الباحث القرآني
﴿فَكَذَّبُوهُ فَأنْجَيْناهُ والَّذِينَ مَعَهُ في الفُلْكِ وأغْرَقْنا الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا إنَّهم كانُوا قَوْمًا عَمِينَ﴾ وقَعَ التَّكْذِيبُ مِن جَمِيعِ قَوْمِهِ: مِن قادَتِهِمْ، ودَهْمائِهِمْ، عَدا بَعْضَ أهْلِ بَيْتِهِ ومَن آمَنَ بِهِ عَقِبَ سَماعِ قَوْلِ نُوحٍ، فَعَطَفَ عَلى كَلامِهِ بِالفاءِ أيْ صَدَرَ مِنهم قَوْلٌ يَقْتَضِي تَكْذِيبَ دَعْوى أنَّهُ رَسُولٌ مِن رَبِّ العالَمِينَ يُبَلِّغُ ويَنْصَحُ ويَعْلَمُ ما لا يَعْلَمُونَ، فَصارَ تَكْذِيبًا أعَمَّ مِنَ التَّكْذِيبِ الأوَّلِ، فَهو بِالنِّسْبَةِ لِلْمَلَأِ يَئُولُ إلى مَعْنى الِاسْتِمْرارِ عَلى التَّكْذِيبِ، وبِالنِّسْبَةِ لِلْعامَّةِ تَكْذِيبٌ أُنُفٍ، بَعْدَ سَماعِ قَوْلِ قادَتِهِمْ وانْتِهاءِ المُجادَلَةِ بَيْنَهم وبَيْنَ نُوحٍ، فَلَيْسَ الفِعْلُ مُسْتَعْمَلًا في الِاسْتِمْرارِ كَما في قَوْلِهِ تَعالى ﴿يا أيُّها الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا بِاللَّهِ﴾ [النساء: ١٣٦] إذْ لا داعِيَ إلَيْهِ هُنا، وضَمِيرُ الجَمْعِ عائِدٌ إلى القَوْمِ، والفاءُ في قَوْلِهِ ﴿فَأنْجَيْناهُ﴾ لِلتَّعْقِيبِ، وهو تَعْقِيبٌ عُرْفِيٌّ: لِأنَّ التَّكْذِيبَ حَصَلَ بَعْدَهُ الوَحْيُ إلى نُوحٍ بِأنَّهُ لَنْ يُؤْمِنَ مِن قَوْمِهِ إلّا مَن قَدْ آمَنَ، ولا يُرْجى زِيادَةُ مُؤْمِنٍ آخَرَ، وأمَرَهُ بِأنْ يَدْخُلَ الفُلْكَ ويَحْمِلَ مَعَهُ مَن آمَنَ إلى آخَرِ ما قَصَّهُ اللَّهُ في سُورَةِ هُودٍ.
وقُدِّمَ الإخْبارُ بِالإنْجاءِ عَلى الإخْبارِ بِالإغْراقِ، مَعَ أنَّ مُقْتَضى مَقامِ العِبْرَةِ تَقْدِيمُ الإخْبارِ بِإغْراقِ المُنْكِرِينَ، فَقُدِّمَ الإنْجاءُ لِلِاهْتِمامِ بِإنْجاءِ المُؤْمِنِينَ وتَعْجِيلًا لِمَسَرَّةِ السّامِعِينَ مِنَ المُؤْمِنِينَ بِأنَّ عادَةَ اللَّهِ إذا أهْلَكَ المُشْرِكِينَ أنْ يُنَجِّيَ الرَّسُولَ والمُؤْمِنِينَ، فَذَلِكَ التَّقْدِيمُ يُفِيدُ التَّعْرِيضَ بِالنِّذارَةِ، وإلّا فَإنَّ الإغْراقَ وقَعَ قَبْلَ الإنْجاءِ، إذْ لا يَظْهَرُ تَحَقُّقُ إنْجاءِ نُوحٍ ومَن مَعَهُ إلّا بَعْدَ حُصُولِ العَذابِ لِمَن لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ، فالمُعَقَّبُ بِهِ التَّكْذِيبُ ابْتِداءً هو (p-١٩٨)الإغْراقُ، والإنْجاءُ واقِعٌ بَعْدَهُ، ولِيَتَأتّى هَذا التَّقْدِيمُ عُطِفَ فِعْلُ الإنْجاءِ بِالواوِ المُفِيدَةِ لِمُطْلَقِ الجَمْعِ، دُونَ الفاءِ.
وقَوْلُهُ ﴿فِي الفُلْكِ﴾ مُتَعَلِّقٌ بِمَعْنى قَوْلِهِ مَعَهُ لِأنَّ تَقْدِيرَهُ: اسْتَقَرُّوا مَعَهُ في الفُلْكِ، وبِهَذا التَّعْلِيقِ عُلِمَ أنَّ اللَّهَ أمَرَهُ أنْ يَحْمِلَ في الفُلْكِ مَعْشَرًا، وأنَّهم كانُوا مُصَدِّقِينَ لَهُ، فَكانَ هَذا التَّعْلِيقٌ إيجازًا بَدِيعًا.
والفُلْكُ تَقَدَّمَ في قَوْلِهِ تَعالى ﴿إنَّ في خَلْقِ السَّماواتِ والأرْضِ﴾ [البقرة: ١٦٤] في سُورَةِ البَقَرَةِ.
﴿والَّذِينَ مَعَهُ﴾ هُمُ الَّذِينَ آمَنُوا بِهِ، وسَنَذْكُرُ تَعْيِينَهم عِنْدَ الكَلامِ عَلى قِصَّتِهِ في سُورَةِ هُودٍ.
والإتْيانُ بِالمَوْصُولِ في قَوْلِهِ ﴿وأغْرَقْنا الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا﴾ دُونَ أنْ يُقالَ: وأغْرَقْنا سائِرَهم، أوْ بَقِيَّتَهم، لِما تُؤْذِنُ بِهِ الصِّلَةُ مِن وجْهِ تَعْلِيلِ الخَبَرِ في قَوْلِهِ وأغْرَقْنا أيْ أغْرَقْناهم لِأجْلِ تَكْذِيبِهِمْ.
وجُمْلَةُ ﴿إنَّهم كانُوا قَوْمًا عَمِينَ﴾ تَتَنَزَّلُ مَنزِلَةَ العِلَّةِ لِجُمْلَةِ أغْرَقْنا كَما دَلَّ عَلَيْهِ حَرْفُ إنَّ لِأنَّ حَرْفَ إنَّ هُنا لا يُقْصَدُ بِهِ رَدُّ الشَّكِّ والتَّرَدُّدِ، إذْ لا شَكَّ فِيهِ، وإنَّما المَقْصُودُ مِنَ الحَرْفِ الدَّلالَةُ عَلى الِاهْتِمامِ بِالخَبَرِ، ومِن شَأْنِ إنَّ إذا جاءَتْ لِلِاهْتِمامِ أنْ تَقُومَ مَقامَ فاءِ التَّفْرِيعِ، وتُفِيدَ التَّعْلِيلَ ورَبْطَ الجُمْلَةِ بِالَّتِي قَبْلَها. فَفَصْلُ هَذِهِ الجُمْلَةِ كَلا فَصْلٍ.
وعَمِينَ جَمْعُ عَمٍ جَمْعُ سَلامَةٍ بِواوٍ ونُونٍ. وهو صِفَةٌ عَلى وزْنِ فَعِلٍ مِثْلُ أشِرٍ، مُشْتَقٌّ مِنَ العَمى، وأصْلُهُ فُقْدانُ البَصَرِ، ويُطْلَقُ مَجازًا عَلى فُقْدانِ الرَّأْيِ النّافِعِ، ويُقالُ: عَمى القَلْبِ، وقَدْ غُلِّبَ في الكَلامِ تَخْصِيصُ المَوْصُوفِ بِالمَعْنى المَجازِيِّ بِالصِّفَةِ المُشَبَّهَةِ لِدَلالَتِها عَلى ثُبُوتِ الصِّفَةِ، وتُمَكِّنُها بِأنْ تَكُونَ سَجِيَّةً وإنَّما يَصْدُقُ ذَلِكَ في فَقْدِ الرَّأْيِ، لِأنَّ المَرْءَ يُخْلَقُ عَلَيْهِ غالِبًا، بِخِلافِ فَقْدِ البَصَرِ، ولِذَلِكَ قالَ تَعالى هُنا عَمِينَ ولَمْ يَقُلْ عُمْيًا كَما (p-١٩٩)قالَ في الآيَةِ الأُخْرى ﴿عُمْيًا وبُكْمًا وصُمًّا﴾ [الإسراء: ٩٧] ومِثْلُهُ قَوْلُ زُهَيْرٍ:
؎ولَكِنَّنِي عَنْ عِلْمِ ما في غَدٍ عَمٍ
والَّذِينَ كَذَّبُوا كانُوا عَمِينَ لِأنَّ قادَتَهم داعُونَ إلى الضَّلالَةِ مُؤَيِّدُونَها، ودَهْماؤُهم مُتَقَبِّلُونَ تِلْكَ الدَّعْوَةِ سَمّاعُونَ لَها.
وقَدْ دَلَّتْ هَذِهِ القِصَّةُ عَلى مَعْنًى عَظِيمٍ في إرادَةِ اللَّهِ تَعالى تَطَوُّرَ الخَلْقِ الإنْسانِيِّ: فَإنَّ اللَّهَ خَلَقَ الإنْسانَ في أحْسَنِ تَقْوِيمٍ، وخَلَقَ لَهُ الحِسَّ الظّاهِرَ والحِسَّ الباطِنَ، فانْتَفَعَ بِاسْتِعْمالِ بَعْضِ قُواهُ الحِسِّيَّةِ في إدْراكِ أوائِلِ العُلُومِ، ولَكِنَّهُ اسْتَعْمَلَ بَعْضَ ذَلِكَ فِيما جَلَبَ إلَيْهِ الضُّرَّ والضَّلالَ، وذَلِكَ بِاسْتِعْمالِ القَواعِدِ الحِسِّيَّةِ فِيما غابَ عَنْ حِسِّهِ وإعانَتِها بِالقُوى الوَهْمِيَّةِ والمُخَيَّلَةِ، فَفَكَّرَ في خالِقِهِ وصِفاتِهِ فَتَوَّهم لَهُ أنْدادًا وأعْوانًا وعَشِيرَةً وأبْناءً وشُرَكاءً في مُلْكِهِ، وتَفاقَمَ ذَلِكَ في الإنْسانِ مَعَ مُرُورِ الأزْمانِ حَتّى عادَ عَلَيْهِ بِنِسْيانِ خالِقِهِ، إذْ لَمْ يَدْخُلِ العِلْمُ بِهِ تَحْتَ حَواسِّهِ الظّاهِرَةِ، وأقْبَلَ عَلى عِبادَةِ الآلِهَةِ المَوْهُومَةِ حَيْثُ اتَّخَذَ لَها صُوَرًا مَحْسُوسَةً، فَأرادَ اللَّهُ إصْلاحَ البَشَرِ وتَهْذِيبَ إدْراكِهِمْ، فَأرْسَلَ إلَيْهِمْ نُوحًا فَآمَنَ بِهِ قَلِيلٌ مِن قَوْمِهِ وكَفَرَ بِهِ جُمْهُورُهم، فَأرادَ اللَّهُ انْتِخابَ الصّالِحِينَ مِنَ البَشَرِ الَّذِينَ قَبِلَتْ عُقُولُهُمُ الهُدى، وهم نُوحٌ ومَن آمَنَ بِهِ، واسْتِئْصالَ الَّذِينَ تَمَكَّنَتِ الضَّلالَةُ مِن عُقُولِهِمْ لِيُنْشِئَ مِنَ الصّالِحِينَ ذُرِّيَّةً صالِحَةً ويَكْفِيَ الإنْسانِيَّةَ فَسادَ الضّالِّينَ، كَما قالَ نُوحٌ ﴿إنَّكَ إنْ تَذَرْهم يُضِلُّوا عِبادَكَ ولا يَلِدُوا إلّا فاجِرًا كَفّارًا﴾ [نوح: ٢٧]، فَكانَتْ بِعْثَةُ نُوحٍ وما طَرَأ عَلَيْها تَجْدِيدًا لِصَلاحِ البَشَرِ وانْتِخابًا لِلْأصْلَحِ.
{"ayah":"فَكَذَّبُوهُ فَأَنجَیۡنَـٰهُ وَٱلَّذِینَ مَعَهُۥ فِی ٱلۡفُلۡكِ وَأَغۡرَقۡنَا ٱلَّذِینَ كَذَّبُوا۟ بِـَٔایَـٰتِنَاۤۚ إِنَّهُمۡ كَانُوا۟ قَوۡمًا عَمِینَ"}
- أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.
أمّهات
جامع البيان
تفسير الطبري
نحو ٢٨ مجلدًا
تفسير القرآن العظيم
تفسير ابن كثير
نحو ١٩ مجلدًا
الجامع لأحكام القرآن
تفسير القرطبي
نحو ٢٤ مجلدًا
معالم التنزيل
تفسير البغوي
نحو ١١ مجلدًا
جمع الأقوال
منتقاة
عامّة
عامّة
فتح البيان
فتح البيان للقنوجي
نحو ١٢ مجلدًا
فتح القدير
فتح القدير للشوكاني
نحو ١١ مجلدًا
التسهيل لعلوم التنزيل
تفسير ابن جزي
نحو ٣ مجلدات
موسوعات
أخرى
لغة وبلاغة
معاصرة
الميسر
نحو مجلد
المختصر
المختصر في التفسير
نحو مجلد
تيسير الكريم الرحمن
تفسير السعدي
نحو ٤ مجلدات
أيسر التفاسير
نحو ٣ مجلدات
القرآن – تدبّر وعمل
القرآن – تدبر وعمل
نحو ٣ مجلدات
تفسير القرآن الكريم
تفسير ابن عثيمين
نحو ١٥ مجلدًا
مركَّزة العبارة
تفسير الجلالين
نحو مجلد
جامع البيان
جامع البيان للإيجي
نحو ٣ مجلدات
أنوار التنزيل
تفسير البيضاوي
نحو ٣ مجلدات
مدارك التنزيل
تفسير النسفي
نحو ٣ مجلدات
الوجيز
الوجيز للواحدي
نحو مجلد
تفسير القرآن العزيز
تفسير ابن أبي زمنين
نحو مجلدين
آثار
غريب ومعاني
السراج في بيان غريب القرآن
غريب القرآن للخضيري
نحو مجلد
الميسر في غريب القرآن الكريم
الميسر في الغريب
نحو مجلد
تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن قتيبة
نحو مجلد
التبيان في تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن الهائم
نحو مجلد
معاني القرآن وإعرابه
معاني الزجاج
نحو ٤ مجلدات
معاني القرآن
معاني القرآن للنحاس
نحو مجلدين
معاني القرآن
معاني القرآن للفراء
نحو مجلدين
مجاز القرآن
مجاز القرآن لمعمر بن المثنى
نحو مجلد
معاني القرآن
معاني القرآن للأخفش
نحو مجلد
أسباب النزول
إعراب ولغة
الإعراب الميسر
نحو ٣ مجلدات
إعراب القرآن
إعراب القرآن للدعاس
نحو ٤ مجلدات
الجدول في إعراب القرآن وصرفه وبيانه
الجدول في إعراب القرآن
نحو ٨ مجلدات
الدر المصون
الدر المصون للسمين الحلبي
نحو ١٠ مجلدات
اللباب
اللباب في علوم الكتاب
نحو ٢٤ مجلدًا
إعراب القرآن وبيانه
إعراب القرآن للدرويش
نحو ٩ مجلدات
المجتبى من مشكل إعراب القرآن
مجتبى مشكل إعراب القرآن
نحو مجلد
إعراب القرآن
إعراب القرآن للنحاس
نحو ٣ مجلدات
تحليل كلمات القرآن
نحو ٩ مجلدات
الإعراب المرسوم
نحو ٣ مجلدات
المجمّع
بالرسم الجديد
بالرسم القديم
حفص عن عاصم
شُعْبة عن عاصم
قالون عن نافع
ورش عن نافع
البَزِّي عن ابن كثير
قُنبُل عن ابن كثير
الدُّوري عن أبي عمرو
السُّوسِي عن أبي عمرو
نستعليق