الباحث القرآني
﴿واتَّخَذَ قَوْمُ مُوسى مِن بَعْدِهِ مِن حُلِيِّهِمْ عِجْلًا جَسَدًا لَهُ خُوارٌ ألَمْ يَرَوْا أنَّهُ لا يُكَلِّمُهم ولا يَهْدِيهِمْ سَبِيلًا اتَّخَذُوهُ وكانُوا ظالِمِينَ﴾
عُطِفَ عَلى جُمْلَةِ وواعَدْنا مُوسى عَطْفَ قِصَّةٍ عَلى قِصَّةٍ، فَذُكِرَ فِيما تَقَدَّمَ قِصَّةُ المُناجاةِ وما حَصَلَ فِيها مِنَ الآياتِ والعِبَرِ، وذُكِرَ في هَذِهِ الآيَةِ ما كانَ مِن قَوْمِ مُوسى، في مُدَّةِ مَغِيبِهِ في المُناجاةِ، مِنَ الإشْراكِ.
فَقَوْلُهُ مِن بَعْدِهِ أيْ مِن بَعْدِ مَغِيبِهِ، كَما هو مَعْلُومٌ مِن قَوْلِهِ ﴿ولَمّا جاءَ مُوسى لِمِيقاتِنا﴾ [الأعراف: ١٤٣] ومِن قَوْلِهِ ﴿وقالَ مُوسى لِأخِيهِ هارُونَ اخْلُفْنِي في قَوْمِي﴾ [الأعراف: ١٤٢] .
وحَذْفُ المُضافِ مَعَ (بَعْدِ) المُضافَةِ إلى اسْمِ المُتَحَدَّثِ عَنْهُ شائِعٌ في كَلامِ العَرَبِ، كَما تَقَدَّمَ في نَظِيرِها مِن سُورَةِ البَقَرَةِ.
و(مِن) في مِثْلِهِ لِلِابْتِداءِ، وهو أصْلُ مَعانِي (مِن) وأمّا (مِن) في قَوْلِهِ مِن حُلِيِّهِمْ فَهي لِلتَّبْعِيضِ.
والحُلِيُّ بِضَمِّ الحاءِ وكَسْرِ اللّامِ وتَشْدِيدِ المُثَنّاةِ التَّحْتِيَّةِ، جَمْعُ حَلْيٍ، بِفَتْحِ الحاءِ وسُكُونِ اللّامِ وتَخْفِيفِ التَّحْتِيَّةِ، ووَزْنُ هَذا الجَمْعِ فُعُولٌ كَما جُمِعَ ثُدِيُّ، ويَجْمَعُ أيْضًا عَلى حِلِيٍّ، بِكَسْرِ الحاءِ مَعَ اللّامِ، مِثْلَ عِصِيٍّ وقِسِيٍّ اتْباعًا لِحَرَكَةِ العَيْنِ، وبِالأوَّلِ قَرَأ جُمْهُورُ العَشَرَةِ، وبِالثّانِي حَمْزَةُ، والكِسائِيُّ، وقَرَأ يَعْقُوبُ ”حَلْيِهِمْ“ بِفَتْحِ الحاءِ وسُكُونِ اللّامِ عَلى صِيغَةِ الإفْرادِ، أيِ اتَّخَذُوا مِن مَصُوغِهِمْ وفي التَّوْراةِ أنَّهُمُ اتَّخَذُوهُ مِن ذَهَبٍ، نَزَعُوا أقْراطَ الذَّهَبِ الَّتِي في آذانِ نِسائِهِمْ وبَناتِهِمْ وبَنِيهِمْ.
والعِجْلُ ولَدُ البَقَرَةِ قَبْلَ أنْ يَصِيرَ ثَوْرًا، وذُكِرَ في سُورَةِ (طه) أنَّ صانِعَ العِجْلِ رَجُلٌ يُقالُ لَهُ السّامِرِيُّ، وفي التَّوْراةِ أنَّ صانِعَهُ هو هارُونُ، وهَذا مِن تَحْرِيفِ الكَلِمِ عَنْ مَواضِعِهِ الواقِعِ في التَّوْراةِ بَعْدَ مُوسى، ولَمْ يَكُنْ هارُونُ صائِغًا، ونُسِبَ الِاتِّخاذُ إلى قَوْمِ مُوسى كُلِّهِمْ عَلى طَرِيقَةِ المَجازِ العَقْلِيِّ لِأنَّهُمُ الآمِرُونَ بِاتِّخاذِهِ، والحَرِيصُونَ عَلَيْهِ، وهَذا مَجازٌ شائِعٌ في كَلامِ العَرَبِ.
ومَعْنى اتَّخَذُوا عِجْلًا صُورَةَ عِجْلٍ، وهَذا مِن مَجازِ الصُّورَةِ، وهو شائِعٌ في الكَلامِ.
(p-١١٠)والجَسَدُ الجِسْمُ الَّذِي لا رُوحَ فِيهِ، فَهو خاصٌّ بِجِسْمِ الحَيَوانِ إذا كانَ بِلا رُوحٍ، والمُرادُ أنَّهُ كَجِسْمِ العِجْلِ في الصُّورَةِ والمِقْدارِ إلّا أنَّهُ لَيْسَ بِحَيٍّ وما وقَعَ في القَصَصِ: أنَّهُ كانَ لَحْمًا ودَمًا يَأْكُلُ ويَشْرَبُ، فَهو مِن وضْعِ القَصّاصِينَ، وكَيْفَ والقُرْآنُ يَقُولُ مِن حُلِيِّهِمْ ويَقُولُ لَهُ خُوارٌ فَلَوْ كانَ لَحْمًا ودَمًا لَكانَ ذِكْرُهُ أدْخَلَ في التَّعْجِيبِ مِنهُ.
والخُوارُ بِالخاءِ المُعْجَمَةِ صَوْتُ البَقَرِ، وقَدْ جَعَلَ صانِعُ العِجْلِ في باطِنِهِ تَجْوِيفًا عَلى تَقْدِيرٍ مِنَ الضِّيقِ مَخْصُوصٍ واتَّخَذَ لَهُ آلَةً نافِخَةً خَفِيَّةً فَإذا حُرِّكَتْ آلَةُ النَّفْخِ انْضَغَطَ الهَواءُ في باطِنِهِ، وخَرَجَ مِنَ المَضِيقِ، فَكانَ لَهُ صَوْتٌ كالخُوارِ، وهَذِهِ صَنْعَةٌ كَصَنْعَةِ الصَّفّارَةِ والمِزْمارِ، وكانَ الكَنْعانِيُّونَ يَجْعَلُونَ مِثْلَ ذَلِكَ لِصُنْعِهِما المُسَمّى بَعْلًا.
و(جَسَدًا) نَعْتٌ لِـ (عِجْلًا) وكَذَلِكَ لَهُ خُوارٌ.
وجُمْلَةُ ألَمْ يَرَوْا أنَّهُ لا يُكَلِّمُهم مُسْتَأْنَفَةٌ اسْتِئْنافًا ابْتِدائِيًّا لِبَيانِ فَسادِ نَظَرِهِمْ في اعْتِقادِهِمْ.
والِاسْتِفْهامُ لِلتَّقْرِيرِ ولِلتَّعْجِيبِ مِن حالِهِمْ، ولِذَلِكَ جُعِلَ الِاسْتِفْهامُ عَنْ نَفْيِ الرُّؤْيَةِ؛ لِأنَّ نَفْيَ الرُّؤْيَةِ هو غَيْرُ الواقِعِ مِن حالِهِمْ في نَفْسِ الأمْرِ ولَكِنَّ حالَهم يُشْبِهُ حالَ مَن لا يَرَوْنَ عَدَمَ تَكْلِيمِهِ، فَوَقَعَ الِاسْتِفْهامُ عَنْهُ لَعَلَّهم لَمْ يَرَوْا ذَلِكَ، مُبالَغَةً، وهو لِلتَّعْجِيبِ ولَيْسَ لِلْإنْكارِ، إذْ لا يُنْكَرُ ما لَيْسَ بِمَوْجُودٍ، وبِهَذا يُعْلَمُ أنَّ مَعْنى كَوْنِهِ في هَذا المَقامِ بِمَنزِلَةِ النَّفْيِ لِلنَّفْي إنَّما نَشَأ مِن تَنْزِيلِ المَسْئُولِ عَنْهم مَنزِلَةَ مَن لا يَرى، وقَدْ تَقَدَّمَ بَيانُ ذَلِكَ عِنْدَ قَوْلِهِ - تَعالى - ﴿ألَمْ تَرَ إلى الَّذِينَ خَرَجُوا مِن دِيارِهِمْ﴾ [البقرة: ٢٤٣] في سُورَةِ البَقَرَةِ.
والرُّؤْيَةُ بَصَرِيَّةٌ لِأنَّ عَدَمَ تَكْلِيمِ العِجْلِ إيّاهم مُشاهَدٌ لَهم؛ لِأنَّ عَدَمَ الكَلامِ يُرى مِن حالِ الشَّيْءِ الَّذِي لا يَتَكَلَّمُ، بِانْعِدامِ آلَةِ التَّكَلُّمِ وهو الفَمُ الصّالِحُ لِلْكَلامِ، وبِتَكَرُّرِ دُعائِهِمْ إيّاهُ وهو لا يُجِيبُ.
وقَدْ سَفِهَ رَأْيُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا العِجْلَ إلَهًا بِأنَّهم يُشاهِدُونَ أنَّهُ لا يُكَلِّمُهم ولا يَهْدِيهِمْ سَبِيلًا، ووَجْهُ الِاسْتِدْلالِ بِذَلِكَ عَلى سَفَهِ رَأْيِهِمْ هو أنَّهم لا شُبْهَةَ لَهم في اتِّخاذِهِ إلَهًا بِأنَّ خَصائِصَهُ خَصائِصُ العَجْماواتِ، فَجِسْمُهُ جِسْمُ عِجْلٍ، وهو مِن نَوْعٍ لَيْسَ أرْقى أنْواعِ المَوْجُوداتِ المَعْرُوفَةِ، وصَوْتُهُ صَوْتُ البَقَرِ، وهو صَوْتٌ (p-١١١)لا يُفِيدُ سامِعَهُ، ولا يُبَيِّنُ، خِطابًا ولَيْسَ هو بِالَّذِي يَهْدِيهِمْ إلى أمْرٍ يَتَّبِعُونَهُ حَتّى تُغْنِيَ هِدايَتُهم عَنْ كَلامِهِ، فَهو مِنَ المَوْجُوداتِ المُنْحَطَّةِ عَنْهم، وهَذا كَقَوْلِ إبْراهِيمَ فاسْألُوهم إنْ كانُوا يَنْطِقُونَ فَماذا رَأوْا مِنهُ مِمّا يَسْتَأْهِلُ الإلَهِيَّةَ، فَضْلًا عَلى أنْ تَرْتَقِيَ بِهِمْ إلى الصِّفاتِ الَّتِي يَسْتَحِقُّها الإلَهُ الحَقُّ، والَّذِينَ عَبَدُوهُ أشْرَفُ مِنهُ حالًا وأهْدى، ولَيْسَ المَقْصُودُ مِن هَذا الِاسْتِدْلالِ عَلى الأُلُوهِيَّةِ بِالتَّكْلِيمِ والهِدايَةِ، وإلّا لَلَزِمَ إثْباتُ الإلَهِيَّةِ لِحُكَماءِ البَشَرِ.
وجُمْلَةُ اتَّخَذُوهُ مُؤَكِّدَةٌ لِجُمْلَةِ واتَّخَذَ قَوْمُ مُوسى فَلِذَلِكَ فُصِلَتْ، والغَرَضِ مِنَ التَّوْكِيدِ في مِثْلِ هَذا المَقامِ هو التَّكْرِيرُ لِأجْلِ التَّعْجِيبِ، كَما يُقالُ: نَعَمِ اتَّخَذُوهُ، ولِتُبْنى عَلَيْهِ جُمْلَةُ وكانُوا ظالِمِينَ فَيَظْهَرُ أنَّها مُتَعَلِّقَةٌ بِاتِّخاذِ العِجْلِ، وذَلِكَ لِبُعْدِ جُمْلَةِ ﴿واتَّخَذَ قَوْمُ مُوسى﴾ بِما ولِيَها مِنَ الجُمْلَةِ وهَذا كَقَوْلِهِ ﴿ولْيَكْتُبْ بَيْنَكم كاتِبٌ بِالعَدْلِ﴾ [البقرة: ٢٨٢] إلى قَوْلِهِ فَلْيَكْتُبْ أُعِيدَ فَلْيَكْتُبْ لِتُبْنى عَلَيْهِ جُمْلَةُ ولْيُمْلِلِ الَّذِي عَلَيْهِ الحَقُّ، وهَذا التَّكْرِيرُ يُفِيدُ مَعَ ذَلِكَ التَّوْكِيدَ وما يَتَرَتَّبُ عَلى التَّوْكِيدِ.
وجُمْلَةُ وكانُوا ظالِمِينَ في مَوْضِعِ الحالِ مِنَ الضَّمِيرِ المَرْفُوعِ في قَوْلِهِ (اتَّخَذُوهُ) وهَذا كَقَوْلِهِ في سُورَةِ البَقَرَةِ ﴿ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ العِجْلَ مِن بَعْدِهِ وأنْتُمْ ظالِمُونَ﴾ [البقرة: ٥١] .
{"ayah":"وَٱتَّخَذَ قَوۡمُ مُوسَىٰ مِنۢ بَعۡدِهِۦ مِنۡ حُلِیِّهِمۡ عِجۡلࣰا جَسَدࣰا لَّهُۥ خُوَارٌۚ أَلَمۡ یَرَوۡا۟ أَنَّهُۥ لَا یُكَلِّمُهُمۡ وَلَا یَهۡدِیهِمۡ سَبِیلًاۘ ٱتَّخَذُوهُ وَكَانُوا۟ ظَـٰلِمِینَ"}
- أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.
أمّهات
جامع البيان
تفسير الطبري
نحو ٢٨ مجلدًا
تفسير القرآن العظيم
تفسير ابن كثير
نحو ١٩ مجلدًا
الجامع لأحكام القرآن
تفسير القرطبي
نحو ٢٤ مجلدًا
معالم التنزيل
تفسير البغوي
نحو ١١ مجلدًا
جمع الأقوال
منتقاة
عامّة
عامّة
فتح البيان
فتح البيان للقنوجي
نحو ١٢ مجلدًا
فتح القدير
فتح القدير للشوكاني
نحو ١١ مجلدًا
التسهيل لعلوم التنزيل
تفسير ابن جزي
نحو ٣ مجلدات
موسوعات
أخرى
لغة وبلاغة
معاصرة
الميسر
نحو مجلد
المختصر
المختصر في التفسير
نحو مجلد
تيسير الكريم الرحمن
تفسير السعدي
نحو ٤ مجلدات
أيسر التفاسير
نحو ٣ مجلدات
القرآن – تدبّر وعمل
القرآن – تدبر وعمل
نحو ٣ مجلدات
تفسير القرآن الكريم
تفسير ابن عثيمين
نحو ١٥ مجلدًا
مركَّزة العبارة
تفسير الجلالين
نحو مجلد
جامع البيان
جامع البيان للإيجي
نحو ٣ مجلدات
أنوار التنزيل
تفسير البيضاوي
نحو ٣ مجلدات
مدارك التنزيل
تفسير النسفي
نحو ٣ مجلدات
الوجيز
الوجيز للواحدي
نحو مجلد
تفسير القرآن العزيز
تفسير ابن أبي زمنين
نحو مجلدين
آثار
غريب ومعاني
السراج في بيان غريب القرآن
غريب القرآن للخضيري
نحو مجلد
الميسر في غريب القرآن الكريم
الميسر في الغريب
نحو مجلد
تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن قتيبة
نحو مجلد
التبيان في تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن الهائم
نحو مجلد
معاني القرآن وإعرابه
معاني الزجاج
نحو ٤ مجلدات
معاني القرآن
معاني القرآن للنحاس
نحو مجلدين
معاني القرآن
معاني القرآن للفراء
نحو مجلدين
مجاز القرآن
مجاز القرآن لمعمر بن المثنى
نحو مجلد
معاني القرآن
معاني القرآن للأخفش
نحو مجلد
أسباب النزول
إعراب ولغة
الإعراب الميسر
نحو ٣ مجلدات
إعراب القرآن
إعراب القرآن للدعاس
نحو ٤ مجلدات
الجدول في إعراب القرآن وصرفه وبيانه
الجدول في إعراب القرآن
نحو ٨ مجلدات
الدر المصون
الدر المصون للسمين الحلبي
نحو ١٠ مجلدات
اللباب
اللباب في علوم الكتاب
نحو ٢٤ مجلدًا
إعراب القرآن وبيانه
إعراب القرآن للدرويش
نحو ٩ مجلدات
المجتبى من مشكل إعراب القرآن
مجتبى مشكل إعراب القرآن
نحو مجلد
إعراب القرآن
إعراب القرآن للنحاس
نحو ٣ مجلدات
تحليل كلمات القرآن
نحو ٩ مجلدات
الإعراب المرسوم
نحو ٣ مجلدات
المجمّع
بالرسم الجديد
بالرسم القديم
حفص عن عاصم
شُعْبة عن عاصم
قالون عن نافع
ورش عن نافع
البَزِّي عن ابن كثير
قُنبُل عن ابن كثير
الدُّوري عن أبي عمرو
السُّوسِي عن أبي عمرو
نستعليق