الباحث القرآني
﴿والبَلَدُ الطَّيِّبُ يَخْرُجُ نَباتُهُ بِإذْنِ رَبِّهِ والَّذِي خَبُثَ لا يَخْرُجُ إلّا نَكِدًا كَذَلِكَ نُصَرِّفُ الآياتِ لِقَوْمٍ يَشْكُرُونَ﴾ جُمْلَةٌ مُعْتَرِضَةٌ بَيْنَ جُمْلَةِ كَذَلِكَ نُخْرِجُ المَوْتى وبَيْنَ جُمْلَةِ ﴿لَقَدْ أرْسَلْنا نُوحًا﴾ [الأعراف: ٥٩] تَتَضَمَّنُ تَفْصِيلًا لِمَضْمُونِ جُمْلَةِ فَأخْرَجْنا بِهِ مِن كُلِّ الثَّمَراتِ إذْ قَدْ بَيَّنَ فِيها اخْتِلافَ حالِ البَلَدِ الَّذِي يُصِيبُهُ ماءُ السَّحابِ، دَعا إلى هَذا التَّفْصِيلِ أنَّهُ لَمّا مُثِّلَ إخْراجُ ثَمَراتِ الأرْضِ بِإخْراجِ المَوْتى مِنها يَوْمَ البَعْثِ تَذْكِيرًا بِذَلِكَ لِلْمُؤْمِنِينَ، وإبْطالًا لِإحالَةِ البَعْثِ عِنْدَ المُشْرِكِينَ، مُثِّلَ هُنا بِاخْتِلافِ حالِ إخْراجِ النَّباتِ مِنَ الأرْضِ اخْتِلافُ حالِ النّاسِ الأحْياءِ في الِانْتِفاعِ بِرَحْمَةِ هُدى اللَّهِ، فَمَوْقِعُ قَوْلِهِ والبَلَدُ الطَّيِّبُ يَخْرُجُ نَباتُهُ بِإذْنِ رَبِّهِ كَمَوْقِعِ قَوْلِهِ كَذَلِكَ نُخْرِجُ المَوْتى ولِذَلِكَ ذُيِّلَ هَذا بِقَوْلِهِ ﴿كَذَلِكَ نُصَرِّفُ الآياتِ لِقَوْمٍ يَشْكُرُونَ﴾ كَما ذُيِّلَ ما قَبْلَهُ بِقَوْلِهِ: ﴿كَذَلِكَ نُخْرِجُ المَوْتى لَعَلَّكم تَذَّكَّرُونَ﴾ [الأعراف: ٥٧] .
والمَعْنى: كَذَلِكَ نُخْرِجُ المَوْتى وكَذَلِكَ يَنْتَفِعُ بِرَحْمَةِ الهَدْيِ مَن خُلِقَتْ فِطْرَتُهُ طَيِّبَةً قابِلَةً لِلْهُدى كالبَلَدِ الطَّيِّبِ يَنْتَفِعُ بِالمَطَرِ، ويَحْرُمُ مِنَ الِانْتِفاعِ بِالهُدى مَن خُلِقَتْ فِطْرَتُهُ خَبِيثَةً كالأرْضِ الخَبِيثَةِ لا تَنْتَفِعُ بِالمَطَرِ فَلا تُنْبِتُ نَباتًا نافِعًا، فالمَقْصُودُ مِن هَذِهِ الآيَةِ التَّمْثِيلُ، ولَيْسَ المَقْصُودُ مُجَرَّدَ تَفْصِيلِ أحْوالِ الأرْضِ بَعْدَ نُزُولِ المَطَرِ، لِأنَّ الغَرَضَ المَسُوقَ لَهُ الكَلامُ (p-١٨٥)يَجْمَعُ أمْرَيْنِ: العِبْرَةَ بِصُنْعِ اللَّهِ، والمَوْعِظَةَ بِما يُماثِلُ أحْوالَهُ. فالمَعْنى: كَما أنَّ البَلَدَ الطَّيِّبَ يَخْرُجُ نَباتُهُ سَرِيعًا بَهِجًا عِنْدَ نُزُولِ المَطَرِ، والبَلَدَ الخَبِيثَ لا يَكادُ يُنْبِتُ فَإنْ أنْبَتَ أخْرَجَ نَبْتًا خَبِيثًا لا خَيْرَ فِيهِ.
والطَّيِّبُ وصْفٌ عَلى وزْنِ فَيْعِلٍ وهي صِيغَةٌ تَدُلُّ عَلى قُوَّةِ الوَصْفِ في المَوْصُوفِ مِثْلُ: قَيِّمٍ، وهو المُتَّصِفُ بِالطَّيِّبِ، وقَدْ تَقَدَّمَ تَفْسِيرُ الطَّيِّبِ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعالى قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّباتُ في سُورَةِ المائِدَةِ، وعِنْدَ قَوْلِهِ يا أيُّها النّاسُ كُلُوا مِمّا في الأرْضِ حَلالًا طَيِّبًا في سُورَةِ البَقَرَةِ.
والبَلَدُ الطَّيِّبُ الأرْضُ المَوْصُوفَةُ بِالطَّيِّبِ، وطِيبُها زَكاءُ تُرْبَتِها ومُلاءَمَتُها لِإخْراجِ النَّباتِ الصّالِحِ ولِلزَّرْعِ والغَرْسِ وهي الأرْضُ النَّقِيَّةُ.
والَّذِي خَبُثَ ضِدَّ الطِّيبِ.
وقَوْلُهُ ﴿بِإذْنِ رَبِّهِ﴾ في مَوْضِعِ الحالِ مِن نَباتِهِ. والإذْنُ: الأمْرُ، والمُرادُ بِهِ أمْرُ العِنايَةِ بِهِ كَقَوْلِهِ لِما خَلَقْتُ بِيَدَيَّ لِيَدُلَّ عَلى تَشْرِيفِ ذَلِكَ النَّباتِ، فَهو في مَعْنى الوَصْفِ بِالزَّكاءِ، والمَعْنى: البَلَدُ الطَّيِّبُ يَخْرُجُ نَباتُهُ طَيِّبًا زَكِيًّا مِثْلَهُ، وقَدْ أشارَ إلى طِيبِ نَباتِهِ بِأنَّ خُرُوجَهُ بِإذْنِ رَبِّهِ، فَأُرِيدُ بِهَذا الإذْنِ إذْنٌ خاصٌّ هو إذْنُ عِنايَةٍ وتَكْرِيمٍ، ولَيْسَ المُرادُ إذْنَ التَّقْدِيرِ والتَّكْوِينِ فَإنَّ ذَلِكَ إذْنٌ مَعْرُوفٌ لا يَتَعَلَّقُ الغَرَضُ بِبَيانِهِ في مِثْلِ هَذا المَقامِ.
﴿والَّذِي خَبُثَ﴾ حَمَلَهُ جَمِيعُ المُفَسِّرِينَ عَلى أنَّهُ وصْفٌ لِلْبَلَدِ، أيِ البَلَدُ الَّذِي خَبُثَ وهو مُقابِلُ البَلَدِ الطَّيِّبِ، وفَسَّرُوهُ بِالأرْضِ الَّتِي لا تُنْبِتُ إلّا نَباتًا لا يَنْفَعُ، ولا يُسْرِعُ إنْباتُها، مِثْلَ السِّباخِ، وحَمَلُوا ضَمِيرَ يَخْرُجُ عَلى أنَّهُ عائِدٌ لِلنَّباتِ، وجَعَلُوا تَقْدِيرَ الكَلامِ: والَّذِي خَبُثَ لا يَخْرُجُ نَباتُهُ إلّا نَكِدًا، فَحُذِفَ المُضافُ في التَّقْدِيرِ، وهو نَباتُ، وأُقِيمَ المُضافُ إلَيْهِ مَقامَهُ، وهو ضَمِيرُ البَلَدِ الَّذِي خَبُثَ، المُسْتَتِرُ في فِعْلِ يَخْرُجُ.
(p-١٨٦)والَّذِي يَظْهَرُ لِي: أنْ يَكُونَ ”الَّذِي“ صادِقًا عَلى نَباتِ الأرْضِ، والمَعْنى: والنَّبْتُ الَّذِي خَبُثَ لا يَخْرُجُ إلّا نَكِدًا، ويَكُونُ في الكَلامِ احْتِباكٌ إذْ لَمْ يُذْكَرْ وصْفُ الطَّيِّبِ بَعْدَ نَباتِ البَلَدِ الطَّيِّبِ، ولَمْ تُذْكَرِ الأرْضُ الخَبِيثَةُ قَبْلَ ذِكْرِ النَّباتِ الخَبِيثِ، لِدَلالَةِ كِلا الضِّدَّيْنِ عَلى الآخَرِ. والتَّقْدِيرُ: والبَلَدُ الطَّيِّبُ يَخْرُجُ نَباتُهُ طَيِّبًا بِإذْنِ رَبِّهِ، والنَّباتُ الَّذِي خَبُثَ يَخْرُجُ نَكِدًا مِنَ البَلَدِ الخَبِيثِ، وهَذا صُنْعٌ دَقِيقٌ لا يُهْمَلُ في الكَلامِ البَلِيغِ.
وقَرَأ الجَمِيعُ لا يَخْرُجُ بِفَتْحِ التَّحْتِيَّةِ وضَمِّ الرّاءِ إلّا ابْنَ ورْدانَ عَنْ أبِي جَعْفَرٍ قَرَأ بِضَمِّ التَّحْتِيَّةِ وكَسْرِ الرّاءِ عَلى خِلافِ المَشْهُورِ عَنْهُ، وقِيلَ إنَّ نِسْبَةَ هَذا لِابْنِ ورْدانَ تَوَهَّمٌ.
والنَّكِدُ وصْفٌ مِنَ النَّكَدِ بِفَتْحِ الكافِ وهو مَصْدَرُ نَكِدَ الشَّيْءُ إذا كانَ غَيْرَ صالِحٍ يَجُرُّ عَلى مُسْتَعْمِلِهِ شَرًّا. وقَرَأ أبُو جَعْفَرٍ إلّا نَكَدًا، بِفَتْحِ الكافِ.
وفِي تَفْصِيلِ مَعْنى الآيَةِ جاءَ الحَدِيثُ الصَّحِيحُ عَنِ النَّبِيءِ ﷺ أنَّهُ قالَ: «مَثَلُ ما بَعَثَنِي اللَّهُ بِهِ مِنَ الهُدى والعِلْمِ كَمَثَلِ الغَيْثِ الكَثِيرِ أصابَ أرْضًا فَكانَ مِنها نَقِيَّةٌ قَبِلَتِ الماءَ فَأنْبَتَتِ الكَلَأ والعُشْبَ الكَثِيرَ، وكانَتْ مِنها أجادِبُ أمْسَكَتِ الماءَ فَنَفَعَ بِها اللَّهُ النّاسَ فَشَرِبُوا وسَقَوْا وزَرَعُوا، وأصابَ طائِفَةً أُخْرى إنَّما هي قِيعانٌ لا تُمْسِكُ ماءً ولا تُنْبِتُ كَلَأً فَذَلِكَ مَثَلُ مَن فَقِهَ في دِينِ اللَّهِ ونَفَعَهُ ما بَعَثَنِي اللَّهُ بِهِ فَعَلِمَ وعَلَّمَ، ومَثَلُ مَن لَمْ يَرْفَعْ لِذَلِكَ رَأْسًا ولَمْ يَقْبَلْ هُدى اللَّهِ الَّذِي أُرْسِلْتُ بِهِ» .
والإشارَةُ بِقَوْلِهِ ﴿كَذَلِكَ نُصَرِّفُ الآياتِ﴾ إلى تَفَنُّنِ الِاسْتِدْلالِ بِالدَّلائِلِ الدّالَّةِ عَلى عَظِيمِ القُدْرَةِ المُقْتَضِيَةِ الوَحْدانِيَّةَ، والدّالَّةِ أيْضًا عَلى وُقُوعِ البَعْثِ بَعْدَ المَوْتِ، والدّالَّةِ عَلى اخْتِلافِ قابِلِيَّةِ النّاسِ لِلْهُدى والِانْتِفاعِ بِهِ بِالِاسْتِدْلالِ الواضِحِ البَيِّنِ المُقَرَّبِ في جَمِيعِ ذَلِكَ، فَذَلِكَ تَصْرِيفٌ أيْ تَنْوِيعٌ وتَفْنِينٌ لِلْآياتِ (p-١٨٧)أيِ: الدَّلائِلِ.
والمُرادُ بِالقَوْمِ الَّذِينَ يَشْكُرُونَ: المُؤْمِنُونَ: تَنْبِيهًا عَلى أنَّهم مَوْرِدُ التَّمْثِيلِ بِالبَلَدِ الطَّيِّبِ، وأنَّ غَيْرَهم مَوْرِدُ التَّمْثِيلِ بِالبَلَدِ الخَبِيثِ، وهَذا كَقَوْلِهِ تَعالى وتِلْكَ الأمْثالُ نَضْرِبُها لِلنّاسِ وما يَعْقِلُها إلّا العالِمُونَ.
{"ayah":"وَٱلۡبَلَدُ ٱلطَّیِّبُ یَخۡرُجُ نَبَاتُهُۥ بِإِذۡنِ رَبِّهِۦۖ وَٱلَّذِی خَبُثَ لَا یَخۡرُجُ إِلَّا نَكِدࣰاۚ كَذَ ٰلِكَ نُصَرِّفُ ٱلۡـَٔایَـٰتِ لِقَوۡمࣲ یَشۡكُرُونَ"}
- أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.
أمّهات
جامع البيان
تفسير الطبري
نحو ٢٨ مجلدًا
تفسير القرآن العظيم
تفسير ابن كثير
نحو ١٩ مجلدًا
الجامع لأحكام القرآن
تفسير القرطبي
نحو ٢٤ مجلدًا
معالم التنزيل
تفسير البغوي
نحو ١١ مجلدًا
جمع الأقوال
منتقاة
عامّة
عامّة
فتح البيان
فتح البيان للقنوجي
نحو ١٢ مجلدًا
فتح القدير
فتح القدير للشوكاني
نحو ١١ مجلدًا
التسهيل لعلوم التنزيل
تفسير ابن جزي
نحو ٣ مجلدات
موسوعات
أخرى
لغة وبلاغة
معاصرة
الميسر
نحو مجلد
المختصر
المختصر في التفسير
نحو مجلد
تيسير الكريم الرحمن
تفسير السعدي
نحو ٤ مجلدات
أيسر التفاسير
نحو ٣ مجلدات
القرآن – تدبّر وعمل
القرآن – تدبر وعمل
نحو ٣ مجلدات
تفسير القرآن الكريم
تفسير ابن عثيمين
نحو ١٥ مجلدًا
مركَّزة العبارة
تفسير الجلالين
نحو مجلد
جامع البيان
جامع البيان للإيجي
نحو ٣ مجلدات
أنوار التنزيل
تفسير البيضاوي
نحو ٣ مجلدات
مدارك التنزيل
تفسير النسفي
نحو ٣ مجلدات
الوجيز
الوجيز للواحدي
نحو مجلد
تفسير القرآن العزيز
تفسير ابن أبي زمنين
نحو مجلدين
آثار
غريب ومعاني
السراج في بيان غريب القرآن
غريب القرآن للخضيري
نحو مجلد
الميسر في غريب القرآن الكريم
الميسر في الغريب
نحو مجلد
تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن قتيبة
نحو مجلد
التبيان في تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن الهائم
نحو مجلد
معاني القرآن وإعرابه
معاني الزجاج
نحو ٤ مجلدات
معاني القرآن
معاني القرآن للنحاس
نحو مجلدين
معاني القرآن
معاني القرآن للفراء
نحو مجلدين
مجاز القرآن
مجاز القرآن لمعمر بن المثنى
نحو مجلد
معاني القرآن
معاني القرآن للأخفش
نحو مجلد
أسباب النزول
إعراب ولغة
الإعراب الميسر
نحو ٣ مجلدات
إعراب القرآن
إعراب القرآن للدعاس
نحو ٤ مجلدات
الجدول في إعراب القرآن وصرفه وبيانه
الجدول في إعراب القرآن
نحو ٨ مجلدات
الدر المصون
الدر المصون للسمين الحلبي
نحو ١٠ مجلدات
اللباب
اللباب في علوم الكتاب
نحو ٢٤ مجلدًا
إعراب القرآن وبيانه
إعراب القرآن للدرويش
نحو ٩ مجلدات
المجتبى من مشكل إعراب القرآن
مجتبى مشكل إعراب القرآن
نحو مجلد
إعراب القرآن
إعراب القرآن للنحاس
نحو ٣ مجلدات
تحليل كلمات القرآن
نحو ٩ مجلدات
الإعراب المرسوم
نحو ٣ مجلدات
المجمّع
بالرسم الجديد
بالرسم القديم
حفص عن عاصم
شُعْبة عن عاصم
قالون عن نافع
ورش عن نافع
البَزِّي عن ابن كثير
قُنبُل عن ابن كثير
الدُّوري عن أبي عمرو
السُّوسِي عن أبي عمرو
نستعليق