الباحث القرآني

﴿لا يَذُوقُونَ فِيها بَرْدًا ولا شَرابًا﴾ ﴿إلّا حَمِيمًا وغَساقًا﴾ ﴿جَزاءً وِفاقًا﴾ . هَذِهِ الجُمْلَةُ يَجُوزُ أنْ تَكُونَ حالًا ثانِيَةً مِنَ الطّاغِينَ أوْ حالًا أُولى مِنَ الضَّمِيرِ في (لابِثِينَ)، وأنْ تَكُونَ خَبَرًا ثالِثًا لِـ ﴿كانَتْ مِرْصادًا﴾ [النبإ: ٢١] . وضَمِيرُ (فِيها) عَلى هَذِهِ الوُجُوهِ عائِدٌ إلى جَهَنَّمَ. ويَجُوزُ أنْ تَكُونَ صِفَةً لِ (أحْقابًا)، أيْ: لا يَذُوقُونَ في تِلْكَ الأحْقابِ بَرْدًا ولا شَرابًا إلّا حَمِيمًا وغَسّاقًا. فَضَمِيرُ (فِيها) عَلى هَذا الوَجْهِ عائِدٌ إلى الأحْقابِ. وحَقِيقَةُ الذَّوْقِ: إدْراكُ طَعْمِ الطَّعامِ والشَّرابِ. ويُطْلَقُ عَلى الإحْساسِ بِغَيْرِ الطُّعُومِ مَجازِيًّا. وشاعَ في كَلامِهِمْ، يُقالُ: ذاقَ الألَمَ، وعَلى وِجْدانِ النَّفْسِ كَقَوْلِهِ تَعالى: ﴿لِيَذُوقَ وبالَ أمْرِهِ﴾ [المائدة: ٩٥] . وقَدِ اسْتُعْمِلَ هُنا في مَعْنَيَيْهِ؛ حَيْثُ نَصَبَ (بَرْدًا) و(شَرابًا) . والبَرْدُ: ضِدُّ الحَرِّ، وهو تَنْفِيسٌ لِلَّذِينَ عَذابُهُمُ الحَرُّ، أيْ: لا يُغاثُونَ بِنَسِيمٍ بارِدٍ، والبَرْدُ ألَذُّ ما يَطْلُبُهُ المَحْرُورُ. وعَنْ مُجاهِدٍ والسُّدِّيِّ وأبِي عُبَيْدَةَ ونَفَرٍ قَلِيلٍ تَفْسِيرُ البَرْدِ بِالنَّوْمِ، وأنْشَدُوا شاهِدَيْنِ غَيْرَ واضِحَيْنِ، وأيًّا ما كانَ فَحَمْلُ الآيَةِ عَلَيْهِ تَكَلُّفٌ لا داعِيَ إلَيْهِ، وعَطْفُ ﴿ولا شَرابًا﴾ يُناكِدُهُ. والشَّرابُ: ما يُشْرَبُ، والمُرادُ بِهِ الماءُ الَّذِي يُزِيلُ العَطَشَ. والحَمِيمُ: الماءُ الشَّدِيدُ الحَرارَةِ. (p-٣٨)والغَسّاقُ: قَرَأهُ الجُمْهُورُ بِتَخْفِيفِ السِّينِ، وقَرَأهُ حَمْزَةُ، والكِسائِيُّ، وحَفْصٌ بِتَشْدِيدِ السِّينِ، وهُما لُغَتانِ فِيهِ. ومَعْناهُ الصَّدِيدُ الَّذِي يَسِيلُ مِن جُرُوحِ الحَرْقِ وهو المُهْلُ، وتَقَدَّما في سُورَةِ ص. واسْتِثْناءُ ﴿حَمِيمًا وغَسّاقًا﴾ مِن (بَرْدًا) أوْ (شَرابًا) عَلى طَرِيقَةِ اللَّفِّ والنَّشْرِ المُرَتَّبِ، وهو اسْتِثْناءٌ مُنْقَطِعٌ؛ لِأنَّ الحَمِيمَ لَيْسَ مِن جِنْسِ البَرْدِ في شَيْءٍ؛ إذْ هو شَدِيدُ الحَرِّ، ولِأنَّ الغَسّاقَ لَيْسَ مِن جِنْسِ الشَّرابِ؛ إذْ لَيْسَ المُهْلُ مِن جِنْسِ الشَّرابِ. والمَعْنى: يَذُوقُونَ الحَمِيمَ؛ إذْ يُراقُ عَلى أجْسادِهِمْ، والغَسّاقَ؛ إذْ يَسِيلُ عَلى مَواضِعِ الحَرْقِ فَيَزِيدُ ألَمَهم. وصُورَةُ الِاسْتِثْناءِ هُنا مِن تَأْكِيدِ الشَّيْءِ بِما يُشْبِهُ ضِدَّهُ في الصُّورَةِ. و(جَزاءً) مَنصُوبٌ عَلى الحالِ مِن ضَمِيرِ (يَذُوقُونَ)، أيْ: حالَةَ كَوْنِ ذَلِكَ جَزاءً، أيْ: مُجازًى بِهِ، فالحالُ هُنا مَصْدَرٌ مُؤَوَّلٌ بِمَعْنى الوَصْفِ وهو أبْلَغُ مِنَ الوَصْفِ. والوِفاقُ: مَصْدَرُ وافَقَ وهو مُؤَوَّلٌ بِالوَصْفِ، أيْ: مُوافِقًا لِلْعَمَلِ الَّذِي جُوزُوا عَلَيْهِ، وهو التَّكْذِيبُ بِالبَعْثِ وتَكْذِيبُ القُرْآنِ كَما دَلَّ عَلَيْهِ التَّعْلِيلُ بَعْدَهُ بِقَوْلِهِ: ﴿إنَّهم كانُوا لا يَرْجُونَ حِسابًا﴾ [النبإ: ٢٧] ﴿وكَذَّبُوا بِآياتِنا كِذّابًا﴾ [النبإ: ٢٨] . فَإنَّ ذَلِكَ أصْلُ إصْرارِهِمْ عَلى الكُفْرِ، وهُما أصْلانِ: أحَدُهُما عَدَمِيٌّ وهو إنْكارُ البَعْثِ، والآخَرُ وُجُودِيٌّ وهو نِسْبَتُهُمُ الرَّسُولَ ﷺ والقُرْآنَ لِلْكَذِبِ، فَعُوقِبُوا عَلى الأصْلِ العَدَمِيِّ بِعِقابٍ عَدَمِيٍّ وهو حِرْمانُهم مِنَ البَرْدِ والشَّرابِ، وعَلى الأصْلِ الوُجُودِيِّ بِجَزاءٍ وُجُودِيٍّ وهو الحَمِيمُ يُراقُ عَلى أجْسادِهِمْ والغَسّاقُ يَمُرُّ عَلى جِراحِهِمْ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب