الباحث القرآني
﴿وجاءَ فِرْعَوْنُ ومَن قَبْلَهُ والمُؤْتَفِكاتُ بِالخاطِئَةِ﴾ ﴿فَعَصَوْا رَسُولَ رَبِّهِمْ فَأخَذَهم أخْذَةً رابِيَةً﴾ عَطْفٌ عَلى جُمْلَةِ ﴿كَذَّبَتْ ثَمُودُ وعادٌ بِالقارِعَةِ﴾ [الحاقة: ٤] .
وقَدْ جُمِعَ في الذِّكْرِ هُنا عِدَّةُ أُمَمٍ تَقَدَّمَتْ قَبْلَ بَعْثَةِ مُوسى - عَلَيْهِ السَّلامُ - إجْمالًا وتَصْرِيحًا، وخَصَّ مِنهم بِالتَّصْرِيحِ قَوْمَ فِرْعَوْنَ والمُؤْتَفِكاتِ لِأنَّهم مِن أشْهَرِ الأُمَمِ ذِكْرًا عِنْدَ أهْلِ الكِتابِ المُخْتَلِطِينَ بِالعَرَبِ والنّازِلِينَ بِجِوارِهِمْ، فَمِنَ العَرَبِ مَن يَبْلُغُهُ بَعْضَ الخَبَرِ عَنْ قِصَّتِهِمْ.
وفِي عَطْفِ هَؤُلاءِ عَلى ثَمُودَ وعادٍ في سِياقِ ذِكْرِ التَّكْذِيبِ بِالقارِعَةِ إيماءٌ إلى أنَّهم تَشابَهُوا في التَّكْذِيبِ بِالقارِعَةِ كَما تَشابَهُوا في المَجِيءِ بِالخاطِئَةِ وعِصْيانِ رُسُلِ رَبِّهِمْ فَحَصَلَ في الكَلامِ احْتِباكٌ.
والمُرادُ بِفِرْعَوْنَ فِرْعَوْنُ الَّذِي أُرْسِلَ إلَيْهِ مُوسى - عَلَيْهِ السَّلامُ - وهو مِنفِطاحُ الثّانِي. وإنَّما أُسْنِدَ الخِطْءُ إلَيْهِ؛ لِأنَّ مُوسى أُرْسِلَ إلَيْهِ لِيُطْلِقَ بَنِي إسْرائِيلَ مِنَ العُبُودِيَّةِ قالَ تَعالى ﴿اذْهَبْ إلى فِرْعَوْنَ إنَّهُ طَغى﴾ [طه: ٢٤] فَهو المُؤاخَذُ بِهَذا العِصْيانِ وتَبِعَهُ القِبْطُ امْتِثالًا لِأمْرِهِ وكَذَّبُوا مُوسى وأعْرَضُوا عَنْ دَعْوَتِهِ.
(p-١٢١)وشَمِلَ قَوْلُهُ ﴿ومَن قَبْلَهُ﴾ أُمَمًا كَثِيرَةً مِنها قَوْمُ نُوحٍ وقَوْمُ إبْراهِيمَ.
وقَرَأ الجُمْهُورُ ﴿ومَن قَبْلَهُ﴾ بِفَتْحِ القافِ وسُكُونِ الباءِ. وقَرَأ أبُو عَمْرٍو والكِسائِيُّ ويَعْقُوبُ بِكَسْرِ القافِ وفَتْحِ الباءِ، أيْ ومَن كانَ مِن جِهَتِهِ، أيْ قَوْمُهُ وأتْباعُهُ.
والمُؤْتَفِكاتُ: قُرى قَوْمِ لُوطٍ الثَّلاثُ، وأُرِيدَ بِالمُؤْتَفِكاتِ سُكّانُها وهم قَوْمُ لُوطٍ وخُصُّوا بِالذِّكْرِ لِشُهْرَةِ جَرِيمَتِهِمْ ولِكَوْنِهِمْ كانُوا مَشْهُورِينَ عِنْدَ العَرَبِ إذْ كانَتْ قُراهم في طَرِيقِهِمْ إلى الشّامِ، قالَ تَعالى ﴿وإنَّكم لَتَمُرُّونَ عَلَيْهِمْ مُصْبِحِينَ﴾ [الصافات: ١٣٧] ﴿وبِاللَّيْلِ أفَلا تَعْقِلُونَ﴾ [الصافات: ١٣٨] وقالَ ﴿ولَقَدْ أتَوْا عَلى القَرْيَةِ الَّتِي أُمْطِرَتْ مَطَرَ السَّوْءِ أفَلَمْ يَكُونُوا يَرَوْنَها﴾ [الفرقان: ٤٠] .
ووُصِفَتْ قُرى قَوْمِ لُوطٍ بِ (المُؤْتَفِكاتُ) جَمْعُ مُؤْتَفِكَةٌ اسْمُ فاعِلٍ ائْتَفَكَ مُطاوِعٌ أفَكَهُ، إذا قَلَبَهُ، فَهي المُنْقَلِباتُ، أيْ قَلَبَها قالَبٌ أيْ خَسَفَ بِها قالَ تَعالى ﴿فَجَعَلْنا عالِيَها سافِلَها﴾ [الحجر: ٧٤] .
والخاطِئَةِ: إمّا مَصْدَرٌ بِوَزْنِ فاعِلَةٍ وهاؤُهُ هاءُ المَرَّةِ الواحِدَةِ فَلَمّا اسْتُعْمِلَ مَصْدَرًا قَطَعَ النَّظَرَ عَنِ المَرَّةِ، كَما تَقَدَّمَ في قَوْلِهِ (الحاقَّةُ) فَهو مَصْدَرٌ خَطِئَ، إذا أذْنَبَ. والذَّنْبُ: الخِطْءُ بِكَسْرِ الخاءِ، وأمّا اسْمُ فاعِلٍ خَطِئَ وتَأْنِيثُهُ بِتَأْوِيلِ: الفَعِلَةِ ذاتِ الخِطْءِ فَهاؤُهُ هاءُ تَأْنِيثٍ.
والتَّعْرِيفُ فِيهِ تَعْرِيفُ الجِنْسِ عَلى كِلا الوَجْهَيْنِ، فالمَعْنى: جاءَ كُلٌّ مِنهم بِالذَّنْبِ المُسْتَحَقِّ لِلْعِقابِ. وفُرِّعَ عَنْهُ تَفْصِيلُ ذَنْبِهِمُ المُعَبَّرُ عَنْهُ بِالخاطِئَةِ فَقالَ ﴿فَعَصَوْا رَسُولَ رَبِّهِمْ﴾ وهَذا التَّفْرِيعُ لِلتَّفْصِيلِ نَظِيرُ التَّفْرِيعِ في قَوْلِهِ ﴿كَذَّبَتْ قَبْلَهم قَوْمُ نُوحٍ فَكَذَّبُوا عَبْدَنا وقالُوا مَجْنُونٌ وازْدُجِرَ﴾ [القمر: ٩] في أنَّهُ تَفْرِيعُ بَيانٍ عَلى المُبَيَّنِ.
وضَمِيرُ عَصَوْا يَجُوزُ أنْ يَرْجِعَ إلى فِرْعَوْنَ بِاعْتِبارِهِ رَأْسَ قَوْمِهِ، فالضَّمِيرُ عائِدٌ إلَيْهِ وإلى قَوْمِهِ، والقَرِينَةُ ظاهِرَةٌ عَلى قِراءَةِ الجُمْهُورِ، وأمّا عَلى قِراءَةِ أبِي عَمْرٍو والكِسائِيِّ فالأمْرُ أظْهَرُ وعَلى هَذا الاعْتِبارِ في مَحَلِّ ضَمِيرِ (عَصَوْا) يَكُونُ المُرادُ بِ ﴿رَسُولَ رَبِّهِمْ﴾ مُوسى - عَلَيْهِ السَّلامُ - . وتَعْرِيفُهُ بِالإضافَةِ لِما في لَفْظِ المُضافِ إلَيْهِ مِنَ الإشارَةِ إلى تَخْطِئَتِهِمْ في عِبادَةِ فِرْعَوْنَ وجَعْلِهِمْ إيّاهُ إلَهًا لَهم.
(p-١٢٢)ويَجُوزُ أنْ يَرْجِعَ ضَمِيرُ (عَصَوْا) إلى ﴿فِرْعَوْنُ ومَن قَبْلَهُ والمُؤْتَفِكاتُ﴾ .
و﴿رَسُولَ رَبِّهِمْ﴾ هو الرَّسُولُ المُرْسَلُ إلى كُلِّ قَوْمٍ مِن هَؤُلاءِ.
فَإفْرادُ (رَسُولَ) مُرادٌ بِهِ التَّوْزِيعُ عَلى الجَماعاتِ، أيْ رَسُولَ اللَّهِ لِكُلِّ جَماعَةٍ مِنهم، والقَرِينَةُ ظاهِرَةٌ، وهو أجْمَلُ نَظْمًا مِن أنْ يُقالَ: فَعَصَوْا رُسُلَ رَبِّهِمْ، لِما في إفْرادِ (رَسُولَ) مِنَ التَّفَنُّنِ في صِيَغِ الكَلِمِ مِن جَمْعٍ وإفْرادٍ تَفادِيًا مَعَ تَتابُعِ ثَلاثَةِ جُمُوعٍ؛ لِأنَّ صِيَغَ الجَمْعِ لا تَخْلُو مِن ثِقَلٍ لِقِلَّةِ اسْتِعْمالِها، وعَكْسُهُ قَوْلُهُ في سُورَةِ الفُرْقانِ ﴿وقَوْمَ نُوحٍ لَمّا كَذَّبُوا الرُّسُلَ أغْرَقْناهُمْ﴾ [الفرقان: ٣٧]، وإنَّما كَذَّبُوا رَسُولًا واحِدًا، وقَوْلُهُ ﴿كَذَّبَتْ قَوْمُ نُوحٍ المُرْسَلِينَ﴾ [الشعراء: ١٠٥] وما بَعْدَهُ في سُورَةِ الشُّعَراءِ، وقَدْ تَقَدَّمَ تَأْوِيلُ ذَلِكَ في مَوْضِعِهِ.
والأخْذُ: مُسْتَعْمَلٌ في الإهْلاكِ، وقَدْ تَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعالى ﴿أخَذْناهم بَغْتَةً فَإذا هم مُبْلِسُونَ﴾ [الأنعام: ٤٤] في سُورَةِ الأنْعامِ وفي مَواضِعَ أُخْرى.
و(أخْذَةً): واحِدَةٌ مِنَ الأخْذِ، فَيُرادُ بِها أخْذُ فِرْعَوْنَ وقَوْمِهِ بِالغَرَقِ، كَما قالَ تَعالى ﴿فَأخَذْناهم أخْذَ عَزِيزٍ مُقْتَدِرٍ﴾ [القمر: ٤٢]، وإذا أُعِيدَ ضَمِيرُ الغائِبِ إلى ﴿فِرْعَوْنُ ومَن قَبْلَهُ والمُؤْتَفِكاتُ﴾ كانَ إفْرادُ الأخْذَةِ كَإفْرادِ ﴿رَسُولَ رَبِّهِمْ﴾، أيْ أخَذْنا كُلَّ أُمَّةٍ مِنهم أخْذَةً.
والرّابِيَةُ: اسْمُ فاعِلٍ مِن رَبا يَرْبُو إذا زادَ فَلَمّا صِيغَ مِنهُ وزْنُ فاعِلَةٍ، قُلِبَتِ الواوُ ياءً لِوُقُوعِها مُتَحَرِّكَةً إثْرَ كَسْرَةٍ.
واسْتُعِيرَ الرُّبُوُّ هُنا لِلشِّدَّةِ كَما تُسْتَعارُ الكَثْرَةُ لِلشِّدَّةِ في نَحْوِ قَوْلِهِ تَعالى ﴿وادْعُوا ثُبُورًا كَثِيرًا﴾ [الفرقان: ١٤] .
والمُرادُ بِالأخْذَةِ الرّابِيَةِ: إهْلاكُ الاسْتِئْصالِ، أيْ لَيْسَ في إهْلاكِهِمْ إبْقاءُ قَلِيلٍ مِنهم.
{"ayahs_start":9,"ayahs":["وَجَاۤءَ فِرۡعَوۡنُ وَمَن قَبۡلَهُۥ وَٱلۡمُؤۡتَفِكَـٰتُ بِٱلۡخَاطِئَةِ","فَعَصَوۡا۟ رَسُولَ رَبِّهِمۡ فَأَخَذَهُمۡ أَخۡذَةࣰ رَّابِیَةً"],"ayah":"وَجَاۤءَ فِرۡعَوۡنُ وَمَن قَبۡلَهُۥ وَٱلۡمُؤۡتَفِكَـٰتُ بِٱلۡخَاطِئَةِ"}
- أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.
أمّهات
جامع البيان
تفسير الطبري
نحو ٢٨ مجلدًا
تفسير القرآن العظيم
تفسير ابن كثير
نحو ١٩ مجلدًا
الجامع لأحكام القرآن
تفسير القرطبي
نحو ٢٤ مجلدًا
معالم التنزيل
تفسير البغوي
نحو ١١ مجلدًا
جمع الأقوال
منتقاة
عامّة
عامّة
فتح البيان
فتح البيان للقنوجي
نحو ١٢ مجلدًا
فتح القدير
فتح القدير للشوكاني
نحو ١١ مجلدًا
التسهيل لعلوم التنزيل
تفسير ابن جزي
نحو ٣ مجلدات
موسوعات
أخرى
لغة وبلاغة
معاصرة
الميسر
نحو مجلد
المختصر
المختصر في التفسير
نحو مجلد
تيسير الكريم الرحمن
تفسير السعدي
نحو ٤ مجلدات
أيسر التفاسير
نحو ٣ مجلدات
القرآن – تدبّر وعمل
القرآن – تدبر وعمل
نحو ٣ مجلدات
تفسير القرآن الكريم
تفسير ابن عثيمين
نحو ١٥ مجلدًا
مركَّزة العبارة
تفسير الجلالين
نحو مجلد
جامع البيان
جامع البيان للإيجي
نحو ٣ مجلدات
أنوار التنزيل
تفسير البيضاوي
نحو ٣ مجلدات
مدارك التنزيل
تفسير النسفي
نحو ٣ مجلدات
الوجيز
الوجيز للواحدي
نحو مجلد
تفسير القرآن العزيز
تفسير ابن أبي زمنين
نحو مجلدين
آثار
غريب ومعاني
السراج في بيان غريب القرآن
غريب القرآن للخضيري
نحو مجلد
الميسر في غريب القرآن الكريم
الميسر في الغريب
نحو مجلد
تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن قتيبة
نحو مجلد
التبيان في تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن الهائم
نحو مجلد
معاني القرآن وإعرابه
معاني الزجاج
نحو ٤ مجلدات
معاني القرآن
معاني القرآن للنحاس
نحو مجلدين
معاني القرآن
معاني القرآن للفراء
نحو مجلدين
مجاز القرآن
مجاز القرآن لمعمر بن المثنى
نحو مجلد
معاني القرآن
معاني القرآن للأخفش
نحو مجلد
أسباب النزول
إعراب ولغة
الإعراب الميسر
نحو ٣ مجلدات
إعراب القرآن
إعراب القرآن للدعاس
نحو ٤ مجلدات
الجدول في إعراب القرآن وصرفه وبيانه
الجدول في إعراب القرآن
نحو ٨ مجلدات
الدر المصون
الدر المصون للسمين الحلبي
نحو ١٠ مجلدات
اللباب
اللباب في علوم الكتاب
نحو ٢٤ مجلدًا
إعراب القرآن وبيانه
إعراب القرآن للدرويش
نحو ٩ مجلدات
المجتبى من مشكل إعراب القرآن
مجتبى مشكل إعراب القرآن
نحو مجلد
إعراب القرآن
إعراب القرآن للنحاس
نحو ٣ مجلدات
تحليل كلمات القرآن
نحو ٩ مجلدات
الإعراب المرسوم
نحو ٣ مجلدات
المجمّع
بالرسم الجديد
بالرسم القديم
حفص عن عاصم
شُعْبة عن عاصم
قالون عن نافع
ورش عن نافع
البَزِّي عن ابن كثير
قُنبُل عن ابن كثير
الدُّوري عن أبي عمرو
السُّوسِي عن أبي عمرو
نستعليق











