الباحث القرآني
(p-١٧٨)﴿وهْوَ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّياحَ نُشُرًا بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ حَتّى إذا أقَلَّتْ سَحابًا ثِقالًا سُقْناهُ لِبَلَدٍ مَيِّتٍ فَأنْزَلْنا بِهِ الماءَ فَأخْرَجْنا بِهِ مِن كُلِّ الثَّمَراتِ كَذَلِكَ نُخْرِجُ المَوْتى لَعَلَّكم تَذَكَّرُونَ﴾
جُمْلَةُ وهو الَّذِي يُرْسِلُ الرِّياحَ عَطْفٌ عَلى جُمْلَةِ: يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهارَ وقَدْ حَصَلَتِ المُناسَبَةُ بَيْنَ آخِرِ الجُمَلِ المُعْتَرِضَةِ وبَيْنَ الجُمْلَةِ المُعْتَرَضِ بَيْنَها وبَيْنَ ما عُطِفَتْ عَلَيْهِ بِأنَّهُ لَمّا ذَكَرَ قُرْبَ رَحْمَتِهِ مِنَ المُحْسِنِينَ ذَكَرَ بَعْضًا مِن رَحْمَتِهِ العامَّةِ وهو المَطَرُ. فَذِكْرُ إرْسالِ الرِّياحِ هو المَقْصُودُ الأهَمُّ لِأنَّهُ دَلِيلٌ عَلى عِظَمِ القُدْرَةِ والتَّدْبِيرِ، ولِذَلِكَ جَعَلْناهُ مَعْطُوفًا عَلى جُمْلَةِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهارَ أوْ عَلى جُمْلَةِ ألا لَهُ الخَلْقُ والأمْرُ. وذِكْرُ بَعْضِ الأحْوالِ المُقارَنَةِ لِإرْسالِ الرِّياحِ يَحْصُلُ مِنهُ إدْماجُ الِامْتِنانِ في الِاسْتِدْلالِ وذَلِكَ لا يَقْتَضِي أنَّ الرِّياحَ لا تُرْسَلُ إلّا لِلتَّبْشِيرِ بِالمَطَرِ، ولا أنَّ المَطَرَ لا يَنْزِلُ إلّا عَقِبَ إرْسالِ الرِّياحِ، إذْ لَيْسَ المَقْصُودُ تَعْلِيمَ حَوادِثِ الجَوِّ، وإذْ لَيْسَ في الكَلامِ ما يَقْتَضِي انْحِصارَ المُلازَمَةِ وفِيهِ تَعْرِيضٌ بِبِشارَةِ المُؤْمِنِينَ بِإغْداقِ الغَيْثِ عَلَيْهِمْ ونِذارَةِ المُشْرِكِينَ بِالقَحْطِ والجُوعِ كَقَوْلِهِ وأنْ لَوِ اسْتَقامُوا عَلى الطَّرِيقَةِ لَأسْقَيْناهم ماءً غَدَقًا وقَوْلِهِ فارْتَقِبْ يَوْمَ تَأْتِي السَّماءُ بِدُخانٍ مُبِينٍ.
وأُطْلِقَ الإرْسالُ عَلى الِانْتِقالِ عَلى وجْهِ الِاسْتِعارَةِ، فَإرْسالُ الرِّياحِ هُبُوبُها مِنَ المَكانِ الَّذِي تَهُبُّ فِيهِ ووُصُولُها، وحَسَّنَ هَذِهِ الِاسْتِعارَةَ أنَّ الرِّيحَ مُسَخَّرَةٌ إلى المَكانِ الَّذِي يُرِيدُ اللَّهُ هُبُوبَها فِيهِ فَشُبِّهَتْ بِالعاقِلِ المُرْسَلِ إلى جِهَةٍ ما، ومِن بَدائِعِ هَذِهِ الِاسْتِعارَةِ أنَّ الرِّيحَ لا تُفارِقُ كُرَةَ الهَواءِ كَما تَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعالى إنَّ في خَلْقِ السَّماواتِ والأرْضِ واخْتِلافِ اللَّيْلِ والنَّهارِ والفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي في البَحْرِ بِما يَنْفَعُ النّاسَ الآيَةَ في سُورَةِ البَقَرَةِ. فَتَصْرِيفُ الرِّياحِ مِن جِهَةٍ إلى جِهَةٍ أشْبَهُ بِالإرْسالِ مِنهُ بِالإيجادِ.
(p-١٧٩)والرِّياحُ: جَمْعُ رِيحٍ، وقَدْ تَقَدَّمَ في سُورَةِ البَقَرَةِ.
وقَرَأ الجُمْهُورُ الرِّياحَ بِصِيغَةِ الجَمْعِ وقَرَأ ابْنُ كَثِيرٍ، وحَمْزَةُ، والكِسائِيُّ، وخَلَفٌ: الرِّيحَ بِصِيغَةِ المُفْرَدِ بِاعْتِبارِ الجِنْسِ، فَهو مُساوٍ لِقِراءَةِ الجَمْعِ، قالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: مَن قَرَأ بِصِيغَةِ الجَمْعِ فَقِراءَتُهُ أسْعَدُ، لِأنَّ الرِّياحَ حَيْثُما وقَعَتْ في القُرْآنِ فَهي مُقْتَرِنَةٌ بِالرَّحْمَةِ، كَقَوْلِهِ وأرْسَلْنا الرِّياحَ لِواقِحَ وأكْثَرُ ذِكْرِ الرِّيحِ المُفْرَدَةِ أنْ تَكُونَ مُقْتَرِنَةً بِالعَذابِ كَقَوْلِهِ رِيحٌ فِيها عَذابٌ ألِيمٌ ونَحْوَ ذَلِكَ. ومَن قَرَأ بِالإفْرادِ فَتَقْيِيدُها بِالنَّشْرِ يُزِيلُ الِاشْتِراكَ أيِ الإيهامَ. والتَّحْقِيقُ أنَّ التَّعْبِيرَ بِصِيغَةِ الجَمْعِ قَدْ يُرادُ بِهِ تَعَدُّدُ المَهابِّ أوْ حُصُولُ الفَتَراتِ في الهُبُوبِ، وأنَّ الإفْرادَ قَدْ يُرادُ بِهِ أنَّها مَدْفُوعَةٌ دُفْعَةً واحِدَةً قَوِيَّةً لا فَتْرَةَ بَيْنَ هَبّاتِها.
وقَوْلُهُ ”نُشُرًا“ قَرَأهُ نافِعٌ، وأبُو عَمْرٍو، وابْنُ كَثِيرٍ، وأبُو جَعْفَرٍ: نُشُرًا بِضَمِّ النُّونِ والشِّينِ عَلى أنَّهُ جَمْعُ نَشُورٍ بِفَتْحِ النُّونِ كَرَسُولٍ ورُسُلٍ، وهو فَعُولٌ بِمَعْنى فاعِلٍ، والنَّشُورُ الرِّيحُ الحَيَّةُ الطَّيِّبَةُ لِأنَّها تَنْشُرُ السَّحابَ، أيْ تَبُثُّهُ وتُكَثِّرُهُ في الجَوِّ، كالشَّيْءِ المَنشُورِ، ويَجُوزُ أنْ يَكُونَ فَعُولًا بِمَعْنى مَفْعُولٍ، أيْ مَنشُورَةً، أيْ مَبْثُوثَةً في الجِهاتِ، مُتَفَرِّقَةً فِيها، لِأنَّ النَّشْرَ هو التَّفْرِيقُ في جِهاتٍ كَثِيرَةٍ، ومَعْنى ذَلِكَ أنَّ رِيحَ المَطَرِ تَكُونُ لَيِّنَةً، تَجِيءُ مَرَّةً مِنَ الجَنُوبِ ومَرَّةً مِنَ الشَّمالِ، وتَتَفَرَّقُ في الجِهاتِ حَتّى يَنْشَأ بِها السَّحابُ ويَتَعَدَّدَ سَحاباتٌ مَبْثُوثَةٌ، كَما قالَ الكُمَيْتُ في السَّحابِ: مَرَتْهُ الجَنُوبُ بِأنْفاسِها وحَلَّتْ عَزالِيَهُ الشَّمْألُ ومِن أجْلِ ذَلِكَ عَبَّرَ عَنْها بِصِيغَةِ الجَمْعِ لِتَعَدُّدِ مَهابِّها، ولِذَلِكَ لَمْ تُجْمَعْ فِيما لا يُحْمَدُ فِيهِ تَعَدُّدُ المَهابِّ كَقَوْلِهِ وجَرَيْنَ بِهِمْ بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ مِن حَيْثُ جَرْيُ السُّفُنِ إنَّما جِيدُهُ بِرِيحٍ مُتَّصِلَةٍ.
وقَرَأهُ ابْنُ عامِرٍ نُشْرًا بِضَمِّ النُّونِ وسُكُونِ الشِّينِ وهو تَخْفِيفُ نُشُرٍ الَّذِي هو بِضَمَّتَيْنِ كَما يُقالُ: رُسْلٌ في رُسُلٍ. وقَرَأ حَمْزَةُ، (p-١٨٠)والكِسائِيُّ، وخَلَفٌ بِفَتْحِ النُّونِ وسُكُونِ الشِّينِ عَلى أنَّهُ مَصْدَرٌ، وانْتَصَبَ إمّا عَلى المَفْعُولِيَّةِ المُطْلَقَةِ لِأنَّهُ مُرادِفٌ لِـ أرْسَلَ بِمَعْناهُ المَجازِيِّ، أيْ أرْسَلَها إرْسالًا أوْ نَشْرَها نَشْرًا، وإمّا عَلى الحالِ مِنَ الرِّيحِ، أيْ ناشِرَةً أيِ السَّحابُ، أوْ مِنَ الضَّمِيرِ في أرْسَلَ أيْ أرْسَلَها ناشِرًا أيْ مُحْيِيًا بِها الأرْضَ المَيْتَةَ، أيْ مُحْيِيًا بِآثارِها وهي الأمْطارُ.
وقَرَأهُ عاصِمٌ بِالباءِ المُوَحَّدَةِ في مَوْضِعِ النُّونِ مَضْمُومَةً وبِسُكُونِ الشِّينِ وبِالتَّنْوِينِ وهو تَخْفِيفُ بُشُرًا بِضَمِّهِما عَلى أنَّهُ جَمْعُ بَشِيرٍ مِثْلُ نُذُرٍ ونَذِيرٍ، أيْ مُبَشِّرَةً لِلنّاسِ بِاقْتِرابِ الغَيْثِ.
فَحَصَلَ مِن مَجْمُوعِ هَذِهِ القِراءاتِ أنَّ الرِّياحَ تَنْشُرُ السَّحابَ، وأنَّها تَأْتِي مِن جِهاتٍ مُخْتَلِفَةٍ تَتَعاقَبُ فَيَكُونُ ذَلِكَ سَبَبَ امْتِلاءِ الأسْحِبَةِ بِالماءِ وأنَّها تُحْيِي الأرْضَ بَعْدَ مَوْتِها، وأنَّها تُبَشِّرُ النّاسَ بِهُبُوبِها، فَيَدْخُلُ عَلَيْهِمْ بِها سُرُورًا.
وأصْلُ مَعْنى قَوْلِهِمْ: بَيْنَ يَدَيْ فُلانٍ، أنَّهُ يَكُونُ أمامَهُ بِقُرْبٍ مِنهُ ولِذَلِكَ قُوبِلَ بِالخَلْفِ في قَوْلِهِ تَعالى ﴿يَعْلَمُ ما بَيْنَ أيْدِيهِمْ وما خَلْفَهُمْ﴾ [البقرة: ٢٥٥] فَقَصْدُ قائِلِهِ الكِنايَةُ عَنِ الأمامِ، ولَيْسَ صَرِيحًا، حَيْثُ إنَّ الأمامَ القَرِيبَ أوْسَعُ مِنَ الكَوْنِ بَيْنَ اليَدَيْنِ، ثُمَّ لِشُهْرَةِ هَذِهِ الكِنايَةِ وأغْلَبِيَّةِ مُوافَقَتِها لِلْمَعْنى الصَّرِيحِ جُعِلَتْ كالصَّرِيحِ، وساغَ أنْ تُسْتَعْمَلَ مَجازًا في التَّقَدُّمِ والسَّبْقِ القَرِيبِ، كَقَوْلِهِ تَعالى ﴿إنْ هو إلّا نَذِيرٌ لَكم بَيْنَ يَدَيْ عَذابٍ شَدِيدٍ﴾ [سبإ: ٤٦]، وفي تَقَدُّمِ شَيْءٍ عَلى شَيْءٍ مَعَ قُرْبِهِ مِنهُ مِن غَيْرِ أنْ يَكُونَ أمامَهُ ومِن غَيْرِ أنْ يَكُونَ لِلْمُتَقَدَّمِ عَلَيْهِ يَدانِ، وهَكَذا اسْتِعْمالُهُ في هَذِهِ الآيَةِ، أيْ يُرْسِلُ الرِّياحَ سابِقَةً رَحْمَتُهُ.
والرَّحْمَةُ هَذِهِ أُرِيدَ بِها المَطَرُ، فَهو مِن إطْلاقِ المَصْدَرِ عَلى المَفْعُولِ، لِأنَّ اللَّهَ يَرْحَمُ بِهِ. والقَرِينَةُ عَلى المُرادِ بَقِيَّةُ الكَلامِ، ولَيْسَتِ الرَّحْمَةُ مِن أسْماءِ المَطَرِ في كَلامِ العَرَبِ فَإنَّ ذَلِكَ لَمْ يَثْبُتْ، وإضافَةُ الرَّحْمَةِ إلى اسْمِ الجَلالَةِ في هَذِهِ الآيَةِ تُبْعِدُ دَعْوى مَنِ ادَّعاها مِن أسْماءِ المَطَرِ. والمَقْصِدُ الأوَّلُ مِن قَوْلِهِ (p-١٨١)﴿وهُوَ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّياحَ﴾ تَقْرِيعُ المُشْرِكِينَ وتَفْنِيدُ إشْراكِهِمْ، وتَبِعَهُ تَذْكِيرُ المُؤْمِنِينَ وإثارَةُ اعْتِبارِهِمْ، لِأنَّ المَوْصُولَ دَلَّ عَلى أنَّ الصِّلَةَ مَعْلُومَةُ الِانْتِسابِ لِلْمَوْصُولِ، لِأنَّ المُشْرِكِينَ يَعْلَمُونَ أنَّ لِلرِّياحِ مُصَرِّفًا وأنَّ لِلْمَطَرِ مُنَزِّلًا، غَيْرَ أنَّهم يَذْهَلُونَ أوْ يَتَذاهَلُونَ عَنْ تَعْيِينِ ذَلِكَ الفاعِلِ، ولِذَلِكَ يَجِيئُونَ في الكَلامِ بِأفْعالِ نُزُولِ المَطَرِ مَبْنِيَّةً إلى المَجْهُولِ غالِبًا، فَيَقُولُونَ: مُطِرْنا بِنَوْءِ الثُّرَيّا ويَقُولُونَ: ”غِثْنا ما شِئْنا“ مَبْنِيًّا لِلْمَجْهُولِ أيْ أغِثْنا، فَأخْبَرَ اللَّهُ تَعالى بِأنَّ فاعِلَ تِلْكَ الأفْعالِ هو اللَّهُ، وذَلِكَ بِإسْنادِ هَذا المَوْصُولِ إلى ضَمِيرِ الجَلالَةِ في قَوْلِهِ وهو الَّذِي يُرْسِلُ الرِّياحَ أيِ الَّذِي عَلِمْتُمْ أنَّهُ يُرْسِلُ الرِّياحَ ويُنَزِّلُ الماءَ، وهو اللَّهُ تَعالى كَقَوْلِهِ ﴿أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلالَةَ بِالهُدى﴾ [البقرة: ١٦]، فالخَبَرُ مُسَوِّقٌ لِتَعْيِينِ صاحِبِ هَذِهِ الصِّلَةِ. فَهو بِمَنزِلَةِ الجَوابِ عَنِ اسْتِفْهامٍ مَقْصُودٌ مِنهُ طَلَبُ التَّعْيِينِ في نَحْوِ قَوْلِهِمْ: أراحِلٌ أنْتَ أمْ ثاوٍ، ولِذَلِكَ لَمْ يَكُنْ في هَذا الإسْنادِ قَصْرٌ لِأنَّهُ لَمْ يَقْصِدْ بِهِ رَدَّ اعْتِقادٍ، فَإنَّهم لَمْ يَكُونُوا يَزْعُمُونَ أنَّ غَيْرَ اللَّهِ يُرْسِلُ الرِّياحَ، ولَكِنَّهم كانُوا كَمَن يَجْهَلُ ذَلِكَ مِن جِهَةِ إشْراكِهِمْ مَعَهُ غَيْرَهُ، فَرُوعِيَ في هَذا الإسْنادِ حالُهُمُ ابْتِداءً، ويَحْصُلُ رَعْيُ حالِ المُؤْمِنِينَ تَبَعًا، لِأنَّ السِّياقَ مُناسِبٌ لِمُخاطَبَةِ الفَرِيقَيْنِ كَما تَقَدَّمَ في الآيِ السّابِقَةِ.
و(حَتّى) ابْتِدائِيَّةٌ وهي غايَةٌ لِمَضْمُونِ قَوْلِهِ ”﴿نُشُرًا بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ﴾“، الَّذِي هو في مَعْنى: مُتَقَدِّمَةً رَحْمَتَهُ، أيْ تَتَقَدَّمُها مُدَّةً وتَنْشُرُ أسْحِبَتَها حَتّى إذا أقَلَّتْ سَحابًا أنْزَلْنا بِهِ الماءَ، فَإنْزالُ الماءِ هو غايَةُ تَقَدُّمِ الرِّياحِ وسَبْقِها المَطَرَ، وكانَتِ الغايَةُ مُجَزَّأةً أجْزاءً فَأوَّلُها مَضْمُونُ قَوْلِهِ أقَلَّتْ أيِ الرِّياحُ السَّحابَ، ثُمَّ مَضْمُونُ قَوْلِهِ ثِقالًا، ثُمَّ مَضْمُونُ سُقْناهُ أيْ إلى البَلَدِ الَّذِي أرادَ اللَّهُ غَيْثَهُ، ثُمَّ أنْ يَنْزِلَ مِنهُ الماءُ. وكُلُّ ذَلِكَ غايَةٌ لِتَقَدُّمِ الرِّياحِ، لِأنَّ المُفَرَّعَ عَنِ الغايَةِ هو غايَةٌ.
(الثِّقالَ): البَطِيئَةُ التَّنَقُّلِ لِما فِيها مِن رُطُوبَةِ الماءِ، وهو البُخارُ، وهو السَّحابُ المَرْجُوُّ مِنهُ المَطَرُ، ومِن أحْسَنِ مَعانِي أبِي الطَّيِّبِ قَوْلُهُ في حُسْنِ الِاعْتِذارِ: (p-١٨٢)ومِنَ الخَيْرِ بُطْءُ سَيْبِـكَ عَـنِّـي أسْرَعُ السُّحْبِ في المَسِيرِ الجَهامُ وطُوِيَ بَعْضُ المُغَيّا: وذَلِكَ أنَّ الرِّياحَ تُحَرِّكُ الأبْخِرَةَ الَّتِي عَلى سَطْحِ الأرْضِ، وتَمُدُّها بِرُطُوباتٍ تَسُوقُها إلَيْها مِنَ الجِهاتِ النَّدِّيَّةِ الَّتِي تَمُرُّ عَلَيْها كالبِحارِ والأنْهارِ والبُحَيْراتِ والأرْضِينَ النَّدِّيَّةِ، ويَجْتَمِعُ بَعْضُ ذَلِكَ إلى بَعْضٍ وهو المُعَبَّرُ عَنْهُ بِالإثارَةِ في قَوْلِهِ تَعالى: ﴿فَتُثِيرُ سَحابًا﴾ [الروم: ٤٨] فَإذا بَلَغَ حَدَّ البُخارِيَّةِ رَفَعَتْهُ الرِّياحُ مِن سَطْحِ الأرْضِ إلى الجَوِّ.
ومَعْنى أقَلَّتْ حَمَلَتْ مُشْتَقٌّ مِنَ القِلَّةِ لِأنَّ الحامِلَ يُعَدُّ مَحْمُولُهُ قَلِيلًا فالهَمْزَةُ فِيهِ لِلْجَعْلِ.
وإقْلالُ الرِّيحِ السَّحابَ هو أنَّ الرِّياحَ تَمُرُّ عَلى سَطْحِ الأرْضِ فَيَتَجَمَّعُ بِها ما عَلى السَّطْحِ مِنَ البُخارِ، وتَرْفَعُهُ الرِّياحُ إلى العُلُوِّ في الجَوِّ، حَتّى يَبْلُغَ نُقْطَةً بارِدَةً في أعْلى الجَوِّ، فَهُنالِكَ يَنْقَبِضُ البُخارُ وتَتَجَمَّعُ أجْزاؤُهُ فَيَصِيرُ سَحاباتٍ، وكُلَّما انْضَمَّتْ سَحابَةٌ إلى أُخْرى حَصَلَتْ مِنهُما سَحابَةٌ أثْقَلُ مِن إحْداهُما حِينَ كانَتْ مُنْفَصِلَةً عَنِ الأُخْرى، فَيَقِلُّ انْتِشارُها إلى أنْ تَصِيرَ سَحابًا عَظِيمًا فَيَثْقُلُ، فَيَنْماعُ، ثُمَّ يَنْزِلُ مَطَرًا، وقَدْ تَبَيَّنَ أنَّ المُرادَ مِن قَوْلِهِ أقَلَّتْ غَيْرُ المُرادِ مِن قَوْلِهِ في الآيَةِ الأُخْرى فَتُثِيرُ سَحابًا.
والسَّحابُ اسْمُ جَمْعٍ لِسَحابَةٍ فَلِذَلِكَ جازَ إجْراؤُهُ عَلى اعْتِبارِ التَّذْكِيرِ نَظَرًا لِتَجَرُّدِ لَفْظِهِ عَنْ عَلامَةِ التَّأْنِيثِ، وجازَ اعْتِبارُ التَّأْنِيثِ فِيهِ نَظَرًا لِكَوْنِهِ في مَعْنى الجَمْعِ ولِهَذِهِ النُّكْتَةِ وُصِفَ السَّحابُ في ابْتِداءِ إرْسالِهِ بِأنَّها تُثِيرُ، ووُصِفَ بَعْدَ الغايَةِ بِأنَّها ثِقالٌ، وهَذا مِن إعْجازِ القُرْآنِ العِلْمِيِّ، وقَدْ ورَدَ الِاعْتِبارانِ في هَذِهِ الآيَةِ فَوَصَفَ السَّحابَ بِقَوْلِهِ ثِقالًا اعْتِبارًا بِالجَمْعِ كَما «قالَ ﷺ ورَأيْتُ بَقَرًا تُذْبَحُ»، وأُعِيدَ الضَّمِيرُ إلَيْهِ بِالإفْرادِ في قَوْلِهِ سُقْناهُ.
وحَقِيقَةُ السَّوْقِ أنَّهُ تَسْيِيرُ ما يَمْشِي ومُسَيِّرُهُ وراءَهُ يُزْجِيهِ ويُحِثُّهُ، وهو هُنا مُسْتَعارٌ لِتَسْيِيرِ السَّحابِ بِأسْبابِهِ الَّتِي جَعَلَها اللَّهُ، وقَدْ يُجْعَلُ تَمْثِيلًا إذا (p-١٨٣)رُوعِيَ قَوْلُهُ ﴿أقَلَّتْ سَحابًا﴾ أيْ: سُقْناهُ بِتِلْكَ الرِّيحِ إلى بَلَدٍ، فَيَكُونُ تَمْثِيلًا لِحالَةِ دَفْعِ الرِّيحِ السَّحابَ بِحالَةِ سَوْقِ السّائِقِ الدّابَّةَ.
واللّامُ في قَوْلِهِ لِبَلَدٍ لامُ العِلَّةِ، أيْ لِأجْلِ بَلَدٍ مَيِّتٍ، وفي هَذِهِ اللّامِ دَلالَةٌ عَلى العِنايَةِ الرَّبّانِيَّةِ بِذَلِكَ البَلَدِ فَلِذَلِكَ عَدَلَ عَنْ تَعْدِيَةِ سُقْناهُ بِحَرْفِ إلى.
والبَلَدُ: السّاحَةُ الواسِعَةُ مِنَ الأرْضِ.
والمَيِّتُ: مَجازٌ أُطْلِقَ عَلى الجانِبِ الَّذِي انْعَدَمَ مِنهُ النَّباتُ، وإسْنادُ المَوْتِ المَجازِيِّ إلى البَلَدِ هو أيْضًا مَجازٌ عَقْلِيٌّ، لِأنَّ المَيِّتَ إنَّما هو نَباتُهُ وثَمَرُهُ، كَما دَلَّ عَلَيْهِ التَّشْبِيهُ في قَوْلِهِ كَذَلِكَ نُخْرِجُ المَوْتى.
والضَّمِيرُ المَجْرُورُ بِالباءِ في قَوْلِهِ فَأخْرَجْنا بِهِ يَجُوزُ أنْ يَعُودَ إلى البَلَدِ، فَيَكُونُ الباءُ بِمَعْنى في ويَجُوزُ أنْ يَعُودَ إلى الماءِ فَيَكُونُ الباءُ لِلْآلَةِ.
والِاسْتِغْراقُ في كُلِّ الثَّمَراتِ اسْتِغْراقٌ حَقِيقِيٌّ، لِأنَّ البَلَدَ المَيِّتَ لَيْسَ مُعَيَّنًا بَلْ يَشْمَلُ كُلَّ بَلَدٍ مَيِّتٍ يَنْزِلُ عَلَيْهِ المَطَرُ، فَيَحْصُلُ مِن جَمِيعِ أفْرادِ البَلَدِ المَيِّتِ جَمِيعُ الثَّمَراتِ قَدْ أخْرَجَها اللَّهُ بِواسِطَةِ الماءِ، والبَلَدُ الواحِدُ يُخْرِجُ ثَمَراتِهِ المُعْتادَةَ فِيهِ، فَإذا نَظَرْتَ إلى ذَلِكَ البَلَدِ خاصَّةً فاجْعَلِ اسْتِغْراقَ كُلِّ الثَّمَراتِ اسْتِغْراقًا عُرْفِيًّا، أيْ مِن كُلِّ الثَّمَراتِ المَعْرُوفَةِ في ذَلِكَ البَلَدِ وحَرْفُ مِن لِلتَّبْعِيضِ.
وجُمْلَةُ كَذَلِكَ نُخْرِجُ المَوْتى مُعْتَرِضَةٌ اسْتِطْرادًا لِلْمَوْعِظَةِ والِاسْتِدْلالِ عَلى تَقْرِيبِ البَعْثِ الَّذِي يَسْتَبْعِدُونَهُ، والإشارَةُ بِـ كَذَلِكَ إلى الإخْراجِ المُتَضَمِّنِ لَهُ فِعْلُ فَأخْرَجْنا بِاعْتِبارِ ما قَبْلَهُ مِن كَوْنِ البَلَدِ مَيِّتًا، ثُمَّ إحْيائِهِ أيْ إحْياءِ ما فِيهِ مِن أثَرِ الزَّرْعِ والثَّمَرِ، فَوَجْهُ الشَّبَهِ هو إحْياءٌ بَعْدَ مَوْتٍ، ولا شَكَّ أنَّ لِذَلِكَ الإحْياءِ كَيْفِيَّةً قَدَّرَها اللَّهُ وأجْمَلَ ذِكْرَها لِقُصُورِ الإفْهامِ عَنْ تَصَوُّرِها.
وجُمْلَةُ لَعَلَّكم تَذَكَّرُونَ مُسْتَأْنَفَةٌ، والرَّجاءُ ناشِئٌ عَنِ الجُمَلِ المُتَقَدِّمَةِ مِن قَوْلِهِ ”﴿وهُوَ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّياحَ نُشُرًا بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ﴾“ لِأنَّ (p-١٨٤)المُرادَ التَّذَكُّرُ الشّامِلُ الَّذِي يَزِيدُ المُؤْمِنَ عِبْرَةً وإيمانًا، والَّذِي مِن شَأْنِهِ أنْ يُقْلِعَ مِنَ المُشْرِكِ اعْتِقادَ الشِّرْكِ ومِن مُنْكِرِ البَعْثِ إنْكارَهُ.
وقَرَأ الجُمْهُورُ ”تَذَّكَّرُونَ“ بِتَشْدِيدِ الذّالِ عَلى إدْغامِ التّاءِ الثّانِيَةِ في الذّالِ بَعْدَ قَلْبِها ذالًا، وقَرَأ عاصِمٌ في رِوايَةِ حَفْصٍ تَذَكَّرُونَ بِتَخْفِيفِ الذّالِ عَلى حَذْفِ إحْدى التّاءَيْنِ.
{"ayah":"وَهُوَ ٱلَّذِی یُرۡسِلُ ٱلرِّیَـٰحَ بُشۡرَۢا بَیۡنَ یَدَیۡ رَحۡمَتِهِۦۖ حَتَّىٰۤ إِذَاۤ أَقَلَّتۡ سَحَابࣰا ثِقَالࣰا سُقۡنَـٰهُ لِبَلَدࣲ مَّیِّتࣲ فَأَنزَلۡنَا بِهِ ٱلۡمَاۤءَ فَأَخۡرَجۡنَا بِهِۦ مِن كُلِّ ٱلثَّمَرَ ٰتِۚ كَذَ ٰلِكَ نُخۡرِجُ ٱلۡمَوۡتَىٰ لَعَلَّكُمۡ تَذَكَّرُونَ"}
- أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.
أمّهات
جامع البيان
تفسير الطبري
نحو ٢٨ مجلدًا
تفسير القرآن العظيم
تفسير ابن كثير
نحو ١٩ مجلدًا
الجامع لأحكام القرآن
تفسير القرطبي
نحو ٢٤ مجلدًا
معالم التنزيل
تفسير البغوي
نحو ١١ مجلدًا
جمع الأقوال
منتقاة
عامّة
عامّة
فتح البيان
فتح البيان للقنوجي
نحو ١٢ مجلدًا
فتح القدير
فتح القدير للشوكاني
نحو ١١ مجلدًا
التسهيل لعلوم التنزيل
تفسير ابن جزي
نحو ٣ مجلدات
موسوعات
أخرى
لغة وبلاغة
معاصرة
الميسر
نحو مجلد
المختصر
المختصر في التفسير
نحو مجلد
تيسير الكريم الرحمن
تفسير السعدي
نحو ٤ مجلدات
أيسر التفاسير
نحو ٣ مجلدات
القرآن – تدبّر وعمل
القرآن – تدبر وعمل
نحو ٣ مجلدات
تفسير القرآن الكريم
تفسير ابن عثيمين
نحو ١٥ مجلدًا
مركَّزة العبارة
تفسير الجلالين
نحو مجلد
جامع البيان
جامع البيان للإيجي
نحو ٣ مجلدات
أنوار التنزيل
تفسير البيضاوي
نحو ٣ مجلدات
مدارك التنزيل
تفسير النسفي
نحو ٣ مجلدات
الوجيز
الوجيز للواحدي
نحو مجلد
تفسير القرآن العزيز
تفسير ابن أبي زمنين
نحو مجلدين
آثار
غريب ومعاني
السراج في بيان غريب القرآن
غريب القرآن للخضيري
نحو مجلد
الميسر في غريب القرآن الكريم
الميسر في الغريب
نحو مجلد
تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن قتيبة
نحو مجلد
التبيان في تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن الهائم
نحو مجلد
معاني القرآن وإعرابه
معاني الزجاج
نحو ٤ مجلدات
معاني القرآن
معاني القرآن للنحاس
نحو مجلدين
معاني القرآن
معاني القرآن للفراء
نحو مجلدين
مجاز القرآن
مجاز القرآن لمعمر بن المثنى
نحو مجلد
معاني القرآن
معاني القرآن للأخفش
نحو مجلد
أسباب النزول
إعراب ولغة
الإعراب الميسر
نحو ٣ مجلدات
إعراب القرآن
إعراب القرآن للدعاس
نحو ٤ مجلدات
الجدول في إعراب القرآن وصرفه وبيانه
الجدول في إعراب القرآن
نحو ٨ مجلدات
الدر المصون
الدر المصون للسمين الحلبي
نحو ١٠ مجلدات
اللباب
اللباب في علوم الكتاب
نحو ٢٤ مجلدًا
إعراب القرآن وبيانه
إعراب القرآن للدرويش
نحو ٩ مجلدات
المجتبى من مشكل إعراب القرآن
مجتبى مشكل إعراب القرآن
نحو مجلد
إعراب القرآن
إعراب القرآن للنحاس
نحو ٣ مجلدات
تحليل كلمات القرآن
نحو ٩ مجلدات
الإعراب المرسوم
نحو ٣ مجلدات
المجمّع
بالرسم الجديد
بالرسم القديم
حفص عن عاصم
شُعْبة عن عاصم
قالون عن نافع
ورش عن نافع
البَزِّي عن ابن كثير
قُنبُل عن ابن كثير
الدُّوري عن أبي عمرو
السُّوسِي عن أبي عمرو
نستعليق