الباحث القرآني
﴿وجاوَزْنا بِبَنِي إسْرائِيلَ البَحْرَ فَأتَوْا عَلى قَوْمٍ يَعْكُفُونَ عَلى أصْنامٍ لَهم قالُوا يا مُوسى اجْعَلْ لَنا إلَهًا كَما لَهم آلِهَةٌ قالَ إنَّكم قَوْمٌ تَجْهَلُونَ﴾ ﴿إنَّ هَؤُلاءِ مُتَبَّرٌ ما هم فِيهِ وباطِلٌ ما كانُوا يَعْمَلُونَ﴾ ﴿قالَ أغَيْرَ اللَّهِ أبْغِيكم إلَهًا وهْوَ فَضَّلَكم عَلى العالَمِينَ﴾
لَمّا تَمَّتِ العِبْرَةُ بِقِصَّةِ بَعْثِ مُوسى - عَلَيْهِ السَّلامُ - إلى فِرْعَوْنَ ومَلَئِهِ، وكَيْفَ نَصَرَهُ اللَّهُ عَلى عَدُوِّهِ، ونَصَرَ قَوْمَهُ بَنِي إسْرائِيلَ، وأهْلَكَ عَدُوَّهم كَشَأْنِ سُنَّةِ اللَّهِ في نَصْرِ الحَقِّ عَلى الباطِلِ، اسْتُرْسِلَ الكَلامُ إلى وصْفِ تَكْوِينِ أُمَّةِ بَنِي إسْرائِيلَ وما يَحِقُّ أنْ يُعْتَبَرَ بِهِ مِنَ الأحْوالِ العارِضَةِ لَهم في خِلالِ ذَلِكَ مِمّا فِيهِ طُمَأْنِينَةُ نُفُوسِ المُؤْمِنِينَ الصّالِحِينَ في صالِحِ أعْمالِهِمْ، وتَحْذِيرُهم مِمّا يَرْمِي بِهِمْ إلى غَضَبِ اللَّهِ فِيما يُحَقِّرُونَ مِنَ المُخالَفاتِ، لِما في ذَلِكَ كُلِّهِ مِنَ التَّشابُهِ في تَدْبِيرِ اللَّهِ - تَعالى - أُمُورَ عَبِيدِهِ، وسُنَّتِهِ في تَأْيِيدِ رُسُلِهِ وأتْباعِهِمْ، وإيقاظِ نُفُوسِ الأُمَّةِ إلى مُراقَبَةِ خَواطِرِهِمْ ومُحاسَبَةِ نُفُوسِهِمْ في شُكْرِ النِّعْمَةِ ودَحْضِ الكُفْرانِ.
والمُجاوَزَةُ: البُعْدُ عَنِ المَكانِ عَقِبَ المُرُورِ فِيهِ، يُقالُ: جاوَزَ بِمَعْنى جازَ، كَما يُقالُ: عالى بِمَعْنى عَلا، وفِعْلُهُ مُتَعَدٍّ إلى واحِدٍ بِنَفْسِهِ وإلى المَفْعُولِ الثّانِي بِالباءِ فَإذا قُلْتَ: جُزْتُ بِهِ، فَأصْلُ مَعْناهُ أنَّكَ جُزْتَهُ مُصاحِبًا في الجَوازِ بِهِ لِلْمَجْرُورِ بِالباءِ، ثُمَّ اسْتُعِيرَتِ الباءُ لِلتَّعْدِيَةِ يُقالُ: جُزْتُ بِهِ الطَّرِيقَ إذا سَهَّلْتَ لَهُ ذَلِكَ وإنْ لَمْ تَسِرْ مَعَهُ، فَهو (p-٨٠)بِمَعْنى أجَزْتُهُ، كَما قالُوا: ذَهَبْتَ بِهِ بِمَعْنى أذْهَبْتَهُ، فَمَعْنى قَوْلِهِ هُنا ﴿وجاوَزْنا بِبَنِي إسْرائِيلَ البَحْرَ﴾ قَدَّرْنا لَهم جَوازَهُ ويَسَّرْناهُ لَهم.
والبَحْرُ هو بَحْرُ القُلْزُمِ - المَعْرُوفُ اليَوْمَ بِالبَحْرِ الأحْمَرِ - وهو المُرادُ بِاليَمِّ في الآيَةِ السّابِقَةِ، فالتَّعْرِيفُ لِلْعَهْدِ الحُضُورِيِّ، أيِ البَحْرَ المَذْكُورَ كَما هو شَأْنُ المَعْرِفَةِ إذا أُعِيدَتْ مَعْرِفَةً، واخْتِلافُ اللَّفْظِ تَفَنُّنٌ، تَجَنُّبًا لِلْإعادَةِ، والمَعْنى: أنَّهم قَطَعُوا البَحْرَ وخَرَجُوا عَلى شاطِئِهِ الشَّرْقِيِّ.
و(أتَوْا عَلى قَوْمٍ) مَعْناهُ أتَوْا قَوْمًا، ولَمّا ضُمِّنَ أتَوْا مَعْنى مَرُّوا عُدِّيَ بِعَلى، لِأنَّهم لَمْ يَقْصِدُوا الإقامَةَ في القَوْمِ، ولَكِنَّهم ألْفَوْهم في طَرِيقِهِمْ.
والقَوْمُ هُمُ الكَنْعانِيُّونَ ويُقالُ لَهم عِنْدَ العَرَبِ العَمالِقَةُ ويُعْرَفُونَ عِنْدَ مُتَأخِّرِي المُؤَرِّخِينَ بِالفِنِيقِيِّينَ.
والأصْنامُ كانَتْ صُوَرَ البَقَرِ، وقَدْ كانَ البَقَرُ يُعْبَدُ عِنْدَ الكَنْعانِيِّينَ، أيِ الفِينِيقِيِّينَ باسِمِ (بَعْلَ) . وقَدْ تَقَدَّمَ بَيانُ ذَلِكَ عِنْدَ قَوْلِهِ - تَعالى - ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ العِجْلَ مِن بَعْدِهِ في سُورَةِ البَقَرَةِ.
والعُكُوفُ: المُلازَمَةُ بِنِيَّةِ العِبادَةِ. وقَدْ تَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ - تَعالى - ﴿ولا تُباشِرُوهُنَّ وأنْتُمْ عاكِفُونَ في المَساجِدِ﴾ [البقرة: ١٨٧] في سُورَةِ البَقَرَةِ، وتَعْدِيَةُ العُكُوفِ بِحَرْفِ (عَلى) لِما فِيهِ مِن مَعْنى النُّزُولِ وتَمَكُّنِهِ كَقَوْلِهِ قالُوا لَنْ نَبْرَحَ عَلَيْهِ عاكِفِينَ.
وقُرِئَ (يَعْكُفُونَ) . بِضَمِّ الكافِ لِلْجُمْهُورِ، وبِكَسْرِها لِحَمْزَةَ والكِسائِيِّ، وخَلَفٍ، وهُما لُغَتانِ في مُضارِعِ عَكَفَ.
واخْتِيرَ طَرِيقُ التَّنْكِيرِ في أصْنامٍ ووَصْفُهُ بِأنَّها لَهم، أيِ القَوْمِ دُونَ طَرِيقِ الإضافَةِ لِيُتَوَصَّلَ بِالتَّنْكِيرِ إلى إرادَةِ تَحْقِيرِ الأصْنامِ وأنَّها مَجْهُولَةٌ؛ لِأنَّ التَّنْكِيرَ يَسْتَلْزِمُ خَفاءَ المَعْرِفَةِ.
وإنَّما وُصِفَتِ الأصْنامُ بِأنَّها لَهم ولَمْ يُقْتَصَرْ عَلى قَوْلِهِ (أصْنامٍ) قالَ ابْنُ عَرَفَةَ التُّونِسِيُّ ”عادَتُهم يُجِيبُونَ بِأنَّهُ زِيادَةُ تَشْنِيعٍ بِهِمْ وتَنْبِيهٌ عَلى جَهْلِهِمْ وغَوايَتِهِمْ في أنَّهم يَعْبُدُونَ ما هو مِلْكٌ لَهم فَيَجْعَلُونَ مَمْلُوكَهم إلاهَهَمْ“ .
(p-٨١)وفُصِلَتْ جُمْلَةُ قالُوا، فَلَمْ تُعْطَفْ بِالفاءِ: لِأنَّها لَمّا كانَتِ افْتِتاحَ مُحاوِرٍ، وكانَ شَأْنُ المُحاوَرَةِ أنْ تَكُونَ جُمَلُها مَفْصُولَةً شاعَ فَصْلُها، ولَوْ عُطِفَتْ بِالفاءِ لَجازَ أيْضًا.
ونِداؤُهم مُوسى وهو مَعَهم مُسْتَعْمَلٌ في طَلَبِ الإصْغاءِ لِما يَقُولُونَهُ، إظْهارًا لِرَغْبَتِهِمْ فِيما سَيَطْلُبُونَ، وسَمَّوُا الصَّنَمَ إلَهًا لِجَهْلِهِمْ، فَهم يَحْسَبُونَ أنَّ اتِّخاذَ الصَّنَمِ يُجْدِي صاحِبَهُ، كَما لَوْ كانَ إلاهُهُ مَعَهُ، وهَذا يَدُلُّ عَلى أنَّ بَنِي إسْرائِيلَ قَدِ انْخَلَعُوا في مُدَّةِ إقامَتِهِمْ بِمِصْرَ عَنْ عَقِيدَةِ التَّوْحِيدِ وحَنِيفِيَّةِ إبْراهِيمَ ويَعْقُوبَ الَّتِي وصّى بِها في قَوْلِهِ فَلا تَمُوتُنَّ إلّا وأنْتُمْ مُسْلِمُونَ لِأنَّهم لَمّا كانُوا في حالِ ذُلٍّ واسْتِعْبادٍ ذَهَبَ عِلْمُهم وتارِيخُ مَجْدِهِمْ وانْدَمَجُوا في دِيانَةِ الغالِبِينَ لَهم فَلَمْ تَبْقَ لَهم مَيْزَةٌ تُمَيِّزُهم إلّا أنَّهم خَدَمَةٌ وعَبِيدٌ.
والتَّشْبِيهُ في قَوْلِهِ كَما لَهم آلِهَةٌ أرادُوا بِهِ حَضَّ مُوسى عَلى إجابَةِ سُؤالِهِمْ، وابْتِهاجًا بِما رَأوْا مِن حالِ القَوْمِ الَّذِينَ حَلُّوا بَيْنَ ظَهْرانِيهِمْ وكَفى بِالأُمَّةِ خِسَّةَ عُقُولٍ أنْ تَعُدَّ القَبِيحَ حَسَنًا، وأنْ تَتَّخِذَ المَظاهِرَ المُزَيَّنَةَ قُدْوَةً لَها، وأنْ تَنْخَلِعَ عَنْ كَمالِها في اتِّباعِ نَقائِصِ غَيْرِها.
و(ما) يَجُوزُ أنْ تَكُونَ صِلَةً وتَوْكِيدًا كافَّةَ عَمَلِ حَرْفِ التَّشْبِيهِ، ولِذَلِكَ صارَ كافُ التَّشْبِيهِ داخِلًا عَلى جُمْلَةٍ لا عَلى مُفْرَدٍ، وهي جُمْلَةٌ مِن خَبَرٍ ومُبْتَدَأٍ، ويَجُوزُ أنْ تَكُونَ (ما) مَصْدَرِيَّةً غَيْرَ زَمانِيَّةٍ، والجُمْلَةُ بَعْدَها في تَأْوِيلِ مَصْدَرٍ، والتَّقْدِيرُ كَوُجُودِ آلِهَةٍ لَهم، وإنْ كانَ الغالِبُ أنَّ (ما) المَصْدَرِيَّةَ لا تَدْخُلُ إلّا عَلى الفِعْلِ نَحْوَ قَوْلِهِ - تَعالى - ودُّوا ما عَنِتُّمْ فَيَتَعَيَّنُ تَقْدِيرُ فِعْلٍ يَتَعَلَّقُ بِهِ المَجْرُورُ في قَوْلِهِ (لَهم) أوْ يُكْتَفى بِالِاسْتِقْرارِ الَّذِي يَقْتَضِيهِ وُقُوعُ الخَبَرِ جارًّا ومَجْرُورًا، كَقَوْلِ نَهْشَلِ بْنِ جَرِيرِ التَّمِيمِيِّ:
؎كَما سَيْفُ عَمْرٍو لَمْ تَخُنْهُ مَضارِبُهُ
وفُصِلَتْ جُمْلَةُ قالَ إنَّكم قَوْمٌ تَجْهَلُونَ لِوُقُوعِها في جَوابِ المُحاوَرَةِ، أيْ: أجابَ مُوسى كَلامَهم، وكانَ جَوابُهُ بِعُنْفٍ وغِلْظَةٍ بِقَوْلِهِ ﴿إنَّكم قَوْمٌ تَجْهَلُونَ﴾ لِأنَّ ذَلِكَ هو المُناسِبُ لِحالِهِمْ.
(p-٨٢)والجَهْلُ: انْتِفاءُ العِلْمِ أوْ تَصَوُّرُ الشَّيْءِ عَلى خِلافِ حَقِيقَتِهِ. وتَقَدَّمَ في قَوْلِهِ - تَعالى - ﴿لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهالَةٍ﴾ [النساء: ١٧] في سُورَةِ النِّساءِ، والمُرادُ جَهْلُهم بِمَفاسِدِ عِبادَةِ الأصْنامِ، وكانَ وصْفُ مُوسى إيّاهم بِالجَهالَةِ مُؤَكِّدًا لِما دَلَّتْ عَلَيْهِ الجُمْلَةُ الِاسْمِيَّةُ مِن كَوْنِ الجَهالَةِ صِفَةً ثابِتَةً فِيهِمْ وراسِخَةً مِن نُفُوسِهِمْ، ولَوْلا ذَلِكَ لَكانَ لَهم في بادِئِ النَّظَرِ زاجِرٌ عَنْ مِثْلِ هَذا السُّؤالِ، فالخَبَرُ مُسْتَعْمَلٌ في مَعْنَيَيْهِ: الصَّرِيحِ والكِنايَةِ، مُكَنًّى بِهِ عَنِ التَّعَجُّبِ مِن فَداحَةِ جَهْلِهِمْ.
وفِي الإتْيانِ بِلَفْظِ (قَوْمٍ) جَعَلَ ما هو مَقْصُودٌ بِالإخْبارِ وصْفًا لِقَوْمٍ، تَنْبِيهٌ عَلى أنَّ وصْفَهم بِالجَهالَةِ كالمُتَحَقِّقِ المَعْلُومِ الدّاخِلِ في تَقْوِيمِ قَوْمِيَّتِهِمْ. وفي الحُكْمِ بِالجَهالَةِ عَلى القَوْمِ كُلِّهِمْ تَأْكِيدٌ لِلتَّعَجُّبِ مِن حالِ جَهالَتِهِمْ وعُمُومِها فِيهِمْ بِحَيْثُ لا يُوجَدُ فِيهِمْ مَن يَشِذُّ عَنْ هَذا الوَصْفِ مَعَ كَثْرَتِهِمْ، ولِأجْلِ هَذِهِ الغَرابَةِ أُكِّدُّ الحُكْمُ (بِإنَّ) لِأنَّ شَأْنَهُ أنْ يَتَرَدَّدَ في ثُبُوتِهِ السّامِعُ.
وجُمْلَةُ إنَّ هَؤُلاءِ مُتَبَّرٌ ما هم فِيهِ بِمَعْنى التَّعْلِيلِ لِمَضْمُونِ جُمْلَةِ إنَّكم قَوْمٌ تَجْهَلُونَ فَلِذَلِكَ فُصِلَتْ عَنْها وقَدْ أُكِّدَتْ وجُعِلَتِ اسْمِيَّةً لِمِثْلِ الأغْراضِ الَّتِي ذُكِرَتْ في أُخْتِها، وقَدْ عُرِّفَ المُسْنَدُ إلَيْهِ بِالإشارَةِ لِتَمْيِيزِهِمْ بِتِلْكَ الحالَةِ الَّتِي هم مُتَلَبِّسُونَ بِها أكْمَلَ تَمْيِيزٍ، ولِلتَّنْبِيهِ عَلى أنَّهم أحْرِياءُ بِما يَرِدُ بَعْدَ اسْمِ الإشارَةِ مِنَ الأوْصافِ وهي كَوْنُهم مُتَبَّرًا أمْرُهم وباطِلًا عَمَلُهم، وقُدِّمَ المُسْنَدُ وهو (مُتَبَّرٌ) عَلى المُسْنَدِ إلَيْهِ وهو ما هم فِيهِ لِيُفِيدَ تَخْصِيصَهُ بِالمُسْنَدِ إلَيْهِ أيْ: هُمُ المُعَرَّضُونَ لِلتَّبارِ وأنَّهُ لا يَعْدُوهُمُ البَتَّةَ وأنَّهُ لَهم ضَرْبَةُ لازِبٍ، ولا يَصِحُّ أنْ يُجْعَلَ مُتَبَّرٌ مُسْنَدًا إلَيْهِ لِأنَّ المَقْصُودَ بِالإخْبارِ هو ما هم فِيهِ.
والمُتَبِّرُ: المُدَمِّرُ، والتَّبارُ - بِفَتْحِ التّاءِ - الهَلاكُ ولا تَزِدِ الظّالِمِينَ إلّا تَبارًا. يُقالُ تَبَرَ الشَّيْءُ - كَضَرَبَ وتَعِبَ وقَتَلَ - وتَبَّرَهُ تَضْعِيفٌ لِلتَّعْدِيَةِ، أيْ أهْلَكَهُ، والتَّتْبِيرُ مُسْتَعارٌ هُنا لِفَسادِ الحالِ، فَيَبْقى اسْمُ المَفْعُولِ عَلى حَقِيقَتِهِ في أنَّهُ وصْفٌ لِلْمَوْصُوفِ بِهِ في زَمَنِ الحالِ.
ويَجُوزُ أنْ يَكُونَ التَّتْبِيرُ مُسْتَعارًا لِسُوءِ العاقِبَةِ، شُبِّهَ حالُهُمُ المُزَخْرَفُ ظاهِرُهُ بِحالِ الشَّيْءِ البَهِيجِ الآيِلِ إلى الدَّمارِ والكَسْرِ فَيَكُونُ اسْمُ المَفْعُولِ مَجازًا في الِاسْتِقْبالِ، أيْ (p-٨٣)صائِرٌ إلى السُّوءِ.
وما هم فِيهِ هو حالُهم، وهو عِبادَةُ الأصْنامِ وما تَقْتَضِيهِ مِنَ الضَّلالاتِ والسَّيِّئاتِ ولِذَلِكَ اخْتِيرَ في تَعْرِيفِها طَرِيقُ المَوْصُولِيَّةِ لِأنَّ الصِّلَةَ تُحِيطُ بِأحْوالِهِمُ الَّتِي لا يُحِيطُ بِها المُتَكَلِّمُ ولا المُخاطَبُونَ.
والظَّرْفِيَّةُ مَجازِيَّةٌ مُسْتَعارَةٌ لِلْمُلابَسَةِ، تَشْبِيهًا لِلتَّلَبُّسِ بِاحْتِواءِ الظَّرْفِ عَلى المَظْرُوفِ.
والباطِلُ اسْمٌ لِضِدِّ الحَقَّ، فالإخْبارُ بِهِ كالإخْبارِ بِالمَصْدَرِ يُفِيدُ مُبالَغَةً في بُطْلانِهِ؛ لِأنَّ المَقامَ مَقامُ التَّوْبِيخِ والمُبالَغَةِ في الإنْكارِ، وقَدْ تَقَدَّمَ آنِفًا مَعْنى الباطِلِ عِنْدَ قَوْلِهِ - تَعالى - فَوَقَعَ الحَقُّ وبَطَلَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ.
وفِي تَقْدِيمِ المُسْنَدِ، وهو (باطِلٌ) عَلى المُسْنَدِ إلَيْهِ وهو ما كانُوا يَعْمَلُونَ ما في نَظِيرِهِ مِن قَوْلِهِ مُتَبَّرٌ ما هم فِيهِ.
وإعادَةُ لَفْظِ (قالَ) مُسْتَأْنَفًا في حِكايَةِ تَكْمِلَةِ جَوابِ مُوسى بِقَوْلِهِ - تَعالى - قالَ أغَيْرَ اللَّهِ أبْغِيكم تَقَدَّمَ تَوْجِيهُ نَظِيرِهِ عِنْدَ قَوْلِهِ - تَعالى - قالَ اهْبِطُوا مِنها جَمِيعًا إلى قَوْلِهِ قالَ فِيها تَحْيَوْنَ مِن هَذِهِ السُّورَةِ.
والَّذِي يَظْهَرُ أنَّهُ يُعادُ في حِكايَةِ الأقْوالِ إذا طالَ المَقُولُ، أوْ لِأنَّهُ انْتِقالٌ مِن غَرَضِ التَّوْبِيخِ عَلى سُؤالِهِمْ إلى غَرَضِ التَّذْكِيرِ بِنِعْمَةِ اللَّهِ عَلَيْهِمْ، وأنَّ شُكْرَ النِّعْمَةِ يَقْتَضِي زَجْرَهم عَنْ مُحاوَلَةِ عِبادَةِ غَيْرِ المُنْعِمِ، وهو مِنَ الِارْتِقاءِ في الِاسْتِدْلالِ عَلى طَرِيقَةِ التَّسْلِيمِ الجَدَلِيِّ، أيْ: لَوْ لَمْ تَكُنْ تِلْكَ الآلِهَةُ باطِلًا لَكانَ في اشْتِغالِكم بِعِبادَتِها والإعْراضِ عَنِ الإلَهِ الَّذِي أنْعَمَ عَلَيْكم كُفْرانٌ لِلنِّعْمَةِ ونِداءٌ عَلى الحَماقَةِ وتَنَزُّهٌ عَنْ أنْ يُشارِكَهم في حَماقَتِهِمْ.
والِاسْتِفْهامُ بِقَوْلِهِ أغَيْرَ اللَّهِ أبْغِيكم إلَهًا لِلْإنْكارِ والتَّعَجُّبِ مِن طَلَبِهِمْ أنْ يَجْعَلَ لَهم إلَهًا غَيْرَ اللَّهِ، وقَدْ أُولِيَ المُسْتَفْهَمُ عَنْهُ الهَمْزَةَ لِلدَّلالَةِ عَلى أنَّ مَحَلَّ الإنْكارِ هو اتِّخاذُ غَيْرِ اللَّهِ إلَهًا، فَتَقْدِيمُ المَفْعُولِ الثّانِي لِلِاخْتِصاصِ، لِلْمُبالَغَةِ في الإنْكارِ أيِ: اخْتِصاصِ الإنْكارِ بِبَغْيِ غَيْرِ اللَّهِ إلَهًا.
وهَمْزَةُ (أبْغِيكم) هَمْزَةُ المُتَكَلِّمِ لِلْفِعْلِ المُضارِعِ، وهو مُضارِعُ بَغى بِمَعْنى طَلَبَ. ومَصْدَرُهُ البُغاءُ - بِضَمِّ الباءِ - .
(p-٨٤)وفِعْلُهُ يَتَعَدّى إلى مَفْعُولٍ واحِدٍ، ومَفْعُولُهُ هو (غَيْرَ اللَّهِ) لِأنَّهُ هو الَّذِي يُنْكِرُ مُوسى أنْ يَكُونَ يَبْغِيهِ لِقَوْمِهِ.
وتَعْدِيَتُهُ إلى ضَمِيرِ المُخاطَبِينَ عَلى طَرِيقَةِ الحَذْفِ والإيصالِ، وأصْلُ الكَلامِ: أبْغِي لَكم و(إلَهًا) تَمْيِيزٌ لِـ (غَيْرَ) .
وجُمْلَةُ وهو فَضَّلَكم عَلى العالَمِينَ في مَوْضِعِ الحالِ، وحِينَ كانَ عامِلُها مَحَلَّ إنْكارٍ بِاعْتِبارِ مَعْمُولِهِ، كانَتِ الحالُ أيْضًا داخِلَةً في حَيِّزِ الإنْكارِ، ومُقَرِّرَةً لِجِهَتِهِ.
وظاهِرُ صَوْغِ الكَلامِ عَلى هَذا الأُسْلُوبِ أنَّ تَفْضِيلَهم عَلى العالَمِينَ كانَ مَعْلُومًا عِنْدَهم لِأنَّ ذَلِكَ هو المُناسِبُ لِلْإنْكارِ، ويُحْتَمَلُ أنَّهُ أرادَ إعْلامَهم بِذَلِكَ وأنَّهُ أمْرٌ مُحَقَّقٌ.
ومَجِيءُ المُسْنَدِ فِعْلِيًّا: لِيُفِيدَ تَقْدِيمُ المُسْنَدِ إلَيْهِ عَلَيْهِ تَخْصِيصَهُ بِذَلِكَ الخَبَرِ الفِعْلِيِّ أيْ: وهو فَضَّلَكم لَمْ تُفَضِّلْكُمُ الأصْنامُ، فَكانَ الإنْكارُ عَلَيْهِمْ تَحْمِيقًا لَهم في أنَّهم مَغْمُورُونَ في نِعْمَةِ اللَّهِ ويَطْلُبُونَ عِبادَةَ ما لا يُنْعِمُ.
والمُرادُ بِالعالَمِينَ: أُمَمُ عَصْرِهِمْ، وتَفْضِيلُهم عَلَيْهِمْ بِأنَّهم ذُرِّيَّةُ رَسُولٍ وأنْبِياءَ، وبِأنَّ مِنهم رُسُلًا وأنْبِياءَ، وبِأنَّ اللَّهَ هَداهم إلى التَّوْحِيدِ والخَلاصِ مِن دِينِ فِرْعَوْنَ بَعْدَ أنْ تَخَبَّطُوا فِيهِ، وبِأنَّهُ جَعَلَهم أحْرارًا بَعْدَ أنْ كانُوا عَبِيدًا، وساقَهم إلى امْتِلاكِ أرْضٍ مُبارَكَةٍ وأيَّدَهم بِنَصْرِهِ وآياتِهِ، وبَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا لِيُقِيمَ لَهُمُ الشَّرِيعَةَ. وهَذِهِ الفَضائِلُ لَمْ تَجْتَمِعْ لِأُمَّةٍ غَيْرِهِمْ يَوْمَئِذٍ، ومِن جُمْلَةِ العالَمِينَ هَؤُلاءِ القَوْمِ الَّذِينَ أتَوْا عَلَيْهِمْ، وذَلِكَ كِنايَةٌ عَنْ إنْكارِ طَلَبِهِمُ اتِّخاذَ أصْنامٍ مِثْلَهم؛ لِأنَّ شَأْنَ الفاضِلِ أنْ لا يُقَلِّدَ المَفْضُولَ؛ لِأنَّ اقْتِباسَ أحْوالِ الغَيْرِ يَتَضَمَّنُ اعْتِرافًا بِأنَّهُ أرْجَحُ رَأْيًا وأحْسَنُ حالًا، في تِلْكَ النّاحِيَةِ.
{"ayahs_start":138,"ayahs":["وَجَـٰوَزۡنَا بِبَنِیۤ إِسۡرَ ٰۤءِیلَ ٱلۡبَحۡرَ فَأَتَوۡا۟ عَلَىٰ قَوۡمࣲ یَعۡكُفُونَ عَلَىٰۤ أَصۡنَامࣲ لَّهُمۡۚ قَالُوا۟ یَـٰمُوسَى ٱجۡعَل لَّنَاۤ إِلَـٰهࣰا كَمَا لَهُمۡ ءَالِهَةࣱۚ قَالَ إِنَّكُمۡ قَوۡمࣱ تَجۡهَلُونَ","إِنَّ هَـٰۤؤُلَاۤءِ مُتَبَّرࣱ مَّا هُمۡ فِیهِ وَبَـٰطِلࣱ مَّا كَانُوا۟ یَعۡمَلُونَ","قَالَ أَغَیۡرَ ٱللَّهِ أَبۡغِیكُمۡ إِلَـٰهࣰا وَهُوَ فَضَّلَكُمۡ عَلَى ٱلۡعَـٰلَمِینَ"],"ayah":"وَجَـٰوَزۡنَا بِبَنِیۤ إِسۡرَ ٰۤءِیلَ ٱلۡبَحۡرَ فَأَتَوۡا۟ عَلَىٰ قَوۡمࣲ یَعۡكُفُونَ عَلَىٰۤ أَصۡنَامࣲ لَّهُمۡۚ قَالُوا۟ یَـٰمُوسَى ٱجۡعَل لَّنَاۤ إِلَـٰهࣰا كَمَا لَهُمۡ ءَالِهَةࣱۚ قَالَ إِنَّكُمۡ قَوۡمࣱ تَجۡهَلُونَ"}
- أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.
أمّهات
جامع البيان
تفسير الطبري
نحو ٢٨ مجلدًا
تفسير القرآن العظيم
تفسير ابن كثير
نحو ١٩ مجلدًا
الجامع لأحكام القرآن
تفسير القرطبي
نحو ٢٤ مجلدًا
معالم التنزيل
تفسير البغوي
نحو ١١ مجلدًا
جمع الأقوال
منتقاة
عامّة
عامّة
فتح البيان
فتح البيان للقنوجي
نحو ١٢ مجلدًا
فتح القدير
فتح القدير للشوكاني
نحو ١١ مجلدًا
التسهيل لعلوم التنزيل
تفسير ابن جزي
نحو ٣ مجلدات
موسوعات
أخرى
لغة وبلاغة
معاصرة
الميسر
نحو مجلد
المختصر
المختصر في التفسير
نحو مجلد
تيسير الكريم الرحمن
تفسير السعدي
نحو ٤ مجلدات
أيسر التفاسير
نحو ٣ مجلدات
القرآن – تدبّر وعمل
القرآن – تدبر وعمل
نحو ٣ مجلدات
تفسير القرآن الكريم
تفسير ابن عثيمين
نحو ١٥ مجلدًا
مركَّزة العبارة
تفسير الجلالين
نحو مجلد
جامع البيان
جامع البيان للإيجي
نحو ٣ مجلدات
أنوار التنزيل
تفسير البيضاوي
نحو ٣ مجلدات
مدارك التنزيل
تفسير النسفي
نحو ٣ مجلدات
الوجيز
الوجيز للواحدي
نحو مجلد
تفسير القرآن العزيز
تفسير ابن أبي زمنين
نحو مجلدين
آثار
غريب ومعاني
السراج في بيان غريب القرآن
غريب القرآن للخضيري
نحو مجلد
الميسر في غريب القرآن الكريم
الميسر في الغريب
نحو مجلد
تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن قتيبة
نحو مجلد
التبيان في تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن الهائم
نحو مجلد
معاني القرآن وإعرابه
معاني الزجاج
نحو ٤ مجلدات
معاني القرآن
معاني القرآن للنحاس
نحو مجلدين
معاني القرآن
معاني القرآن للفراء
نحو مجلدين
مجاز القرآن
مجاز القرآن لمعمر بن المثنى
نحو مجلد
معاني القرآن
معاني القرآن للأخفش
نحو مجلد
أسباب النزول
إعراب ولغة
الإعراب الميسر
نحو ٣ مجلدات
إعراب القرآن
إعراب القرآن للدعاس
نحو ٤ مجلدات
الجدول في إعراب القرآن وصرفه وبيانه
الجدول في إعراب القرآن
نحو ٨ مجلدات
الدر المصون
الدر المصون للسمين الحلبي
نحو ١٠ مجلدات
اللباب
اللباب في علوم الكتاب
نحو ٢٤ مجلدًا
إعراب القرآن وبيانه
إعراب القرآن للدرويش
نحو ٩ مجلدات
المجتبى من مشكل إعراب القرآن
مجتبى مشكل إعراب القرآن
نحو مجلد
إعراب القرآن
إعراب القرآن للنحاس
نحو ٣ مجلدات
تحليل كلمات القرآن
نحو ٩ مجلدات
الإعراب المرسوم
نحو ٣ مجلدات
المجمّع
بالرسم الجديد
بالرسم القديم
حفص عن عاصم
شُعْبة عن عاصم
قالون عن نافع
ورش عن نافع
البَزِّي عن ابن كثير
قُنبُل عن ابن كثير
الدُّوري عن أبي عمرو
السُّوسِي عن أبي عمرو
نستعليق











