكَلامِ عَلى أُسْلُوبِ الإجْمالِ والتَّفْصِيلِ لِيَكُونَ هَذا الخَبَرُ مَزِيدَ تَقْرِيرٍ في أذْهانِ النّاسِ فَقَوْلُهُ: ﴿صُحُفِ إبْراهِيمَ ومُوسى﴾ بَدَلٌ مِنَ ﴿الصُّحُفِ الأُولى﴾ .
والأُولى: وصْفٌ لِصُحُفٍ الَّذِي هو جَمْعُ تَكْسِيرٍ فَلَهُ حُكْمُ التَّأْنِيثِ، والأُولى صِيغَةُ تَفْضِيلٍ، واخْتُلِفَ في الحُرُوفِ الأصْلِيَّةِ لِلَّفْظِ أوَّلٍ، فَقِيلَ: حُرُوفُهُ الأُصُولُ هَمْزَةٌ فَواوٌ (مُكَرَّرَةٌ) فَلامٌ ذَكَرَهُ في اللِّسانِ فَيَكُونُ وزْنُ أوَّلٍ: أأْوَلُ، فَقُلِبَتِ الهَمْزَةُ الثّانِيَةُ واوًا وأُدْغِمَتْ في الواوِ. وقِيلَ: أُصُولُهُ: واوانِ ولامٌ وأنَّ الهَمْزَةَ الَّتِي في أوَّلِهِ مَزِيدَةٌ فَوَزْنُ أوَّلَ: أفْعَلُ وإدْغامُ إحْدى الواوَيْنِ ظاهِرٌ.
وقِيلَ: حُرُوفُهُ الأصْلِيَّةُ واوٌ وهَمْزَةٌ ولامٌ فَأصْلُ أوَّلَ أوْ ألْ بِوَزْنِ أفْعَلَ قُلِبَتِ الهَمْزَةُ الَّتِي بَعْدَ الواوِ واوًا وأُدْغِما.
والأُولى: مُؤَنَّثُ أفْعَلَ مِن هَذِهِ المادَّةِ، فَإمّا أنْ نَقُولَ: أصْلُها أُولى (p-٢٩٢)سَكَنَتِ الواوُ سُكُونًا مَيِّتًا لِوُقُوعِها إثْرَ ضَمَّةٍ، أوْ أصْلُها: وُولى بِواوٍ مَضْمُومَةٍ في أوَّلِهِ وسَكَنَتِ الواوُ الثّانِيَةُ أيْضًا، أوْ أصْلُها: وُأْلى بِواوٍ مَضْمُومَةٍ ثُمَّ هَمْزَةٍ ساكِنَةٍ فَوَقَعَ فِيهِ قَلْبٌ، فَقِيلَ: أُولى فَوَزْنُها عَلى هَذا عُفْلى.
والمُرادُ بِالأوَّلِيَّةِ في وصْفِ الصُّحُفِ سَبْقُ الزَّمانِ بِالنِّسْبَةِ إلى القُرْآنِ لا الَّتِي لَمْ يَسْبِقْها غَيْرُها؛ لِأنَّهُ قَدْ رُوِيَ أنَّ بَعْضَ الرُّسُلِ قَبْلَ إبْراهِيمَ أُنْزِلَتْ عَلَيْهِمْ صُحُفٌ. فَهو كَوَصْفِ عادٍ بِـ الأُولى في قَوْلِهِ: ﴿وأنَّهُ أهْلَكَ عادًا الأُولى﴾ [النجم: ٥٠] وقَوْلِهِ تَعالى: ﴿هَذا نَذِيرٌ مِنَ النُّذُرِ الأُولى﴾ [النجم: ٥٦] وفي حَدِيثِ البُخارِيِّ: «إنَّ مِمّا أدْرَكَ النّاسُ مِن كَلامِ النُّبُوَّةِ الأُولى إذا لَمْ تَسْتَحِ فاصْنَعْ ما شِئْتَ» .
وأخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وابْنُ مَرْدَوَيْهِ وابْنُ عَساكِرَ وأبُو بَكْرٍ الآجُرِّيُّ عَنْ أبِي ذَرٍّ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ «أنَّ صُحُفَ إبْراهِيمَ كانَتْ عَشْرَ صَحائِفَ» .
* * *
(p-٢٩٣)بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
سُورَةُ الغاشِيَةِ
سُمِّيَتْ في المَصاحِفِ والتَّفاسِيرِ (سُورَةُ الغاشِيَةِ) . وكَذَلِكَ عَنْوَنَها التِّرْمِذِيُّ في كِتابِ التَّفْسِيرِ مِن جامِعِهِ، لِوُقُوعِ لَفْظِ (الغاشِيَةِ) في أوَّلِها.
وثَبَتَ في السُّنَّةِ تَسْمِيَتُها (﴿هَلْ أتاكَ حَدِيثُ الغاشِيَةِ﴾ [الغاشية: ١])، فَفي المُوَطَّأِ «أنَّ الضَّحّاكَ بْنَ قَيْسٍ سَألَ النُّعْمانَ بْنَ بَشِيرٍ: بِمَ كانَ رَسُولُ اللَّهِ يَقْرَأُ في الجُمُعَةِ مَعَ سُورَةِ الجُمُعَةِ ؟ قالَ: ﴿هَلْ أتاكَ حَدِيثُ الغاشِيَةِ﴾ [الغاشية»: ١] . وهَذا ظاهِرٌ في التَّسْمِيَةِ؛ لِأنَّ السّائِلَ سَألَ عَمّا يَقْرَأُ مَعَ سُورَةِ الجُمُعَةِ، فالمَسْئُولُ عَنْهُ السُّورَةُ الثّانِيَةُ، وبِذَلِكَ عَنْوَنَها البُخارِيُّ في كِتابِ التَّفْسِيرِ مِن صَحِيحِهِ.
ورُبَّما سُمِّيَتْ (سُورَةُ هَلْ أتاكَ) بِدُونِ كَلِمَةِ (حَدِيثُ الغاشِيَةِ) . وبِذَلِكَ عَنْوَنَها ابْنُ عَطِيَّةَ في تَفْسِيرِهِ وهو اخْتِصارٌ.
وهِيَ مَكِّيَّةٌ بِالِاتِّفاقِ.
وهِيَ مَعْدُودَةٌ السّابِعَةَ والسِتِّينَ في عِدادِ نُزُولِ السُّوَرِ نَزَلَتْ بَعْدَ سُورَةِ الذّارِياتِ وقَبْلَ سُورَةِ الكَهْفِ.
وآياتُها سِتٌّ وعِشْرُونَ.
* * *
اشْتَمَلَتْ هَذِهِ السُّورَةُ عَلى تَهْوِيلِ يَوْمِ القِيامَةِ وما فِيهِ مِن عِقابِ قَوْمٍ مُشَوَّهَةٍ حالَتُهم، ومِن ثَوابِ قَوْمٍ ناعِمَةٍ حالَتُهم وعَلى وجْهِ الإجْمالِ المُرَهَّبِ أوِ المُرَغَّبِ.
والإيماءُ إلى ما يُبَيِّنُ ذَلِكَ الإجْمالَ كُلَّهُ بِالإنْكارِ عَلى قَوْمٍ لَمْ يَهْتَدُوا بِدَلالَةِ (p-٢٩٤)مَخْلُوقاتٍ مِن خَلْقِ اللَّهِ وهي نُصْبُ أعْيُنِهِمْ، عَلى تَفَرُّدِهِ بِالإلَهِيَّةِ، فَيَعْلَمُ السّامِعُونَ أنَّ الفَرِيقَ المُهَدَّدَ هُمُ المُشْرِكُونَ.
وعَلى إمْكانِ إعادَتِهِ بَعْضَ مَخْلُوقاتِهِ خَلْقًا جَدِيدًا بَعْدَ المَوْتِ يَوْمَ البَعْثِ.
وتَثْبِيتِ النَّبِيءِ ﷺ عَلى الدَّعْوَةِ إلى الإسْلامِ وأنْ لا يَعْبَأ بِإعْراضِهِمْ.
وأنَّ وراءَهُمُ البَعْثَ فَهم راجِعُونَ إلى اللَّهِ فَهو مُجازِيهِمْ عَلى كُفْرِهِمْ وإعْراضِهِمْ.
{"ayahs_start":18,"ayahs":["إِنَّ هَـٰذَا لَفِی ٱلصُّحُفِ ٱلۡأُولَىٰ","صُحُفِ إِبۡرَ ٰهِیمَ وَمُوسَىٰ"],"ayah":"إِنَّ هَـٰذَا لَفِی ٱلصُّحُفِ ٱلۡأُولَىٰ"}