الباحث القرآني
﴿فَإذا جاءَتِ الصّاخَّةُ﴾ ﴿يَوْمَ يَفِرُّ المَرْءُ مِن أخِيهِ﴾ ﴿وأُمِّهِ وأبِيهِ﴾ ﴿وصاحِبَتِهِ وبَنِيهِ﴾ ﴿لِكُلِّ امْرِئٍ مِنهم يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ﴾ ﴿وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ مُسْفِرَةٌ﴾ ﴿ضاحِكَةٌ مُسْتَبْشِرَةٌ﴾ ﴿ووُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ عَلَيْها غَبَرَةٌ﴾ ﴿تَرْهَقُها قَتَرَةٌ﴾ ﴿أُولَئِكَ هُمُ الكَفَرَةُ الفَجَرَةُ﴾ .
الفاءُ لِلتَّفْرِيعِ عَلى اللَّوْمِ والتَّوْبِيخِ في قَوْلِهِ تَعالى: ﴿قُتِلَ الإنْسانُ ما أكْفَرَهُ﴾ [عبس: ١٧] وما تَبِعَهُ مِنَ الِاسْتِدْلالِ عَلى المُشْرِكِينَ مِن قَوْلِهِ: ﴿مِن أيِّ شَيْءٍ خَلَقَهُ﴾ [عبس: ١٨] إلى قَوْلِهِ: ﴿أنّا صَبَبْنا الماءَ صَبًّا﴾ [عبس: ٢٥]، فَفُرِّعَ عَلى ذَلِكَ إنْذارٌ بِيَوْمِ الجَزاءِ، مَعَ مُناسَبَةِ وُقُوعِ هَذا الإنْذارِ عَقِبَ التَّعْرِيضِ والتَّصْرِيحِ بِالِامْتِنانِ في قَوْلِهِ: (إلى طَعامِهِ) وقَوْلِهِ: ﴿مَتاعًا لَكم ولِأنْعامِكُمْ﴾ [عبس: ٣٢] عَلى نَحْوِ ما تَقَدَّمَ في قَوْلِهِ: ﴿فَإذا جاءَتِ الطّامَّةُ الكُبْرى﴾ [النازعات: ٣٤] مِن سُورَةِ النّازِعاتِ.
والصّاخَّةُ: صَيْحَةٌ شَدِيدَةٌ مِن صَيْحاتِ الإنْسانِ تَصُخُّ الأسْماعَ، أيْ: تُصِمُّها، يُقالُ: صَخَّ يَصُخُّ قاصِرًا ومُتَعَدِّيًا، ومُضارِعُهُ يَصُخُّ بِضَمِّ عَيْنِهِ في الحالَيْنِ. وقَدِ اخْتَلَفَ أهْلُ اللُّغَةِ في اشْتِقاقِها اخْتِلافًا لا جَدْوى لَهُ، وما ذَكَرْناهُ هو خُلاصَةُ قَوْلِ الخَلِيلِ، والرّاغِبِ، وهو أحْسَنُ وأجْرى عَلى قِياسِ اسْمِ الفاعِلِ مِنَ الثُّلاثِيِّ، فالصّاخَّةُ صارَتْ في القُرْآنِ عَلَمًا بِالغَلَبَةِ عَلى حادِثَةِ يَوْمِ القِيامَةِ وانْتِهاءِ (p-١٣٥)هَذا العالَمِ، وتَحْصُلُ صَيْحاتٌ مِنها أصْواتٌ تُزَلْزِلُ الأرْضَ واصْطِدامُ بَعْضِ الكَواكِبِ بِالأرْضِ مَثَلًا، ونَفْخَةُ الصُّورِ الَّتِي تُبْعَثُ عِنْدَها النّاسُ. و(إذا) ظَرْفٌ وهو مُتَعَلِّقٌ بِـ (جاءَتِ الصّاخَّةُ) وجَوابُهُ قَوْلُهُ: ﴿وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ مُسْفِرَةٌ﴾ الآياتِ.
والمَجِيءُ مُسْتَعْمَلٌ في الحُصُولِ مَجازًا، شُبِّهَ حُصُولُ يَوْمِ الجَزاءِ بِشَخْصٍ جاءَ مِن مَكانٍ آخَرَ.
و﴿يَوْمَ يَفِرُّ المَرْءُ مِن أخِيهِ﴾ بَدَلٌ مِن إذا جاءَتِ الصّاخَّةُ بَدَلًا مُطابِقًا.
والفِرارُ: الهُرُوبُ لِلتَّخَلُّصِ مِن مُخِيفٍ.
وحَرْفُ (مِن) هُنا يَجُوزُ أنْ يَكُونَ بِمَعْنى التَّعْلِيلِ الَّذِي يُعَدّى بِهِ فِعْلُ الفِرارِ إلى سَبَبِ الفِرارِ حِينَ يُقالُ: فَرَّ مِنَ الأسَدِ، وفَرَّ مِنَ العَدُوِّ، وفَرَّ مِنَ المَوْتِ، ويَجُوزُ أنْ يَكُونَ بِمَعْنى المُجاوَزَةِ مِثْلَ (عَنْ) .
وكَوْنُ أقْرَبِ النّاسِ لِلْإنْسانِ يَفِرُّ مِنهم يَقْتَضِي هَوْلَ ذَلِكَ اليَوْمِ بِحَيْثُ إذا رَأى ما يَحِلُّ مِنَ العَذابِ بِأقْرَبِ النّاسِ إلَيْهِ تَوَهَّمَ أنَّ الفِرارَ مِنهُ يُنْجِيهِ مِنَ الوُقُوعِ في مِثْلِهِ، إذْ قَدْ عَلِمَ أنَّهُ كانَ مُماثِلًا لَهم فِيما ارْتَكَبُوهُ مِنَ الأعْمالِ، فَذُكِرَتْ هُنا أصْنافٌ مِنَ القَرابَةِ، فَإنَّ القَرابَةَ آصِرَةٌ تَكُونُ لَها في النَّفْسِ مَعَزَّةٌ وحِرْصٌ عَلى سَلامَةِ صاحِبِها وكَرامَتِهِ. والإلْفُ يُحْدِثُ في النَّفْسِ حِرْصًا عَلى المُلازَمَةِ والمُقارَنَةِ، وكِلا هَذَيْنِ الوِجْدانَيْنِ يَصُدُّ صاحِبَهُ عَنِ المُفارَقَةِ، فَما ظَنُّكَ بِهَوْلٍ يَغْشى عَلى هَذَيْنِ الوِجْدانَيْنِ فَلا يَتْرُكُ لَهُما مَجالًا في النَّفْسِ ؟ !
ورُتِّبَتْ أصْنافُ القَرابَةِ في الآيَةِ حَسَبَ الصُّعُودِ مِنَ الصِّنْفِ إلى مَن هو أقْوى مِنهُ تَدَرُّجًا في تَهْوِيلِ ذَلِكَ اليَوْمِ.
فابْتُدِئَ بِالأخِ لِشِدَّةِ اتِّصالِهِ بِأخِيهِ مِن زَمَنِ الصِّبا فَيَنْشَأُ بِذَلِكَ إلْفٌ بَيْنَهُما يَسْتَمِرُّ طُولَ الحَياةِ، ثُمَّ ارْتُقِيَ مِنَ الأخِ إلى الأبَوَيْنِ وهُما أشَدُّ قُرْبًا لِابْنَيْهِما، وقُدِّمَتِ الأُمُّ في الذِّكْرِ لِأنَّ إلْفَ ابْنِها بِها أقْوى مِنهُ بِأبِيهِ ولِلرَّعْيِ عَلى الفاصِلَةِ، وانْتُقِلَ إلى الزَّوْجَةِ والبَنِينَ وهُما مُجْتَمَعُ عائِلَةِ الإنْسانِ وأشَدُّ النّاسِ قُرْبًا بِهِ ومُلازَمَةً.
(p-١٣٦)وأُطْنِبَ بِتَعْدادِ هَؤُلاءِ الأقْرِباءِ دُونَ أنْ يُقالَ: يَوْمَ يَفِرُّ المَرْءُ مِن أقْرَبِ قَرابَتِهِ مَثَلًا؛ لِإحْضارِ صُورَةِ الهَوْلِ في نَفْسِ السّامِعِ.
وكُلٌّ مِن هَؤُلاءِ القَرابَةِ إذا قَدَّرْتَهُ هو الفارَّ كانَ مَن ذُكِرَ مَعَهُ مَفْرُورًا مِنهُ إلّا قَوْلَهُ: (وصاحِبَتِهِ) لِظُهُورِ أنَّ مَعْناهُ والمَرْأةِ مِن صاحِبِها، فَفِيهِ اكْتِفاءٌ، وإنَّما ذُكِرَتْ بِوَصْفِ الصّاحِبَةِ الدّالِّ عَلى القُرْبِ والمُلازَمَةِ دُونَ وصْفِ الزَّوْجِ؛ لِأنَّ المَرْأةَ قَدْ تَكُونُ غَيْرَ حَسَنَةِ العِشْرَةِ لِزَوْجِها فَلا يَكُونُ فِرارُهُ مِنها كِنايَةً عَنْ شِدَّةِ الهَوْلِ فَذُكِرَ بِوَصْفِ الصّاحِبَةِ.
والأقْرَبُ أنَّ هَذا فِرارُ المُؤْمِنِ مِن قَرابَتِهِ المُشْرِكِينَ خَشْيَةَ أنْ يُؤاخَذَ بِتَبِعَتِهِمْ إذْ بَقُوا عَلى الكُفْرِ.
وتَعْلِيقُ جارِ الأقْرِباءِ بِفِعْلِ (يَفِرُّ المَرْءُ) يَقْتَضِي أنَّهم قَدْ وقَعُوا في عَذابٍ يَخْشَوْنَ تَعَدِّيَهُ إلى مَن يَتَّصِلُ بِهِمْ.
وقَدِ اجْتَمَعَ في قَوْلِهِ: ﴿يَوْمَ يَفِرُّ المَرْءُ مِن أخِيهِ﴾ إلى آخِرِهِ أبْلَغُ ما يُفِيدُ هَوْلَ ذَلِكَ اليَوْمِ بِحَيْثُ لا يَتْرُكُ هَوْلُهُ لِلْمَرْءِ بَقِيَّةً مِن رُشْدِهِ، فَإنَّ نَفْسَ الفِرارِ لِلْخائِفِ مَسَبَّةٌ فِيما تَعارَفُوهُ لِدِلالَتِهِ عَلى جُبْنِ صاحِبِهِ وهم يَتَعَيَّرُونَ بِالجُبْنِ وكَوْنَهُ يَتْرُكُ أعَزَّ الأعِزَّةِ عَلَيْهِ مَسَبَّةٌ عُظْمى.
وجُمْلَةُ ﴿لِكُلِّ امْرِئٍ مِنهم يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ﴾ مُسْتَأْنَفَةٌ اسْتِئْنافًا ابْتِدائِيًّا لِزِيادَةِ تَهْوِيلِ اليَوْمِ، وتَنْوِينُ (شَأْنٌ) لِلتَّعْظِيمِ.
وحَيْثُ كانَ فِرارُ المَرْءِ مِنَ الأقْرِباءِ الخَمْسَةِ يَقْتَضِي فِرارَ كُلِّ قَرِيبٍ مِن أُولَئِكَ مِن مِثْلِهِ، كانَ الِاسْتِئْنافُ جامِعًا لِلْجَمِيعِ تَصْرِيحًا بِذَلِكَ المُقْتَضى، فَقالَ: ﴿لِكُلِّ امْرِئٍ مِنهم يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ﴾ أيْ: عَنِ الِاشْتِغالِ بِغَيْرِهِ مِنَ المَذْكُوراتِ بَلْهَ الِاشْتِغالَ عَمَّنْ هو دُونَ أُولَئِكَ مِنَ القَرابَةِ والصُّحْبَةِ.
والشَّأْنُ: الحالُ المُهِمُّ.
وتَقْدِيمُ الخَبَرِ في قَوْلِهِ: (لِكُلِّ امْرِئٍ) عَلى المُبْتَدَأِ لِيَتَأتّى تَنْكِيرُ (شَأْنٌ) الدّالِّ عَلى التَّعْظِيمِ؛ لِأنَّ العَرَبَ لا يَبْتَدِئُونَ بِالنَّكِرَةِ في جُمْلَتِها إلّا بِمُسَوِّغٍ مِن مُسَوِّغاتٍ عَدَّها النُّحاةُ بِضْعَةَ عَشَرَ مُسَوِّغًا، ومِنها تَقْدِيمُ الخَبَرِ عَلى المُبْتَدَأِ.
(p-١٣٧)والإغْناءُ: جَعْلُ الغَيْرِ غَنِيًّا، أيْ: غَيْرَ مُحْتاجٍ لِشَيْءٍ في غَرَضِهِ. وأصْلُ الإغْناءِ والغِنى: حُصُولُ النّافِعِ المُحْتاجِ إلَيْهِ، قالَ تَعالى: ﴿وما أُغْنِي عَنْكم مِنَ اللَّهِ مِن شَيْءٍ﴾ [يوسف: ٦٧] وقالَ: ﴿ما أغْنى عَنِّي مالِيَهْ﴾ [الحاقة: ٢٨] . وقَدِ اسْتُعْمِلَ هُنا في مَعْنى الإشْغالِ والإشْغالُ أعَمُّ.
فاسْتُعْمِلَ الإغْناءُ الَّذِي هو نَفْعٌ في مَعْنى الإشْغالِ الأعَمِّ عَلى وجْهِ المَجازِ المُرْسَلِ أوِ الِاسْتِعارَةِ إيماءً إلى أنَّ المُؤْمِنِينَ يَشْغَلُهم عَنْ قَرابَتِهِمُ المُشْرِكِينَ فَرْطُ النَّعِيمِ ورَفْعُ الدَّرَجاتِ كَما دَلَّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ عَقِبَهُ ﴿وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ مُسْفِرَةٌ﴾ إلى آخِرِ السُّورَةِ.
وجُمْلَةُ ﴿وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ مُسْفِرَةٌ﴾ جَوابُ (إذا) أيْ: إذا جاءَتِ الصّاخَّةُ كانَ النّاسُ صِنْفَيْنِ: صِنْفٌ وُجُوهُهم مُسْفِرَةٌ وصِنْفٌ وُجُوهُهم مُغْبَرَّةٌ.
وقُدِّمَ هُنا ذِكْرُ وُجُوهِ أهْلِ النَّعِيمِ عَلى وُجُوهِ أهْلِ الجَحِيمِ خِلافَ قَوْلِهِ في سُورَةِ النّازِعاتِ (﴿فَأمّا مَن طَغى﴾ [النازعات: ٣٧]) ثُمَّ قَوْلِهِ: ﴿وأمّا مَن خافَ مَقامَ رَبِّهِ﴾ [النازعات: ٤٠] إلى آخِرِهِ؛ لِأنَّ هَذِهِ السُّورَةَ أُقِيمَتْ عَلى عِمادِ التَّنْوِيهِ بِشَأْنِ رَجُلٍ مِن أفاضِلِ المُؤْمِنِينَ والتَّحْقِيرِ لِشَأْنِ عَظِيمٍ مِن صَنادِيدِ المُشْرِكِينَ، فَكانَ حَظُّ الفَرِيقَيْنِ مَقْصُودًا مَسُوقًا إلَيْهِ الكَلامُ، وكانَ حَظُّ المُؤْمِنِينَ هو المُلْتَفَتَ إلَيْهِ ابْتِداءً، وذَلِكَ في قَوْلِهِ: ﴿وما يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكّى﴾ [عبس: ٣] إلى آخِرِهِ، ثُمَّ قَوْلِهِ: ﴿أمّا مَنِ اسْتَغْنى فَأنْتَ لَهُ تَصَدّى﴾ [عبس: ٥] .
وأمّا سُورَةُ النّازِعاتِ فَقَدْ بُنِيَتْ عَلى تَهْدِيدِ المُنْكِرِينَ لِلْبَعْثِ ابْتِداءً مِن قَوْلِهِ: ﴿يَوْمَ تَرْجُفُ الرّاجِفَةُ تَتْبَعُها الرّادِفَةُ قُلُوبٌ يَوْمَئِذٍ واجِفَةٌ﴾ [النازعات: ٦] فَكانَ السِّياقُ لِلتَّهْدِيدِ والوَعِيدِ وتَهْوِيلِ ما يَلْقَوْنَهُ يَوْمَ الحَشْرِ، وأمّا ذِكْرُ حَظِّ المُؤْمِنِينَ يَوْمَئِذٍ فَقَدْ دَعا إلى ذِكْرِهِ الِاسْتِطْرادُ عَلى عادَةِ القُرْآنِ مِن تَعْقِيبِ التَّرْهِيبِ بِالتَّرْغِيبِ.
وتَنْكِيرُ (وُجُوهٌ) الأوَّلِ والثّانِي لِلتَّنْوِيعِ، وذَلِكَ مُسَوِّغُ وُقُوعِهِما مُبْتَدَأً.
وإعادَةُ (يَوْمَئِذٍ) لِتَأْكِيدِ الرَّبْطِ بَيْنَ الشَّرْطِ وجَوابِهِ ولِطُولِ الفَصْلِ بَيْنَهُما والتَّقْدِيرُ: وُجُوهٌ مُسْفِرَةٌ يَوْمَ يَفِرُّ المَرْءُ مِن أخِيهِ إلى آخِرِهِ.
وقَدْ أغْنَتْ إعادَةُ (يَوْمَئِذٍ) عَنْ رَبْطِ الجَوابِ بِالفاءِ.
والمُسْفِرَةُ ذاتُ الإسْفارِ، والإسْفارُ: النُّورُ والضِّياءُ، يُقالُ: أسْفَرَ الصُّبْحُ، إذا ظَهَرَ ضَوْءُ الشَّمْسِ في أُفُقِ الفَجْرِ، أيْ: وُجُوهٌ مُتَهَلِّلَةٌ فَرَحًا وعَلَيْها أثَرُ النَّعِيمِ.
(p-١٣٨)و(ضاحِكَةٌ) أيْ: كِنايَةٌ عَنِ السُّرُورِ.
و(مُسْتَبْشِرَةٌ) مَعْناهُ فَرِحَةٌ، والسِّينُ والتّاءُ فِيهِ لِلْمُبالَغَةِ مِثْلَ: اسْتَجابَ، ويُقالُ: بَشَرَ، أيْ: فَرِحَ وسُرَّ، قالَ تَعالى: قالَ يا بُشْرايَ هَذا غُلامٌ أيْ: يا فَرْحَتِي.
وإسْنادُ الضَّحِكِ والِاسْتِبْشارِ إلى الوُجُوهِ مَجازٌ عَقْلِيٌّ؛ لِأنَّ الوُجُوهَ مَحَلُّ ظُهُورِ الضَّحِكِ والِاسْتِبْشارِ، فَهو مِن إسْنادِ الفِعْلِ إلى مَكانِهِ، ولَكَ أنْ تَجْعَلَ الوُجُوهَ كِنايَةً عَنِ الذَّواتِ كَقَوْلِهِ تَعالى: ﴿ويَبْقى وجْهُ رَبِّكَ﴾ [الرحمن: ٢٧] .
وهَذِهِ وُجُوهُ أهْلِ الجَنَّةِ المُطْمَئِنِّينَ بالًا المُكْرَمِينَ عَرْضًا وحُضُورًا.
والغَبَرَةُ - بِفَتْحَتَيْنِ - الغُبارُ كُلُّهُ، والمُرادُ هُنا أنَّها مُعَفَّرَةٌ بِالغُبارِ إهانَةً ومِن أثَرِ الكَبَواتِ.
و(تَرْهَقُها) تَغْلِبُ عَلَيْها وتَعْلُوها.
والقَتَرَةُ: بِفَتْحَتَيْنِ شِبْهُ دُخانٍ يَغْشى الوَجْهَ مِنَ الكَرْبِ والغَمِّ؛ كَذا قالَ الرّاغِبُ، وهو غَيْرُ الغَبَرَةِ كَما تَقْتَضِيهِ الآيَةُ لِئَلّا يَكُونَ مِنَ الإعادَةِ، وهي خِلافُ الأصْلِ ولا داعِيَ إلَيْها. وسَوّى بَيْنَهُما الجَوْهَرِيُّ وتَبِعَهُ ابْنُ مَنظُورٍ وصاحِبُ القامُوسِ.
وهَذِهِ وُجُوهُ أهْلِ الكُفْرِ، يُعْلَمُ ذَلِكَ مِن سِياقِ هَذا التَّنْوِيعِ، وقَدْ صُرِّحَ بِذَلِكَ بِقَوْلِهِ: ﴿أُولَئِكَ هُمُ الكَفَرَةُ الفَجَرَةُ﴾ زِيادَةً في تَشْهِيرِ حالِهِمُ الفَظِيعِ لِلسّامِعِينَ.
وجِيءَ بِاسْمِ الإشارَةِ لِزِيادَةِ الإيضاحِ تَشْهِيرًا بِالحالَةِ الَّتِي سَبَّبَتْ لَهم ذَلِكَ.
وضَمِيرُ الفَصْلِ هُنا لِإفادَةِ التَّقْوى.
وأُتْبِعَ وصْفُ (الكَفَرَةِ) بِوَصْفِ (الفَجَرَةِ) مَعَ أنَّ وصْفَ الكُفْرِ أعْظَمُ مِن وصْفِ الفُجُورِ لِما في مَعْنى الفُجُورِ مِن خَساسَةِ العَمَلِ فَذُكِرَ وصْفاهُمُ الدّالّانِ عَنْ مَجْمُوعِ فَسادِ الِاعْتِقادِ وفَسادِ العَمَلِ.
وذِكْرُ وصْفِ (الفَجَرَةِ) بِدُونِ عاطِفٍ يُفِيدُ أنَّهم جَمَعُوا بَيْنَ الكُفْرِ والفُجُورِ.
* * *
(p-١٣٩)بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
سُورَةُ التَّكْوِيرِ
لَمْ يَثْبُتْ عَنِ النَّبِيءِ ﷺ أنَّهُ سَمّاها تَسْمِيَةً صَرِيحَةً. وفي حَدِيثِ التِّرْمِذِيِّ عَنِ ابْنِ عُمَرَ قالَ: قالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: مَن سَرَّهُ أنْ يَنْظُرَ إلى يَوْمِ القِيامَةِ كَأنَّهُ رَأْيُ عَيْنٍ، فَلْيَقْرَأْ (﴿إذا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ﴾ [التكوير: ١])، و(﴿إذا السَّماءُ انْفَطَرَتْ﴾ [الإنفطار: ١])، و(﴿إذا السَّماءُ انْشَقَّتْ﴾ [الإنشقاق: ١]) . ولَيْسَ هَذا صَرِيحًا في التَّسْمِيَةِ؛ لِأنَّ صِفَةَ يَوْمِ القِيامَةِ في جَمِيعِ هَذِهِ السُّورَةِ، بَلْ هو في الآياتِ الأُوَلِ مِنها، فَتَعَيَّنَ أنَّ المَعْنى: فَلْيَقْرَأْ هَذِهِ الآياتِ، وعُنْوِنَتْ في صَحِيحِ البُخارِيِّ وفي جامِعِ التِّرْمِذِيِّ سُورَةَ ﴿إذا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ﴾ [التكوير: ١]، وكَذَلِكَ عَنْوَنَها الطَّبَرَيُّ.
وأكْثَرُ التَّفاسِيرِ يُسَمُّونَها (سُورَةَ التَّكْوِيرِ) وكَذَلِكَ تَسْمِيَتُها في المَصاحِفِ وهو اخْتِصارٌ لِمَدْلُولِ ﴿كُوِّرَتْ﴾ [التكوير: ١] .
وتُسَمّى (سُورَةَ كُوِّرَتْ) تَسْمِيَةً بِحِكايَةِ لَفْظٍ وقَعَ فِيها. ولَمْ يَعُدَّها في الإتْقانِ مَعَ السُّوَرِ الَّتِي لَها أكْثَرُ مِنَ اسْمٍ.
وهِيَ مَكِّيَّةٌ بِالِاتِّفاقِ.
وهِيَ مَعْدُودَةٌ السّابِعَةَ في عِدادِ نُزُولِ سُوَرِ القُرْآنِ، نَزَلَتْ بَعْدَ سُورَةِ الفاتِحَةِ وقَبْلَ سُورَةِ الأعْلى.
وعَدَدُ آيِها تِسْعٌ وعِشْرُونَ.
* * *
اشْتَمَلَتْ عَلى تَحْقِيقِ الجَزاءِ صَرِيحًا.
(p-١٤٠)وعَلى إثْباتِ البَعْثِ وابْتُدِئَ بِوَصْفِ الأهْوالِ الَّتِي تَتَقَدَّمُهُ وانْتُقِلَ إلى وصْفِ أهْوالٍ تَقَعُ عَقِبَهُ.
وعَلى التَّنْوِيهِ بِشَأْنِ القُرْآنِ الَّذِي كَذَّبُوا بِهِ؛ لِأنَّهُ أوْعَدَهم بِالبَعْثِ زِيادَةً لِتَحْقِيقِ وُقُوعِ البَحْثِ؛ إذْ رَمَوُا النَّبِيءَ ﷺ بِالجُنُونِ والقُرْآنَ بِأنَّهُ يَأْتِيهِ بِهِ شَيْطانٌ.
{"ayahs_start":33,"ayahs":["فَإِذَا جَاۤءَتِ ٱلصَّاۤخَّةُ","یَوۡمَ یَفِرُّ ٱلۡمَرۡءُ مِنۡ أَخِیهِ","وَأُمِّهِۦ وَأَبِیهِ","وَصَـٰحِبَتِهِۦ وَبَنِیهِ","لِكُلِّ ٱمۡرِئࣲ مِّنۡهُمۡ یَوۡمَىِٕذࣲ شَأۡنࣱ یُغۡنِیهِ","وُجُوهࣱ یَوۡمَىِٕذࣲ مُّسۡفِرَةࣱ","ضَاحِكَةࣱ مُّسۡتَبۡشِرَةࣱ","وَوُجُوهࣱ یَوۡمَىِٕذٍ عَلَیۡهَا غَبَرَةࣱ","تَرۡهَقُهَا قَتَرَةٌ","أُو۟لَـٰۤىِٕكَ هُمُ ٱلۡكَفَرَةُ ٱلۡفَجَرَةُ"],"ayah":"یَوۡمَ یَفِرُّ ٱلۡمَرۡءُ مِنۡ أَخِیهِ"}
- أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.
أمّهات
جامع البيان
تفسير الطبري
نحو ٢٨ مجلدًا
تفسير القرآن العظيم
تفسير ابن كثير
نحو ١٩ مجلدًا
الجامع لأحكام القرآن
تفسير القرطبي
نحو ٢٤ مجلدًا
معالم التنزيل
تفسير البغوي
نحو ١١ مجلدًا
جمع الأقوال
منتقاة
عامّة
عامّة
فتح البيان
فتح البيان للقنوجي
نحو ١٢ مجلدًا
فتح القدير
فتح القدير للشوكاني
نحو ١١ مجلدًا
التسهيل لعلوم التنزيل
تفسير ابن جزي
نحو ٣ مجلدات
موسوعات
أخرى
لغة وبلاغة
معاصرة
الميسر
نحو مجلد
المختصر
المختصر في التفسير
نحو مجلد
تيسير الكريم الرحمن
تفسير السعدي
نحو ٤ مجلدات
أيسر التفاسير
نحو ٣ مجلدات
القرآن – تدبّر وعمل
القرآن – تدبر وعمل
نحو ٣ مجلدات
تفسير القرآن الكريم
تفسير ابن عثيمين
نحو ١٥ مجلدًا
مركَّزة العبارة
تفسير الجلالين
نحو مجلد
جامع البيان
جامع البيان للإيجي
نحو ٣ مجلدات
أنوار التنزيل
تفسير البيضاوي
نحو ٣ مجلدات
مدارك التنزيل
تفسير النسفي
نحو ٣ مجلدات
الوجيز
الوجيز للواحدي
نحو مجلد
تفسير القرآن العزيز
تفسير ابن أبي زمنين
نحو مجلدين
آثار
غريب ومعاني
السراج في بيان غريب القرآن
غريب القرآن للخضيري
نحو مجلد
الميسر في غريب القرآن الكريم
الميسر في الغريب
نحو مجلد
تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن قتيبة
نحو مجلد
التبيان في تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن الهائم
نحو مجلد
معاني القرآن وإعرابه
معاني الزجاج
نحو ٤ مجلدات
معاني القرآن
معاني القرآن للنحاس
نحو مجلدين
معاني القرآن
معاني القرآن للفراء
نحو مجلدين
مجاز القرآن
مجاز القرآن لمعمر بن المثنى
نحو مجلد
معاني القرآن
معاني القرآن للأخفش
نحو مجلد
أسباب النزول
إعراب ولغة
الإعراب الميسر
نحو ٣ مجلدات
إعراب القرآن
إعراب القرآن للدعاس
نحو ٤ مجلدات
الجدول في إعراب القرآن وصرفه وبيانه
الجدول في إعراب القرآن
نحو ٨ مجلدات
الدر المصون
الدر المصون للسمين الحلبي
نحو ١٠ مجلدات
اللباب
اللباب في علوم الكتاب
نحو ٢٤ مجلدًا
إعراب القرآن وبيانه
إعراب القرآن للدرويش
نحو ٩ مجلدات
المجتبى من مشكل إعراب القرآن
مجتبى مشكل إعراب القرآن
نحو مجلد
إعراب القرآن
إعراب القرآن للنحاس
نحو ٣ مجلدات
تحليل كلمات القرآن
نحو ٩ مجلدات
الإعراب المرسوم
نحو ٣ مجلدات
المجمّع
بالرسم الجديد
بالرسم القديم
حفص عن عاصم
شُعْبة عن عاصم
قالون عن نافع
ورش عن نافع
البَزِّي عن ابن كثير
قُنبُل عن ابن كثير
الدُّوري عن أبي عمرو
السُّوسِي عن أبي عمرو
نستعليق