الباحث القرآني

﴿يَوْمَ تَكُونُ السَّماءُ كالمُهْلِ﴾ ﴿وتَكُونُ الجِبالُ كالعِهْنِ﴾ ﴿ولا يَسْألُ حَمِيمٌ حَمِيمًا﴾ ﴿يُبَصَّرُونَهم يَوَدُّ المُجْرِمُ لَوْ يَفْتَدِي مِن عَذابِ يَوْمَئِذٍ بِبَنِيهِ﴾ ﴿وصاحِبَتِهِ وأخِيهِ﴾ ﴿وفَصِيلَتِهِ الَّتِي تُؤويهِ﴾ ﴿ومَن في الأرْضِ جَمِيعًا ثُمَّ يُنْجِيهِ﴾ ﴿كَلّا إنَّها لَظًى﴾ ﴿نَزّاعَةٌ لِلشَّوى﴾ ﴿تَدْعُوا مَن أدْبَرَ وتَوَلّى﴾ ﴿وجَمَعَ فَأوْعى﴾ (p-١٥٩)يَجُوزُ أنْ يَتَعَلَّقَ بِ (﴿يَوْمَ تَكُونُ السَّماءُ﴾) بِفِعْلِ (تَعْرُجُ)، وأنْ يَتَعَلَّقَ بِ (يَوَدُّ المُجْرِمُ) قُدِّمَ عَلَيْهِ لِلْاهْتِمامِ بِذِكْرِ اليَوْمِ فَيَكُونُ قَوْلُهُ ﴿يَوْمَ تَكُونُ السَّماءُ كالمُهْلِ﴾ ابْتِداءَ الكَلامِ، والجُمْلَةُ المَجْعُولَةُ مَبْدَأ كَلامٍ تُجْعَلُ بَدَلَ اشْتِمالٍ مِن جُمْلَةِ ﴿ولا يَسْألُ حَمِيمٌ حَمِيمًا﴾ لِأنَّ عَدَمَ المُساءَلَةِ مُسَبَّبٌ عَنْ شِدَّةِ الهَوْلِ، ومِمّا يَشْتَمِلُ عَلَيْهِ ذَلِكَ أنْ يَوَدَّ المُوَلِّ لَوْ يَفْتَدِي مِن ذَلِكَ العَذابِ. والمُهْلُ: دُرِدِيُّ الزَّيْتِ. والمَعْنى: تَشْبِيهُ السَّماءِ في انْحِلالِ أجْزائِها بِالزَّيْتِ، وهَذا كَقَوْلِهِ في سُورَةِ الرَّحْمَنِ ﴿فَكانَتْ ورْدَةً كالدِّهانِ﴾ [الرحمن: ٣٧] . والعِهْنُ: الصُّوفُ المَصْبُوغُ، قِيلَ المَصْبُوغُ مُطْلَقًا، وقِيلَ المَصْبُوغُ ألْوانًا مُخْتَلِفَةً وهو الَّذِي دَرَجَ عَلَيْهِ الرّاغِبُ والزَّمَخْشَرِيُّ، قالَ زُهَيْرٌ: ؎كانَ فُتاتُ العِهْنِ في كُلِّ مَنزِلٍ نَزَلْنَ بِهِ حَبُّ الفَنا لَمْ يُحَطَّـمْ والفَنا بِالقَصْرِ: حَبٌّ في البادِيَةِ، يُقالُ لَهُ: عِنَبُ الثَّعْلَبِ، ولَهُ ألْوانٌ بَعْضُهُ أخْضَرُ وبَعْضُهُ أصْفَرُ وبَعْضُهُ أحْمَرُ. والعِهْنَةُ: شَجَرٌ بِالبادِيَةِ لَها ورَدٌ أحْمَرُ. ووَجْهُ الشَّبَهِ بِالعِهْنِ تَفَرُّقُ الأجْزاءِ كَما جاءَتْ في آيَةِ القارِعَةِ ﴿وتَكُونُ الجِبالُ كالعِهْنِ المَنفُوشِ﴾ [القارعة: ٥] فَإيثارُ العِهْنِ بِالذِّكْرِ لِإكْمالِ المُشابَهَةِ؛ لِأنَّ الجِبالَ ذاتُ ألْوانٍ قالَ تَعالى ﴿ومِنَ الجِبالِ جُدَدٌ بِيضٌ وحُمْرٌ مُخْتَلِفٌ ألْوانُها﴾ [فاطر: ٢٧] . وإنَّما تَكُونُ السَّماءُ والجِبالُ بِهاتِهِ الحالَةِ حِينَ يَنْحَلُّ تَماسُكُ أجْزائِهِما عِنْدَ انْقِراضِ هَذا العالَمِ والمَصِيرِ إلى عالَمِ الآخِرَةِ. ومَعْنى ﴿ولا يَسْألُ حَمِيمٌ حَمِيمًا﴾ لِشِدَّةِ ما يَعْتَرِي النّاسَ مِنَ الهَوْلِ فَمِن شِدَّةِ ذَلِكَ أنْ يَرى الحَمِيمُ حَمِيمَهُ في كَرْبٍ وعَناءٍ فَلا يَتَفَرَّغُ لِسُؤالِهِ عَنْ حالِهِ؛ لِأنَّهُ في شاغِلٍ عَنْهُ، فَحُذِفَ مُتَعَلَّقُ (يَسْألُ) لِظُهُورِهِ مِنَ المَقامِ ومِن قَوْلِهِ (يُبَصَّرُونَهم) أيْ يَبْصُرُ الأخِلّاءُ أحْوالَ أخِلّائِهِمْ مِنَ الكَرْبِ فَلا يَسْألُ حَمِيمٌ حَمِيمًا، قالَ كَعْبُ بْنُ زُهَيْرٍ:(p-١٦٠) ؎وقالَ كُلُّ خَلِيلٍ كَنْتُ آمُلُـهُ ∗∗∗ لا أُلْهِيَنَّكَ إنِّي عَنْكَ مَشْغُولُ والحَمِيمُ: الخَلِيلُ الصَّدِيقُ. وقَرَأ الجُمْهُورُ بِفَتْحِ ياءِ (يَسْألُ) عَلى البِناءِ لِلْفاعِلِ، وقَرَأهُ أبُو جَعْفَرٍ والبَزِّيُّ عَنِ ابْنِ كَثِيرٍ بِضَمِّ الياءِ عَلى البِناءِ لِلْمَجْهُولِ. فالمَعْنى: لا يُسْألُ حَمِيمٌ عَنْ حَمِيمٍ بِحَذْفِ حَرْفِ الجَرِّ. ومَوْقِعُ (يُبَصَّرُونَهم) الاسْتِئْنافُ البَيانِيُّ لِدَفْعِ احْتِمالِ أنْ يَقَعَ في نَفْسِ السّامِعِ أنَّ الأحِمّاءَ لا يَرى بَعْضُهم بَعْضًا يَوْمَئِذٍ؛ لِأنَّ كُلَّ أحَدٍ في شاغِلٍ، فَأُجِيبَ بِأنَّهم يُكْشَفُ لَهم عَنْهم لِيَرَوْا ما هم فِيهِ مِنَ العَذابِ فَيَزْدادُوا عَذابًا فَوْقَ العَذابِ. ويَجُوزُ أنْ تَكُونَ جُمْلَةُ (يُبَصَّرُونَهم) في مَوْضِعِ الحالِ، أيْ لا يَسْألُ حَمِيمٌ حَمِيمًا في حالِ أنَّ كُلَّ حَمِيمٍ يُبْصِرُ حَمِيمَهُ يُقالُ لَهُ: انْظُرْ ماذا يُقاسِي فُلانٌ. و(يُبَصَّرُونَهم) مُضارِعٌ بَصَّرَهُ بِالأمْرِ إذا جَعَلَهُ مُبْصِرًا لَهُ، أيْ ناظِرًا، فَأصْلُهُ: يُبَصَّرُونَ بِهِمْ فَوَقَعَ فِيهِ حَذْفُ الجارِ وتَعْدِيَةُ الفِعْلِ. والضَّمِيرانِ راجِعانِ إلى (حَمِيمٌ) المَرْفُوعِ وإلى (حَمِيمًا) المَنصُوبِ، أيْ يُبْصِرُ كُلُّ حَمِيمٍ حَمِيمَهُ فَجُمِعَ الضَّمِيرانِ نَظَرًا إلى عُمُومِ (حَمِيمٌ) و(حَمِيمًا) في سِياقِ النَّفْيِ. ويَوَدُّ: يُحِبُّ، أيْ يَتَمَنّى، وذَلِكَ إمّا بِخاطِرٍ يَخْطُرُ في نَفْسِهِ عِنْدَ رُؤْيَةِ العَذابِ. وإمّا بِكَلامٍ يَصْدُرُ مِنهُ نَظِيرَ قَوْلِهِ ﴿ويَقُولُ الكافِرُ يا لَيْتَنِي كُنْتُ تُرابًا﴾ [النبإ: ٤٠]، وهَذا هو الظّاهِرُ، أيْ يَصْرُخُ الكافِرُ يَوْمَئِذٍ فَيَقُولُ: أفْتَدِي مِنَ العَذابِ بِبَنِيِّ وصاحِبَتِي وفَصِيلَتِي فَيَكُونُ ذَلِكَ فَضِيحَةً لَهُ يَوْمَئِذٍ بَيْنَ أهْلِهِ. والمُجْرِمُ: الَّذِي أتى الجُرْمَ، وهو الذَّنْبُ العَظِيمُ، أيِ الكُفْرُ؛ لِأنَّ النّاسَ في صَدْرِ البَعْثَةِ صِنْفانِ كافِرٌ ومُؤْمِنٌ مُطِيعٌ. ويَوْمَئِذٍ هو ﴿يَوْمَ تَكُونُ السَّماءُ كالمُهْلِ﴾ فَإنْ كانَ قَوْلُهُ ﴿يَوْمَ تَكُونُ السَّماءُ﴾ مُتَعَلِّقًا بِ (يَوَدُّ) فَقَوْلُهُ (يَوْمَئِذٍ) تَأْكِيدٌ لِ ﴿يَوْمَ تَكُونُ السَّماءُ كالمُهْلِ﴾، وإنْ كانَ مُتَعَلِّقًا بِقَوْلِهِ (تَعْرُجُ المَلائِكَةُ) فَقَوْلُهُ (يَوْمَئِذٍ) إفادَةٌ لِكَوْنِ ذَلِكَ اليَوْمِ هو يَوْمُ يَوَدُّ المُجْرِمُ لَوْ يَفْتَدِي مِنَ العَذابِ بِمَن ذُكِرَ بَعْدَهُ. (p-١٦١)و(لَوْ) مَصْدَرِيَّةٌ فَما بَعْدَها في حُكْمِ المَفْعُولِ لِـ (يَوَدُّ)، أيْ: يَوْمَ الِافْتِداءِ مِنَ العَذابِ بِبَنِيهِ إلى آخِرِهِ. وقَرَأ الجُمْهُورُ (يَوْمِئِذٍ) بِكَسْرِ مِيمِ (يَوْمِ) مَجْرُورًا بِإضافَةِ (عَذابِ) إلَيْهِ. وقَرَأهُ نافِعٌ والكِسائِيُّ بِفَتْحِ المِيمِ عَلى بِنائِهِ لِإضافَةِ (يَوْمٍ) إلى (إذْ)، وهي اسْمٌ غَيْرُ مُتَمَكِّنٍ والوَجْهانِ جائِزانِ. والِافْتِداءُ: إعْطاءُ الفِداءِ، وهو ما يُعْطى عِوَضًا لِإنْقاذٍ مِن تَبِعَةٍ، ومِنهُ قَوْلُهُ تَعالى ﴿وإنْ يَأْتُوكم أُسارى تُفادُوهُمْ﴾ [البقرة: ٨٥] في البَقَرَةِ وقَوْلُهُ (ولَوِ افْتَدى بِهِ) في آلِ عِمْرانَ، والمَعْنى: لَوْ يَفْتَدِي نَفْسَهُ، والباءُ بَعْدَ مادَّةِ الفِداءِ تَدْخُلُ عَلى العِوَضِ المَبْذُولِ فَمَعْنى الباءِ التَّعْوِيضُ. ومَعْنى (مِن): الِابْتِداءُ المَجازِيُّ لِتَضْمِينِ فِعْلِ يَفْتَدِي مَعْنى يَتَخَلَّصُ. وصاحِبَتُهُ: زَوْجُهُ. والفَصِيلَةُ: الأقْرِباءُ الأدْنَوْنَ مِنَ القَبِيلَةِ، وهُمُ الأقْرِباءُ المَفْصُولُ مِنهم، أيِ: المُسْتَخْرَجُ مِنهم، فَشَمِلَتِ الآباءَ والأُمَّهاتِ قالَ ابْنُ العَرَبِيِّ: قالَ أشْهَبُ سَألْتُ مالِكًا عَنْ قَوْلِ اللَّهِ تَعالى ﴿وفَصِيلَتِهِ الَّتِي تُؤْوِيهِ﴾ فَقالَ هي أُمُّهُ اهـ، أيْ: ويُفْهَمُ مِنها الأبُ بِطَرِيقِ لَحْنِ الخِطابِ فَيَكُونُ قَدِ اسْتَوْفى ذِكْرَ أقْرَبِ القَرابَةِ بِالصَّراحَةِ والمَفْهُومِ، وأمّا عَلى التَّفْسِيرِ المَشْهُورِ فالفَصِيلَةُ دَلَّتْ عَلى الآباءِ بِاللَّفْظِ وتُسْتَفادُ الأُمَّهاتُ بِدَلالَةِ لَحْنِ الخِطابِ. وقَدْ رُتِّبَتِ الأقْرِباءُ عَلى حَسَبِ شِدَّةِ المَيْلِ الطَّبِيعِيِّ إلَيْهِمْ في العُرْفِ الغالِبِ؛ لِأنَّ المَيْلَ الطَّبِيعِيَّ يَنْشَأُ عَنِ المُلازَمَةِ وكَثْرَةِ المُخالَطَةِ. ولَمْ يَذْكُرِ الأبَوَيْنِ لِدُخُولِهِما في الفَصِيلَةِ قَصْدًا لِلْإيجازِ. والإيواءُ: الضَّمُّ والِانْحِيازُ. قالَ تَعالى ﴿آوى إلَيْهِ أخاهُ﴾ [يوسف: ٦٩] وقالَ ﴿سَآوِي إلى جَبَلٍ﴾ [هود: ٤٣] . والَّتِي تُؤْوِيهِ: إنْ كانَتِ القَبِيلَةُ، فالإيواءُ مَجازٌ في الحِمايَةِ والنَّصْرِ، أيْ: ومَعَ ذَلِكَ يَفْتَدِي بِها لِعِلْمِهِ بِأنَّها لا تُغْنِي عَنْهُ شَيْئًا يَوْمَئِذٍ. وإنْ كانَتِ الأُمُّ فالإيواءُ عَلى حَقِيقَتِهِ بِاعْتِبارِ الماضِي وصِيغَةِ المُضارِعِ (p-١٦٢)لِاسْتِحْضارِ الحالَةِ كَقَوْلِهِ ﴿واللَّهُ الَّذِي أرْسَلَ الرِّياحَ فَتُثِيرُ سَحابًا﴾ [فاطر: ٩] أيْ: يَوَدُّ لَوْ يَفْتَدِي بِأُمِّهِ، مَعَ شِدَّةِ تَعَلُّقِ نَفْسِهِ بِها إذْ كانَتْ تُؤْوِيهِ، فَإيثارُ لَفَظِ فَصِيلَتِهِ وفِعْلِ تُؤْوِيهِ هُنا مِن إيجازِ القُرْآنِ وإعْجازِهِ لِيَشْمَلَ هَذِهِ المَعانِيَ. (﴿ومَن في الأرْضِ جَمِيعًا﴾) عَطْفٌ عَلى بَنِيهِ، أيْ: ويَفْتَدِي بِمَن في الأرْضِ، أيْ: ومَن لَهُ في الأرْضِ مِمّا يَعِزُّ عَلَيْهِ مِن أخِلّاءَ وقَرابَةٍ ونَفائِسِ الأمْوالِ مِمّا شَأْنُ النّاسِ الشُّحُّ بِبَذْلِهِ والرَّغْبَةِ في اسْتِبْقائِهِ عَلى نَحْوِ قَوْلِهِ تَعالى ﴿فَلَنْ يُقْبَلَ مِن أحَدِهِمْ مِلْءُ الأرْضِ ذَهَبًا ولَوِ افْتَدى بِهِ﴾ [آل عمران: ٩١] . و(مَن) المَوْصُولَةُ لِتَغْلِيبِ العاقِلِ عَلى غَيْرِهِ؛ لِأنَّ مِنهُمُ الأخِلّاءَ. و(ثُمَّ) في قَوْلِهِ (ثُمَّ يُنْجِيهِ) لِلتَّراخِي الرَّتَبِيِّ، أيْ: يَوَدُّ بَذْلَ ذَلِكَ وأنْ يُنْجِيَهُ الفِداءُ مِنَ العَذابِ، فالإنْجاءُ مِنَ العَذابِ هو الأهَمُّ عِنْدَ المُجْرِمِ في وِدادَتِهِ، والضَّمِيرُ البارِزُ في قَوْلِهِ يُنْجِيهِ عائِدٌ إلى الِافْتِداءِ المَفْهُومِ مِن يَفْتَدِي عَلى نَحْوِ قَوْلِهِ تَعالى ﴿اعْدِلُوا هو أقْرَبُ لِلتَّقْوى﴾ [المائدة: ٨] . والمَعْطُوفُ بِـ (ثُمَّ) هو المُسَبَّبُ عَنِ الوِدادَةِ فَلِذَلِكَ كانَ الظّاهِرُ أنْ يُعْطَفَ بِالفاءِ وهو الأكْثَرُ في مِثْلِهِ كَقَوْلِهِ تَعالى ﴿ودُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ كَما كَفَرُوا فَتَكُونُونَ سَواءً﴾ [النساء: ٨٩] وقَوْلُهُ ﴿ودُّوا لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ﴾ [القلم: ٩]، فَعَدَلَ عَنْ عَطْفِهِ بِالفاءِ هُنا إلى عَطْفِهِ بِـ (ثُمَّ) لِلدَّلالَةِ عَلى شِدَّةِ اهْتِمامِ المُجْرِمِ بِالنَّجاةِ بِأيَّةِ وسِيلَةٍ. ومُتَعَلِّقُ يُنْجِيهِ مَحْذُوفٌ يَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ (مِن عَذابِ يَوْمِئِذٍ) . و(كَلّا) حَرْفُ رَدْعٍ وإبْطالٍ لِكَلامٍ سابِقٍ، ولا يَخْلُو مِن أنْ يُذْكَرَ بَعْدَهُ كَلامٌ، وهو هُنا لِإبْطالِ ما يُخامِرُ نُفُوسَ المُجْرِمِ مِنَ الوِدادَةِ، نَزَلَ مَنزِلَةَ الكَلامِ؛ لِأنَّ اللَّهَ مُطَّلِعٌ عَلَيْهِ أوْ لِإبْطالِ ما يُتَفَوَّهُ بِهِ مِن تَمَنِّي ذَلِكَ. قالَ تَعالى ﴿ويَقُولُ الكافِرُ يا لَيْتَنِي كُنْتُ تُرابًا﴾ [النبإ: ٤٠]، ألا تَرى أنَّهُ عَبَّرَ عَنْ قَوْلِهِ ذَلِكَ بِالوِدادَةِ في قَوْلِهِ تَعالى ﴿يَوْمَئِذٍ يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا وعَصَوُا الرَّسُولَ لَوْ تُسَوّى بِهِمُ الأرْضُ﴾ [النساء: ٤٢] أيْ: يَصِيرُونَ مِن تُرابِها. فالتَّقْدِيرُ: يُقالُ لَهُ كَلّا، أيْ: لا افْتِداءَ ولا إنْجاءَ. وجُمْلَةُ (﴿إنَّها لَظى﴾) اسْتِئْنافٌ بَيانِيٌّ ناشِئٌ عَمّا أفادَهُ حَرْفُ (كَلّا) مِنَ الإبْطالِ. وضَمِيرُ (إنَّها) عائِدٌ إلى ما يُشاهِدُهُ المُجْرِمُ قُبالَتَهُ مِن مَرْأى جَهَنَّمَ فَأخْبَرَ (p-١٦٣)بِأنَّ ذَلِكَ لَظى. ولَمّا كانَ لَظى مُقْتَرِنًا بِألِفِ التَّأْنِيثِ أُنِّثَ الضَّمِيرُ بِاعْتِبارِ تَأْنِيثِ الخَبَرِ وأُتْبِعَ اسْمُها بِأوْصافٍ، والمَقْصُودُ التَّعْرِيضُ بِأنَّها أُعِدَّتْ لَهُ، أيْ: أنَّها تَحْرُقُكَ وتَنْزِعُ شَواكَ، وقَدْ صَرَّحَ بِما وقَعَ التَّعْرِيضُ بِهِ في قَوْلِهِ ﴿تَدْعُوا مَن أدْبَرَ وتَوَلّى وجَمَعَ فَأوْعى﴾، أيْ: تَدْعُوكَ يا مَن أدْبَرَ عَنْ دَعْوَةِ التَّوْحِيدِ وتَوَلّى عَنْها ولَمْ يَعْبَأْ إلّا بِجَمْعِ المالِ. فَحَرْفُ (إنَّ) لِلتَّوْكِيدِ لِلْمَعْنى التَّعْرِيضِيِّ مِنَ الخَبَرِ، لا إلى الإخْبارِ بِأنَّ ما يُشاهِدُهُ لَظى إذْ لَيْسَ ذَلِكَ بِمَحَلِّ التَّرَدُّدِ. ولَظى خَبَرُ (إنَّ) . ويَجُوزُ أنْ يَكُونَ ضَمِيرُ (إنَّها) ضَمِيرَ القِصَّةِ وهو ضَمِيرُ الشَّأْنِ، أيْ: إنَّ قِصَّتَكَ وشَأْنَكَ لَظى، فَتَكُونُ (لَظى) مُبْتَدَأً. وقَرَأ الجُمْهُورُ (نَزّاعَةٌ) بِالرَّفْعِ فَهو خَبَرٌ ثانٍ عَنْ (إنَّ) إنْ جُعِلَ الضَّمِيرُ ضَمِيرًا عائِدًا إلى النّارِ المُشاهَدَةِ، أوْ هو خَبَرٌ عَنْ لَظى إنْ جُعِلَ الضَّمِيرُ ضَمِيرَ القِصَّةِ وجُعِلَ (لَظى) مُبْتَدَأً. وقَرَأهُ حَفْصٌ بِالنَّصْبِ عَلى الحالِ فَيَتَعَيَّنُ عَلى قِراءَةِ حَفْصٍ أنَّ الضَّمِيرَ لَيْسَ ضَمِيرَ قِصَّةٍ. والتَّعْرِيضُ هو هو، وحَرْفُ (إنَّ) إمّا لِلتَّوْكِيدِ مُتَوَجِّهًا إلى المَعْنى التَّعْرِيضِيِّ كَما تَقَدَّمَ، وإمّا لِمُجَرَّدِ الِاهْتِمامِ بِالجُمْلَةِ الَّتِي بَعْدَهُ؛ لِأنَّ الجُمَلَ المُفْتَتَحَةَ بِضَمِيرِ الشَّأْنِ مِنَ الأخْبارِ المُهْتَمِّ بِها. ولَظى: عَلَمٌ مَنقُولٌ مِنِ اسْمِ اللَّهَبِ، جُعِلَ عَلَمًا لِـ (جَهَنَّمَ)، وألِفُهُ ألِفُ تَأْنِيثٍ، وأصْلُهُ: لَظًى بِوَزْنِ فَتًى مُنَوَّنًا، اسْمُ جِنْسٍ لِلَهَبِ النّارِ. فَنُقِلَ اسْمُ الجِنْسِ إلى جَعْلِهِ عَلَمًا عَلى واحِدٍ مِن جِنْسِهِ، فَقُرِنَ بِألِفِ تَأْنِيثٍ تَنْبِيهًا بِذَلِكَ التَّغْيِيرِ عَلى نَقْلِهِ إلى العَلَمِيَّةِ. والعَرَبُ قَدْ يُدْخِلُونَ تَغْيِيرًا عَلى الِاسْمِ غَيْرِ العَلَمِ إذا نَقَلُوهُ إلى العَلَمِيَّةِ كَما سَمَّوْا شُمْسَ بِضَمِّ الشِّينِ مَنقُولًا مِن شَمْسٍ بِفَتْحِ الشِّينِ، كَما قالَ ابْنُ جِنِّي في شَرْحِ قَوْلِ تَأبَّطَ شَرًّا: ؎إنِّي لَمُهْدٍ مِن ثَنائِي فَقاصِدٌ ∗∗∗ بِهِ لِابْنِ عَمِّ الصِّدْقِ شُمْسِ بْنِ مالِكِ ولَيْسَ مِنَ العَلَمِ بِالغَلَبَةِ إذْ لَيْسَ مُعَرَّفًا ولا مُضافًا، ولِاجْتِماعِ العَلَمِيَّةِ والتَّأْنِيثِ فِيهِ (p-١٦٤)كانَ مَمْنُوعًا مِنَ الصَّرْفِ فَلا تَقُولُ: لَظًى بِالتَّنْوِينِ إلّا إذا أرَدْتَ جِنْسَ اللَّهَبِ، ولا تَقُولُ: اللَّظى إلّا إذا أرَدْتَ لَهَبًا مُعَيَّنًا، فَأمّا إذا أرَدْتَ اسْمَ جَهَنَّمَ فَتَقُولُ لَظى بِألِفِ التَّأْنِيثِ دُونَ تَنْوِينٍ ودُونَ تَعْرِيفٍ. والنَّزّاعَةُ: مُبالَغَةٌ في النَّزْعِ وهو الفَصْلُ والقَطْعُ. والشَّوى: اسْمُ جَمْعِ شَواةٍ بِفَتْحِ الشِّينِ وتَخْفِيفِ الواوِ، وهي العُضْوُ غَيْرُ الرَّأْسِ مِثْلَ اليَدِ والرِّجْلِ فالجَمْعُ بِاعْتِبارِ ما لِكُلِّ أحَدٍ مِن شَوى، وقِيلَ الشَّواةُ: جِلْدَةُ الرَّأْسِ فالجَمْعُ بِاعْتِبارِ كَثْرَةِ النّاسِ. وجُمْلَةُ (تَدْعُو) إمّا خَبَرٌ ثانٍ حَسَبَ قِراءَةِ (نَزّاعَةٌ) بِالرَّفْعِ، وإمّا حالٌ عَلى القِراءَتَيْنِ. والدُّعاءُ في قَوْلِهِ تَدْعُو يَجُوزُ أنْ يَكُونَ غَيْرَ حَقِيقَةٍ بِأنْ يُعْتَبَرَ اسْتِعارَةً مَكْنِيَّةً، شُبِّهَتْ لَظى في انْهِيالِ النّاسِ إلَيْها بِضائِفٍ لِمَأْدُبَةٍ، ورُمِزَ إلى ذَلِكَ بِـ (تَدْعُو) وذَلِكَ عَلى طَرِيقَةِ التَّهَكُّمِ. ويَكُونُ ﴿مَن أدْبَرَ وتَوَلّى﴾ ﴿وجَمَعَ فَأوْعى﴾ قَرِينَةً، أوْ تَجْرِيدًا، أيْ: مَن أدْبَرَ وتَوَلّى عَنِ الإيمانِ بِاللَّهِ. وفِيهِ الطِّباقُ؛ لِأنَّ الإدْبارَ والتَّوَلِّيَ يُضادّانِ الدَّعْوَةَ في الجُمْلَةِ إذِ الشَّأْنُ أنَّ المَدْعُوَّ يُقْبِلُ ولا يُدْبِرُ، ويَكُونُ (تَدْعُو) مُشْتَقًّا مِنَ الدُّعْوَةِ المَضْمُومَةِ الدّالِ، أوْ أنْ يُشَبِّهَ إحْضارَ الكُفّارِ عِنْدَها بِدَعْوَتِها إيّاهم لِلْحُضُورِ عَلى طَرِيقَةِ التَّبَعِيَّةِ،؛ لِأنَّ التَّشْبِيهَ بِدَعْوَةِ المُنادِي، كَقَوْلِ ذِي الرُّمَّةِ يَصِفُ الثَّوْرَ الوَحْشِيَّ: ؎أمْسى بِوَهْبَيْنِ مُخْتارًا لِمَرْتَعِهِ ∗∗∗ مِن ذِي الفَوارِسِ تَدْعُو أنْفَهُ الرِّبَبُ الرِّبَبُ، بِكَسْرِ الرّاءِ وبِمُوَحَّدَتَيْنِ: جَمْعُ رِبَّةٍ، بِكَسْرِ الرّاءِ وتَشْدِيدِ المُوَحَّدَةِ: نَباتٌ يَنْبُتُ في الصَّيْفِ أخْضَرُ. ويَجُوزُ أنْ يَكُونَ (تَدْعُو) مُسْتَعْمَلًا حَقِيقَةً، والَّذِينَ يَدْعُونَ: هُمُ المَلائِكَةُ المُوَكَّلُونَ بِجَهَنَّمَ، وإسْنادُ الدُّعاءِ إلى جَهَنَّمَ إسْنادًا مَجازِيًّا، لِأنَّها مَكانُ الدّاعِينَ أوْ لِأنَّها سَبَبُ الدُّعاءِ، أوْ جَهَنَّمُ تَدْعُو حَقِيقَةً بِأنْ يَخْلُقَ اللَّهُ فِيها أصْواتًا تُنادِي الَّذِينَ تَوَلَّوْا أنْ يَرِدُوا عَلَيْها فَتَلْتَهِمَهم. و﴿مَن أدْبَرَ وتَوَلّى﴾ ﴿وجَمَعَ فَأوْعى﴾ جِنْسُ المَوْصُوفِينَ بِأنَّهم أدْبَرُوا وتَوَلَّوْا وجَمَعُوا وهُمُ المُجْرِمُونَ الَّذِينَ يَوَدُّونَ أنْ يَفْتَدُوا مِن عَذابِ يَوْمِئِذٍ. وهَذِهِ الصِّفاتُ خَصائِصُ المُشْرِكِينَ، وهي مِن آثارِ دِينِ الشِّرْكِ الَّتِي هي أقْوى باعِثٍ لَهم عَلى إعْراضِهِمْ عَنْ دَعْوَةِ الإسْلامِ. (p-١٦٥)وهِيَ ثَلاثَةٌ: الإدْبارُ، والإعْراضُ، وجَمْعُ المالِ، أيِ: الخَشْيَةُ عَلى أمْوالِهِمْ. والإدْبارُ: تَرْكُ شَيْءٍ في جِهَةِ الوَراءِ؛ لِأنَّ الدُّبُرَ هو الظَّهْرُ، فَأدْبَرَ: جَعَلَ شَيْئًا وراءَهُ بِأنْ لا يُعَرِّجَ عَلَيْهِ أصْلًا أوْ بِأنْ يُقْبِلَ عَلَيْهِ ثُمَّ يُفارِقُهُ. والتَّوَلِّي: الإدْبارُ عَنْ شَيْءٍ والبُعْدُ عَنْهُ، وأصْلُهُ مُشْتَقٌّ مِنَ الوَلايَةِ وهي المُلازَمَةُ قالَ تَعالى ﴿فَوَلِّ وجْهَكَ شَطْرَ المَسْجِدِ الحَرامِ﴾ [البقرة: ١٤٤]، ثُمَّ قالُوا: ولّى عَنْهُ، أرادُوا اتَّخَذَ غَيْرَهُ ولِيًّا، أيْ: تَرَكَ ولايَتَهُ إلى ولايَةِ غَيْرِهِ مِثْلَ ما قالُوا: رَغِبَ فِيهِ ورَغِبَ عَنْهُ، فَصارَ (ولِيَ) بِمَعْنى: أدْبَرَ وأعْرَضَ، قالَ تَعالى ﴿عَنْ مَن تَوَلّى عَنْ ذِكْرِنا﴾ [النجم: ٢٩] أيْ: عامِلْهِ بِالإعْراضِ عَنْهُ. فَفِي التَّوَلِّي مَعْنى إيثارِ غَيْرِ المُتَوَلّى عَنْهُ، ولِذَلِكَ يَكُونُ بَيْنَ التَّوَلِّي والإدْبارِ فَرْقٌ، وبِاعْتِبارِ ذَلِكَ الفَرْقِ عُطِفَ (وتَوَلّى) عَلى (أدْبَرَ)، أيْ: تَدْعُو مَن تَرَكَ الحَقَّ وتَوَلّى عَنْهُ إلى الباطِلِ. وهَذِهِ دَقِيقَةٌ مِن إعْجازِ القُرْآنِ بِأنْ يَكُونَ الإدْبارُ مُرادًا بِهِ إدْبارُ غَيْرِ تَوَلٍّ، أيْ: إدْبارًا مِن أوَّلِ وهْلَةٍ، ويَكُونُ التَّوَلِّي مُرادًا بِهِ الإعْراضُ بَعْدَ مُلابَسَةٍ، ولِذَلِكَ يَكُونُ الإدْبارُ مُسْتَعارًا لِعَدَمِ قَبُولِ القُرْآنِ ونَفْيِ اسْتِماعِ دَعْوَةِ الرَّسُولِ ﷺ وهو حالُ الَّذِينَ قالَ اللَّهُ فِيهِمْ ﴿وقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لا تَسْمَعُوا لِهَذا القُرْآنِ﴾ [فصلت: ٢٦] . والتَّوَلِّي مُسْتَعارٌ لِلْإعْراضِ عَنِ القُرْآنِ بَعْدَ سَماعِهِ ولِلنُّفُورِ عَنْ دَعْوَةِ الرَّسُولِ كَما قالَ تَعالى ﴿وإذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا قالُوا قَدْ سَمِعْنا لَوْ نَشاءُ لَقُلْنا مِثْلَ هَذا إنْ هَذا إلّا أساطِيرُ الأوَّلِينَ﴾ [الأنفال: ٣١] وكِلا الحالَيْنِ حالُ كُفْرٍ ومُحِقَّةٌ لِلْعِقابِ وهُما مُجْتَمِعَتانِ في جَمِيعِ المُشْرِكِينَ. والمَقْصُودُ مِن ذِكْرِهِما مَعًا تَفْظِيعُ أصْحابِهِما، وعَلى هَذا الوَجْهِ يَجُوزُ أنْ يَكُونَ مُتَعَلِّقُ (أدْبَرَ وتَوَلّى) مُتَّحِدًا يَتَنازَعُهُ كِلا الفِعْلَيْنِ، ويُقَدَّرُ بِنَحْوِ: عَنِ الحَقِّ، وفي الكَشّافِ: أدْبَرَ عَنِ الحَقِّ وتَوَلّى عَنْهُ، إذِ العِبْرَةُ بِاخْتِلافِ مَعْنَيَيِ الفِعْلَيْنِ وإنْ كانَ مُتَعَلِّقُهُما مُتَّحِدًا. ويَجُوزُ أنْ يُقَدَّرَ لِكُلِّ فِعْلٍ مُتَعَلِّقٌ هو أشَدُّ مُناسَبَةً لِمَعْناهُ. فَقَدَّرَ البَيْضاوِيُّ: أدْبَرَ عَنِ الحَقِّ وتَوَلّى عَنِ الطّاعَةِ، أيْ: لَمْ يَقْبَلِ الحَقَّ وهو الإيمانُ مِن أصْلِهِ، وأعْرَضَ عَنْ طاعَةِ الرَّسُولِ بَعْدَ سَماعِ دَعْوَتِهِ، وعَنْ قَتادَةَ عَكْسُهُ: أدْبَرَ عَنْ طاعَةِ اللَّهِ وتَوَلّى عَنْ كِتابِ اللَّهِ، وتَبِعَهُ الفَخْرُ والنَّيْسابُورِيُّ. (p-١٦٦)والجَمْعُ والإيعاءُ في قَوْلِهِ (﴿وجَمَعَ فَأوْعى﴾) مُرَتَّبٌ ثانِيهِما عَلى أوَّلِهِما، فَيَدُلُّ تَرْتِيبُ الثّانِي عَلى الأوَّلِ أنَّ مَفْعُولَ (جَمَعَ) المَحْذُوفَ هو شَيْءٌ مِمّا يُوعى، أيْ: يُجْعَلُ في وِعاءٍ. والوِعاءُ: الظَّرْفُ، أيْ: جَمَعَ المالَ فَكَنَزَهُ ولَمْ يَنْفَعْ بِهِ المَحاوِيجَ، ومِنهُ جاءَ فِعْلُ (أوْعى) إذا شَحَّ. وفي الحَدِيثِ «ولا تُوعِي فَيُوعى عَلَيْكَ» . وفِي قَوْلِهِ (جَمَعَ) إشارَةٌ إلى الحِرْصِ، وفي قَوْلِهِ (فَأوْعى) إشارَةٌ إلى طُولِ الأمَلِ. وعَنْ قَتادَةَ (وجَمَعَ فَأوْعى) كانَ جَمُوعًا لِلْخَبِيثِ، وهَذا تَفْسِيرٌ حَسَنٌ، أيْ: بِأنْ يُقَدَّرَ لِـ (جَمَعَ) مَفْعُولٌ يَدُلُّ عَلَيْهِ السِّياقُ، أيْ: وزادَ عَلى إدْبارِهِ وتَوَلِّيهِ أنَّهُ جَمَعَ الخَبائِثَ. وعَلَيْهِ يَكُونُ (فَأوْعى) مُسْتَعارًا لِمُلازَمَتِهِ ما فِيهِ مِن خِصالِ الخَبائِثِ واسْتِمْرارِهِ عَلَيْها فَكَأنَّها مُخْتَزَنَةٌ لا يُفَرَّطُ فِيها. ﴿إنَّ الإنْسانَ خُلِقَ هَلُوعًا﴾ ﴿إذا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعًا﴾ ﴿وإذا مَسَّهُ الخَيْرُ مَنُوعًا﴾ مُعْتَرِضَةٌ بَيْنَ ﴿مَن أدْبَرَ وتَوَلّى﴾ ﴿وجَمَعَ فَأوْعى﴾ وبَيْنَ الِاسْتِثْناءِ (إلّا المُصَلِّينَ) إلَخْ. وهِيَ تَذْيِيلٌ لِجُمْلَةِ (﴿وجَمَعَ فَأوْعى﴾) تَنْبِيهًا عَلى خَصْلَةٍ تُخامِرُ نُفُوسَ البَشَرِ فَتَحْمِلُهم عَلى الحِرْصِ لِنَيْلِ النّافِعِ وعَلى الِاحْتِفاظِ بِهِ خَشْيَةَ نَفاذِهِ لِما فِيهِمْ مِن خُلُقِ الهَلَعِ. وهَذا تَذْيِيلُ لَوْمٍ ولَيْسَ في مَساقِهِ عُذْرٌ لِمَن جَمَعَ فَأوْعى، ولا هو تَعْلِيلٌ لِفِعْلِهِ. ومَوْقِعُ حَرْفِ التَّوْكِيدِ ما تَتَضَمَّنُهُ الجُمْلَةُ مِنَ التَّعْجِيبِ مِن هَذِهِ الخَصْلَةِ البَشَرِيَّةِ، فالتَّأْكِيدُ لِمُجَرَّدِ الِاهْتِمامِ بِالخَبَرِ ولَفْتِ الأنْظارِ إلَيْهِ والتَّعْرِيضِ بِالحَذَرِ مِنهُ. والمَقْصُودُ مِنَ التَّذْيِيلِ هو قَوْلُهُ (وإذا مَسَّهُ الخَيْرُ مَنُوعًا) . وأمّا قَوْلُهُ (﴿إذا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعًا﴾) فَتَمْهِيدٌ وتَتْمِيمٌ لِحالَتَيْهِ. فالمُرادُ بِالإنْسانِ: جِنْسُ الإنْسانِ لا فَرْدٌ مُعَيَّنٌ كَقَوْلِهِ تَعالى (﴿إنَّ الإنْسانَ لَيَطْغى﴾ [العلق: ٦] ﴿أنْ رَآهُ اسْتَغْنى﴾ [العلق: ٧]) وقَوْلِهِ ﴿خُلِقَ الإنْسانُ مِن عَجَلٍ﴾ [الأنبياء: ٣٧]، ونَظائِرُ ذَلِكَ كَثِيرَةٌ في القُرْآنِ. (p-١٦٧)وهَلُوعٌ: فَعُولٌ مِثالُ مُبالَغَةٍ لِلِاتِّصافِ بِالهَلَعِ. والهَلَعُ لَفْظٌ غامِضٌ مِن غَوامِضِ اللُّغَةِ قَدْ تَساءَلَ العُلَماءُ عَنْهُ، قالَ الكَشّافُ: (وعَنْ أحْمَدَ بْنِ يَحْيى - هو ثَعْلَبٌ - قالَ لِي مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ طاهِرٍ: ما الهَلَعُ ؟ فَقُلْتُ: قَدْ فَسَّرَهُ اللَّهُ ولا يَكُونُ تَفْسِيرٌ أبْيَنَ مِن تَفْسِيرِهِ وهو الَّذِي إذا نالَهُ شَرٌّ أظْهَرَ شِدَّةَ الجَزَعِ، وإذا نالَهُ خَيْرٌ بَخِلَ بِهِ ومَنَعَهُ النّاسَ) اهـ. فَسارَتْ كَلِمَةُ ثَعْلَبٍ مَسِيرًا أقْنَعَ كَثِيرًا مِنَ اللُّغَوِيِّينَ عَنْ زِيادَةِ الضَّبْطِ لِمَعْنى الهَلَعِ. وهي كَلِمَةٌ لا تَخْلُو عَنْ تَسامُحٍ وقِلَّةِ تَحْدِيدٍ لِلْمَعْنى؛ لِأنَّهُ إذا كانَ قَوْلُ اللَّهِ تَعالى ﴿إذا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعًا﴾ ﴿وإذا مَسَّهُ الخَيْرُ مَنُوعًا﴾ تَفْسِيرًا لِمَدْلُولِ الجَزُوعِ، تَعَيَّنَ أنْ يَكُونَ مَدْلُولُ الكَلِمَةِ مَعْنًى مُرَكَّبًا مِن مَعْنَيَيِ الجُمْلَتَيْنِ لِتَكُونَ الجُمْلَتانِ تَفْسِيرًا لَهُ، وظاهِرٌ أنَّ المَعْنَيَيْنِ لَيْسَ بَيْنَهُما تَلازُمٌ، وكَثِيرٌ مِن أيِمَّةِ اللُّغَةِ فَسَّرَ الهَلَعَ بِالجَزَعِ، أوْ بِشِدَّةِ الجَزَعِ، أوْ بِأفْحَشِ الجَزَعِ، والجَزَعُ: أثَرٌ مِن آثارِ الهَلَعِ ولَيْسَ عَيْنُهُ، فَإنَّ ذَلِكَ لا يَسْتَقِيمُ في قَوْلِ عَمْرِو بْنِ مَعْدِ يكَرِبَ: ؎ما إنْ جَزِعْتُ ولا هَلِعْتُ ∗∗∗ ولا يَرُدُّ بُكايَ زَنْدا إذْ عَطَفَ نَفْيَ الهَلَعِ عَلى نَفْيِ الجَزَعِ، ولَوْ كانَ الهَلَعُ هو الجَزَعَ لَمْ يَحْسُنِ العَطْفُ، ولَوْ كانَ الهَلَعُ أشَدَّ الجَزَعِ كانَ عَطْفُ نَفْيِهِ عَلى نَفْيِ الجَزَعِ حَشْوًا. ولِذَلِكَ تَكَلَّفَ المَرْزُوقِيُّ في شَرْحِ الحَماسَةِ لِمَعْنى البَيْتِ تَكَلُّفًا لَمْ يُغْنِ عَنْهُ شَيْئًا قالَ: فَكَأنَّهُ قالَ: ما حَزِنْتُ عَلَيْهِ حُزْنًا هَيِّنًا قَرِيبًا ولا فَظِيعًا شَدِيدًا، وهَذا نَفْيٌ لِلْحُزْنِ رَأْسًا كَقَوْلِكَ: ما رَأيْتُ صَغِيرَهم ولا كَبِيرَهم اهـ. والَّذِي اسْتَخْلَصْتُهُ مِن تَتَبُّعِ اسْتِعْمالاتِ كَلِمَةِ الهَلَعِ أنَّ الهَلَعَ قِلَّةُ إمْساكِ النَّفْسِ عِنْدَ اعْتِراءِ ما يُحْزِنُها أوْ ما يَسُرُّها أوْ عِنْدَ تَوَقُّعِ ذَلِكَ والإشْفاقِ مِنهُ. وأمّا الجَزَعُ فَمِن آثارِ الهَلَعِ، وقَدْ فَسَّرَ بَعْضُ أهْلِ اللُّغَةِ الهَلَعَ بِالشَّرَهِ، وبَعْضُهم بِالضَّجَرِ، وبَعْضُهم بِالشُّحِّ، وبَعْضُهم بِالجُوعِ، وبَعْضُهم بِالجُبْنِ عِنْدَ اللِّقاءِ. وما ذَكَرْناهُ في ضَبْطِهِ يَجْمَعُ هَذِهِ المَعانِيَ ويُرِيكَ أنَّها آثارٌ لِصِفَةِ الهَلَعِ. ومَعْنى (﴿خُلِقَ هَلُوعًا﴾): (p-١٦٨)أنَّ الهَلَعَ طَبِيعَةٌ كامِنَةٌ فِيهِ مَعَ خَلْقِهِ تَظْهَرُ عِنْدَ ابْتِداءِ شُعُورِهِ بِالنّافِعِ والضّارِّ فَهو مِن طِباعِهِ المَخْلُوقَةِ كَغَيْرِها مِن طِباعِهِ البَشَرِيَّةِ، إذْ لَيْسَ في تَعَلُّقِ الحالِ بِعامِلِها دَلالَةٌ عَلى قَصْرِ العامِلِ عَلَيْها، ولا في اتِّصافِ صاحِبِ الحالِ بِالحالِ دَلالَةٌ عَلى أنَّهُ لا صِفَةَ لَهُ غَيْرُها، وقَدْ تَكُونُ لِلشَّيْءِ الحالَةُ وضِدُّها بِاخْتِلافِ الأزْمانِ والدَّواعِي، وبِذَلِكَ يَسْتَقِيمُ تَعَلُّقُ النَّهْيِ عَنْ حالٍ مَعَ تَحَقُّقِ تَمَكُّنِ ضِدِّها مِنَ المَنهِيِّ؛ لِأنَّ عَلَيْهِ أنْ يَرُوضَ نَفْسَهُ عَلى مُقاوَمَةِ النَّقائِصِ وإزالَتِها عَنْهُ، وإذْ ذَكَرَ اللَّهُ الهَلَعَ هُنا عَقِبَ مَذَمَّةِ الجَمْعِ والإيعاءِ، فَقَدْ أشْعَرَ بِأنَّ الإنْسانَ يَسْتَطِيعُ أنْ يَكُفَّ عَنْ هَلَعِهِ إذا تَدَبَّرَ في العَواقِبِ فَيَكُونُ في قَوْلِهِ (﴿خُلِقَ هَلُوعًا﴾) كِنايَةٌ بِالخَلْقِ عَنْ تَمَكُّنِ ذَلِكَ الخُلُقِ مِنهُ وغَلَبَتِهِ عَلى نَفْسِهِ. والمَعْنى: أنَّ مِن مُقْتَضى تَرْكِيبِ الإدْراكِ البَشَرِيِّ أنْ يَحْدُثَ فِيهِ الهَلَعُ. بَيانُ ذَلِكَ أنَّ تَرْكِيبَ المَدارِكِ البَشَرِيَّةِ رُكِّزَ بِحِكْمَةٍ دَقِيقَةٍ تَجْعَلُها قادِرَةً عَلى الفِعْلِ والكَفِّ، وساعِيَةً إلى المُلائِمِ ومُعْرِضَةً عَنِ المُنافِرِ. وجُعِلَتْ فِيها قُوًى مُتَضادَّةَ الآثارِ يَتَصَرَّفُ العَقْلُ والإدْراكُ في اسْتِخْدامِها كَما يَجِبُ في حُدُودِ المَقْدِرَةِ البَدَنِيَّةِ الَّتِي أُعْطِيَها النَّوْعُ والَّتِي أُعْطِيَها أفْرادُ النَّوْعِ، كُلُّ ذَلِكَ لِيَصْلُحَ الإنْسانُ لِإعْمارِ هَذا العالَمِ الأرْضِيِّ الَّذِي جَعَلَهُ اللَّهُ خَلِيفَةً فِيهِ لِيُصْلِحَهُ إصْلاحًا يَشْمَلُهُ ويَشْمَلُ مَن مَعَهُ في هَذا العالَمِ إعْدادًا لِصَلاحِيَتِهِ لِإعْمارِ عالَمِ الخُلُودِ، ثُمَّ جَعَلَ لَهُ إدْراكًا يُمَيِّزُ الفَرْقَ بَيْنَ آثارِ المَوْجُوداتِ وآثارِ أفْعالِها بَيْنَ النّافِعِ مِنها والضّارِّ والَّذِي لا نَفْعَ فِيهِ ولا ضُرَّ، وخَلَقَ فِيهِ إلْهامًا يُحِبُّ النّافِعَ ويَكْرَهُ الضّارَّ، غَيْرَ أنَّ اخْتِلاطَ الوَصْفَيْنِ في بَعْضِ الأفْعالِ وبَعْضِ الذَّواتِ قَدْ يُرِيهِ الحالَ النّافِعَ مِنها ولا يُرِيهِ الحالَ الضّارَّ، فَيَبْتَغِي ما يَظُنُّهُ نافِعًا غَيْرَ شاعِرٍ بِما في مَطاوِيهِ مِن أضْرارٍ في العاجِلِ والآجِلِ، أوْ شاعِرًا بِذَلِكَ ولَكِنَّ شَغَفَهُ بِحُصُولِ النَّفْعِ العاجِلِ يُرَجِّحُ عِنْدَهُ تَناوُلَهُ الآنَ لِعَدَمِ صَبْرِهِ عَلى تَرْكِهِ مُقَدِّرًا مَعاذِيرَ أوْ حِيَلًا يَقْتَحِمُ بِها ما فِيهِ مِن ضُرٍّ آجِلٍ. وإنَّ اخْتِلاطَ القُوى الباطِنِيَّةِ مَعَ حَرَكاتِ التَّفْكِيرِ قَدْ تَسْتُرُ عَنْهُ ضُرَّ الضّارِّ ونَفْعَ النّافِعِ فَلا يَهْتَدِي إلى ما يَنْبَغِي سُلُوكَهُ أوْ تَجَنُّبَهُ، وقَدْ لا تَسْتُرُ عَنْهُ ذَلِكَ ولَكِنَّها تُحْدِثُ فِيهِ إيثارًا لِاتِّباعِ الضّارِّ‌‌‌‌‌ لِمُلائَمَةٍ فِيهِ ولَوْ في وقْتٍ أوْ عِنْدَ عارِضٍ، إعْراضًا عَنِ اتِّباعِ النّافِعِ لِكُلْفَةٍ في فِعْلِهِ أوْ مُنافَرَةٍ لِوِجْدانِهِ، وذَلِكَ مِنِ اشْتِمالِ تَرْكِيبِ قُواهُ الباعِثَةِ والصّارِفَةِ وآلاتِها الَّتِي بِها تَعْمَلُ وتَدْفَعُ عَلى شَيْءٍ مِنَ التَّعاكُسِ في أعْمالِها، فَحَدَثَتْ مِن هَذا التَّرْكِيبِ (p-١٦٩)البَدِيعِ صَلاحِيَةٌ لِلْوَفاءِ بِالتَّدْبِيرِ الصّالِحِ المَنُوطِ بِعُهْدَةِ الإنْسانِ، وصَلاحِيَّةٌ لِإفْسادِ ذَلِكَ أوْ بَعْثَرَتِهِ. غَيْرَ أنَّ اللَّهَ جَعَلَ لِلْإنْسانِ عَقْلًا وحِكْمَةً إنْ هو أحْسَنَ اسْتِعْمالَها نَخَلَتْ صِفاتِهِ، وثَقَّفَتْ مِن قَناتِهِ، ولَمْ يُخْلِهِ مِن دُعاةٍ إلى الخَيْرِ يَصِفُونَ لَهُ كَيْفَ يَرِيضُ جامِحَ نَفْسِهِ، وكَيْفَ يُوَفِّقُ بَيْنَ إدْراكِهِ وحِسِّهِ، وهَؤُلاءِ هُمُ الرُّسُلُ والأنْبِياءُ والحُكَماءُ. فَإذا أُخْبِرَ عَنِ الإنْسانِ بِشِدَّةِ تَلَبُّسِهِ بِبَعْضِ النَّقائِصِ وجُعِلَ ذَلِكَ في قالَبٍ أنَّهُ جُبِلَ عَلَيْهِ فالمَقْصُودُ مِن ذَلِكَ: إلْقاءُ تَبِعَةِ ذَلِكَ عَلَيْهِ؛ لِأنَّهُ فَرَّطَ في إراضَةِ نَفْسِهِ عَلى ما فِيها مِن جِبِلَّةِ الخَيْرِ، وأرْخى لَها العِنانَ إلى غايَةِ الشَّرِّ، وفَرَّطَ في نَصائِحِ الشَّرائِعِ والحُكَماءِ. وإذا أُسْنِدَ ما يَأْتِيهِ الإنْسانُ مِنَ الخَيْرِ إلى اللَّهِ تَعالى فالمَقْصُودُ: التَّنْبِيهُ إلى نِعْمَةِ اللَّهِ عَلَيْهِ بِخَلْقِ القُوَّةِ الجالِبَةِ لِلْخَيْرِ فِيهِ، ونِعْمَةِ إرْشادِهِ وإيقاظِهِ إلى الحَقِّ، كَما أشارَ إلى ذَلِكَ قَوْلُهُ تَعالى ﴿ما أصابَكَ مِن حَسَنَةٍ فَمِنَ اللَّهِ وما أصابَكَ مِن سَيِّئَةٍ فَمِن نَفْسِكَ﴾ [النساء: ٧٩] عَقِبَ قَوْلِهِ ﴿قُلْ كُلٌّ مِن عِنْدِ اللَّهِ فَمالِ هَؤُلاءِ القَوْمِ لا يَكادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثًا﴾ [النساء: ٧٨] . وفي هَذا المَجالِ زَلَّتْ أفْهامُ المُعْتَزِلَةِ، وحَلَكَتْ عَلَيْهِمُ الأجْواءُ، فَفَكَّرُوا وقَدَّرُوا وما اسْتَطاعُوا مَخْلَصًا وما قَدَرُوا. واعْلَمْ أنَّ كَلِمَةَ (خُلِقَ الإنْسانُ) إذا تَعَلَّقَ بِها ما لَيْسَ مِنَ المَوادِّ مِثْلَ ﴿إنّا خَلَقْنا الإنْسانَ مِن نُطْفَةٍ أمْشاجٍ﴾ [الإنسان: ٢] بَلْ كانَ مِنَ الأخْلاقِ والغَرائِزِ قَدْ يُعْنى بِها التَّنْبِيهُ عَلى جِبِلَّةِ الإنْسانِ وأنَّها تُسْرِعُ إلى الِاعْتِلاقِ بِمَشاعِرِهِ عِنْدَ تَصَرُّفاتِهِ تَعْرِيضًا بِذَلِكَ لِوُجُوبِ الحَذَرِ مِن غَوائِلِها نَحْوَ ﴿خُلِقَ الإنْسانُ مِن عَجَلٍ﴾ [الأنبياء: ٣٧] ﴿إنَّ الإنْسانَ خُلِقَ هَلُوعًا﴾، وقَدْ تَرِدُ لِلْعُذْرِ والرِّفْقِ نَحْوَ قَوْلِهِ ﴿يُرِيدُ اللَّهُ أنْ يُخَفِّفَ عَنْكم وخُلِقَ الإنْسانُ ضَعِيفًا﴾ [النساء: ٢٨]، وقَدْ تَرِدُ لِبَيانِ أصْلِ ما فُطِرَ عَلَيْهِ الإنْسانُ وما طَرَأ عَلَيْهِ مِن سُوءِ تَصَرُّفِهِ في أفْعالِهِ كَما في قَوْلِهِ تَعالى ﴿لَقَدْ خَلَقْنا الإنْسانَ في أحْسَنِ تَقْوِيمٍ ثُمَّ رَدَدْناهُ أسْفَلَ سافِلِينَ﴾ [التين: ٤] فَفِعْلُ الخَلْقِ مِن كَذا مُسْتَعارٌ لِكَثْرَةِ المُلابَسَةِ. قالَ عُرْوَةُ بْنُ أُذَيْنَةَ: ؎إنَّ الَّتِي زَعَمَتْ فُؤادَكَ مَلَّها ∗∗∗ خُلِقَتْ هَواكَ كَما خُلِقْتَ هَوًى لَها (p-١٧٠)أرادَ إبْطالَ أنْ يَكُونَ مَلَّها بِحُجَّةِ أنَّها خُلِقَتْ حَبِيبَةً لَهُ كَما خُلِقَ مَحْبُوبُها، أيْ: أنَّ مَحَبَّتَهُ إيّاها لا تَنْفَكُّ عَنْهُ. والهَلَعُ: صِفَةٌ غَيْرُ مَحْمُودَةٍ، فَوَصْفُ الإنْسانِ هُنا بِها لَوْمٌ عَلَيْهِ في تَقْصِيرِهِ عَنِ التَّخَلُّقِ بِدَفْعِ آثارِها، ولِذَلِكَ ذُيِّلَ بِهِ قَوْلُهُ (﴿وجَمَعَ فَأوْعى﴾) عَلى كِلا مَعْنَيَيْهِ. وانْتَصَبَ (جَزُوعًا) ‌عَلى الحالِ مِنَ الضَّمِيرِ المُسْتَتِرِ في (هَلُوعًا)، أوْ عَلى البَدَلِ - بَدَلِ اشْتِمالٍ -؛ لِأنَّ حالَ الهَلَعِ يَشْتَمِلُ عَلى الجَزَعِ عِنْدَ مَسِّ الشَّرِّ. وقَوْلُهُ (مَنُوعًا) عَطْفٌ عَلى (جَزُوعًا)، أيْ: خُلِقَ هَلُوعًا في حالِ كَوْنِهِ جَزُوعًا إذا مَسَّهُ الشَّرُّ، ومَنُوعًا إذا مَسَّهُ الخَيْرُ. والشَّرُّ: الأذى مِثْلُ المَرَضِ والفَقْرِ. والخَيْرُ: ما يَنْفَعُ الإنْسانَ ويُلائِمُ رَغَباتِهِ مِثْلَ الصِّحَّةِ والغِنى. والجَزُوعُ: الشَّدِيدُ الجَزَعِ، والجَزَعُ: ضِدُّ الصَّبْرِ. والمَنُوعُ: الكَثِيرُ المَنعِ، أيْ: شَدِيدُ المَنعِ لِبَذْلِ شَيْءٍ مِمّا عِنْدَهُ مِنَ الخَيْرِ. و(إذا) في المَوْضِعَيْنِ ظَرْفانِ يَتَعَلَّقانِ كُلُّ واحِدٍ بِما اتَّصَلَ بِهِ مِن وصْفَيْ (جَزُوعًا) و(مَنُوعًا) .
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب