الباحث القرآني
﴿إذْ يَقُولُ المُنافِقُونَ والَّذِينَ في قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ غَرَّ هَؤُلاءِ دِينُهم ومَن يَتَوَكَّلْ عَلى اللَّهِ فَإنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ﴾ .
يَتَعَلَّقُ ”إذْ يَقُولُ“ بِأقْرَبِ الأفْعالِ إلَيْهِ وهو قَوْلُهُ: ﴿زَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطانُ أعْمالَهُمْ﴾ [الأنفال: ٤٨] مَعَ ما عُطِفَ عَلَيْهِ مِنَ الأفْعالِ؛ لِأنَّ ”إذْ“ لا تَقْتَضِي أكْثَرَ مِنَ المُقارَنَةِ في الزَّمانِ بَيْنَ ما تُضافُ إلَيْهِ وبَيْنَ مُتَعَلَّقِها، فَتَعَيَّنَ أنْ يَكُونَ قَوْلُ المُنافِقِينَ واقِعًا في وقْتِ تَزْيِينِ الشَّيْطانِ أعْمالَ المُشْرِكِينَ، فَيَتِمُّ تَعْلِيقُ وقْتِ قَوْلِ المُنافِقِينَ بِوَقْتِ تَزْيِينِ الشَّيْطانِ أعْمالَ المُشْرِكِينَ، وإنَّما تُطْلَبُ المُناسَبَةُ لِذِكْرِ هَذا الخَبَرِ عَقِبَ الَّذِي ولِيَهُ هو، وتِلْكَ هي أنَّ كِلا الخَبَرَيْنِ يَتَضَمَّنُ قُوَّةَ جَيْشِ المُشْرِكِينَ، وضَعْفَ جَيْشِ المُسْلِمِينَ، ويَقِينُ أوْلِياءِ الشَّيْطانِ بِأنَّ النَّصْرَ سَيَكُونُ لِلْمُشْرِكِينَ عَلى المُسْلِمِينَ.
فالخَبَرُ الأوَّلُ عَنْ طائِفَةٍ أعانَتِ المُشْرِكِينَ بِتَأْمِينِهِمْ مِن عَدُوٍّ يَخْشَوْنَهُ فانْحازَتْ إلَيْهِمْ عَلَنًا، وذَلِكَ يَسْتَلْزِمُ تَقْبِيحَ ما أقْحَمَ المُسْلِمُونَ فِيهِ أنْفُسَهم إذْ عَمَدُوا إلى قِتالِ قَوْمٍ أقْوِياءَ. والخَبَرُ الثّانِي عَنْ طائِفَتَيْنِ شَوَّهَتا صَنِيعَ المُسْلِمِينَ: حَمَّقَتاهم ونَسَبَتاهم إلى الغُرُورِ فَأسَرُّوا ذَلِكَ ولَمْ يَبُوحُوا بِهِ، وتَحَدَّثُوا بِهِ فِيما بَيْنَهم، أوْ أسَرُّوهُ في نُفُوسِهِمْ.
فَنَظْمُ الكَلامِ هَكَذا: وزَيَّنَ الشَّيْطانُ لِلْمُشْرِكِينَ أعْمالَهم حِينَ كانَ المُنافِقُونَ يُقَبِّحُونَ أعْمالَ المُسْلِمِينَ ويَصِفُونَهم بِالغُرُورِ وقِلَّةِ التَّدْبِيرِ مِنِ اعْتِقادِهِمْ في دِينِهِمُ الَّذِي أوْقَعَهم في هَذا الغُرُورِ ويَجُولُ في نُفُوسِ الَّذِينَ في قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ مِثْلُ هَذا.
(p-٣٨)و(القَوْلُ) هُنا مُسْتَعْمَلٌ في حَقِيقَتِهِ ومَجازِهِ: الشّامِلُ لِحَدِيثِ النَّفْسِ؛ لِأنَّ المُنافِقِينَ يَقُولُونَ ذَلِكَ بِألْسِنَتِهِمْ، وأمّا الَّذِينَ في قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وهم طائِفَةٌ غَيْرُ المُنافِقِينَ، بَلْ هم مَن لَمْ يَتَمَكَّنِ الإيمانُ مِن قُلُوبِهِمْ. فَيَقُولُونَهُ في أنْفُسِهِمْ لِما لَهم مِنَ الشَّكِّ في صِدْقِ وعْدِ النَّبِيءِ ﷺ لِأنَّهم غَيْرُ مُوالِينَ لِلْمُنافِقِينَ، ويَجُوزُ أنْ يَتَحَدَّثُوا بِهِ بَيْنَ جَماعَتِهِمْ.
و(المَرَضُ) هُنا مَجازٌ في اخْتِلالِ الِاعْتِقادِ، شُبِّهَ بِالمَرَضِ بِوَجْهِ سُوءِ عاقِبَتِهِ عَلَيْهِمْ. وقَدْ تَقَدَّمَ في قَوْلِهِ - تَعالى: ﴿فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ﴾ [البقرة: ١٠] في أوَّلِ البَقَرَةِ.
وأشارُوا بِـ ”هَؤُلاءِ“ إلى المُسْلِمِينَ الَّذِينَ خَرَجُوا إلى بَدْرٍ، وقَدْ جَرَتِ الإشارَةُ عَلى غَيْرِ مُشاهَدٍ؛ لِأنَّهم مَذْكُورُونَ في حَدِيثِهِمْ أوْ مُسْتَحْضَرُونَ في أذْهانِهِمْ، فَكانُوا بِمَنزِلَةِ الحاضِرِ المُشاهِدِ لَهم وهم يَتَعارَفُونَ بِمِثْلِ هَذِهِ الإشارَةِ في حَدِيثِهِمْ عَنِ المُسْلِمِينَ.
و(الغُرُورُ): الإيقاعُ في المَضَرَّةِ بِإيهامِ المَنفَعَةِ، وقَدْ تَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعالى: ﴿لا يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُوا في البِلادِ﴾ [آل عمران: ١٩٦] في سُورَةِ آلِ عِمْرانَ، وقَوْلِهِ: ﴿زُخْرُفَ القَوْلِ غُرُورًا﴾ [الأنعام: ١١٢] في سُورَةِ الأنْعامِ.
و(الدِّينُ) هو الإسْلامُ. وإسْنادُهُمُ الغُرُورَ إلى الدِّينِ بِاعْتِبارِ ما فِيهِ مِنَ الوَعْدِ بِالنَّصْرِ مِن نَحْوِ قَوْلِهِ: ﴿إنْ يَكُنْ مِنكم عِشْرُونَ صابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ﴾ [الأنفال: ٦٥] الآيَةَ، أيْ غَرَّهم ذَلِكَ فَخَرَجُوا وهم عَدَدٌ قَلِيلٌ لِلِقاءِ جَيْشٍ كَثِيرٍ، والمَعْنى: إذْ يَقُولُونَ ذَلِكَ عِنْدَ اللِّقاءِ وقَبْلَ حُصُولِ النَّصْرِ. فَإطْلاقُ الغُرُورِ هُنا مَجازٌ، وإسْنادُهُ إلى الدِّينِ حَقِيقَةٌ عَقْلِيَّةٌ.
وجُمْلَةُ ﴿ومَن يَتَوَكَّلْ عَلى اللَّهِ فَإنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ﴾ مَعْطُوفَةٌ عَلى جُمْلَةِ ﴿وإذْ زَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطانُ أعْمالَهُمْ﴾ [الأنفال: ٤٨] لِأنَّها مِن جُمْلَةِ الأخْبارِ المَسُوقَةِ لِبَيانِ عِنايَةِ اللَّهِ - تَعالى - بِالمُسْلِمِينَ، ولِلِامْتِنانِ عَلَيْهِمْ، فالمُناسَبَةُ بَيْنَها وبَيْنَ الجُمْلَةِ الَّتِي قَبْلَها: أنَّها كالعِلَّةِ لِخَيْبَةِ ظُنُونِ المُشْرِكِينَ ونُصَرائِهِمْ، أيْ أنَّ اللَّهَ خَيَّبَ ظُنُونَهم لِأنَّ المُسْلِمِينَ تَوَكَّلُوا عَلَيْهِ وهو عَزِيزٌ لا يُغْلَبُ، فَمَن تَمَسَّكَ بِالِاعْتِمادِ عَلَيْهِ نَصَرَهُ، وهو حَكِيمٌ يُكَوِّنُ أسْبابَ النَّصْرِ مِن حَيْثُ يَجْهَلُها البَشَرُ.
و(التَّوَكُّلُ): الِاسْتِسْلامُ والتَّفْوِيضُ، وقَدْ تَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعالى: ﴿فَإذا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلى اللَّهِ﴾ [آل عمران: ١٥٩] في سُورَةِ آلِ عِمْرانَ.
(p-٣٩)وجُعِلَ قَوْلُهُ: ﴿فَإنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ﴾ جَوابًا لِلشَّرْطِ بِاعْتِبارِ لازِمِهِ وهو عِزَّةُ المُتَوَكِّلِ عَلى اللَّهِ وإلْفائِهِ مُنْجِيًا مِن مَضِيقِ أمْرِهِ، فَهو كِنايَةٌ عَنِ الجَوابِ وهَذا مِن وُجُوهِ البَيانِ وهو كَثِيرُ الوُقُوعِ في القُرْآنِ، وعَلَيْهِ قَوْلُ زُهَيْرٍ:
؎مَن يَلْقَ يَوْمًا عَلى عِلّاتِهِ هَرِمًا يَلْقَ السَّماحَةَ فِيهِ والنَّدى خُلُقا
أيْ: يَنَلْ مِن كَرَمِهِ ولا يَتَخَلَّفُ ذَلِكَ عَنْهُ في حالٍ مِنَ الأحْوالِ، وقَوْلُ الرَّبِيعِ بْنِ زِيادٍ العَبْسِيِّ:
؎مَن كانَ مَسْرُورًا بِمَقْتَلِ مالِكٍ ∗∗∗ فَلْيَأْتِ نِسْوَتَنا بِوَجْهِ نَـهَـارِ
؎يَجِدِ النِّساءَ حَواسِرًا يَنْدُبْـنَـهُ ∗∗∗ بِاللَّيْلِ قَبْلَ تَبَلُّجِ الأسْـفَـارِ
أيْ: مَن كانَ مَسْرُورًا بِمَقْتَلِهِ فَسُرُورُهُ لا يَدُومُ إلّا بَعْضَ يَوْمٍ ثُمَّ يُحْزِنُهُ أخْذُ الثَّأْرِ إمّا مِن ذَلِكَ المَسْرُورِ إنْ كانَ هو القاتِلَ أوْ مِن أحَدِ قَوْمِهِ وذَلِكَ يُحْزِنُ قَوْمُهُ.
{"ayah":"إِذۡ یَقُولُ ٱلۡمُنَـٰفِقُونَ وَٱلَّذِینَ فِی قُلُوبِهِم مَّرَضٌ غَرَّ هَـٰۤؤُلَاۤءِ دِینُهُمۡۗ وَمَن یَتَوَكَّلۡ عَلَى ٱللَّهِ فَإِنَّ ٱللَّهَ عَزِیزٌ حَكِیمࣱ"}
- أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.
أمّهات
جامع البيان
تفسير الطبري
نحو ٢٨ مجلدًا
تفسير القرآن العظيم
تفسير ابن كثير
نحو ١٩ مجلدًا
الجامع لأحكام القرآن
تفسير القرطبي
نحو ٢٤ مجلدًا
معالم التنزيل
تفسير البغوي
نحو ١١ مجلدًا
جمع الأقوال
منتقاة
عامّة
عامّة
فتح البيان
فتح البيان للقنوجي
نحو ١٢ مجلدًا
فتح القدير
فتح القدير للشوكاني
نحو ١١ مجلدًا
التسهيل لعلوم التنزيل
تفسير ابن جزي
نحو ٣ مجلدات
موسوعات
أخرى
لغة وبلاغة
معاصرة
الميسر
نحو مجلد
المختصر
المختصر في التفسير
نحو مجلد
تيسير الكريم الرحمن
تفسير السعدي
نحو ٤ مجلدات
أيسر التفاسير
نحو ٣ مجلدات
القرآن – تدبّر وعمل
القرآن – تدبر وعمل
نحو ٣ مجلدات
تفسير القرآن الكريم
تفسير ابن عثيمين
نحو ١٥ مجلدًا
مركَّزة العبارة
تفسير الجلالين
نحو مجلد
جامع البيان
جامع البيان للإيجي
نحو ٣ مجلدات
أنوار التنزيل
تفسير البيضاوي
نحو ٣ مجلدات
مدارك التنزيل
تفسير النسفي
نحو ٣ مجلدات
الوجيز
الوجيز للواحدي
نحو مجلد
تفسير القرآن العزيز
تفسير ابن أبي زمنين
نحو مجلدين
آثار
غريب ومعاني
السراج في بيان غريب القرآن
غريب القرآن للخضيري
نحو مجلد
الميسر في غريب القرآن الكريم
الميسر في الغريب
نحو مجلد
تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن قتيبة
نحو مجلد
التبيان في تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن الهائم
نحو مجلد
معاني القرآن وإعرابه
معاني الزجاج
نحو ٤ مجلدات
معاني القرآن
معاني القرآن للنحاس
نحو مجلدين
معاني القرآن
معاني القرآن للفراء
نحو مجلدين
مجاز القرآن
مجاز القرآن لمعمر بن المثنى
نحو مجلد
معاني القرآن
معاني القرآن للأخفش
نحو مجلد
أسباب النزول
إعراب ولغة
الإعراب الميسر
نحو ٣ مجلدات
إعراب القرآن
إعراب القرآن للدعاس
نحو ٤ مجلدات
الجدول في إعراب القرآن وصرفه وبيانه
الجدول في إعراب القرآن
نحو ٨ مجلدات
الدر المصون
الدر المصون للسمين الحلبي
نحو ١٠ مجلدات
اللباب
اللباب في علوم الكتاب
نحو ٢٤ مجلدًا
إعراب القرآن وبيانه
إعراب القرآن للدرويش
نحو ٩ مجلدات
المجتبى من مشكل إعراب القرآن
مجتبى مشكل إعراب القرآن
نحو مجلد
إعراب القرآن
إعراب القرآن للنحاس
نحو ٣ مجلدات
تحليل كلمات القرآن
نحو ٩ مجلدات
الإعراب المرسوم
نحو ٣ مجلدات
المجمّع
بالرسم الجديد
بالرسم القديم
حفص عن عاصم
شُعْبة عن عاصم
قالون عن نافع
ورش عن نافع
البَزِّي عن ابن كثير
قُنبُل عن ابن كثير
الدُّوري عن أبي عمرو
السُّوسِي عن أبي عمرو
نستعليق