﴿وإذْ تَأذَّنَ رَبُّكَ لَيَبْعَثَنَّ عَلَيْهِمْ إلى يَوْمِ القِيامَةِ مَن يَسُومُهم سُوءَ العَذابِ إنَّ رَبَّكَ لَسَرِيعُ العِقابِ وإنَّهُ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ﴾
عُطِفَ عَلى جُمْلَةِ واسْألْهم بِتَقْدِيرِ اذْكُرْ، وضَمِيرُ عَلَيْهِمْ عائِدٌ إلى اليَهُودِ المُتَقَدِّمِ ذِكْرُهم بِالضَّمِيرِ الرّاجِعِ إلَيْهِمْ بِدَلالَةِ المَقامِ في قَوْلِهِ - تَعالى - واسْألْهم كَما تَقَدَّمَ بَيانُ ذَلِكَ مُسْتَوْفًى عِنْدَ قَوْلِهِ واسْألْهم عَنِ القَرْيَةِ فالمُتَحَدَّثَ عَنْهم بِهَذِهِ الآيَةِ لا عَلاقَةَ لَهم بِأهْلِ القَرْيَةِ الَّذِينَ عَدَوْا في السَّبْتِ.
و(تَأذَّنَ) عَلى اخْتِلافِ إطْلاقاتِهِ ومِمّا فِيهِ هُنا مُشْتَقٌّ مِنَ الإذْنِ وهو (p-١٥٥)العِلْمُ، يُقالُ أذِنَ أيْ عَلِمَ، وأصْلُهُ العِلْمُ بِالخَبَرِ لِأنَّ مادَّةَ هَذا الفِعْلِ وتَصارِيفَهُ جائِيَةٌ مِنَ الأُذُنِ - اسْمِ الجارِحَةِ الَّتِي هي آلَةُ السَّمْعِ، فَهَذِهِ التَّصارِيفُ مُشْتَقَّةٌ مِنَ الجامِدِ نَحْوَ اسْتَحْجَرَ الطِّينُ أيْ صارَ حَجَرًا، واسْتَنْسَرَ البُغاثُ أيْ صارَ نَسْرًا. فَتَأذَّنَ: بِزِنَةٍ تَفَعَّلَ الدّالَّةِ عَلى مُطاوَعَةِ فَعَلَ، والمُطاوَعَةُ مُسْتَعْمَلَةٌ في مَعْنى قُوَّةِ حُصُولِ الفِعْلِ، فَقِيلَ هو هُنا بِمَعْنى أفْعَلَ كَما يُقالُ تَوَعَّدَ بِمَعْنى أوْعَدَ فَمَعْنى تَأذَّنَ رَبُّكَ أعْلَمَ وأخْبَرَ لَيَبْعَثَنَّ، فَيَكُونُ فِعْلُ أعْلَمَ مُعَلَّقًا عَنِ العَمَلِ بِلامِ القَسَمِ، وإلى هَذا مالَ الطَّبَرِيُّ، قالَ ابْنُ عَطِيَّةَ وهَذا قَلَقٌ مِن جِهَةِ التَّصْرِيفِ إذْ نِسْبَةُ تَأذَّنَ إلى الفاعِلِ غَيْرُ نِسْبَةِ أعْلَمَ ويَتَبَيَّنُ ذَلِكَ مِنَ التَّعَدِّي وغَيْرِهِ. وعَنْ مُجاهِدٍ: تَأذَّنَ تَألّى قالَ في الكَشّافِ مَعْناهُ عَزَمَ رَبُّكَ؛ لِأنَّ العازِمَ عَلى الأمْرِ يُحَدِّثُ نَفْسَهُ بِهِ أرادَ أنَّ إشْرابَهُ مَعْنى القَسَمِ ناشِئٌ عَنْ مَجازٍ فَأُطْلِقَ التَّأذُّنُ عَلى العَزْمِ لِأنَّ العازِمَ عَلى الأمْرِ يُحَدِّثُ بِهِ نَفْسَهُ، فَهو يُؤْذِنُها بِفِعْلِهِ فَتَعْزِمُ نَفْسُهُ، ثُمَّ أُجْرِيَ مَجْرى فِعْلِ القَسَمِ مِثْلَ عَلِمَ اللَّهُ، وشَهِدَ اللَّهُ. ولِذَلِكَ أُجِيبَ بِما يُجابُ بِهِ القَسَمُ. قالابْنُ عَطِيَّةَ: ”وقادَهم إلى هَذا القَوْلِ دُخُولُ اللّامِ في الجَوابِ وأمّا اللَّفْظَةُ فَبَعِيدَةٌ عَنْ هَذا“ وعَنِ ابْنِ عَبّاسٍ ”تَأذَّنَ رَبُّكَ قالَ رَبُّكَ“ يَعْنِي أنَّ اللَّهَ أعْلَنَ ذَلِكَ عَلى لِسانِ رُسُلِهِ.
وحاصِلُ المَعْنى: أنَّ اللَّهَ أعْلَمَهم بِذَلِكَ وتَوَعَّدَهم بِهِ وهَذا كَقَوْلِهِ - تَعالى - ﴿وإذْ تَأذَّنَ رَبُّكم لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأزِيدَنَّكُمْ﴾ [إبراهيم: ٧] في سُورَةِ إبْراهِيمَ.
ومَعْنى البَعْثِ الإرْسالُ وهو هُنا مَجازٌ في التَّقْيِيضِ والإلْهامِ وهو يُؤْذِنُ بِأنَّ ذَلِكَ في أوْقاتٍ مُخْتَلِفَةٍ ولَيْسَ ذَلِكَ مُسْتَمِرًّا يَوْمًا فَيَوْمًا، ولِذَلِكَ اخْتِيرَ فِعْلُ لَيَبْعَثَنَّ دُونَ نَحْوِ لَيُلْزِمَنَّهم، وضُمِّنَ مَعْنى التَّسْلِيطِ فَعُدِّيَ بِعَلى كَقَوْلِهِ بَعَثْنا عَلَيْكم عِبادًا لَنا وقَوْلِهِ فَأرْسَلْنا عَلَيْهِمُ الطُّوفانَ.
و(إلى يَوْمِ القِيامَةِ) غايَةٌ لِما في القَسَمِ مِن مَعْنى الِاسْتِقْبالِ، وهي غايَةٌ مَقْصُودٌ مِنها جَعْلُ أزْمِنَةِ المُسْتَقْبَلِ كُلِّهِ ظَرْفًا لِلْبَعْثِ، لِإخْراجِ ما بَعْدَ الغايَةِ، وهَذا الِاسْتِغْراقُ لِأزْمِنَةِ البَعْثِ أيْ أنَّ اللَّهَ يُسَلِّطُ عَلَيْهِمْ ذَلِكَ في خِلالِ المُسْتَقْبَلِ كُلِّهِ، والبَعْثُ مُطْلَقٌ لا عامٌّ.
ويَسُومُهم يَفْرِضُ عَلَيْهِمْ، وحَقِيقَةُ السَّوْمِ أنَّهُ تَقْدِيرُ العِوَضِ الَّذِي يُسْتَبْدَلُ (p-١٥٦)بِهِ الشَّيْءُ، واسْتُعْمِلَ مَجازًا في المُعامَلَةِ اللّازِمَةِ بِتَشْبِيهِها بِالسَّوْمِ المُقَدِّرِ لِلشَّيْءِ، وقَدْ تَقَدَّمَ في سُورَةِ البَقَرَةِ ﴿وإذْ نَجَّيْناكم مِن آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكم سُوءَ العَذابِ﴾ [البقرة: ٤٩] وتَقَدَّمَ في هَذِهِ السُّورَةِ نَظِيرُهُ، فالمَعْنى يُجْعَلُ سُوءُ العَذابِ كالقِيمَةِ لَهم فَهو حَظُّهم.
وسُوءُ العَذابِ أشَدُّهُ لِأنَّ العَذابَ كُلَّهُ سُوءٌ فَسُوءُهُ الأشَدُّ فِيهِ.
والآيَةُ تُشِيرُ إلى وعِيدِ اللَّهِ إيّاهم بِأنْ يُسَلِّطَ عَلَيْهِمْ عَدُوَّهم كُلَّما نَقَضُوا مِيثاقَ اللَّهِ - تَعالى -، وقَدْ تَكَرَّرَ هَذا الوَعِيدُ مِن عَهْدِ مُوسى - عَلَيْهِ السَّلامُ - إلى هَلُمَّ جَرًّا كَما في سِفْرِ التَّثْنِيَةِ في الثّامِنِ والعِشْرِينَ فَفِيهِ ”إنْ لَمْ تَحْرِصْ لِتَعْمَلَ بِجَمِيعِ كَلِماتِ هَذا النّامُوسِ. . . . ويُبَدِّدُكَ اللَّهُ في جَمِيعِ الشُّعُوبِ وفي تِلْكَ الأُمَمِ لا تَطْمَئِنُّ وتَرْتَعِبُ لَيْلًا ونَهارًا ولا تَأْمَن عَلى حَياتِكَ“ وفي سِفْرِ يُوشَعَ الإصْحاحِ: ٢٣ ”لِتَحْفَظُوا وتَعْمَلُوا كُلَّ المَكْتُوبِ في سِفْرِ شَرِيعَةِ مُوسى ولَكِنْ إذا رَجَعْتُمْ ولُصِقْتُمْ بِبَقِيَّةِ هَؤُلاءِ الشُّعُوبِ اعْلَمُوا يَقِينًا أنَّ اللَّهَ يَجْعَلُهم لَكم سَوْطًا عَلى جَنُوبِكم وشَوْكًا في أعْيُنِكم حَتّى تَبِيدُوا حِينَما تَتَعَدَّوْنَ عَهْدَ الرَّبِّ إلَهِكم.
وأعْظَمُ هَذِهِ الوَصايا هي العَهْدُ بِاتِّباعِ الرَّسُولِ الَّذِي يُرْسَلُ إلَيْهِمْ، كَما تَقَدَّمَ، ولِذَلِكَ كانَ قَوْلُهُ ﴿لَيَبْعَثَنَّ عَلَيْهِمْ إلى يَوْمِ القِيامَةِ مَن يَسُومُهم سُوءَ العَذابِ﴾ مَعْناهُ ما دامُوا عَلى إعْراضِهِمْ وعِنادِهِمْ وكَوْنِهِمْ أتْباعَ مِلَّةِ اليَهُودِيَّةِ مَعَ عَدَمِ الوَفاءِ بِها، فَإذا أسْلَمُوا وآمَنُوا بِالرَّسُولِ النَّبِيءِ الأُمِّيِّ فَقَدْ خَرَجُوا عَنْ مُوجِبِ ذَلِكَ التَّأذُّنِ ودَخَلُوا فِيما وعَدَ اللَّهُ بِهِ المُسْلِمِينَ.
ولِذَلِكَ ذُيِّلَ هَذا بِقَوْلِهِ ﴿إنَّ رَبَّكَ لَسَرِيعُ العِقابِ﴾ أيْ لَهم، والسُّرْعَةُ تَقْتَضِي التَّحَقُّقَ، أيْ أنَّ عِقابَهُ واقِعٌ وغَيْرُ مُتَأخِّرٍ؛ لِأنَّ التَّأخُّرَ تَقْلِيلٌ في التَّحَقُّقِ إذِ التَّأخُّرُ اسْتِمْرارُ العَدَمِ مُدَّةً ما.
وأوَّلُ مَن سُلِّطَ عَلَيْهِمْ“ بُخْتَنَصَّرُ ”مَلِكُ بابِلَ، ثُمَّ تَوالَتْ عَلَيْهِمُ المَصائِبُ فَكانَ أعْظَمَها خَرابُ“ أُرْشَلِيمَ ”في زَمَنِ“ أدِرْيانُوسَ ”إمْبِراطُورِ“ رُوما " ولَمْ تَزَلِ المَصائِبُ تَنْتابُهم ويُنَفَّسُ عَلَيْهِمْ في فَتَراتٍ مَعْرُوفَةٍ في التّارِيخِ.
وأمّا قَوْلُهُ ﴿وإنَّهُ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ﴾ فَهو وعْدٌ بِالإنْجاءِ مِن ذَلِكَ إذا تابُوا واتَّبَعُوا (p-١٥٧)الإسْلامَ، أيْ لَغَفُورٌ لِمَن تابَ ورَجَعَ إلى الحَقِّ، وفِيهِ إيماءٌ إلى أنَّ اللَّهَ قَدْ يُنَفِّسُ عَلَيْهِمْ في فَتَراتٍ مِنَ الزَّمَنِ لِأنَّ رَحْمَةَ اللَّهِ سَبَقَتْ غَضَبَهُ، وقَدْ ألَمَّ بِمَعْنى هَذِهِ الآيَةِ قَوْلُهُ - تَعالى - ﴿وقَضَيْنا إلى بَنِي إسْرائِيلَ في الكِتابِ لَتُفْسِدُنَّ في الأرْضِ مَرَّتَيْنِ ولَتَعْلُنَّ عُلُوًّا كَبِيرًا﴾ [الإسراء: ٤] ﴿فَإذا جاءَ وعْدُ أُولاهُما بَعَثْنا عَلَيْكم عِبادًا لَنا أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ فَجاسُوا خِلالَ الدِّيارِ وكانَ وعْدًا مَفْعُولًا﴾ [الإسراء: ٥] ﴿ثُمَّ رَدَدْنا لَكُمُ الكَرَّةَ عَلَيْهِمْ وأمْدَدْناكم بِأمْوالٍ وبَنِينَ وجَعَلْناكم أكْثَرَ نَفِيرًا﴾ [الإسراء: ٦] ﴿إنْ أحْسَنْتُمْ أحْسَنْتُمْ لِأنْفُسِكم وإنْ أسَأْتُمْ فَلَها فَإذا جاءَ وعْدُ الآخِرَةِ لِيَسُوءُوا وُجُوهَكم ولِيَدْخُلُوا المَسْجِدَ كَما دَخَلُوهُ أوَّلَ مَرَّةٍ ولِيُتَبِّرُوا ما عَلَوْا تَتْبِيرًا﴾ [الإسراء: ٧] ﴿عَسى رَبُّكم أنْ يَرْحَمَكم وإنْ عُدْتُمْ عُدْنا﴾ [الإسراء: ٨]
{"ayah":"وَإِذۡ تَأَذَّنَ رَبُّكَ لَیَبۡعَثَنَّ عَلَیۡهِمۡ إِلَىٰ یَوۡمِ ٱلۡقِیَـٰمَةِ مَن یَسُومُهُمۡ سُوۤءَ ٱلۡعَذَابِۗ إِنَّ رَبَّكَ لَسَرِیعُ ٱلۡعِقَابِ وَإِنَّهُۥ لَغَفُورࣱ رَّحِیمࣱ"}