الباحث القرآني
﴿إنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أنَّكَ تَقُومُ أدْنى مِن ثُلُثَيِ اللَّيْلِ ونِصْفِهِ وثُلُثِهِ وطائِفَةٌ مِنَ الَّذِينَ مَعَكَ واللَّهُ يُقَدِّرُ اللَّيْلَ والنَّهارَ عَلِمَ أنْ لَنْ تُحْصُوهُ فَتابَ عَلَيْكم فاقْرَءُوا ما تَيَسَّرَ مِنَ القُرْآنِ﴾
مِن هُنا يَبْتَدِئُ ما نَزَلَ مِن هَذِهِ السُّورَةِ بِالمَدِينَةِ كَما تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ في أوَّلِ السُّورَةِ.
وصَرِيحُ هَذِهِ الآيَةِ يُنادِي عَلى أنَّ النَّبِيءَ ﷺ كانَ يَقُومُ مِنَ اللَّيْلِ قَبْلَ نُزُولِ الآيَةِ وأنَّ طائِفَةً مِن أصْحابِهِ كانُوا يَقُومُونَ عَمَلًا بِالأمْرِ الَّذِي في أوَّلِ السُّورَةِ مِن قَوْلِهِ ﴿قُمِ اللَّيْلَ إلّا قَلِيلًا﴾ [المزمل: ٢] الآيَةَ، فَتَعَيَّنَ أنَّ هَذِهِ الآيَةَ نَزَلَتْ لِلتَّخْفِيفِ عَنْهم جَمِيعًا لِقَوْلِهِ فِيها ﴿فَتابَ عَلَيْكُمْ﴾ فَهي ناسِخَةٌ لِلْأمْرِ الَّذِي في أوَّلِ السُّورَةِ.
(p-٢٧٩)واخْتَلَفَ السَّلَفُ في وقْتِ نُزُولِها ومَكانِهِ وفي نِسْبَةِ مُقْتَضاها مِن مُقْتَضى الآيَةِ الَّتِي قَبْلَها. والمَشْهُورُ المَوْثُوقُ بِهِ أنَّ صَدْرَ السُّورَةِ نَزَلَ بِمَكَّةَ.
ولا يُغْتَرُّ بِما رَواهُ الطَّبَرِيُّ عَنْ أبِي سَلَمَةَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ عَنْ عائِشَةَ مِمّا يُوهِمُ أنَّ صَدْرَ السُّورَةِ نَزَلَ بِالمَدِينَةِ. ومِثْلُهُ ما رُوِيَ عَنِ النَّخَعِيِّ في التَّزَمُّلِ بِمِرْطٍ لِعائِشَةَ.
ولا يَنْبَغِي أنْ يُطالَ القَوْلُ في أنَّ القِيامَ الَّذِي شُرِّعَ في صَدْرِ السُّورَةِ كانَ قِيامًا واجِبًا عَلى النَّبِيءِ ﷺ خاصَّةً، وأنَّ قِيامَ مَن قامَ مِنَ المُسْلِمِينَ مَعَهُ بِمَكَّةَ إنَّما كانَ تَأسِّيًا بِهِ وأقَرَّهُمُ النَّبِيءُ ﷺ عَلَيْهِ ولَكِنْ رَأتْ عائِشَةُ أنَّ فَرْضَ الصَّلَواتِ الخَمْسِ نَسَخَ وُجُوبَ قِيامِ اللَّيْلِ، وهي تُرِيدُ أنَّ قِيامَ اللَّيْلِ كانَ فَرْضًا عَلى المُسْلِمِينَ، وهو تَأْوِيلٌ، كَما لا يَنْبَغِي أنْ يُخْتَلَفَ في أنَّ أوَّلَ ما أوْجَبَ اللَّهُ عَلى الأُمَّةِ هو الصَّلَواتُ الخَمْسُ الَّتِي فُرِضَتْ لَيْلَةَ المِعْراجِ وأنَّها لَمْ يَكُنْ قَبْلَها وُجُوبُ صَلاةٍ عَلى الأُمَّةِ ولَوْ كانَ لَجَرى ذِكْرُ تَعْرِيضِهِ بِالصَّلَواتِ الخَمْسِ في حَدِيثِ المِعْراجِ، وأنَّ وُجُوبَ الخَمْسِ عَلى النَّبِيءِ ﷺ مِثْلَ وُجُوبِها عَلى المُسْلِمِينَ. وهَذا قَوْلُ ابْنِ عَبّاسٍ؛ لِأنَّهُ قالَ: إنَّ قِيامَ اللَّيْلِ لَمْ يَنْسَخْهُ إلّا آيَةُ ﴿إنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أنَّكَ تَقُومُ أدْنى مِن ثُلُثَيِ اللَّيْلِ﴾ الآيَةَ، ولا أنْ يُخْتَلَفَ في أنَّ فَرْضَ الصَّلَواتِ الخَمْسِ لَمْ يَنْسَخْ فَرْضَ القِيامِ عَلى النَّبِيءِ ﷺ سِوى أنَّهُ نَسْخُ اسْتِيعابِ نِصْفِ اللَّيْلِ أوْ دُونَهُ بِقَلِيلٍ فَنَسَخَهُ ﴿فاقْرَءُوا ما تَيَسَّرَ مِنَ القُرْآنِ﴾ .
وقَدْ بَيَّنَ ذَلِكَ حَدِيثُ ابْنِ عَبّاسٍ لَيْلَةَ باتَ في بَيْتِ خالَتِهِ مَيْمُونَةَ أُمِّ المُؤْمِنِينَ قالَ فِيهِ: «نامَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ وأهْلُهُ حَتّى إذا كانَ نِصْفُ اللَّيْلِ أوْ قَبْلَهُ بِقَلِيلٍ أوْ بَعْدَهُ بِقَلِيلٍ اسْتَيْقَظَ رَسُولُ اللَّهِ، ثُمَّ وصَفَ وُضُوءَهُ وأنَّهُ صَلّى ثَلاثَ عَشْرَةَ رَكْعَةً ثُمَّ نامَ حَتّى جاءَهُ المُنادِي لِصَلاةِ الصُّبْحِ» . وابْنُ عَبّاسٍ يَوْمَئِذٍ غُلامٌ فَيَكُونُ ذَلِكَ في حُدُودِ سَنَةِ سَبْعٍ أوْ ثَمانٍ مِنَ الهِجْرَةِ.
ولَمْ يُنْقَلْ أنَّ المُسْلِمِينَ كانُوا يَقُومُونَ مَعَهُ إلّا حِينَ احْتَجَزَ مَوْضِعًا مِنَ المَسْجِدِ لِقِيامِهِ في لَيالِي رَمَضانَ فَتَسامَعَ أصْحابُهُ بِهِ فَجَعَلُوا يَنْسَلُّونَ إلى المَسْجِدِ لِيُصَلُّوا بِصَلاةِ نَبِيِّهِمْ ﷺ حَتّى احْتَبَسَ عَنْهم في إحْدى اللَّيالِي وقالَ لَهم «لَقَدْ خَشِيتُ أنْ تُفْرَضَ عَلَيْكم» وذَلِكَ بِالمَدِينَةِ وعائِشَةُ عِنْدَهُ كَما تَقَدَّمَ في أوَّلِ السُّورَةِ.
(p-٢٨٠)وهُوَ صَرِيحٌ في أنَّ القِيامَ الَّذِي قامُوهُ مَعَ الرَّسُولِ ﷺ لَمْ يَكُنْ فَرْضًا عَلَيْهِمْ وأنَّهم لَمْ يَدُومُوا عَلَيْهِ وفي أنَّهُ لَيْسَ شَيْءٌ مِن قِيامِ اللَّيْلِ بِواجِبٍ عَلى عُمُومِ المُسْلِمِينَ وإلّا لَما كانَ لِخَشْيَةِ أنْ يُفْرَضَ عَلَيْهِمْ مَوْقِعٌ؛ لِأنَّهُ لَوْ قُدِّرَ أنَّ بَعْضَ قِيامِ اللَّيْلِ كانَ مَفْرُوضًا لَكانَ قِيامُهم مَعَ النَّبِيءِ ﷺ أداءً لِذَلِكَ المَفْرُوضِ، وقَدْ عَضَّدَ ذَلِكَ حَدِيثُ ابْنِ عُمَرَ أنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ «قالَ لِحَفْصَةَ وقَدْ قَصَّتْ عَلَيْهِ رُؤْيا رَآها عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرٍ إنَّ عَبْدَ اللَّهِ رَجُلٌ صالِحٌ لَوْ كانَ يَقُومُ في اللَّيْلِ» .
وافْتِتاحُ الكَلامِ بِـ ﴿إنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أنَّكَ تَقُومُ﴾ يُشْعِرُ بِالثَّناءِ عَلَيْهِ لِوَفائِهِ بِحَقِّ القِيامِ الَّذِي أمَرَ بِهِ وأنَّهُ كانَ يَبْسُطُ إلَيْهِ ويَهْتَمُّ بِهِ ثُمَّ يَقْتَصِرُ عَلى القَدْرِ المُعَيَّنِ فِيهِ النِّصْفُ أوْ أنْقَصُ مِنهُ قَلِيلًا أوْ زائِدٌ عَلَيْهِ بَلْ أخَذَ بِالأقْصى وذَلِكَ ما يَقْرُبُ مِن ثُلُثَيِ اللَّيْلِ كَما هو شَأْنُ أُولِي العَزْمِ كَما قالَ النَّبِيءُ ﷺ في قَوْلِهِ تَعالى ﴿فَلَمّا قَضى مُوسى الأجَلَ﴾ [القصص: ٢٩] أنَّهُ قَضى أقْصى الأجَلَيْنِ وهو العَشْرُ السِّنُونَ.
وقَدْ جاءَ في الحَدِيثِ أنَّ النَّبِيءَ ﷺ «كانَ يَقُومُ مِنَ اللَّيْلِ حَتّى تَوَرَّمَتْ قَدَماهُ» .
وتَأْكِيدُ الخَبَرِ بِـ (إنَّ) لِلِاهْتِمامِ بِهِ، وهو كِنايَةٌ عَنْ أنَّهُ أرْضى رَبَّهُ بِذَلِكَ وتَوْطِئَةٌ لِلتَّخْفِيفِ الَّذِي سَيُذْكَرُ في قَوْلِهِ ﴿فَتابَ عَلَيْكُمْ﴾ لِيُعْلَمَ أنَّهُ تَخْفِيفُ رَحْمَةٍ وكَرامَةٍ ولِإفْراغِ بَعْضِ الوَقْتِ مِنَ النَّهارِ لِلْعَمَلِ والجِهادِ.
ولَمْ تَزَلْ تَكْثُرُ بَعْدَ الهِجْرَةِ أشْغالُ النَّبِيءِ ﷺ بِتَدْبِيرِ مَصالِحِ المُسْلِمِينَ وحِمايَةِ المَدِينَةِ وتَجْهِيزِ الجُيُوشِ ونَحْوِ ذَلِكَ، فَلَمْ تَبْقَ في نَهارِهِ مِنَ السَّعَةِ ما كانَ لَهُ فِيهِ أيّامَ مُقامِهِ بِمَكَّةَ، فَظَهَرَتْ حِكْمَةُ اللَّهِ في التَّخْفِيفِ عَنْ رَسُولِهِ ﷺ مِن قِيامِ اللَّيْلِ الواجِبِ مِنهُ والرَّغِيبَةِ.
وفِي حَدِيثِ عَلِيِّ بْنِ أبِي طالِبٍ أنَّهُ سُئِلَ عَنِ النَّبِيءِ ﷺ إذا آوى إلى مَنزِلِهِ فَقالَ: «كانَ إذا أوى إلى مَنزِلِهِ جَزَّأ دُخُولَهُ ثَلاثَةَ أجْزاءٍ: جُزْءًا لِلَّهِ، وجُزْءًا لِأهْلِهِ، وجُزْءًا لِنَفْسِهِ، ثُمَّ جَزَّأ جُزْأهُ بَيْنَهُ وبَيْنَ النّاسِ فَيَرُدُّ ذَلِكَ بِالخاصَّةِ عَلى العامَّةِ ولا يَدَّخِرُ عَنْهم شَيْئًا فَمِنهم ذُو الحاجَةِ ومِنهم ذُو الحاجَتَيْنِ ومِنهم ذُو الحَوائِجِ فَيَتَشاغَلُ بِهِمْ ويَشْغَلُهم فِيما يُصْلِحُهم والأُمَّةَ مِن مَسْألَتِهِ عَنْهم وإخْبارِهِمْ بِالَّذِي يَنْبَغِي لَهم» .
(p-٢٨١)وإيثارُ المُضارِعِ في قَوْلِهِ (يَعْلَمُ) لِلدَّلالَةِ عَلى اسْتِمْرارِ ذَلِكَ العِلْمِ وتَجَدُّدِهِ وذَلِكَ إيذانٌ بِأنَّهُ بِمَحَلِّ الرِّضى مِنهُ.
وفِي ضِدِّهِ قَوْلُهُ ﴿قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ المُعَوِّقِينَ مِنكُمْ﴾ [الأحزاب: ١٨]؛ لِأنَّهُ في مَعْرِضِ التَّوْبِيخِ، أيْ: لَمْ يَزَلْ عالِمًا بِذَلِكَ حِينًا فَحِينًا لا يَخْفى عَلَيْهِ مِنهُ حِصَّةٌ.
و(أدْنى) أصْلُهُ: أقْرَبُ، مِنَ الدُّنُوِّ، اسْتُعِيرَ لِلْأقَلِّ؛ لِأنَّ المَسافَةَ الَّتِي بَيْنَ الشَّيْءِ والأدْنى مِنهُ قَلِيلَةٌ، وكَذَلِكَ يُسْتَعارُ الأبْعَدُ لِلْأكْثَرِ.
وهُوَ مَنصُوبٌ عَلى الظَّرْفِيَّةِ لِفِعْلِ (تَقُومُ)، أيْ: تَقُومُ في زَمانٍ يُقَدَّرُ أقَلَّ مِن ثُلُثَيِ اللَّيْلِ وذَلِكَ ما يَزِيدُ عَلى نِصْفِ اللَّيْلِ وهو ما اقْتَضاهُ قَوْلُهُ تَعالى ﴿أوْ زِدْ عَلَيْهِ﴾ [المزمل: ٤] .
وقَرَأ الجُمْهُورُ (ثُلُثَيْ) بِضَمِّ اللّامِ عَلى الأصْلِ. وقَرَأهُ هِشامٌ عَنِ ابْنِ عامِرٍ بِسُكُونِ اللّامِ عَلى التَّخْفِيفِ؛ لِأنَّهُ عَرَضَ لَهُ بَعْضُ الثِّقَلِ بِسَبَبِ التَّثْنِيَةِ.
وقَرَأ نافِعٌ وابْنُ عامِرٍ وأبُو عَمْرٍو وأبُو جَعْفَرٍ ويَعْقُوبُ (﴿ونِصْفَهُ وثُلُثَهُ﴾) بِخَفْضِهِما عَطْفًا عَلى (﴿ثُلُثَيِ اللَّيْلِ﴾)، أيْ: أدْنى مِن نِصْفِهِ وأدْنى مِن ثُلُثِهِ.
وقَرَأ ابْنُ كَثِيرٍ وعاصِمٌ وحَمْزَةُ والكِسائِيُّ وخَلَفٌ بِنَصْبِ (﴿ونِصْفَهُ وثُلُثَهُ﴾) عَلى أنَّهُما مَنصُوبانِ عَلى المَفْعُولِ لِـ (تَقُومُ) أيْ: تَقُومُ ثُلُثَيِ اللَّيْلِ، وتَقُومُ نِصْفَ اللَّيْلِ، وتَقُومُ ثُلُثَ اللَّيْلِ، بِحَيْثُ لا يَنْقُصُ عَنِ النِّصْفِ وعَنِ الثُّلُثِ. وهَذِهِ أحْوالٌ مُخْتَلِفَةٌ في قِيامِ النَّبِيءِ ﷺ بِاللَّيْلِ تابِعَةٌ لِاخْتِلافِ أحْوالِ اللَّيالِي والأيّامِ في طُولِ بَعْضِها وقِصَرِ بَعْضٍ، وكُلُّها داخِلَةٌ تَحْتَ التَّخْيِيرِ الَّذِي خَيَّرَهُ اللَّهُ في قَوْلِهِ ﴿قُمِ اللَّيْلَ إلّا قَلِيلًا﴾ [المزمل: ٢] إلى قَوْلِهِ ﴿أوْ زِدْ عَلَيْهِ﴾ [المزمل: ٤] .
وبِهِ تَظْهَرُ مُناسَبَةُ تَعْقِيبِ هَذِهِ الجُمْلَةِ بِالجُمْلَةِ المُعْتَرِضَةِ، وهي جُمْلَةُ ﴿واللَّهُ يُقَدِّرُ اللَّيْلَ والنَّهارَ﴾ أيْ: قَدْ عَلِمَها اللَّهُ كُلَّها وأنْبَأهُ بِها. فَلا يَخْتَلِفُ المَقْصُودُ بِاخْتِلافِ القِراءاتِ. فَمِنَ العُجابِ قَوْلُ الفَرّاءِ أنَّ النَّصْبَ أشْبَهُ بِالصَّوابِ.
و(طائِفَةٌ) عَطْفٌ عَلى اسْمِ (إنَّ) بِالرَّفْعِ وهو وجْهٌ جائِزٌ إذا كانَ بَعْدَ ذِكْرِ خَبَرِ (إنَّ)؛ لِأنَّهُ يُقَدَّرُ رَفْعُهُ حِينَئِذٍ عَلى الِاسْتِئْنافِ كَما في قَوْلِهِ تَعالى ﴿أنَّ اللَّهَ بَرِيءٌ مِنَ المُشْرِكِينَ ورَسُولُهُ﴾ [التوبة: ٣] . وهو مِنَ اللَّطائِفِ إذا كانَ اتِّصافُ الِاسْمِ والمَعْطُوفِ (p-٢٨٢)بِالخَبَرِ مُخْتَلِفًا فَإنَّ بَيْنَ قِيامِ النَّبِيءِ ﷺ وقِيامِ الطّائِفَةِ الَّتِي مَعَهُ تَفاوُتًا في الحُكْمِ والمِقْدارِ، وكَذَلِكَ بَراءَةُ اللَّهِ مِنَ المُشْرِكِينَ وبَراءَةُ رَسُولِهِ. فَإنَّ الرَّسُولَ ﷺ يَدْعُوهم ويَقْرَأُ عَلَيْهِمُ القُرْآنَ ويُعامِلُهم، وأمّا اللَّهُ فَغاضِبٌ عَلَيْهِمْ ولاعِنُهم. وهَذا وجْهُ العُدُولِ عَنْ أنْ يَقُولَ: إنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ أنَّكم تَقُومُونَ. إلى قَوْلِهِ (﴿أنَّكَ تَقُومُ﴾) ثُمَّ قَوْلُهُ (﴿وطائِفَةٌ﴾) إلَخْ.
ووُصِفَ (طائِفَةٌ) بِأنَّهم ﴿مِنَ الَّذِينَ مَعَكَ﴾، فَإنْ كانَ المُرادُ بِالمَعِيَّةِ المَعِيَّةَ الحَقِيقِيَّةَ، أيِ: المُصاحِبَةَ في عَمَلٍ مِمّا سِيقَ لَهُ الكَلامُ، أيِ المُصاحِبِينَ لَكَ في قِيامِ اللَّيْلِ، لَمْ يَكُنْ في تَفْسِيرِهِ تَعْيِينٌ لِناسٍ بِأعْيانِهِمْ، فَفي حَدِيثِ عائِشَةَ في صَحِيحِ البُخارِيِّ «أنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ صَلّى ذاتَ لَيْلَةٍ في المَسْجِدِ فَصَلّى بِصَلاتِهِ ناسٌ ثُمَّ صَلّى مِنَ القابِلَةِ فَكَثُرَ النّاسُ ثُمَّ اجْتَمَعُوا مِنَ اللَّيْلَةِ الثّالِثَةِ أوِ الرّابِعَةِ فَلَمْ يَخْرُجْ إلَيْهِمْ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ فَلَمّا أصْبَحَ قالَ: قَدْ رَأيْتُ الَّذِي صَنَعْتُمْ ولَمْ يَمْنَعْنِي مِنَ الخُرُوجِ إلَيْكم إلّا أنِّي خَشِيتُ أنْ تُفْرَضَ عَلَيْكم وذَلِكَ في رَمَضانَ» .
وإنْ كانَتِ المَعِيَّةُ مَعِيَّةً مَجازِيَّةً وهي الِانْتِسابُ والصُّحْبَةُ والمُوافَقَةُ فَقَدْ عَدَدْنا مِنهم عَبْدَ اللَّهِ بْنَ مَسْعُودٍ، وعَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَمْرٍو، وسَلْمانَ الفارِسِيَّ وأبا الدَّرْداءِ، وزَيْنَبَ بِنْتَ جَحْشٍ، وعَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ، والحَوْلاءَ بِنْتَ تُوَيْتٍ الأسَدِيَّةَ، فَهَؤُلاءِ ورَدَ ذِكْرُهم مُفَرَّقًا في أحادِيثِ التَّهَجُّدِ مِن صَحِيحِ البُخارِيِّ.
واعْلَمْ أنَّ صَدْرَ هَذِهِ الآيَةِ إيماءٌ إلى الثَّناءِ عَلى النَّبِيءِ ﷺ في وفائِهِ بِقِيامِ اللَّيْلِ حَقَّ الوَفاءِ، وعَلى الطّائِفَةِ الَّذِينَ تابَعُوهُ في ذَلِكَ.
فالخَبَرُ بِأنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ أنَّكَ تَقُومُ مُرادٌ بِهِ الكِنايَةُ عَنِ الرِّضى عَنْهم فِيما فَعَلُوا.
والمَقْصُودُ: التَّمْهِيدُ لِقَوْلِهِ ﴿عَلِمَ أنْ لَنْ تُحْصُوهُ﴾ إلى آخِرِ الآيَةِ.
ولِأجْلِ هَذا الِاعْتِبارِ أُعِيدَ فِعْلُ (عَلِمَ) في جُمْلَةِ ﴿عَلِمَ أنْ سَيَكُونُ مِنكم مَرْضى﴾ إلَخْ ولَمْ يَقُلْ: وأنْ سَيَكُونَ مِنكم مَرْضى، بِالعَطْفِ.
وجُمْلَةُ ﴿واللَّهُ يُقَدِّرُ اللَّيْلَ والنَّهارَ﴾ مُعْتَرِضَةٌ بَيْنَ جُمْلَتَيْ ﴿إنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أنَّكَ تَقُومُ﴾ وجُمْلَةِ ﴿عَلِمَ أنْ لَنْ تُحْصُوهُ﴾ وقَدْ عُلِمَتْ مُناسَبَةُ اعْتِراضِها آنِفًا.
(p-٢٨٣)وجُمْلَةُ ﴿عَلِمَ أنْ لَنْ تُحْصُوهُ﴾ يَجُوزُ أنْ تَكُونَ خَبَرًا ثانِيًا عَنْ (أنْ) بَعْدَ الخَبَرِ في قَوْلِهِ ﴿يَعْلَمُ أنَّكَ تَقُومُ أدْنى مِن ثُلُثَيِ اللَّيْلِ﴾ إلَخْ.
ويَجُوزُ أنْ تَكُونَ اسْتِئْنافًا بَيانِيًّا لِما يَنْشَأُ عَنْ جُمْلَةِ ﴿إنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أنَّكَ تَقُومُ﴾ مِن تَرَقُّبِ السّامِعِ لِمَعْرِفَةِ ما مُهِّدَ لَهُ بِتِلْكَ الجُمْلَةِ، فَبَعْدَ أنْ شَكَرَهم عَلى عَمَلِهِمْ خَفَّفَ عَنْهم مِنهُ.
والضَّمِيرُ المَنصُوبُ في (تُحْصُوهُ) عائِدٌ إلى القِيامِ المُسْتَفادِ مِن ﴿أنَّكَ تَقُومُ﴾ .
والإحْصاءُ حَقِيقَتُهُ: مَعْرِفَةُ عَدَدِ شَيْءٍ مَعْدُودٍ، مُشْتَقٌّ مِنِ اسْمِ الحَصى جَمْعُ حَصاةٍ؛ لِأنَّهم كانُوا إذا عَدُّوا شَيْئًا كَثِيرًا جَعَلُوا لِكُلِّ واحِدٍ حَصاةً وهو هُنا مُسْتَعارٌ لِلْإطاقَةِ. شُبِّهَتِ الأفْعالُ الكَثِيرَةُ مِن رُكُوعٍ وسُجُودٍ وقِراءَةٍ في قِيامِ اللَّيْلِ، بِالأشْياءِ المَعْدُودَةِ، وبِهَذا فَسَّرَ الحَسَنُ وسُفْيانُ، ومِنهُ قَوْلُهُ في الحَدِيثِ ”«اسْتَقِيمُوا ولَنْ تُحْصُوا» “ أيْ: ولَنْ تُطِيقُوا تَمامَ الِاسْتِقامَةِ، أيْ: فَخُذُوا مِنها بِقَدْرِ الطّاقَةِ.
و(أنْ) مُخَفَّفَةٌ مِنَ الثَّقِيلَةِ، واسْمُها ضَمِيرُ شَأْنٍ مَحْذُوفٍ وخَبَرُهُ الجُمْلَةُ، وقَدْ وقَعَ الفَصْلُ بَيْنَ (أنْ) وخَبَرِها بِحَرْفِ النَّفْيِ لِكَوْنِ الخَبَرِ فِعْلًا غَيْرَ دُعاءٍ ولا جامِدٍ حَسَبَ المُتَّبَعِ في الِاسْتِعْمالِ الفَصِيحِ.
و(أنْ) وجُمْلَتُها سادَّةٌ مَسَدَّ مَفْعُولَيْ (عَلِمَ) إذْ تَقْدِيرُهُ عَلِمَ عَدَمَ إحْصائِكُمُوهُ واقِعًا.
وفُرِّعَ عَلى ذَلِكَ ﴿فَتابَ عَلَيْكُمْ﴾ وفِعْلُ (تابَ) مُسْتَعارٌ لِعَدَمِ المُؤاخَذَةِ قَبْلَ حُصُولِ التَّقْصِيرِ؛ لِأنَّ التَّقْصِيرَ مُتَوَقَّعٌ فَشابَهَ الحاصِلَ فَعَبَّرَ عَنْ عَدَمِ التَّكْلِيفِ بِما يُتَوَقَّعُ التَّقْصِيرُ فِيهِ بِفِعْلِ (تابَ) المُفِيدِ رَفْعَ المُؤاخَذَةِ بِالذَّنْبِ بَعْدَ حُصُولِهِ.
والوَجْهُ أنْ يَكُونَ الخِطابُ في قَوْلِهِ (تُحْصُوهُ) وما بَعْدَهُ مُوَجَّهًا إلى المُسْلِمِينَ الَّذِينَ كانُوا يَقُومُونَ اللَّيْلَ: إمّا عَلى طَرِيقَةِ الِالتِفاتِ مِنَ الغَيْبَةِ إلى الخِطابِ بَعْدَ قَوْلِهِ ﴿وطائِفَةٌ مِنَ الَّذِينَ مَعَكَ﴾، وإمّا عَلى طَرِيقَةِ العامِّ المُرادِ بِهِ الخُصُوصُ بِقَرِينَةِ أنَّ النَّبِيءَ ﷺ لا يُظَنُّ تَعَذُّرُ الإحْصاءِ عَلَيْهِ، وبِقَرِينَةِ قَوْلِهِ ﴿أنْ سَيَكُونُ مِنكم مَرْضى﴾ إلَخْ.
ومَعْنى ﴿فاقْرَءُوا ما تَيَسَّرَ مِنَ القُرْآنِ﴾ فَصَلُّوا ما تَيَسَّرَ لَكم، ولَمّا كانَتِ الصَّلاةُ لا تَخْلُو عَنْ قِراءَةِ القُرْآنِ أُتْبِعَ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ هُنا ﴿فاقْرَءُوا ما تَيَسَّرَ مِنَ القُرْآنِ﴾، أيْ: (p-٢٨٤)صَلُّوا كَقَوْلِهِ تَعالى (وقُرْآنَ الفَجْرِ) أيْ: صَلاةَ الفَجْرِ، وفي الكِنايَةِ عَنِ الصَّلاةِ بِالقُرْآنِ جَمْعٌ بَيْنَ التَّرْغِيبِ في القِيامِ والتَّرْغِيبِ في تِلاوَةِ القُرْآنِ فِيهِ بِطَرِيقَةِ الإيجازِ.
والمُرادُ القُرْآنُ الَّذِي كانَ نَزَلَ قَبْلَ هَذِهِ الآيَةِ المَدَنِيَّةِ وهو شَيْءٌ كَثِيرٌ مِنَ القُرْآنِ المَكِّيِّ كُلِّهِ وشَيْءٌ مِنَ المَدَنِيِّ، ولَيْسَ مِثْلَ قَوْلِهِ في صَدْرِ السُّورَةِ ﴿ورَتِّلِ القُرْآنَ تَرْتِيلًا﴾ [المزمل: ٤] كَما عَلِمْتَ هُنالِكَ.
وقَوْلُهُ ﴿ما تَيَسَّرَ مِنَ القُرْآنِ﴾ أيْ: ما تَيَسَّرَ لَكم مِن صَلاةِ اللَّيْلِ فَلا دَلالَةَ في هَذِهِ الآيَةِ عَلى مِقْدارِ ما يُجْزِئُ مِنَ القِراءَةِ في الصَّلاةِ إذْ لَيْسَ سِياقُها في هَذا المَهِيعِ، ولَئِنْ سَلَّمْنا، فَإنَّ ما تَيَسَّرَ مُجْمَلٌ وقَدْ بَيَّنَهُ قَوْلُ النَّبِيءِ ﷺ «لا صَلاةَ لِمَن لَمْ يَقْرَأْ بِفاتِحَةِ الكِتابِ» وأمّا السُّورَةُ مَعَ الفاتِحَةِ فَإنَّهُ لَمْ يُرْوَ عَنْهُ أنَّهُ قَرَأ في الصَّلاةِ أقَلَّ مِن سُورَةٍ، وهو الواجِبُ عِنْدَ جُمْهُورِ الفُقَهاءِ فَيُكْرَهُ أنْ يَقْرَأ المُصَلِّي بَعْضَ سُورَةٍ في الفَرِيضَةِ. ويَجُوزُ في القِيامِ بِالقُرْآنِ في اللَّيْلِ وفي قِيامِ رَمَضانَ، وعِنْدَ الضَّرُورَةِ، فَفي الصَّحِيحِ «أنَّ النَّبِيءَ ﷺ كانَ يَقْرَأُ فَأخَذَتْهُ بُحَّةٌ فَرَكَعَ»، أيْ: في أثْناءِ السُّورَةِ.
وقالَ أبُو حَنِيفَةَ وأحْمَدُ في رِوايَةٍ عَنْهُ: تُجْزِئُ قِراءَةُ آيَةٍ مِنَ القُرْآنِ ولَوْ كانَتْ قَصِيرَةً، ومَثَّلَهُ الحَنَفِيَّةُ بِقَوْلِهِ تَعالى (﴿مُدْهامَّتانِ﴾ [الرحمن: ٦٤]) ولا تَتَعَيَّنُ فاتِحَةُ الكِتابِ، وخالَفَهُ صاحِباهُ في الأمْرَيْنِ.
وتَعْيِينُ مَن تَجِبُ عَلَيْهِ القِراءَةُ مِن مُنْفَرِدٍ وإمامٍ ومَأْمُومٍ مُبَيَّنٌ في كُتُبِ الفِقْهِ.
وفِعْلُ (تابَ) إذا أُرِيدَ بِهِ قَبُولُ تَوْبَةِ التّائِبِ عُدِّيَ بِحَرْفِ (عَلى) لِتَضْمِينِهِ مَعْنى مِن، وإذا كانَ بِمَعْنى الرُّجُوعِ عَنِ الذَّنْبِ والنَّدَمِ مِنهُ عُدِّيَ بِما يُناسِبُ.
وقَدْ نَسَخَتْ هَذِهِ الآيَةُ تَحْدِيدَ مُدَّةِ قِيامِ اللَّيْلِ بِنِصْفِهِ أوْ أزْيَدَ أوْ أقَلَّ ثُلُثِهِ، وأُصْحِبَ التَّحْدِيدُ بِالمِقْدارِ المُتَيَسِّرِ مِن غَيْرِ ضَبْطٍ، أمّا حُكْمُ ذَلِكَ القِيامِ فَهو عَلى ما تَقَدَّمَ شَرْحُهُ.
* * *
(p-٢٨٥)﴿عَلِمَ أنْ سَيَكُونُ مِنكم مَرْضى وآخَرُونَ يَضْرِبُونَ في الأرْضِ يَبْتَغُونَ مِن فَضْلِ اللَّهِ وآخَرُونَ يُقاتِلُونَ في سَبِيلِ اللَّهِ فاقْرَءُوا ما تَيَسَّرَ مِنهُ وأقِيمُوا الصَّلاةَ وآتُوا الزَّكاةَ وأقْرِضُوا اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا﴾ هَذِهِ الجُمْلَةُ بَدَلُ اشْتِمالٍ مِن جُمْلَةِ ﴿عَلِمَ أنْ لَنْ تُحْصُوهُ﴾، وهَذا تَخْفِيفٌ آخَرُ لِأجْلِ أحْوالٍ أُخْرى اقْتَضَتِ التَّخْفِيفَ.
وهَذِهِ حِكْمَةٌ أُخْرى لِنَسْخِ تَحْدِيدِ الوَقْتِ في قِيامِ اللَّيْلِ وهي مُراعاةُ أحْوالٍ طَرَأتْ عَلى المُسْلِمِينَ مِن ضُرُوبِ ما تَدْعُو إلَيْهِ حالَةُ الجَماعَةِ الإسْلامِيَّةِ. وذُكِرَ مِن ذَلِكَ ثَلاثَةُ أضْرُبٍ هي أُصُولُ الأعْذارِ:
الضَّرْبُ الأوَّلُ: أعْذارُ اخْتِلالِ الصِّحَّةِ وقَدْ شَمَلَها قَوْلُهُ ﴿أنْ سَيَكُونُ مِنكم مَرْضى﴾ .
الضَّرْبُ الثّانِي: الأشْغالُ الَّتِي تَدْعُو إلَيْها ضَرُورَةُ العَيْشِ في تِجارَةٍ وصِناعَةٍ وحِراثَةٍ وغَيْرِ ذَلِكَ، وقَدْ أشارَ إلَيْها قَوْلُهُ ﴿وآخَرُونَ يَضْرِبُونَ في الأرْضِ يَبْتَغُونَ مِن فَضْلِ اللَّهِ﴾ . وفَضْلُ اللَّهِ هو الرِّزْقُ.
الضَّرْبُ الثّالِثُ: أعْمالٌ لِمَصالِحِ الأُمَّةِ وأشارَ إلَيْهِ قَوْلُهُ ﴿وآخَرُونَ يُقاتِلُونَ في سَبِيلِ اللَّهِ﴾ ودَخَلَ في ذَلِكَ حِراسَةُ الثُّغُورِ والرِّباطُ بِها، وتَدْبِيرُ الجُيُوشِ، وما يَرْجِعُ إلى نَشْرِ دَعْوَةِ الإسْلامِ مِن إيفادِ الوُفُودِ وبَعْثِ السُّفَراءِ. وهَذا كُلُّهُ مِن شُئُونِ الأُمَّةِ عَلى الإجْمالِ فَيَدْخُلُ في بَعْضِها النَّبِيءُ ﷺ كَما في القِتالِ في سَبِيلِ اللَّهِ، والمَرَضِ، فَفي الحَدِيثِ «اشْتَكى رَسُولُ اللَّهِ ﷺ فَلَمْ يَقُمْ لَيْلَةً أوْ لَيْلَتَيْنِ» .
وإذا كانَتْ هَذِهِ الآيَةُ مِمّا نَزَلَ بِمَكَّةَ فَفِيها بِشارَةٌ بِأنَّ أمْرَ المُسْلِمِينَ صائِرٌ إلى اسْتِقْلالٍ وقَتَرَةٍ عَلى أعْدائِهِمْ فَيُقاتِلُونَ في سَبِيلِ اللَّهِ وإنْ كانَتْ مَدَنِيَّةً فَهو عُذْرٌ لَهم بِما ابْتَدَءُوا فِيهِ مِنَ السَّرايا والغَزَواتِ.
وقَدْ كانَ بَعْضُ الصَّحابَةِ يَتَأوَّلُ مِن هَذِهِ الآيَةِ فَضِيلَةَ التِّجارَةِ والسَّفَرِ لِلتَّجْرِ حَيْثُ سَوّى اللَّهُ بَيْنَ المُجاهِدِينَ والمُكْتَسِبِينَ المالَ الحَلالَ، يَعْنِي أنَّ اللَّهَ ما ذَكَرَ (p-٢٨٦)هَذَيْنِ السَّبَبَيْنِ لِنَسْخِ تَحْدِيدِ القِيامِ إلّا تَنْوِيهًا بِهِما؛ لِأنَّ في غَيْرِهِما مِنَ الأعْذارِ ما هو أشْبَهُ بِالمَرَضِ، ودَقائِقُ القُرْآنِ ولَطائِفُهُ لا تَنْحَصِرُ.
رُوِيَ عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ أنَّهُ قالَ: أيُّما رَجُلٍ جَلَبَ شَيْئًا إلى مَدِينَةٍ مِن مَدائِنِ المُسْلِمِينَ مُحْتَسِبًا فَباعَهُ بِسِعْرِ يَوْمِهِ كانَ لَهُ عِنْدَ اللَّهِ مَنزِلَةُ الشُّهَداءِ، وقَرَأ ﴿وآخَرُونَ يَضْرِبُونَ في الأرْضِ يَبْتَغُونَ مِن فَضْلِ اللَّهِ وآخَرُونَ يُقاتِلُونَ في سَبِيلِ اللَّهِ﴾ .
وعَنِ ابْنِ عُمَرَ ”ما خَلَقَ اللَّهُ مَوْتَةً بَعْدَ المَوْتِ في سَبِيلِ اللَّهِ أحَبَّ إلَيَّ مِن أنْ أمُوتَ بَيْنَ شُعْبَتَيْ رَحْلِي أبْتَغِي مِن فَضْلِ اللَّهِ ضارِبًا في الأرْضِ“ .
فَإذا كانَتْ هَذِهِ الآيَةُ مِمّا نَزَلَ بِمَكَّةَ فَفِيها بِشارَةٌ بِأنَّ أمْرَ المُسْلِمِينِ صائِرٌ إلى قَتَرَةٍ عَلى عَدُوِّهِمْ، وإنْ كانَتْ مَدَنِيَّةً فَهي عُذْرٌ لَهم بِما عَرَضَ لَهم.
ومَعْنى ﴿يَضْرِبُونَ في الأرْضِ﴾ يَسِيرُونَ في الأرْضِ.
وحَقِيقَةُ الضَّرْبِ: قُرْعُ جِسْمٍ بِجِسْمٍ آخَرَ، وسُمِّيَ السَّيْرُ في الأرْضِ ضَرْبًا في الأرْضِ لِتَضْمِينِ فِعْلِ (يَضْرِبُونَ) مَعْنى يَسِيرُونَ فَإنَّ السَّيْرَ ضَرْبٌ لِلْأرْضِ بِالرِّجْلَيْنِ لَكِنَّهُ تُنُوسِيَ مِنهُ مَعْنى الضَّرْبِ وأُرِيدَ المَشْيُ فَلِذَلِكَ عُدِّيَ بِحَرْفِ (في)؛ لِأنَّ الأرْضَ ظَرْفٌ لِلسَّيْرِ كَما قالَ تَعالى ﴿فَسِيرُوا في الأرْضِ﴾ [آل عمران: ١٣٧] وقَدْ تَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعالى ﴿وإذا ضَرَبْتُمْ في الأرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكم جُناحٌ أنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلاةِ﴾ [النساء: ١٠١] في سُورَةِ النِّساءِ.
والِابْتِغاءُ مِن فَضْلِ اللَّهِ: طَلَبُ الرِّزْقِ، قالَ تَعالى ﴿لَيْسَ عَلَيْكم جُناحٌ أنْ تَبْتَغُوا فَضْلًا مِن رَبِّكُمْ﴾ [البقرة: ١٩٨] أيْ: التِّجارَةَ في مَدْحِ الحَجِّ، فَقَوْلُهُ تَعالى ﴿يَضْرِبُونَ في الأرْضِ يَبْتَغُونَ مِن فَضْلِ اللَّهِ﴾ مُرادٌ بِالضَّرْبِ في الأرْضِ فِيهِ السَّفَرُ لِلتِّجارَةِ؛ لِأنَّ السَّيْرَ في الأسْفارِ يَكُونُ في اللَّيْلِ كَثِيرًا ويَكُونُ في النَّهارِ فَيَحْتاجُ المُسافِرُ لِلنَّوْمِ في النَّهارِ.
وفُرِّعَ عَلَيْهِ مِثْلُ ما فُرِّعَ عَلى الَّذِي قَبْلَهُ فَقالَ ﴿فاقْرَءُوا ما تَيَسَّرَ مِنهُ﴾ أيْ: مِنَ القُرْآنِ.
وقَدْ نِيطَ مِقْدارُ القِيامِ بِالتَّيْسِيرِ عَلى جَمِيعِ المُسْلِمِينَ وإنِ اخْتَلَفَتِ الأعْذارُ.
وهَذِهِ الآيَةُ اقْتَضَتْ رَفْعَ وُجُوبِ قِيامِ اللَّيْلِ عَنِ المُسْلِمِينَ إنْ كانَ قَدْ وجَبَ عَلَيْهِمْ مِن قَبْلُ عَلى أحَدِ الِاحْتِمالَيْنِ، أوْ بَيانًا لَمْ يُوجَبْ عَلَيْهِمْ وكانُوا قَدِ التَزَمُوهُ فَبَيَّنَ (p-٢٨٧)لَهم أنَّ ما التَزَمُوهُ مِنَ التَّأسِّي بِالنَّبِيءِ ﷺ في ذَلِكَ غَيْرُ لازِمٍ لَهم. وعَلَّلَ عَدَمَ وُجُوبِهِ عَلَيْهِمْ بِأنَّ الأُمَّةَ يَكْثُرُ فِيها أصْحابُ الأعْذارِ الَّتِي يَشُقُّ مَعَها قِيامُ اللَّيْلِ فَلَمْ يَجْعَلْهُ اللَّهُ واجِبًا عَلَيْهِمْ أوْ رَفَعَ وُجُوبَهُ. ولَوْلا اعْتِبارُ المَظِنَّةِ العامَّةِ لِأُبْقِيَ حُكْمُ القِيامِ ورُخِّصَ لِأصْحابِ العُذْرِ في مُدَّةِ العُذْرِ فَقَطْ فَتَبَيَّنَ أنَّ هَذا تَعْلِيلُ الحُكْمِ الشَّرْعِيِّ بِالمَظِنَّةِ، والحُكْمُ هُنا عَدَمِيٌّ، أيْ: عَدَمُ الإنْجابِ فَهو نَظِيرُ قَصْرِ الصَّلاةِ في السَّفَرِ عَلى قَوْلِ عائِشَةَ أُمِّ المُؤْمِنِينَ: إنَّ الصَّلاةَ فُرِضَتْ رَكْعَتَيْنِ ثُمَّ زِيدَ في ثَلاثٍ مِنَ الصَّلَواتِ في الحَضَرِ وأُبْقِيَتْ صَلاةُ السَّفَرِ، وعِلَّةُ بَقاءِ الرَّكْعَتَيْنِ هو مَظِنَّةُ المَشَقَّةِ في السَّفَرِ.
وأُوجِبَ التَّرَخُّصُ في قِيامِ اللَّيْلِ أنَّهُ لَمْ يَكُنْ رُكْنًا مِن أرْكانِ الإسْلامِ فَلَمْ تَكُنِ المَصْلَحَةُ الدِّينِيَّةُ قَوِيَّةً فِيهِ.
وأمّا حُكْمُ القِيامِ فَهو ما دَلَّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ ﴿قُمِ اللَّيْلَ إلّا قَلِيلًا﴾ [المزمل: ٢] وما دَلَّتْ عَلَيْهِ أدِلَّةُ التَّحْرِيضِ عَلَيْهِ مِنَ السُّنَّةِ. وقَدْ مَضى ذَلِكَ كُلُّهُ. فَهَذِهِ الآيَةُ صالِحَةٌ لِأنْ تَكُونَ أصْلًا لِلْتَعْلِيلِ بِالمَظِنَّةِ وصالِحَةٌ لِأنْ تَكُونَ أصْلًا تُقاسُ عَلَيْهِ الرُّخَصُ العامَّةُ الَّتِي تُراعى فِيها مَشَقَّةُ غالِبِ الأُمَّةِ مِثْلَ رُخْصَةِ بَيْعِ السَّلَمِ دُونَ الأحْوالِ الفَرْدِيَّةِ والجُزْئِيَّةِ.
وقَوْلُهُ ﴿وأقِيمُوا الصَّلاةَ﴾ تَذْكِيرٌ بِأنَّ الصَّلَواتِ الواجِبَةَ هي الَّتِي تَحْرِصُونَ عَلى إقامَتِها وعَدَمِ التَّفْرِيطِ فِيها كَما قالَ تَعالى ﴿إنَّ الصَّلاةَ كانَتْ عَلى المُؤْمِنِينَ كِتابًا مَوْقُوتًا﴾ [النساء: ١٠٣] .
وفِي هَذا التَّعْقِيبِ بِعَطْفِ الأمْرِ بِإقامَةِ الصَّلاةِ إيماءٌ إلى أنَّ في الصَّلَواتِ الخَمْسِ ما يَرْفَعُ التَّبِعَةَ عَنِ المُؤْمِنِينَ وأنَّ قِيامَ اللَّيْلِ نافِلَةٌ لَهم وفِيهِ خَيْرٌ كَثِيرٌ وقَدْ تَضافَرَتِ الآثارُ عَلى هَذا ما هو في كُتُبِ السُّنَّةِ.
وعَطْفُ ﴿وآتُوا الزَّكاةَ﴾ تَتْمِيمٌ؛ لِأنَّ الغالِبَ أنَّهُ لَمْ يَخْلُ ذِكْرُ الصَّلاةِ مِن قَرْنِ الزَّكاةِ مَعَها حَتّى اسْتَنْبَطَ أبُو بَكْرٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - مِن ذَلِكَ أنَّ مانِعَ الزَّكاةِ يُقاتَلُ عَلَيْها، فَقالَ لِعُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: لَأُقاتِلَنَّ مَن فَرَّقَ بَيْنَ الصَّلاةِ والزَّكاةِ.
وإقْراضُ اللَّهِ هو الصَّدَقاتُ غَيْرُ الواجِبَةِ، شُبِّهَ إعْطاءُ الصَّدَقَةِ لِلْفَقِيرِ بِقَرْضٍ يُقْرِضُهُ اللَّهُ؛ لِأنَّ اللَّهَ وعَدَ عَلى الصَّدَقَةِ بِالثَّوابِ الجَزِيلِ فَشابَهَ حالَ مُعْطِي الصَّدَقَةِ مُسْتَجِيبًا رَغْبَةَ اللَّهِ فِيهِ بِحالِ مَن أقْرَضَ مُسْتَقْرِضًا في أنَّهُ حَقِيقٌ بِأنْ يَرْجِعَ إلَيْهِ ما أقْرَضَهُ، وذَلِكَ في الثَّوابِ الَّذِي يُعْطاهُ يَوْمَ الجَزاءِ.
(p-٢٨٨)ووَصْفُ القَرْضِ بِالحَسَنِ يُفِيدُ الصَّدَقَةَ المُرادَ بِها وجْهُ اللَّهِ تَعالى والسّالِمَةَ مِنَ المَنِّ والأذى، والحُسْنُ مُتَفاوِتٌ.
والحَسَنُ في كُلِّ نَوْعٍ هو ما فِيهِ الصِّفاتُ المَحْمُودَةُ في ذَلِكَ النَّوْعِ في بابِهِ، ويُعْرَفُ المَحْمُودُ مِنَ الصَّدَقَةِ مِن طَرِيقِ الشَّرْعِ بِما وصَفَهُ القُرْآنُ في حُسْنِ الصَّدَقاتِ وما ورَدَ في كَلامِ النَّبِيءِ ﷺ مِن ذَلِكَ.
وقَدْ تَقَدَّمَ في سُورَةِ البَقَرَةِ قَوْلُهُ ﴿مَن ذا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضاعِفَهُ لَهُ أضْعافًا كَثِيرَةً﴾ [البقرة: ٢٤٥] وفي سُورَةِ التَّغابُنِ ﴿إنْ تُقْرِضُوا اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا يُضاعِفْهُ لَكُمْ﴾ [التغابن: ١٧] .
* * *
﴿وما تُقَدِّمُوا لِأنْفُسِكم مَن خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللَّهِ هو خَيْرًا وأعْظَمَ أجْرًا﴾ تَذْيِيلٌ لِما سَبَقَ مِنَ الأمْرِ في قَوْلِهِ ﴿فاقْرَءُوا ما تَيَسَّرَ مِنهُ وأقِيمُوا الصَّلاةَ وآتُوا الزَّكاةَ وأقْرِضُوا اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا﴾، فَإنَّ قَوْلَهُ (﴿مِن خَيْرٍ﴾) يَعُمُّ جَمِيعَ فِعْلِ الخَيْرِ.
وفِي الكَلامِ إيجازُ حَذْفٍ. تَقْدِيرُ المَحْذُوفِ: وافْعَلُوا الخَيْرَ وما تُقَدِّمُوا لِأنْفُسِكم مِنهُ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللَّهِ، فاسْتُغْنِيَ عَنِ المَحْذُوفِ بِذِكْرِ الجَزاءِ عَلى الخَيْرِ.
و(ما) شَرْطِيَّةٌ. ومَعْنى تَقْدِيمِ الخَيْرِ: فِعْلُهُ في الحَياةِ، شُبِّهَ فِعْلُ الخَيْرِ في مُدَّةِ الحَياةِ لِرَجاءِ الِانْتِفاعِ بِثَوابِهِ في الحَياةِ الآخِرَةِ بِتَقْدِيمِ العازِمِ عَلى السَّفَرِ ثَقَلَهُ وأدَواتِهِ وبَعْضَ أهْلِهِ إلى المَحَلِّ الَّذِي يَرُومُ الِانْتِهاءَ إلَيْهِ لِيَجِدَ ما يَنْتَفِعُ بِهِ وقْتَ وُصُولِهِ.
و(مِن خَيْرٍ) بَيانٌ لِإبْهامِ (ما) الشَّرْطِيَّةِ.
والخَيْرُ: هو ما وصَفَهُ الدِّينُ بِالحُسْنِ ووَعَدَ عَلى فِعْلِهِ بِالثَّوابِ.
ومَعْنى (تَجِدُوهُ) يَجِدُوا جَزاءَهُ وثَوابَهُ، وهو الَّذِي قَصَدَهُ فاعِلُهُ، فَكَأنَّهُ وجَدَ نَفْسَ الَّذِي قَدَّمَهُ، وهَذا اسْتِعْمالٌ كَثِيرٌ في القُرْآنِ والسُّنَّةِ أنْ يُعَبَّرَ عَنْ عِوَضِ الشَّيْءِ وجَزائِهِ باسْمِ المُعَوَّضِ عَنْهُ والمُجازى بِهِ، ومِنهُ قَوْلُ النَّبِيءُ ﷺ في الَّذِي يَكْنِزُ المالَ ولا يُؤَدِّي حَقَّهُ «مُثِّلَ لَهُ يَوْمَ القِيامَةِ شُجاعًا أقْرَعَ يَأْخُذُ بِلِهْزِمَتَيْهِ يَقُولُ: أنا مالُكَ أنا كَنْزُكَ» .
وضَمِيرُ الغائِبِ في (تَجِدُوهُ) هو المَفْعُولُ الأوَّلُ لِـ (تَجِدُوا) ومَفْعُولُهُ الثّانِي (خَيْرًا) .
(p-٢٨٩)والضَّمِيرُ المُنْفَصِلُ الَّذِي بَيْنَهُما ضَمِيرُ فِعْلٍ، وجازَ وُقُوعُهُ بَيْنَ مَعْرِفَةٍ ونَكِرَةٍ خِلافًا لِلْمَعْرُوفِ في حَقِيقَةِ ضَمِيرِ الفَصْلِ مِن وُجُوبِ وُقُوعِهِ بَيْنَ مَعْرِفَتَيْنِ؛ لِأنَّ أفْعَلَ مِن كَذا أشْبَهَ المَعْرِفَةَ في أنَّهُ لا يَجُوزُ دُخُولُ حَرْفِ التَّعْرِيفِ عَلَيْهِ.
و(خَيْرًا): اسْمُ تَفْضِيلٍ، أيْ: خَيْرًا مِمّا تُقَدِّمُونَهُ إذْ لَيْسَ المُرادُ أنَّكم تَجِدُونَهُ مِن جِنْسِ الخَيْرِ، بَلِ المُرادُ مُضاعَفَةُ الجَزاءِ، لِما دَلَّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ تَعالى ﴿إنْ تُقْرِضُوا اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا يُضاعِفْهُ لَكُمْ﴾ [التغابن: ١٧] وغَيْرُ ذَلِكَ مِن كَثِيرٍ مِنَ الآياتِ.
وأفادَ ضَمِيرُ الفَصْلِ هُنا مُجَرَّدَ التَّأْكِيدِ لِتَحْقِيقِهِ.
وعَطْفُ ﴿وأعْظَمَ أجْرًا﴾ عَلى (خَيْرًا) أوْ هو مُنْسَحِبٌ عَلَيْهِ تَأْكِيدُ ضَمِيرِ الفَصْلِ.
وانْتَصَبَ (أجْرًا) عَلى أنَّهُ تَمْيِيزُ نِسْبَةٍ لِـ (أعْظَمَ)؛ لِأنَّهُ في مَعْنى الفِعْلِ. فالتَّقْدِيرُ: وأعْظَمَ أجْرَهُ، كَما تَقُولُ: وجَدْتُهُ مُنْبَسِطًا كَفًّا، والمَعْنى: أنَّ أجْرَهُ خَيْرٌ وأعْظَمُ مِمّا قَدَّمْتُمُوهُ.
* * *
﴿واسْتَغْفِرُوا اللَّهَ إنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ﴾ يَجُوزُ أنْ تَكُونَ الواوُ لِلْعَطْفِ فَيَكُونُ مَعْطُوفًا عَلى جُمْلَةِ ﴿وما تُقَدِّمُوا لِأنْفُسِكُمْ﴾ إلَخْ، فَيَكُونُ لَها حُكْمُ التَّذْيِيلِ إرْشادًا لِتَدارُكِ ما عَسى أنْ يَعْرِضَ مِنَ التَّفْرِيطِ في بَعْضِ ما أمَرَهُ اللَّهُ بِتَقْدِيمِهِ مِن خَيْرٍ فَإنَّ ذَلِكَ يَشْمَلُ الفَرائِضَ الَّتِي يَقْتَضِي التَّفْرِيطُ في بَعْضِها تَوْبَةً مِنهُ.
ويَجُوزُ أنْ تَكُونَ الواوُ لِلِاسْتِئْنافِ، وتَكُونُ الجُمْلَةُ اسْتِئْنافًا بَيانِيًّا ناشِئًا عَنِ التَّرْخِيصِ في تَرْكِ بَعْضِ القِيامِ إرْشادًا مِنَ اللَّهِ لِما يَسُدُّ مَسَدَّ قِيامِ اللَّيْلِ الَّذِي يُعَرِّضُ تَرْكُهُ بِأنْ يَسْتَغْفِرَ المُسْلِمُ رَبَّهُ إذا انْتَبَهَ مِن أجْزاءِ اللَّيْلِ، وهو مَشْمُولٌ لِقَوْلِهِ تَعالى (p-٢٩٠)﴿وبِالأسْحارِ هم يَسْتَغْفِرُونَ﴾ [الذاريات: ١٨]، وقالَ النَّبِيءُ ﷺ «يَنْزِلُ رَبُّنا كُلَّ لَيْلَةٍ إلى سَماءِ الدُّنْيا حِينَ يَبْقى ثُلُثُ اللَّيْلِ الآخِرِ فَيَقُولُ: مَن يَدْعُونِي فَأسْتَجِيبَ لَهُ، مَن يَسْألُنِي فَأُعْطِيَهُ، مَن يَسْتَغْفِرُنِي فَأغْفِرَ لَهُ» وقالَ «مَن تَعارَّ مِنَ اللَّيْلِ فَقالَ: لا إلَهَ إلّا اللَّهُ وحْدَهُ لا شَرِيكَ لَهُ، لَهُ المُلْكُ ولَهُ الحَمْدُ وهو عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ، الحَمْدُ لِلَّهِ وسُبْحانَ اللَّهِ ولا إلَهَ إلّا اللَّهُ واللَّهُ أكْبَرُ ولا حَوْلَ ولا قُوَّةَ إلّا بِاللَّهِ، ثُمَّ قالَ اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِي أوْ دَعا اسْتُجِيبَ لَهُ» .
وجُمْلَةُ ﴿إنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ﴾ تَعْلِيلٌ لِلْأمْرِ بِالِاسْتِغْفارِ، أيْ:؛ لِأنَّ اللَّهَ كَثِيرُ المَغْفِرَةِ شَدِيدُ الرَّحْمَةِ. والمَقْصُودُ في هَذا التَّعْلِيلِ التَّرْغِيبُ والتَّحْرِيضُ عَلى الِاسْتِغْفارِ بِأنَّهُ مَرْجُوُّ الإجابَةِ. وفي الإتْيانِ بِالوَصْفَيْنِ الدّالَّيْنِ عَلى المُبالَغَةِ في الصِّفَةِ إيماءٌ إلى الوَعْدِ بِالإجابَةِ.
* * *
(p-٢٩١)بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
سُورَةُ المُدَّثِّرِ
تُسَمّى في كُتُبِ التَّفْسِيرِ (سُورَةُ المُدَّثِّرِ) وكَذَلِكَ سُمِّيَتْ في المَصاحِفِ الَّتِي رَأيْناها ومِنها كُتُبٌ في القَيْرَوانَ في القَرْنِ الخامِسِ.
وأُرِيدَ بِالمُدَّثِّرِ النَّبِيءُ ﷺ مَوْصُوفًا بِالحالَةِ الَّتِي نُودِيَ بِها، كَما سُمِّيَتْ بَعْضُ السُّورِ بِأسْماءِ الأنْبِياءِ الَّذِينَ ذُكِرُوا فِيها.
وإمّا تَسْمِيَةٌ بِاللَّفْظِ الَّذِي وقَعَ فِيها، ونَظِيرُهُ ما تَقَدَّمَ في تَسْمِيَةِ (سُورَةُ المُزَّمِّلِ)، ومِثْلُهُ ما تَقَدَّمَ في سُورَةِ المُجادَلَةِ مِنِ احْتِمالِ فَتْحِ الدّالِ أوْ كَسْرِها.
وهِيَ مَكِّيَّةٌ حَكى الِاتِّفاقَ عَلى ذَلِكَ ابْنُ عَطِيَّةَ والقُرْطُبِيُّ ولَمْ يَذْكُرْها في الإتْقانِ في السُّوَرِ الَّتِي بَعْضُها مَدَنِيٌّ. وذَكَرَ الألُوسِيُّ أنَّ صاحِبَ التَّحْرِيرِ - مُحَمَّدَ بْنَ النَّقِيبِ المَقْدِسِيَّ المُتَوَفّى سَنَةَ ٦٩٨ لَهُ تَفْسِيرٌ - ذَكَرَ قَوْلَ مُقاتِلٍ أوْ قَوْلَهُ تَعالى ﴿وما جَعَلْنا عِدَّتَهم إلّا فِتْنَةً﴾ [المدثر: ٣١] إلَخْ، نَزَلَ بِالمَدِينَةِ اهـ. ولَمْ نَقِفْ عَلى سَنَدِهِ في ذَلِكَ ولا رَأيْنا ذَلِكَ لِغَيْرِهِ وسَيَأْتِي.
(p-٢٩٢)قِيلَ إنَّها ثانِيَةُ السُّوَرِ نُزُولًا وإنَّها لَمْ يَنْزِلْ قَبْلَها إلّا سُورَةُ (﴿اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ﴾ [العلق: ١]) وهو الَّذِي جاءَ في حَدِيثِ عائِشَةَ في الصَّحِيحَيْنِ «فِي صِفَةِ بَدْءِ الوَحْيِ أنَّ النَّبِيءَ ﷺ جاءَهُ الحَقُّ وهو في غارِ حِراءَ فَجاءَهُ المَلَكُ فَقالَ ﴿اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ﴾ [العلق: ١] إلى ﴿ما لَمْ يَعْلَمْ﴾ [العلق: ٥] ثُمَّ قالَتْ: ثُمَّ فَتَرَ الوَحْيُ» . فَلَمْ تَذْكُرْ نُزُولَ وحْيٍ بَعْدَ آياتِ ﴿اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ﴾ [العلق: ١] .
وكَذَلِكَ حَدِيثُ جابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ مِن رِوايَةِ أبِي سَلَمَةَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ مِن طُرُقٍ كَثِيرَةٍ وبِألْفاظٍ يَزِيدُ بَعْضُها عَلى بَعْضٍ. وحاصِلُ ما يَجْتَمِعُ مِن طُرُقِهِ: قالَ جابِرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ وهو يُحَدِّثُ عَنْ فَتْرَةِ الوَحْيِ قالَ في حَدِيثِهِ: إنَّ النَّبِيءَ ﷺ قالَ: «فَبَيْنا أنا أمْشِي سَمِعْتُ صَوْتًا مِنَ السَّماءِ فَنُودِيتُ فَنَظَرْتُ أمامِي وخَلْفِي وعَنْ يَمِينِي وعَنْ شَمالِي فَلَمْ أرَ شَيْئًا فَرَفَعْتُ رَأْسِي فَإذا المَلَكُ الَّذِي جاءَنِي بِحِراءَ جالِسٌ عَلى كُرْسِيٍّ بَيْنَ السَّماءِ والأرْضِ فُجِئْتُ مِنهُ رُعْبًا فَأتَيْتُ خَدِيجَةَ فَقُلْتُ: دَثِّرُونِي فَدَثَّرُونِي» زادَ غَيْرُ ابْنِ شِهابٍ مِن رِوايَتِهِ «وصُبُّوا عَلَيَّ ماءً بارِدًا فَدَثَّرُونِي وصَبُّوا عَلَيَّ ماءً بارِدًا» . قالَ النَّوَوِيُّ: صَبُّ الماءِ لِتَسْكِينِ الفَزَعِ. فَأنْزَلَ اللَّهُ ﴿يا أيُّها المُدَّثِّرُ﴾ [المدثر: ١] إلى ﴿والرُّجْزَ فاهْجُرْ﴾ [المدثر: ٥] ثُمَّ حَمِيَ الوَحْيُ وتَتابَعَ اهـ.
ووَقَعَ في صَحِيحِ مُسْلِمٍ عَنْ جابِرٍ: أنَّها أوَّلُ القُرْآنِ، سُورَةُ المُدَّثِّرِ، وهو الَّذِي يَقُولُ في حَدِيثِهِ أنَّ رَسُولَ اللَّهِ يُحَدِّثُ عَنْ فَتْرَةِ الوَحْيِ وإنَّما تَقَعُ الفَتْرَةُ بَيْنَ شَيْئَيْنِ فَتَقْتَضِي وحْيًا نَزَلَ قَبْلَ سُورَةِ المُدَّثِّرِ وهو ما بُيِّنَ في حَدِيثِ عائِشَةَ.
وقَدْ تَقَدَّمَ في صَدْرِ سُورَةِ المُزَّمِّلِ قَوْلُ جابِرِ بْنِ زَيْدٍ: أنَّ سُورَةَ القَلَمِ نَزَلَتْ بَعْدَ سُورَةِ العَلَقِ وأنَّ سُورَةَ المُزَّمِّلِ ثالِثَةٌ، وأنَّ سُورَةَ المُدَّثِّرِ رابِعَةٌ.
وقالَ جابِرُ بْنُ زَيْدٍ: نَزَلَتْ بَعْدَ المُدَّثِّرِ سُورَةُ الفاتِحَةِ. ولا شَكَّ أنَّ سُورَةَ المُدَّثِّرِ نَزَلَتْ قَبْلَ المُزَّمِّلِ وأنَّ عِنادَ المُشْرِكِينَ كانَ قَدْ تَزايَدَ بَعْدَ نُزُولِ سُورَةِ المُدَّثِّرِ فَكانَ التَّعَرُّضُ لَهم في سُورَةِ المُزَّمِّلِ أوْسَعَ.
وقَدْ وقَعَ في حَدِيثِ جابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ في صَحِيحِ البُخارِيِّ وجامِعِ التِّرْمِذِيِّ مِن طَرِيقِ ابْنِ شِهابٍ أنَّ نُزُولَ هَذِهِ السُّورَةِ كانَ قَبْلَ أنْ تُفْرَضَ الصَّلاةُ.
والصَّلاةُ فُرِضَتْ بَعْدَ فَتْرَةِ الوَحْيِ سَواءٌ كانَتْ خَمْسَةً أوْ أقَلَّ، وسَواءٌ كانَتْ واجِبَةً كَما هو ظاهِرُ قَوْلِهِمْ: فُرِضَتْ أمْ كانَتْ مَفْرُوضَةً بِمَعْنى مَشْرُوعَةٍ، وفَتْرَةُ الوَحْيِ (p-٢٩٣)مُخْتَلَفٌ في مُدَّتِها اخْتِلافًا كَثِيرًا فَقِيلَ كانَتْ سَنَتَيْنِ ونِصْفًا، وقِيلَ: أرْبَعِينَ يَوْمًا، وقِيلَ: خَمْسَةَ عَشَرَ يَوْمًا، والأصَحُّ أنَّها كانَتْ أرْبَعِينَ يَوْمًا. فَيَظْهَرُ أنَّ المُدَّثِّرَ نَزَلَتْ في السَّنَةِ الأُولى مِنَ البَعْثَةِ وأنَّ الصَّلاةَ فُرِضَتْ عَقِبَ ذَلِكَ كَما يُشْعِرُ بِهِ تَرْتِيبُ ابْنِ إسْحاقَ في سَوْقِ حَوادِثِ سِيرَتِهِ.
وعَدَّ أهْلُ المَدِينَةِ في عَدِّهِمُ الأخِيرِ الَّذِي أرْسَوْا عَلَيْهِ، وأهْلُ الشّامِ آيَها خَمْسًا وخَمْسِينَ، وعَدَّها أهْلُ البَصْرَةِ والكُوفَةِ وأهْلُ المَدِينَةِ في عَدِّهِمُ الأوَّلِ الَّذِي رَجَعُوا عَنْهُ سِتًّا وخَمْسِينَ.
* * *
أغْراضُها
جاءَ فِيها مِنَ الأغْراضِ تَكْرِيمُ النَّبِيءِ ﷺ والأمْرُ بِإبْلاغِ دَعْوَةِ الرِّسالَةِ.
وإعْلانُ وحْدانِيَّةِ اللَّهِ بِالإلَهِيَّةِ.
والأمْرُ بِالتَّطَهُّرِ الحِسِّيِّ والمَعْنَوِيِّ.
ونَبْذُ الأصْنامِ.
والإكْثارُ مِنَ الصَّدَقاتِ.
والأمْرُ بِالصَّبْرِ.
وإنْذارُ المُشْرِكِينَ بِهَوْلِ البَعْثِ.
وتَهْدِيدُ مَن تَصَدّى لِلطَّعْنِ في القُرْآنِ، وزَعَمَ أنَّهُ قَوْلُ البَشَرِ، وكُفْرُ الطّاعِنِ نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْهِ فَأقْدَمَ عَلى الطَّعْنِ في آياتِهِ مَعَ عِلْمِهِ بِأنَّها حَقٌّ.
ووَصْفُ أهْوالِ جَهَنَّمَ.
والرَّدُّ عَلى المُشْرِكِينَ الَّذِينَ اسْتَخَفُّوا بِها وزَعَمُوا قِلَّةَ عَدَدِ حَفَظَتِها.
وتَحَدِّي أهْلِ الكِتابِ بِأنَّهم جَهِلُوا عَدَدَ حَفَظَتِها.
وتَأْيِيسُهم مِنَ التَّخَلُّصِ مِنَ العَذابِ.
وتَمْثِيلُ ضَلالِهِمْ في الدُّنْيا.
ومُقابَلَةُ حالِهِمْ بِحالِ المُؤْمِنِينَ أهْلِ الصَّلاةِ والزَّكاةِ والتَّصْدِيقِ بِيَوْمِ الجَزاءِ.
{"ayah":"۞ إِنَّ رَبَّكَ یَعۡلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أَدۡنَىٰ مِن ثُلُثَیِ ٱلَّیۡلِ وَنِصۡفَهُۥ وَثُلُثَهُۥ وَطَاۤىِٕفَةࣱ مِّنَ ٱلَّذِینَ مَعَكَۚ وَٱللَّهُ یُقَدِّرُ ٱلَّیۡلَ وَٱلنَّهَارَۚ عَلِمَ أَن لَّن تُحۡصُوهُ فَتَابَ عَلَیۡكُمۡۖ فَٱقۡرَءُوا۟ مَا تَیَسَّرَ مِنَ ٱلۡقُرۡءَانِۚ عَلِمَ أَن سَیَكُونُ مِنكُم مَّرۡضَىٰ وَءَاخَرُونَ یَضۡرِبُونَ فِی ٱلۡأَرۡضِ یَبۡتَغُونَ مِن فَضۡلِ ٱللَّهِ وَءَاخَرُونَ یُقَـٰتِلُونَ فِی سَبِیلِ ٱللَّهِۖ فَٱقۡرَءُوا۟ مَا تَیَسَّرَ مِنۡهُۚ وَأَقِیمُوا۟ ٱلصَّلَوٰةَ وَءَاتُوا۟ ٱلزَّكَوٰةَ وَأَقۡرِضُوا۟ ٱللَّهَ قَرۡضًا حَسَنࣰاۚ وَمَا تُقَدِّمُوا۟ لِأَنفُسِكُم مِّنۡ خَیۡرࣲ تَجِدُوهُ عِندَ ٱللَّهِ هُوَ خَیۡرࣰا وَأَعۡظَمَ أَجۡرࣰاۚ وَٱسۡتَغۡفِرُوا۟ ٱللَّهَۖ إِنَّ ٱللَّهَ غَفُورࣱ رَّحِیمُۢ"}
- أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.
أمّهات
جامع البيان
تفسير الطبري
نحو ٢٨ مجلدًا
تفسير القرآن العظيم
تفسير ابن كثير
نحو ١٩ مجلدًا
الجامع لأحكام القرآن
تفسير القرطبي
نحو ٢٤ مجلدًا
معالم التنزيل
تفسير البغوي
نحو ١١ مجلدًا
جمع الأقوال
منتقاة
عامّة
عامّة
فتح البيان
فتح البيان للقنوجي
نحو ١٢ مجلدًا
فتح القدير
فتح القدير للشوكاني
نحو ١١ مجلدًا
التسهيل لعلوم التنزيل
تفسير ابن جزي
نحو ٣ مجلدات
موسوعات
أخرى
لغة وبلاغة
معاصرة
الميسر
نحو مجلد
المختصر
المختصر في التفسير
نحو مجلد
تيسير الكريم الرحمن
تفسير السعدي
نحو ٤ مجلدات
أيسر التفاسير
نحو ٣ مجلدات
القرآن – تدبّر وعمل
القرآن – تدبر وعمل
نحو ٣ مجلدات
تفسير القرآن الكريم
تفسير ابن عثيمين
نحو ١٥ مجلدًا
مركَّزة العبارة
تفسير الجلالين
نحو مجلد
جامع البيان
جامع البيان للإيجي
نحو ٣ مجلدات
أنوار التنزيل
تفسير البيضاوي
نحو ٣ مجلدات
مدارك التنزيل
تفسير النسفي
نحو ٣ مجلدات
الوجيز
الوجيز للواحدي
نحو مجلد
تفسير القرآن العزيز
تفسير ابن أبي زمنين
نحو مجلدين
آثار
غريب ومعاني
السراج في بيان غريب القرآن
غريب القرآن للخضيري
نحو مجلد
الميسر في غريب القرآن الكريم
الميسر في الغريب
نحو مجلد
تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن قتيبة
نحو مجلد
التبيان في تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن الهائم
نحو مجلد
معاني القرآن وإعرابه
معاني الزجاج
نحو ٤ مجلدات
معاني القرآن
معاني القرآن للنحاس
نحو مجلدين
معاني القرآن
معاني القرآن للفراء
نحو مجلدين
مجاز القرآن
مجاز القرآن لمعمر بن المثنى
نحو مجلد
معاني القرآن
معاني القرآن للأخفش
نحو مجلد
أسباب النزول
إعراب ولغة
الإعراب الميسر
نحو ٣ مجلدات
إعراب القرآن
إعراب القرآن للدعاس
نحو ٤ مجلدات
الجدول في إعراب القرآن وصرفه وبيانه
الجدول في إعراب القرآن
نحو ٨ مجلدات
الدر المصون
الدر المصون للسمين الحلبي
نحو ١٠ مجلدات
اللباب
اللباب في علوم الكتاب
نحو ٢٤ مجلدًا
إعراب القرآن وبيانه
إعراب القرآن للدرويش
نحو ٩ مجلدات
المجتبى من مشكل إعراب القرآن
مجتبى مشكل إعراب القرآن
نحو مجلد
إعراب القرآن
إعراب القرآن للنحاس
نحو ٣ مجلدات
تحليل كلمات القرآن
نحو ٩ مجلدات
الإعراب المرسوم
نحو ٣ مجلدات
المجمّع
بالرسم الجديد
بالرسم القديم
حفص عن عاصم
شُعْبة عن عاصم
قالون عن نافع
ورش عن نافع
البَزِّي عن ابن كثير
قُنبُل عن ابن كثير
الدُّوري عن أبي عمرو
السُّوسِي عن أبي عمرو
نستعليق