الباحث القرآني
﴿وإنَّ عَلَيْكم لَحافِظِينَ﴾ ﴿كِرامًا كاتِبِينَ﴾ ﴿يَعْلَمُونَ ما تَفْعَلُونَ﴾
عُطِفَ عَلى جُمْلَةِ ﴿تُكَذِّبُونَ بِالدِّينِ﴾ [الإنفطار: ٩] تَأْكِيدًا لِثُبُوتِ الجَزاءِ عَلى الأعْمالِ.
وأُكِّدَ الكَلامُ بِحَرْفِ إنَّ ولامِ الِابْتِداءِ لِأنَّهم يُنْكِرُونَ ذَلِكَ إنْكارًا قَوِيًّا.
و﴿لَحافِظِينَ﴾ صِفَةٌ لِمَحْذُوفٍ تَقْدِيرُهُ: لَمَلائِكَةٌ حافِظِينَ، أيْ: مُحْصِينَ غَيْرَ مُضَيِّعِينَ لِشَيْءٍ مِن أعْمالِكم.
وجُمِعَ المَلائِكَةُ بِاعْتِبارِ التَّوْزِيعِ عَلى النّاسِ، وإنَّما لِكُلِّ أحَدٍ مَلَكانِ، قالَ تَعالى: ﴿إذْ يَتَلَقّى المُتَلَقِّيانِ عَنِ اليَمِينِ وعَنِ الشِّمالِ قَعِيدٌ ما يَلْفِظُ مِن قَوْلٍ إلّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ﴾ [ق: ١٧]، وقَدْ رُوِيَ عَنِ النَّبِيءِ ﷺ أنَّ لِكُلِّ أحَدٍ مَلَكَيْنِ يَحْفَظانِ أعْمالَهُ، وهَذا بِصَرِيحِ مَعْناهُ يُفِيدُ أيْضًا كِفايَةً عَنْ وُقُوعِ الجَزاءِ، إذْ لَوْلا الجَزاءُ عَلى الأعْمالِ لَكانَ الِاعْتِناءُ بِإحْصائِها عَبَثًا.
وأُجْرِيَ عَلى المَلائِكَةِ المُوَكَّلِينَ بِإحْصاءِ أعْمالِهِمْ أرْبَعَةُ أوْصافٍ هي: الحِفْظُ، والكَرَمُ، والكِتابَةُ، والعِلْمُ بِما يَعْمَلُهُ النّاسُ.
وابْتُدِئَ مِنها بِوَصْفِ الحِفْظِ؛ لِأنَّهُ الغَرَضُ الَّذِي سَبَقَ لِأجْلِهِ الكَلامُ الَّذِي هو إثْباتُ الجَزاءِ عَلى جَمِيعِ الأعْمالِ، ثُمَّ ذُكِرَتْ بَعْدَهُ صِفاتٌ ثَلاثٌ بِها كَمالُ الحِفْظِ والإحْصاءِ، وفِيها تَنْوِيهٌ بِشَأْنِ المَلائِكَةِ الحافِظِينَ.
(p-١٨٠)فَأمّا الحِفْظُ: فَهو هُنا بِمَعْنى الرِّعايَةِ والمُراقَبَةِ، وهو بِهَذا المَعْنى يَتَعَدّى إلى المَعْمُولِ بِحَرْفِ الجَرِّ، وهو (عَلى) لِتَضَمُّنِهُ مَعْنى المُراقَبَةِ. والحَفِيظُ: الرَّقِيبُ، قالَ تَعالى: ﴿اللَّهُ حَفِيظٌ عَلَيْهِمْ﴾ [الشورى: ٦] .
وهَذا الِاسْتِعْمالُ هو غَيْرُ اسْتِعْمالِ الحِفْظِ المُعَدّى إلى المَفْعُولِ بِنَفْسِهِ فَإنَّهُ بِمَعْنى الحِراسَةِ نَحْوَ قَوْلِهِ ﴿يَحْفَظُونَهُ مِن أمْرِ اللَّهِ﴾ [الرعد: ١١] . فالحِفْظُ بِهَذا الإطْلاقِ جَمَعَ مَعْنى الرِّعايَةِ والقِيامِ عَلى ما يَكُونُ إلى الحَفِيظِ، والأمانَةِ عَلى ما يُوكَلُ إلَيْهِ.
وحَرْفُ عَلى فِيهِ لِلِاسْتِعْلاءِ لِتَضَمُّنِهُ مَعْنى الرِّقابَةِ والسُّلْطَةِ.
وأمّا وصْفُ الكَرَمِ فَهو النَّفاسَةُ في النَّوْعِ كَما تَقَدَّمَ في قَوْلِهِ تَعالى: ﴿قالَتْ يا أيُّها المَلَأُ إنِّي أُلْقِيَ إلَيَّ كِتابٌ كَرِيمٌ﴾ [النمل: ٢٩] في سُورَةِ النَّمْلِ.
فالكَرَمُ صِفَتُهُمُ النَّفْسِيَّةُ الجامِعَةُ لِلْكَمالِ في المُعامَلَةِ وما يَصْدُرُ عَنْهم مِنَ الأعْمالِ، وأمّا صِفَةُ الكِتابَةِ فَمُرادٌ بِها ضَبْطُ ما وُكِّلُوا عَلى حِفْظِهِ ضَبْطًا لا يَتَعَرَّضُ لِلنِّسْيانِ ولا لِلْإجْحافِ ولا لِلزِّيادَةِ، فالكِتابَةُ مُسْتَعارَةٌ لِهَذا المَعْنى، عَلى أنَّ حَقِيقَةَ الكِتابَةِ بِمَعْنى الخَطِّ غَيْرُ مُمْكِنَةٍ بِكَيْفِيَّةٍ مُناسِبَةٍ لِأُمُورِ الغَيْبِ.
وأمّا صِفَةُ العِلْمِ بِما يَفْعَلُهُ النّاسُ فَهو الإحاطَةُ بِما يَصْدُرُ عَنِ النّاسِ مِن أعْمالٍ وما يَخْطُرُ بِبالِهِمْ مِن تَفْكِيرٍ مِمّا يُرادُ بِهِ عَمَلُ خَيْرٍ أوْ شَرٍّ وهو الهَمُّ.
وما تَفْعَلُونَ يَعُمُّ كُلَّ شَيْءٍ يَفْعَلُهُ النّاسُ وطَرِيقُ عِلْمِ المَلائِكَةِ بِأعْمالِ النّاسِ مِمّا فَطَرَ اللَّهُ عَلَيْهِ المَلائِكَةَ المُوَكَّلِينَ بِذَلِكَ.
ودَخَلَ في ما تَفْعَلُونَ الخَواطِرُ القَلْبِيَّةُ؛ لِأنَّها مِن عَمَلِ القَلْبِ أيِ: العَقْلُ فَإنَّ الإنْسانَ يُعْمِلُ عَقْلَهُ ويَعْزِمُ ويَتَرَدَّدُ، وإنْ لَمْ يَشِعْ في عُرْفِ اللُّغَةِ إطْلاقُ مادَّةِ الفِعْلِ عَلى الأعْمالِ القَلْبِيَّةِ.
واعْلَمْ أنَّهُ يُنْتَزَعُ مِن هَذِهِ الآيَةِ أنَّ هَذِهِ الصِّفاتِ الأرْبَعَ هي عِمادُ الصِّفاتِ المَشْرُوطَةِ في كُلِّ مَن يَقُومُ بِعَمَلٍ لِلْأُمَّةِ في الإسْلامِ مِنَ الوُلاةِ وغَيْرِهِمْ، فَإنَّهم حافِظُونَ لِمَصالِحِ ما اسْتُحْفِظُوا عِلْيَهِ، وأوَّلُ الحِفْظِ الأمانَةُ وعَدَمُ التَّفْرِيطِ، فَلا بُدَّ فِيهِمْ مِنَ الكَرَمِ وهو زَكاةُ الفِطْرَةِ، أيْ: طَهارَةُ النَّفْسِ.
(p-١٨١)ومِنَ الضَّبْطِ فِيما يَجْرِي عَلى يَدَيْهِ بِحَيْثُ لا تَضِيعُ المَصالِحُ العامَّةُ ولا الخاصَّةُ بِأنْ يَكُونَ ما يُصْدِرُهُ مَكْتُوبًا، أوْ كالمَكْتُوبِ مَضْبُوطًا لا يُسْتَطاعُ تَغْيِيرُهُ، ويُمْكِنُ لِكُلِّ مَن يَقُومُ بِذَلِكَ العَمَلِ بَعْدَ القائِمِ بِهِ، أوْ في مَغِيبِهِ أنْ يُعْرَفَ ماذا أُجْرِي فِيهِ مِنَ الإعْمالِ، وهَذا أصْلٌ عَظِيمٌ في وضْعِ المَلَفّاتِ لِلنَّوازِلِ والتَّراتِيبِ، ومِنهُ نَشَأتْ دَواوِينُ القُضاةِ، ودَفاتِرُ الشُّهُودِ، والخِطابُ عَلى الرُّسُومِ، وإخْراجُ نُسَخِ الأحْكامِ والأحْباسِ وعُقُودِ النِّكاحِ.
ومِن إحاطَةِ العِلْمِ بِما يَتَعَلَّقُ بِالأحْوالِ الَّتِي تُسْنَدُ إلى المُؤْتَمَنِ عَلَيْها بِحَيْثُ لا يَسْتَطِيعُ أحَدٌ مِنَ المُغالِطِينَ أنْ يُمَوِّهَ عَلَيْهِ شَيْئًا، أوْ أنْ يَلْبِسَ عَلَيْهِ حَقِيقَةً بِحَيْثُ يَنْتَفِي عَنْهُ الغَلَطُ، والخَطَأُ في تَمْيِيزِ الأُمُورِ بِأقْصى ما يُمْكِنُ، ويَخْتَلِفُ العِلْمُ المَطْلُوبُ بِاخْتِلافِ الأعْمالِ فَيُقَدَّمُ في كُلِّ وِلايَةٍ مَن هو أعْلَمُ بِما تَقْتَضِيهِ وِلايَتُهُ مِنَ الأعْمالِ وما تَتَوَقَّفُ عَلَيْهِ مِنَ المَواهِبِ والدِّرايَةِ، فَلَيْسَ ما يُشْتَرَطُ في القاضِي يُشْتَرَطُ في أمِيرِ الجَيْشِ مَثَلًا، وبِمِقْدارِ التَّفاوُتِ في الخِصالِ الَّتِي تَقْتَضِيها إحْدى الوَلاياتِ يَكُونُ تَرْجِيحُ مَن تُسْنَدُ إلَيْهِ الوَلايَةُ عَلى غَيْرِهِ حِرْصًا عَلى حِفْظِ مَصالِحِ الأُمَّةِ، فَيُقَدَّمُ في كُلِّ وِلايَةٍ مَن هو أقْوى كَفاءَةً لِإتْقانِ أعْمالِها وأشَدُّ اضْطِلاعًا بِمُمارَسَتِها.
{"ayahs_start":10,"ayahs":["وَإِنَّ عَلَیۡكُمۡ لَحَـٰفِظِینَ","كِرَامࣰا كَـٰتِبِینَ","یَعۡلَمُونَ مَا تَفۡعَلُونَ"],"ayah":"وَإِنَّ عَلَیۡكُمۡ لَحَـٰفِظِینَ"}
- أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.
أمّهات
جامع البيان
تفسير الطبري
نحو ٢٨ مجلدًا
تفسير القرآن العظيم
تفسير ابن كثير
نحو ١٩ مجلدًا
الجامع لأحكام القرآن
تفسير القرطبي
نحو ٢٤ مجلدًا
معالم التنزيل
تفسير البغوي
نحو ١١ مجلدًا
جمع الأقوال
منتقاة
عامّة
عامّة
فتح البيان
فتح البيان للقنوجي
نحو ١٢ مجلدًا
فتح القدير
فتح القدير للشوكاني
نحو ١١ مجلدًا
التسهيل لعلوم التنزيل
تفسير ابن جزي
نحو ٣ مجلدات
موسوعات
أخرى
لغة وبلاغة
معاصرة
الميسر
نحو مجلد
المختصر
المختصر في التفسير
نحو مجلد
تيسير الكريم الرحمن
تفسير السعدي
نحو ٤ مجلدات
أيسر التفاسير
نحو ٣ مجلدات
القرآن – تدبّر وعمل
القرآن – تدبر وعمل
نحو ٣ مجلدات
تفسير القرآن الكريم
تفسير ابن عثيمين
نحو ١٥ مجلدًا
مركَّزة العبارة
تفسير الجلالين
نحو مجلد
جامع البيان
جامع البيان للإيجي
نحو ٣ مجلدات
أنوار التنزيل
تفسير البيضاوي
نحو ٣ مجلدات
مدارك التنزيل
تفسير النسفي
نحو ٣ مجلدات
الوجيز
الوجيز للواحدي
نحو مجلد
تفسير القرآن العزيز
تفسير ابن أبي زمنين
نحو مجلدين
آثار
غريب ومعاني
السراج في بيان غريب القرآن
غريب القرآن للخضيري
نحو مجلد
الميسر في غريب القرآن الكريم
الميسر في الغريب
نحو مجلد
تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن قتيبة
نحو مجلد
التبيان في تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن الهائم
نحو مجلد
معاني القرآن وإعرابه
معاني الزجاج
نحو ٤ مجلدات
معاني القرآن
معاني القرآن للنحاس
نحو مجلدين
معاني القرآن
معاني القرآن للفراء
نحو مجلدين
مجاز القرآن
مجاز القرآن لمعمر بن المثنى
نحو مجلد
معاني القرآن
معاني القرآن للأخفش
نحو مجلد
أسباب النزول
إعراب ولغة
الإعراب الميسر
نحو ٣ مجلدات
إعراب القرآن
إعراب القرآن للدعاس
نحو ٤ مجلدات
الجدول في إعراب القرآن وصرفه وبيانه
الجدول في إعراب القرآن
نحو ٨ مجلدات
الدر المصون
الدر المصون للسمين الحلبي
نحو ١٠ مجلدات
اللباب
اللباب في علوم الكتاب
نحو ٢٤ مجلدًا
إعراب القرآن وبيانه
إعراب القرآن للدرويش
نحو ٩ مجلدات
المجتبى من مشكل إعراب القرآن
مجتبى مشكل إعراب القرآن
نحو مجلد
إعراب القرآن
إعراب القرآن للنحاس
نحو ٣ مجلدات
تحليل كلمات القرآن
نحو ٩ مجلدات
الإعراب المرسوم
نحو ٣ مجلدات
المجمّع
بالرسم الجديد
بالرسم القديم
حفص عن عاصم
شُعْبة عن عاصم
قالون عن نافع
ورش عن نافع
البَزِّي عن ابن كثير
قُنبُل عن ابن كثير
الدُّوري عن أبي عمرو
السُّوسِي عن أبي عمرو
نستعليق











