الباحث القرآني
﴿يا أيُّها المُزَّمِّلُ﴾ ﴿قُمِ اللَّيْلَ إلّا قَلِيلًا﴾ ﴿نِصْفَهُ أوُ انْقُصْ مِنهُ قَلِيلًا﴾ ﴿أوْ زِدْ عَلَيْهِ﴾ [المزمل: ٤] افْتِتاحُ الكَلامِ بِالنِّداءِ إذا كانَ المُخاطَبُ واحِدًا ولَمْ يَكُنْ بَعِيدًا يَدُلُّ عَلى الِاعْتِناءِ بِما سَيُلْقى إلى المُخاطَبِ مِن كَلامٍ.
والأصْلُ في النِّداءِ أنْ يَكُونَ بِاسْمِ المُنادى العَلَمِ إذا كانَ مَعْرُوفًا عِنْدَ المُتَكَلِّمِ فَلا يُعْدَلُ مِنَ الِاسْم العَلَمِ إلى غَيْرِهِ مِن وصْفٍ أوْ إضافَةٍ إلّا لِغَرَضٍ يَقْصِدُهُ البُلَغاءُ مِن تَعْظِيمٍ وتَكْرِيمٍ نَحْوَ (يا أيُّها النَّبِيءُ)، أوْ تَلَطُّفٍ وتَقَرُّبٍ نَحْوَ: يا بُنَيَّ ويا أبَتِ، أوْ قَصْدِ تَهَكُّمٍ نَحْوَ ﴿وقالُوا يا أيُّها الَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ إنَّكَ لَمَجْنُونٌ﴾ [الحجر: ٦] فَإذا نُودِيَ (p-٢٥٦)المُنادى بِوَصْفِ هَيْئَتِهِ مِن لِبْسَةٍ أوْ جِلْسَةٍ أوْ ضِجْعَةٍ كانَ المَقْصُودُ في الغالِبِ التَّلَطُّفَ بِهِ والتَّحَبُّبَ إلَيْهِ ولِهَيْئَتِهِ، ومِنهُ قَوْلُ النَّبِيءِ ﷺ لِعَلِيِّ بْنِ أبِي طالِبٍ وقَدْ وجَدَهُ مُضْطَجِعًا في المَسْجِدِ وقَدْ عَلَقَ تُرابُ المَسْجِدِ بِجَنْبِهِ «قُمْ أبا تُرابٍ» وقَوْلُهُ لِحُذَيْفَةَ بْنِ اليَمانِ يَوْمَ الخَنْدَقِ «قُمْ يا نَوْمانُ» وقَوْلُهُ لِعَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ صَخْرٍ الدَّوْسِيِّ وقَدْ رَآهُ حامِلًا هِرَّةً صَغِيرَةً في كُمِّهِ (يا أبا هُرَيْرَةَ) .
فَنِداءُ النَّبِيءِ بِـ (﴿يا أيُّها المُزَّمِّلُ﴾) نِداءُ تَلَطُّفٍ وارْتِفاقٍ ومِثْلُهُ قَوْلُهُ تَعالى (﴿يا أيُّها المُدَّثِّرُ﴾ [المدثر: ١]) .
والمُزَّمِّلُ: اسْمُ فاعِلٍ مِن تَزَمَّلَ، إذا تَلَفَّفَ بِثَوْبِهِ كالمَقْرُورِ، أوْ مُرِيدِ النَّوْمِ، وهو مِثْلُ التَّدَثُّرِ في مَآلِ المَعْنى، وإنْ كانَ بَيْنَهُما اخْتِلافٌ في أصْلِ الِاشْتِقاقِ، فالتَّزَمُّلُ مُشْتَقٌّ مِن مَعْنى التَّلَفُّفِ، والتَّدَثُّرُ مُشْتَقٌّ مِن مَعْنى اتِّخاذِ الدِّثارِ لِلتَّدَفُّؤِ. وأصْلُ التَّزَمُّلِ مُشْتَقٌّ مِنَ الزَّمْلِ، بِفَتْحٍ فَسُكُونٍ، وهو الإخْفاءُ، ولا يُعْرَفُ لِـ (تَزَمَّلَ) فِعْلٌ مُجَرَّدٌ في مَعْناهُ فَهو مِنَ التَّفَعُّلِ الَّذِي تُنُوسِيَ مِنهُ مَعْنى التَّكَلُّفِ لِلْفِعْلِ، وأُرِيدَ في إطْلاقِهِ مَعْنى شِدَّةِ التَّلَبُّسِ، وكَثُرَ مِثْلُ هَذا في الِاشْتِمالِ عَلى اللِّباسِ، فَمِنهُ التَّزَمُّلُ ومِنهُ التَّعَمُّمُ والتَّأزُّرُ والتَّقَمُّصُ، ورُبَّما صاغُوا لَهُ صِيغَةَ الِافْتِعالِ مِثْلَ: ارْتَدى وائْتَزَرَ.
وأصْلُ المُزَّمِّلِ: المُتَزَمِّلُ، أُدْغِمَتِ التّاءُ في الزّايِ بَعْدَ قَلْبِها زايًا لِتَقارُبِهِما.
وهَذا التَّزَمُّلُ الَّذِي أشارَتْ إلَيْهِ الآيَةُ قالَ الزُّهْرِيُّ وجُمْهُورُ المُفَسِّرِينَ: إنَّهُ التَّزَمُّلُ الَّذِي جَرى في قَوْلِ النَّبِيءِ ﷺ ”«زَمِّلُونِي زَمِّلُونِي» “ حِينَ نَزَلَ مِن غارِ حِراءَ بَعْدَ أنْ نَزَلَ عَلَيْهِ ﴿اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ﴾ [العلق: ١] الآياتِ، كَما في حَدِيثِ عُرْوَةَ عَنْ عائِشَةَ في كِتابِ بَدْءِ الوَحْيِ مِن صَحِيحِ البُخارِيِّ وإنْ لَمْ يُذْكَرْ في ذَلِكَ الحَدِيثِ نُزُولُ هَذِهِ السُّورَةِ حِينَئِذٍ، وعَلَيْهِ فَهو حَقِيقَةٌ.
وقِيلَ هو ما في حَدِيثِ جابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ قالَ: «لَمّا اجْتَمَعَتْ قُرَيْشٌ في دارِ النَّدْوَةِ فَقالُوا: سَمُّوا هَذا الرَّجُلَ اسْمًا تَصْدُرُ النّاسُ عَنْهُ - أيْ: صِفُوهُ وصْفًا تَتَّفِقُ عَلَيْهِ النّاسُ - فَقالُوا: كاهِنٌ، وقالُوا: مَجْنُونٌ، وقالُوا: ساحِرٌ، فَصَدَرَ المُشْرِكُونَ عَلى وصْفِهِ بِـ (ساحِرٍ) فَبَلَغَ ذَلِكَ النَّبِيءَ ﷺ فَحَزِنَ وتَزَمَّلَ في ثِيابِهِ وتَدَثَّرَ، فَأتاهُ جِبْرِيلُ فَقالَ (﴿يا أيُّها المُزَّمِّلُ﴾) (﴿يا أيُّها المُدَّثِّرُ﴾ [المدثر»: ١]) .
وسَيَأْتِي في سُورَةِ المُدَّثِّرِ: أنَّ سَبَبَ نُزُولِها رُؤْيَتُهُ المَلَكَ جالِسًا عَلى كُرْسِيٍّ بَيْنَ (p-٢٥٧)السَّماءِ والأرْضِ فَرَجَعَ إلى خَدِيجَةَ يَرْجُفُ فُؤادُهُ فَقالَ ”دَثِّرُونِي“ فَيَتَعَيَّنُ أنَّ سَبَبَ نِدائِهِ بِـ ﴿يا أيُّها المُزَّمِّلُ﴾ كانَ عِنْدَ قَوْلِهِ ”زَمِّلُونِي“ فَذَلِكَ عِنْدَما اغْتَمَّ مِن وصْفِ المُشْرِكِينَ إيّاهُ بِالجُنُونِ وأنَّ ذَلِكَ غَيْرُ سَبَبِ نِدائِهِ بِـ (﴿يا أيُّها المُدَّثِّرُ﴾ [المدثر: ١]) في سُورَةِ المُدَّثِّرِ.
وقِيلَ: هو تَزَمُّلٌ لِلِاسْتِعْدادِ لِلصَّلاةِ فَنُودِيَ ﴿يا أيُّها المُزَّمِّلُ﴾ ﴿قُمِ اللَّيْلَ إلّا قَلِيلًا﴾ وهَذا مَرْوِيٌّ عَنْ قَتادَةَ. وقَرِيبٌ مِنهُ عَنِ الضَّحّاكِ وهي أقْوالٌ مُتَقارِبَةٌ.
ومَحْمَلُها عَلى أنَّ التَّزَمُّلَ حَقِيقَةٌ، وقالَ عِكْرِمَةُ: مَعْناهُ زَمَّلْتُ هَذا الأمْرَ فَقُمْ بِهِ، يُرِيدُ أمْرَ النُّبُوءَةِ فَيَكُونُ قَوْلُهُ ﴿اللَّيْلَ إلّا قَلِيلًا﴾ مَعَ قَوْلِهِ ﴿إنَّ لَكَ في اَلنَّهارِ سَبْحًا طَوِيلًا﴾ [المزمل: ٧] تَحْرِيضًا عَلى اسْتِفْراغِ جُهْدِهِ في القِيامِ بِأمْرِ التَّبْلِيغِ في جَمِيعِ الأزْمانِ مِن لَيْلٍ ونَهارٍ إلّا قَلِيلًا مِنَ اللَّيْلِ وهو ما يُضْطَرُّ إلَيْهِ مِنَ الهُجُوعِ فِيهِ. ومَحْمَلُ التَّزَمُّلِ عِنْدَهُ عَلى المَجازِ.
فَإذا كانَتْ سُورَةُ المُزَّمِّلِ قَدْ أُنْزِلَتْ قَبْلَ سُورَةِ المُدَّثِّرِ كانَ ذَلِكَ دالًّا عَلى أنَّ اللَّهَ تَعالى بَعْدَ أنِ ابْتَدَأ رَسُولَهُ بِالوَحْيِ بِصَدْرِ سُورَةِ (اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ) ثُمَّ أنْزَلَ عَلَيْهِ سُورَةَ القَلَمِ لِدَحْضِ مَقالَةِ المُشْرِكِينَ فِيهِ الَّتِي دَبَّرَها الوَلِيدُ بْنُ المُغِيرَةِ أنْ يَقُولُوا: إنَّهُ مَجْنُونٌ.
أنْزَلَ عَلَيْهِ التَّلَطُّفَ بِهِ عَلى تَزَمُّلِهِ بِثِيابِهِ لِما اعْتَراهُ مِنَ الحُزْنِ مِن قَوْلِ المُشْرِكِينَ فَأمَرَهُ اللَّهُ بِأنْ يَدْفَعَ ذَلِكَ عَنْهُ بِقِيامِ اللَّيْلِ، ثُمَّ فَتَرَ الوَحْيُ فَلَمّا رَأى المَلَكَ الَّذِي أُرْسِلَ إلَيْهِ بِحِراءَ تَدَثَّرَ مِن شِدَّةِ وقْعِ تِلْكَ الرُّؤْيَةِ فَأنْزَلَ عَلَيْهِ ﴿يا أيُّها المُدَّثِّرُ﴾ [المدثر: ١] .
فَنِداءُ النَّبِيءِ ﷺ بِوَصْفِ المُزَّمِّلِ بِاعْتِبارِ حالَتِهِ وقْتَ نِدائِهِ ولَيْسَ المُزَّمِّلُ مَعْدُودًا مِن أسْماءِ النَّبِيءِ ﷺ، قالَ السُّهَيْلِيُّ: ولَمْ يُعْرَفْ بِهِ، وذَهَبَ بَعْضُ النّاسِ إلى عَدِّهِ مِن أسْمائِهِ.
وفِعْلُ (قُمْ) مُنَزَّلٌ مَنزِلَةَ اللّازِمِ فَلا يَحْتاجُ إلى تَقْدِيرِ مُتَعَلِّقٍ؛ لِأنَّ القِيامَ مُرادٌ بِهِ الصَّلاةُ، فَهَذا القِيامُ مُغايِرٌ لِلْقِيامِ المَأْمُورِ بِهِ في سُورَةِ المُدَّثِّرِ بِقَوْلِهِ (﴿قُمْ فَأنْذِرْ﴾ [المدثر: ٢]) فَإنَّ ذَلِكَ بِمَعْنى الشُّرُوعِ كَما يَأْتِي هُنالِكَ.
واللَّيْلُ: زَمَنُ الظُّلْمَةِ مِن بَعْدِ العِشاءِ إلى الفَجْرِ. وانْتَصَبَ اللَّيْلُ عَلى (p-٢٥٨)الظَّرْفِيَّةِ فاقْتَضى الأمْرُ بِالصَّلاةِ في جَمِيعِ وقْتِ اللَّيْلِ، ويُعْلَمُ اسْتِثْناءُ أوْقاتِ قَضاءِ الضَّرُوراتِ مِن إغْفاءٍ بِالنَّوْمِ ونَحْوِهِ مِن ضَرُوراتِ الإنْسانِ.
وقِيامُ اللَّيْلِ لَقَبٌ في اصْطِلاحِ القُرْآنِ والسُّنَّةِ لِلصَّلاةِ فِيهِ ما عَدا صَلاتَيِ المَغْرِبِ والعِشاءِ ورَواتِبِهِما.
وأمْرُ الرَّسُولِ بِقِيامِ اللَّيْلِ أمْرُ إيجابٍ وهو خاصٌّ بِهِ؛ لِأنَّ الخِطابَ مُوَجَّهٌ إلَيْهِ وحْدَهُ مِثْلَ السُّوَرِ الَّتِي سَبَقَتْ نُزُولَ هَذِهِ السُّورَةِ، وأمّا قِيامُ اللَّيْلِ لِلْمُسْلِمِينَ فَهُمُ اقْتَدَوْا فِيهِ بِالرَّسُولِ ﷺ كَما سَيَأْتِي في قَوْلِهِ تَعالى: ﴿إنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أنَّكَ تَقُومُ﴾ [المزمل: ٢٠] إلى قَوْلِهِ: ﴿وطائِفَةٌ مِنَ الَّذِينَ مَعَكَ﴾ [المزمل: ٢٠] الآياتِ، قالَ الجُمْهُورُ: وذَلِكَ قَبْلَ أنْ تُفْرَضَ الصَّلَواتُ الخَمْسُ في أوْقاتِ النَّهارِ واللَّيْلِ ولَعَلَّ حِكْمَةَ هَذا القِيامِ الَّذِي فُرِضَ عَلى الرَّسُولِ ﷺ في صَدْرِ رِسالَتِهِ هو أنْ تَزْدادَ بِهِ سَرِيرَتُهُ زَكاءً يُقَوِّي اسْتِعْدادَهُ لِتَلَقِّي الوَحْيِ حَتّى لا يُحْرِجَهُ الوَحْيُ كَما ضَغَطَهُ عِنْدَ نُزُولِهِ كَما ورَدَ في حَدِيثِ البُخارِيِّ «فَغَطَّنِي حَتّى بَلَغَ مِنِّي الجَهْدُ ثُمَّ قالَ اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ» الحَدِيثَ، ويَدُلُّ لِهَذِهِ الحِكْمَةِ قَوْلُهُ تَعالى عَقِبَهُ ﴿إنّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلًا ثَقِيلًا﴾ [المزمل: ٥] .
وقَدْ كانَ النَّبِيءُ ﷺ يَتَحَنَّثُ في غارِ حِراءَ قُبَيْلَ بَعْثَتِهِ بِإلْهامٍ مِنَ اللَّهِ تَعالى، فالَّذِي ألْهَمَهُ ذَلِكَ قَبْلَ أنْ يُوحِيَ إلَيْهِ يَجْدُرُ بِأنْ يَأْمُرَهُ بِهِ بَعْدَ أنْ أوْحى إلَيْهِ فَلا يَبْقى فَتْرَةً مِنَ الزَّمَنِ غَيْرَ مُتَعَبِّدٍ لِعِبادَةٍ، ولِهَذا نُرَجِّحُ أنَّ قِيامَ اللَّيْلِ فُرِضَ عَلَيْهِ قَبْلَ فَرْضِ الصَّلَواتِ الخَمْسِ عَلَيْهِ وعَلى الأُمَّةِ.
وقَدِ اسْتَمَرَّ وُجُوبُ قِيامِ اللَّيْلِ عَلى رَسُولِ اللَّهِ ﷺ بَعْدَ فَرْضِ الصَّلَواتِ الخَمْسِ تَعْظِيمًا لِشَأْنِهِ بِكَثْرَةِ الإقْبالِ عَلى مُناجاةِ رَبِّهِ في وقْتِ فَراغِهِ مِن تَبْلِيغِ الوَحْيِ وتَدْبِيرِ شُئُونِ المُسْلِمِينَ وهو وقْتُ اللَّيْلِ كَما يَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ تَعالى ﴿ومِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نافِلَةً لَكَ عَسى أنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقامًا مَحْمُودًا﴾ [الإسراء: ٧٩]، أيْ: زِيادَةَ قُرْبٍ لَكَ. وقَدْ تَقَدَّمَ في سُورَةِ الإسْراءِ. فَكانَ هَذا حُكْمًا خاصًّا بِالنَّبِيءِ ﷺ، وقَدْ ذَكَرَهُ الفُقَهاءُ في بابِ خَصائِصِ النَّبِيءِ ﷺ ولَمْ يَكُنْ واجِبًا عَلى غَيْرِهِ ولَمْ تُفْرَضْ عَلى المُسْلِمِينَ صَلاةٌ قَبْلَ الصَّلَواتِ الخَمْسِ. وإنَّما كانَ المُسْلِمُونَ يَقْتَدُونَ بِفِعْلِ النَّبِيءِ ﷺ وهو يُقِرُّهم عَلى ذَلِكَ فَكانُوا يَرَوْنَهُ لِزامًا عَلَيْهِمْ، وقَدْ أثْنى اللَّهُ عَلَيْهِمْ بِذَلِكَ في آياتٍ كَثِيرَةٍ كَقَوْلِهِ تَعالى ﴿تَتَجافى جُنُوبُهم عَنِ المَضاجِعِ﴾ [السجدة: ١٦]، وسَيَأْتِي ذَلِكَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعالى ﴿إنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أنَّكَ تَقُومُ أدْنى مِن ثُلُثَيِ اللَّيْلِ﴾ [المزمل: ٢٠] الآيَةَ، قالَتْ عائِشَةُ: إنَّ اللَّهَ افْتَرَضَ (p-٢٥٩)قِيامَ اللَّيْلِ في أوَّلِ هَذِهِ السُّورَةِ فَقامَ النَّبِيءُ وأصْحابُهُ، عَلى أنَّهُ لا خِلافَ في رَفْعِ فَرْضِ القِيامِ عَنِ المُسْلِمِينَ. وتَقَرَّرَ أنَّهُ مَندُوبٌ فِيهِ. واخْتُلِفَ في اسْتِمْرارِ وُجُوبِهِ عَلى النَّبِيءِ ﷺ ولا طائِلَ وراءَ الِاسْتِدْلالِ عَلى ذَلِكَ أوْ عَدَمِهِ.
وقَوْلُهُ إلّا قَلِيلًا اسْتِثْناءٌ مِنَ اللَّيْلِ أيْ: إلّا قَلِيلًا مِنهُ، فَلَمْ يَتَعَلَّقْ إيجابُ القِيامِ عَلَيْهِ بِأوْقاتِ اللَّيْلِ كُلِّها.
و(نِصْفَهُ) بَدَلٌ مِن (قَلِيلًا) بَدَلًا مُطابِقًا وهو تَبْيِينٌ لِإجْمالِ (قَلِيلًا) فَجَعَلَ القَلِيلَ هُنا النِّصْفَ أوْ أقَلَّ مِنهُ بِقَلِيلٍ.
وفائِدَةُ هَذا الإجْمالِ الإيماءُ إلى أنَّ الأوْلى أنْ يَكُونَ القِيامُ أكْثَرَ مِن مُدَّةِ نِصْفِ اللَّيْلِ وأنَّ جَعْلَهُ نِصْفَ اللَّيْلِ رَحْمَةٌ ورُخْصَةٌ لِلنَّبِيءِ ﷺ ويَدُلُّ لِذَلِكَ تَعْقِيبُهُ بِقَوْلِهِ ﴿أوِ انْقُصْ مِنهُ قَلِيلًا﴾ أيْ: انْقُصْ مِنَ النِّصْفِ قَلِيلًا، فَيَكُونُ زَمَنُ قِيامِ اللَّيْلِ أقَلَّ مِن نِصْفِهِ، وهو حِينَئِذٍ قَلِيلٌ فَهو رُخْصَةٌ في الرُّخْصَةِ.
وقالَ ﴿أوْ زِدْ عَلَيْهِ﴾ [المزمل: ٤] وهو عَوْدٌ إلى التَّرْغِيبِ في أنْ تَكُونَ مُدَّةُ القِيامِ أكْثَرَ مِن نِصْفِ اللَّيْلِ، ولِذَلِكَ لَمْ يُقَيِّدْ (وزِدْ عَلَيْهِ) بِمِثْلِ ما قَيَّدَ بِهِ ﴿أوِ انْقُصْ مِنهُ﴾ لِتَكُونَ الزِّيادَةُ عَلى النِّصْفِ مُتَّسِعَةً، وقَدْ ورَدَ في الحَدِيثِ أنَّ النَّبِيءَ ﷺ أخَذَ بِالعَزِيمَةِ فَقامَ حَتّى تَوَرَّمَتْ قَدَماهُ، وقِيلَ لَهُ في ذَلِكَ: إنَّ اللَّهَ غَفَرَ لَكَ ما تَقَدَّمَ مِن ذَنْبِكَ وما تَأخَّرَ فَقالَ: «أفَلا أكُونُ عَبْدًا شَكُورًا» .
والتَّخْيِيرُ المُسْتَفادُ مِن حَرْفِ (أوْ) مَنظُورٌ فِيهِ إلى تَفاوُتِ اللَّيالِي بِالطُّولِ والقِصَرِ؛ لِأنَّ لِذَلِكَ ارْتِباطًا بِسَعَةِ النَّهارِ لِلْعَمَلِ ولِأخْذِ الحَظِّ الفائِتِ مِنَ النَّوْمِ.
وبَعْدُ، فَذَلِكَ تَوْسِيعٌ عَلى النَّبِيءِ ﷺ لِرَفْعِ حَرَجِ تَحْدِيدِهِ لِزَمَنِ القِيامِ، فَسُلِكَ بِهِ مَسْلَكَ التَّقْرِيبِ.
وجَعَلَ ابْنُ عَطِيَّةَ اللَّيْلَ اسْمَ جِنْسٍ يَصْدُقُ عَلى جَمِيعِ اللَّيالِي، وأنَّ المَعْنى: إلّا قَلِيلًا مِنَ اللَّيالِي، وهي اللَّيالِي الَّتِي يَكُونُ فِيها عُذْرٌ يَمْنَعُهُ مِن قِيامِها، أيْ: هو اسْتِثْناءٌ مِنَ اللَّيالِي بِاعْتِبارِ جُزْئِيّاتِها لا بِاعْتِبارِ الأجْزاءِ، ثُمَّ قالَ (نِصْفَهُ) إلى آخِرِهِ.
وتَخْصِيصُ اللَّيْلِ بِالصَّلاةِ فِيهِ؛ لِأنَّهُ وقْتُ النَّوْمِ عادَةً، فَأمْرُ الرَّسُولِ ﷺ بِالقِيامِ فِيهِ زِيادَةٌ في إشْغالِ أوْقاتِهِ بِالإقْبالِ عَلى مُناجاةِ اللَّهِ، ولِأنَّ اللَّيْلَ وقْتُ سُكُونِ (p-٢٦٠)الأصْواتِ واشْتِغالِ النّاسِ، فَتَكُونُ نَفْسُ القائِمِ فِيهِ أقْوى اسْتِعْدادًا لِتَلَقِّي الفَيْضِ الرَّبّانِيِّ.
{"ayahs_start":1,"ayahs":["یَـٰۤأَیُّهَا ٱلۡمُزَّمِّلُ","قُمِ ٱلَّیۡلَ إِلَّا قَلِیلࣰا","نِّصۡفَهُۥۤ أَوِ ٱنقُصۡ مِنۡهُ قَلِیلًا"],"ayah":"نِّصۡفَهُۥۤ أَوِ ٱنقُصۡ مِنۡهُ قَلِیلًا"}
- أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.
أمّهات
جامع البيان
تفسير الطبري
نحو ٢٨ مجلدًا
تفسير القرآن العظيم
تفسير ابن كثير
نحو ١٩ مجلدًا
الجامع لأحكام القرآن
تفسير القرطبي
نحو ٢٤ مجلدًا
معالم التنزيل
تفسير البغوي
نحو ١١ مجلدًا
جمع الأقوال
منتقاة
عامّة
عامّة
فتح البيان
فتح البيان للقنوجي
نحو ١٢ مجلدًا
فتح القدير
فتح القدير للشوكاني
نحو ١١ مجلدًا
التسهيل لعلوم التنزيل
تفسير ابن جزي
نحو ٣ مجلدات
موسوعات
أخرى
لغة وبلاغة
معاصرة
الميسر
نحو مجلد
المختصر
المختصر في التفسير
نحو مجلد
تيسير الكريم الرحمن
تفسير السعدي
نحو ٤ مجلدات
أيسر التفاسير
نحو ٣ مجلدات
القرآن – تدبّر وعمل
القرآن – تدبر وعمل
نحو ٣ مجلدات
تفسير القرآن الكريم
تفسير ابن عثيمين
نحو ١٥ مجلدًا
مركَّزة العبارة
تفسير الجلالين
نحو مجلد
جامع البيان
جامع البيان للإيجي
نحو ٣ مجلدات
أنوار التنزيل
تفسير البيضاوي
نحو ٣ مجلدات
مدارك التنزيل
تفسير النسفي
نحو ٣ مجلدات
الوجيز
الوجيز للواحدي
نحو مجلد
تفسير القرآن العزيز
تفسير ابن أبي زمنين
نحو مجلدين
آثار
غريب ومعاني
السراج في بيان غريب القرآن
غريب القرآن للخضيري
نحو مجلد
الميسر في غريب القرآن الكريم
الميسر في الغريب
نحو مجلد
تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن قتيبة
نحو مجلد
التبيان في تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن الهائم
نحو مجلد
معاني القرآن وإعرابه
معاني الزجاج
نحو ٤ مجلدات
معاني القرآن
معاني القرآن للنحاس
نحو مجلدين
معاني القرآن
معاني القرآن للفراء
نحو مجلدين
مجاز القرآن
مجاز القرآن لمعمر بن المثنى
نحو مجلد
معاني القرآن
معاني القرآن للأخفش
نحو مجلد
أسباب النزول
إعراب ولغة
الإعراب الميسر
نحو ٣ مجلدات
إعراب القرآن
إعراب القرآن للدعاس
نحو ٤ مجلدات
الجدول في إعراب القرآن وصرفه وبيانه
الجدول في إعراب القرآن
نحو ٨ مجلدات
الدر المصون
الدر المصون للسمين الحلبي
نحو ١٠ مجلدات
اللباب
اللباب في علوم الكتاب
نحو ٢٤ مجلدًا
إعراب القرآن وبيانه
إعراب القرآن للدرويش
نحو ٩ مجلدات
المجتبى من مشكل إعراب القرآن
مجتبى مشكل إعراب القرآن
نحو مجلد
إعراب القرآن
إعراب القرآن للنحاس
نحو ٣ مجلدات
تحليل كلمات القرآن
نحو ٩ مجلدات
الإعراب المرسوم
نحو ٣ مجلدات
المجمّع
بالرسم الجديد
بالرسم القديم
حفص عن عاصم
شُعْبة عن عاصم
قالون عن نافع
ورش عن نافع
البَزِّي عن ابن كثير
قُنبُل عن ابن كثير
الدُّوري عن أبي عمرو
السُّوسِي عن أبي عمرو
نستعليق