الباحث القرآني
﴿إنّا بَلَوْناهم كَما بَلَوْنا أصْحَبَ الجَنَّةِ إذْ أقْسَمُوا لَيَصْرِمُنَّها مُصْبِحِينَ﴾ ﴿ولا يَسْتَثْنُونَ﴾ ﴿فَطافَ عَلَيْها طائِفٌ مِن رَبِّكَ وهم نائِمُونَ﴾ ﴿فَأصْبَحَتْ كالصَّرِيمِ﴾ ﴿فَتَنادَوْا مُصْبِحِينَ﴾ ﴿أنُ اغْدُوا عَلى حَرْثِكم إنْ كُنْتُمْ صارِمِينَ﴾ ﴿فانْطَلَقُوا وهم يَتَخافَتُونَ﴾ ﴿أنْ لا يَدْخُلَنَّها اليَوْمَ عَلَيْكم مِسْكِينٌ﴾ ﴿وغَدَوْا عَلى حَرْدٍ قادِرِينَ﴾ (p-٧٩)ضَمِيرُ الغائِبِينَ في قَوْلِهِ بَلَوْناهم يَعُودُ إلى المُكَذِّبِينَ في قَوْلِهِ ﴿فَلا تُطِعِ المُكَذِّبِينَ﴾ [القلم: ٨] . والجُمْلَةُ مُسْتَأْنَفَةٌ اسْتِئْنافًا ابْتِدائِيًّا دَعَتْ إلَيْهِ مُناسَبَةُ قَوْلِهِ ﴿أنْ كانَ ذا مالٍ وبَنِينَ﴾ [القلم: ١٤] ﴿إذا تُتْلى عَلَيْهِ آياتُنا قالَ أساطِيرُ الأوَّلِينَ﴾ [القلم: ١٥] فَإنَّ الازْدِهاءَ والغُرُورَ بِسَعَةِ الرِّزْقِ المُفْضِيَيْنِ إلى الاسْتِخْفافِ بِدَعْوَةِ الحَقِّ وإهْمالِ النَّظَرِ في كُنْهِها ودَلائِلِها قَدْ أوْقَعا مِن قَدِيمِ الزَّمانِ أصْحابَهُما في بَطَرِ النِّعْمَةِ وإهْمالِ الشُّكْرِ فَجَرَّ ذَلِكَ عَلَيْهِمْ شَرَّ العَواقِبِ، فَضَرَبَ اللَّهُ لِلْمُشْرِكِينَ مَثَلًا بِحالِ أصْحابِ هَذِهِ الجَنَّةِ لَعَلَّهم يَسْتَفِيقُونَ مِن غَفْلَتِهِمْ وغُرُورِهِمْ. كَما ضَرَبَ المَثَلَ بِقَرِيبٍ مِنهُ في سُورَةِ الكَهْفِ، وضَرَبَ مَثَلًا بِقارُونَ في سُورَةِ القَصَصِ.
والبَلْوى حَقِيقَتُها: الاخْتِبارُ وهي هُنا تَمْثِيلٌ بِحالِ المُبْتَلى في إرْخاءِ الحَبَلِ لَهُ بِالنِّعْمَةِ لِيَشْكُرَ أوْ يَكْفُرَ، فالبَلْوى المَذْكُورَةُ هُنا بَلْوى بِالخَيْرِ فَإنَّ اللَّهَ أمَدَّ أهْلَ مَكَّةَ بِنِعْمَةِ الأمْنِ، ونِعْمَةِ الرِّزْقِ، وجَعَلَ الرِّزْقَ يَأْتِيهِمْ مِن كُلِّ جِهَةٍ، ويَسَّرَ لَهم سُبُلَ التِّجارَةِ في الآفاقِ بِنِعْمَةِ الإيلافِ بِرِحْلَةِ الشِّتاءِ ورِحْلَةِ الصَّيْفِ، فَلَمّا أكْمَلَ لَهُمُ النِّعْمَةَ بِإرْسالِ رَسُولٍ مِنهم لِيُكْمِلَ لَهم صَلاحَ أحْوالِهِمْ ويَهْدِيَهم إلى ما فِيهِ النَّعِيمُ الدّائِمُ فَدَعاهم وذَكَّرَهم بِنِعَمِ اللَّهِ أعْرَضُوا وطَغَوْا ولَمْ يَتَوَجَّهُوا إلى النَّظَرِ في النِّعَمِ السّالِفَةِ ولا في النِّعْمَةِ الكامِلَةِ الَّتِي أكْمَلَتْ لَهُمُ النِّعَمِ.
ووَجْهُ المُشابَهَةِ بَيْنَ حالِهِمْ وحالِ أصْحابِ الجَنَّةِ المَذْكُورَةِ هُنا هو الإعْراضُ عَنْ طَلَبِ مَرْضاةِ اللَّهِ وعَنْ شُكْرِ نِعْمَتِهِ.
وهَذا التَّمْثِيلُ تَعْرِيضٌ بِالتَّهْدِيدِ بِأنْ يَلْحَقَهم ما لَحِقَ أصْحابَ الجَنَّةِ مِنَ البُؤْسِ بَعْدَ النَّعِيمِ والقَحْطِ بَعْدَ الخِصْبِ، وإنِ اخْتَلَفَ السَّبَبُ في نَوْعِهِ فَقَدِ اتَّحَدَ جِنْسُهُ. وقَدْ حَصَلَ ذَلِكَ بَعْدَ سِنِينَ إذْ أخَذَهُمُ اللَّهُ بِسَبْعِ سِنِينَ بَعْدَ هِجْرَةِ النَّبِيءِ ﷺ إلى المَدِينَةِ.
وهَذِهِ القِصَّةُ المَضْرُوبِ بِها المَثَلُ قِصَّةٌ مَعْرُوفَةٌ بَيْنَهم وهي أنَّهُ كانَتْ بِبَلَدٍ يُقالُ لَهُ: ضَرَوانُ (بِضادٍ مُعْجَمَةٍ وراءٍ وواوٍ مَفْتُوحاتٍ وألِفٍ ونُونٍ) مِن بِلادِ اليَمَنِ بِقُرْبِ (p-٨٠)صَنْعاءَ. وقِيلَ: ضَرَوانُ اسْمُ هَذِهِ الجَنَّةِ، وكانَتْ جَنَّةً عَظِيمَةً غَرَسَها رَجُلٌ مِن أهْلِ الصَّلاحِ والإيمانِ مِن أهْلِ الكِتابِ قالَهُ ابْنُ عَبّاسٍ. ولَمْ يُبَيِّنْ مِن أيِّ أهْلِ الكِتابِ هو: أمِنَ اليَهُودِ أمْ مِنَ النَّصارى ؟ فَقِيلَ: كانَ يَهُودِيًّا، أيْ لِأنَّ أهْلَ اليَمَنِ كانُوا تَدَيَّنُوا بِاليَهُودِيَّةِ في عَهْدِ بِلْقِيسَ كَما قِيلَ أوْ بَعْدَها بِهِجْرَةِ بَعْضِ جُنُودِ سُلَيْمانَ، وكانَتْ زَكاةُ الثِّمارِ مِن شَرِيعَةِ التَّوْراةِ كَما في الإصْحاحِ السّادِسِ والعِشْرِينَ مِن سِفْرِ اللّاوِيِّينَ.
وقالَ بَعْضُ المُفَسِّرِينَ: كانَ أصْحابُ هَذِهِ الجَنَّةِ بَعْدَ عِيسى بِقَلِيلٍ، أيْ قَبْلَ انْتِشارِ النَّصْرانِيَّةِ في اليَمَنِ لِأنَّها ما دَخَلَتِ اليَمَنَ إلّا بَعْدَ دُخُولِ الأحْباشِ إلى اليَمَنِ في قِصَّةِ القُلَّيْسِ وكانَ ذَلِكَ زَمانَ عامِ الفِيلِ. وعَنْ عِكْرِمَةَ: كانُوا مِنَ الحَبَشَةِ كانَتْ لِأبِيهِمْ جَنَّةٌ وجَعَلَ في ثَمَرِها حَقًّا لِلْمَساكِينِ وكانَ يُدْخِلُ مَعَهُ المَساكِينَ لِيَأْخُذُوا مِن ثَمارِها فَكانَ يَعِيشُ مِنها اليَتامى والأرامِلُ والمَساكِينُ وكانَ لَهُ ثَلاثَةُ بَنِينَ، فَلَمّا تُوُفِّيَ صاحِبُ الجَنَّةِ وصارَتْ لِأوْلادِهِ أصْبَحُوا ذَوِي ثَرْوَةٍ، وكانُوا أشِحَّةً أوْ كانَ بَعْضُهم شَحِيحًا وبَعْضُهم دُونَهُ فَتَمالَئُوا عَلى حِرْمانِ اليَتامى والمَساكِينِ والأرامِلِ وقالُوا: لَنَغْدُوَنَّ إلى الجَنَّةِ في سُدْفَةٍ مِنَ اللَّيْلِ قَبْلَ انْبِلاجِ الصَّباحِ مِثْلُ وقْتِ خُرُوجِ النّاسِ إلى جَنّاتِهِمْ لِلْجِذاذِ فَلَنَجُذُّنَّها قَبْلَ أنْ يَأْتِيَ المَساكِينُ. فَبَيَّتُوا ذَلِكَ وأقْسَمُوا أيْمانًا عَلى ذَلِكَ، ولَعَلَّهم أقْسَمُوا لِيُلْزِمُوا أنْفُسَهم بِتَنْفِيذِ ما تَداعَوْا إلَيْهِ. وهَذا يَقْتَضِي أنَّ بَعْضَهم كانَ مُتَرَدِّدًا في مُوافَقَتِهِمْ عَلى ما عَزَمُوا عَلَيْهِ وأنَّهم ألْجَمُوهُ بِالقَسَمِ وهَذا الَّذِي يَلْتَئِمُ مَعَ قَوْلِهِ تَعالى ﴿قالَ أوْسَطُهم ألَمْ أقُلْ لَكم لَوْلا تُسَبِّحُونَ﴾ [القلم: ٢٨]، قِيلَ: كانَ يَقُولُ لَهُمُ: اتَّقُوا اللَّهَ واعْدِلُوا عَنْ خُبْثِ نِيَّتِكم مِن مَنعِ المَساكِينِ، وذَكَّرَهُمُ انْتِقامَ اللَّهِ مِنَ المُجْرِمِينَ، أيْ فَغَلَبُوهُ ومَضَوْا إلى ما عَزَمُوا عَلَيْهِ، ولَعَلَّهم أقْسَمُوا عَلى أنْ يَفْعَلُوا وأقْسَمُوا عَلَيْهِ أنْ يَفْعَلَ مَعَهم ذَلِكَ فَأقْسَمَ مَعَهم أوْ وافَقَهم عَلى ما أقْسَمُوا عَلَيْهِ، ولِهَذا الاعْتِبارِ أُسْنِدَ القَسَمُ إلى جَمِيعِ أصْحابِ الجَنَّةِ.
فَلَمّا جاءُوا جَنَّتَهم وجَدُوها مُسْوَّدَةً قَدْ أصابَها ما يُشَبِّهُ الاحْتِراقَ فَلَمّا رَأوْها بِتِلْكَ الحالَةِ عَلِمُوا أنَّ ذَلِكَ أصابَهم دُونَ غَيْرِهِمْ لِعَزْمِهِمْ عَلى قَطْعِ ما كانَ يَنْتَفِعُ بِهِ الضُّعَفاءُ مِن قَوْمِهِمْ وأنابُوا إلى اللَّهِ رَجاءَ أنْ يُعْطِيَهم خَيْرًا مِنها.
قِيلَ: كانَتْ هَذِهِ الجَنَّةُ مِن أعْنابٍ.
والصَّرْمُ: قَطْعُ الثَّمَرَةِ وجِذاذُها.
(p-٨١)ومَعْنى (مُصْبِحِينَ) داخِلِينَ في الصَّباحِ أيْ في أوائِلِ الفَجْرِ.
ومَعْنى ﴿لا يَسْتَثْنُونَ﴾ أنَّهم لا يَسْتَثْنُونَ مِنَ الثَّمَرَةِ شَيْئًا لِلْمَساكِينِ، أيْ أقْسَمُوا لَيَصْرِمُنَّ جَمِيعَ الثَّمَرِ ولا يَتْرُكُونَ مِنهُ شَيْئًا. وهَذا التَّعْمِيمُ مُسْتَفادٌ مِمّا في الصَّرْمِ مِن مَعْنى الخَزْنِ والانْتِفاعِ بِالثَّمَرَةِ وإلّا فَإنَّ الصَّرْمَ لا يُنافِي إعْطاءَ شَيْءٍ مِنَ المَجْذُوذِ لِمَن يُرِيدُونَ. وأُجْمِلُ ذَلِكَ اعْتِمادًا عَلى ما هو مَعْلُومٌ لِلسّامِعِينَ مِن تَفْصِيلِ هَذِهِ القِصَّةِ عَلى عادَةِ القُرْآنِ في إيجازِ حِكايَةِ القَصَصِ بِالاقْتِصارِ عَلى مَوْضِعِ العِبْرَةِ مِنها.
وقِيلَ مَعْناهُ: لا يَسْتَثْنُونَ لِإيمانِهِمْ بِأنْ يَقُولُوا إنْ شاءَ اللَّهُ كَما قالَ تَعالى ﴿ولا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إنِّي فاعِلٌ ذَلِكَ غَدًا﴾ [الكهف: ٢٣] ﴿إلّا أنْ يَشاءَ اللَّهُ﴾ [الكهف: ٢٤] . ووَجْهُ تَسْمِيَتِهِ اسْتِثْناءٌ أنَّ أصْلَ صِيغَتِهِ فِيها حَرْفُ الاسْتِثْناءِ وهو (إلّا)، فَإذا اقْتَصَرَ أحَدٌ عَلى (إنْ شاءَ اللَّهُ) دُونَ حَرْفِ الاسْتِثْناءِ أُطْلِقَ عَلى قَوْلِهِ ذَلِكَ اسْتِثْناءٌ؛ لِأنَّهُ عَلى تَقْدِيرِ: إلّا أنْ يَشاءَ اللَّهُ. عَلى أنَّهُ لَمّا كانَ الشَّرْطُ يُؤَوَّلُ إلى مَعْنى الاسْتِثْناءِ أُطْلِقَ عَلَيْهِ اسْتِثْناءٌ نَظَرًا إلى المَعْنى وإلى مادَةِ اشْتِقاقِ الاسْتِثْناءِ.
وعَلى هَذا التَّفْسِيرِ يَكُونُ قَوْلُهُ ولا يَسْتَثْنُونَ مِن قَبِيلِ الإدْماجِ، أيْ لِمَبْلَغِ غُرُورِهِمْ بِقُوَّةِ أنْفُسِهِمْ صارُوا إذا عَزَمُوا عَلى فِعْلِ شَيْءٍ لا يَتَوَقَّعُونَ لَهُ عائِقًا. والجُمْلَةُ في مَوْضِعِ الحالِ، والتَّعْبِيرُ بِالفِعْلِ المُضارِعِ لْاسْتِحْضارِ حالَتِهِمُ العَجِيبَةِ مِن بُخْلِهِمْ عَلى الفُقَراءِ والأيْتامِ.
وعَلى الرِّواياتِ كُلِّها يُعْلَمُ أنَّ أهْلَ هَذِهِ الجَنَّةِ لَمْ يَكُونُوا كُفّارًا، فَوَجْهُ الشَّبَهِ بَيْنَهم وبَيْنَ المُشْرِكِينَ المَضْرُوبِ لَهم هَذا المَثَلُ هو بَطَرُ النِّعْمَةِ والاغْتِرارِ بِالقُوَّةِ.
وقَوْلُهُ ﴿فَطافَ عَلَيْها طائِفٌ مِن رَبِّكَ﴾، الطَّوافُ: المَشِيُ حَوْلَ شَيْءٍ مِن كُلِّ جَوانِبِهِ يُقالُ: طافَ بِالكَعْبَةِ، وأُرِيدُ بِهِ هُنا تَمْثِيلَ حالَةِ الإصابَةِ لِشَيْءٍ كُلِّهِ بِحالِ مَن يَطُوفُ بِمَكانٍ، قالَ تَعالى ﴿إذا مَسَّهم طائِفٌ مِنَ الشَّيْطانِ﴾ [الأعراف: ٢٠١] الآيَةَ.
وعُدِّيَ (طافَ) بِحَرْفِ (عَلى) لِتَضْمِينِهِ مَعْنى: تَسَلَّطَ أوْ نَزَلَ.
ولَمْ يُعَيِّنْ جِنْسَ الطّائِفِ لِظُهُورِ أنَّهُ مِن جِنْسِ ما يُصِيبُ الجَنّاتِ مِنَ الهَلاكِ، ولا يَتَعَلَّقُ غَرَضٌ بِتَعْيِينِ نَوْعِهِ؛ لِأنَّ العِبْرَةَ في الحاصِلِ بِهِ، فَإسْنادُ فِعْلِ (طافَ) إلى طائِفٍ بِمَنزِلَةِ إسْنادِ الفِعْلِ المَبْنِيِّ لِلْمَجْهُولِ كَأنَّهُ قِيلَ: فَطِيفَ عَلَيْها وهم (p-٨٢)نائِمُونَ.
وعَنِ الفَرّاءِ: أنَّ الطّائِفَ لا يَكُونُ إلّا بِاللَّيْلِ، يَعْنِي ومِنهُ سُمِّيَ الخَيالُ الَّذِي يَراهُ النّائِمُ في نَوْمِهِ طَيْفًا. قِيلَ هو مُشْتَقٌّ مِنَ الطّائِفَةِ وهي الجُزْءُ مِنَ اللَّيْلِ. وفي هَذا نَظَرٌ.
فَقَوْلُهُ ﴿وهم نائِمُونَ﴾ تَقْيِيدٌ لِوَقْتِ الطّائِفِ عَلى التَّفْسِيرِ الأوَّلِ، وهو تَأْكِيدٌ لِمَعْنى طائِفٍ عَلى تَفْسِيرِ الفَرّاءِ، وفائِدَتُهُ تَصْوِيرُ الحالَةِ.
وتَنْوِينُ طائِفٍ لِلتَّعْظِيمِ، أيْ أمْرٍ عَظِيمٍ وقَدْ بَيَّنَهُ بِقَوْلِهِ ﴿فَأصْبَحَتْ كالصَّرِيمِ﴾ فَهو طائِفُ سُوءٍ، قِيلَ: أصابَها عُنُقٌ مِن نارٍ فاحْتَرَقَتْ.
و﴿مِن رَبِّكَ﴾ أيْ جائِيًا مِن قِبَلِ رَبِّكَ، فَ (مِن) لِلْابْتِداءِ يَعْنِي أنَّهُ عَذابٌ أُرْسِلَ إلَيْهِمْ عِقابًا لَهم عَلى عَدَمِ شُكْرِ النِّعْمَةِ.
وعُجِّلَ العِقابُ لَهم قَبْلَ التَّلَبُّسِ بِمَنعِ الصَّدَقَةِ؛ لِأنَّ عَزْمَهم عَلى المَنعِ وتَقاسُمَهم عَلَيْهِ حَقَّقَ أنَّهم مانِعُونَ صَدَقاتِهِمْ فَكانُوا مانِعِينَ، ويُؤْخَذُ مِنَ الآيَةِ مَوْعِظَةٌ لِلَّذِينِ لا يُواسُونَ بِأمْوالِهِمْ.
وإذْ كانَ عِقابُ أصْحابِ هَذِهِ الجَنَّةِ دُنْيَوِيًّا لَمْ يَكُنْ في الآيَةِ ما يَدُلُّ عَلى أنَّ أصْحابَ الجَنَّةِ مَنَعُوا صَدَقَةً واجِبَةً.
والصَّرِيمُ قِيلَ: هو اللَّيْلُ، والصَّرِيمُ مِن أسْماءِ اللَّيْلِ ومِن أسْماءِ النَّهارِ؛ لِأنَّ كُلَّ واحِدٍ مِنهُما يَنْصَرِمُ عَنِ الآخَرِ كَما سُمِّيَ كُلٌّ مِنَ اللَّيْلِ والنَّهارِ مَلْوًا فَيُقالُ: المَلَوانِ، وعَلى هَذا فَفي الجَمْعِ بَيْنَ (أصْبَحَتْ) و(الصَّرِيمِ) مُحَسِّنُ الطِّباقِ.
وقِيلَ: الصَّرِيمُ الرَّمادُ الأسْوَدُ بِلُغَةِ جَذِيمَةَ أوْ خُزَيْمَةَ.
وقِيلَ: الصَّرِيمُ اسْمُ رَمْلَةٍ مَعْرُوفَةٍ بِاليَمَنِ لا تُنْبِتُ شَيْئًا.
وإيثارُ كَلِمَةِ الصَّرِيمِ هُنا لِكَثْرَةِ مَعانِيها وصَلاحِيَّةِ جَمِيعِ تِلْكَ المَعانِي لِأنْ تُرادَ في الآيَةِ.
وبَيْنَ يَصْرِمُنَّها والصَّرِيمِ الجِناسُ.
وفاءُ (فَتَنادَوْا) لِلتَّفْرِيعِ عَلى ﴿أقْسَمُوا لَيَصْرِمُنَّها مُصْبِحِينَ﴾، أيْ فَلَمّا أصْبَحُوا تَنادَوْا لِإنْجازِ ما بَيَّتُوا عَلَيْهِ أمْرَهم.
(p-٨٣)والتَّنادِي: أنْ يُنادِيَ بَعْضُهم بَعْضًا وهو مُشْعِرٌ بِالتَّحْرِيضِ عَلى الغُدُوِّ إلى جَنَّتِهِمْ مُبَكِّرِينَ.
والغُدُوُّ: الخُرُوجُ ومُغادَرَةُ المَكانِ في غَدْوَةِ النَّهارِ، أيْ أوَّلِهِ.
ولَيْسَ قَوْلُهم ﴿إنْ كُنْتُمْ صارِمِينَ﴾ بِشَرْطِ تَعْلِيقٍ ولَكِنَّهُ مُسْتَعْمَلٌ في الاسْتِبْطاءِ فَكَأنَّهم لِإبْطاءِ بَعْضِهِمْ في الغُدُوِّ قَدْ عَدَلَ عَنِ الجَذاذِ ذَلِكَ اليَوْمَ. ومِنهُ قَوْلُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ لِلْحَجّاجِ عِنْدَ زَوالِ عَرَفَةَ يُحَرِّضُهُ عَلى التَّهْجِيرِ بِالرَّواحِ إلى المَوْقِفِ ”الرَّواحَ إنْ كُنْتَ تُرِيدُ السُّنَّةَ“ ونَظِيرُ ذَلِكَ كَثِيرٌ في الكَلامِ.
و(عَلى) مِن قَوْلِهِ ﴿عَلى حَرْثِكُمْ﴾ مُسْتَعْمَلَةٌ في تَمَكُّنِ الوُصُولِ إلَيْهِ كَأنَّهُ قِيلَ: اُغْدُوا تَكُونُوا عَلى حَرْثِكم، أيْ مُسْتَقِرِّينَ عَلَيْهِ.
ويَجُوزُ أنْ يُضَمَّنَ فِعْلُ الغُدُوِّ مَعْنى الإقْبالِ كَما يُقالُ: يُغْدى عَلَيْهِ بِالجَفْنَةِ ويُراحُ، قالَ الطِّيبِيُّ: ومِثْلُهُ قِيلَ في حَقِّ المُطَّلِبِ تَغْدُو دِرَّتُهُ (الَّتِي يَضْرِبُ بِها) عَلى السُّفَهاءِ، وجَفْنَتُهُ عَلى الحُلَماءِ.
والحَرْثُ: شَقُّ الأرْضِ بِحَدِيدَةٍ ونَحْوِها لِيُوضِعَ فِيها الزَّرِيعَةَ أوِ الشَّجَرَ ولِيُزالَ مِنها العُشْبُ.
ويُطْلَقُ الحَرْثُ عَلى الجَنَّةِ؛ لِأنَّهم يَتَعاهَدُونَها بِالحَرْثِ لِإصْلاحِ شَجَرِها، وهو المُرادُ هُنا كَقَوْلِهِ تَعالى ﴿وحَرْثٌ حِجْرٌ﴾ [الأنعام: ١٣٨] في سُورَةِ الأنْعامِ، وتَقَدَّمَ في قَوْلِهِ ﴿والأنْعامِ والحَرْثِ﴾ [آل عمران: ١٤] في سُورَةِ آلِ عِمْرانَ.
والتَّخافُتُ: تَفاعُلُ مِن خَفَتَ إذا أسَّرَ الكَلامَ.
و﴿أنْ لا يَدْخُلَنَّها اليَوْمَ عَلَيْكم مِسْكِينٌ﴾ تَفْسِيرٌ لِفِعْلِ (يَتَخافَتُونَ)، و(أنْ) تَفْسِيرِيَّةٌ؛ لِأنَّ التَّخافُتَ في مَعْنى القَوْلِ دُونَ حُرُوفِهِ.
وتَأْكِيدُ فِعْلِ النَّهْيِ بِنُونِ التَّوْكِيدِ لِزِيادَةِ تَحْقِيقِ ما تَقاسَمُوا عَلَيْهِ.
وأُسْنِدَ إلى (مِسْكِينٌ) فَعْلُ النَّهْيِ عَنِ الدُّخُولِ والمُرادُ نَهْيُ بَعْضِهِمْ بَعْضًا عَنْ دُخُولِ المِسْكِينِ إلى جَنَّتِهِمْ، أيْ لا يَتْرُكُ أحَدٌ مِسْكِينًا يَدْخُلُها. وهَذا مِن قَبِيلِ الكِنايَةِ وهو كَثِيرٌ في اسْتِعْمالِ النَّهْيِ كَقَوْلِهِمْ: لا أعْرِفَنَّكَ تَفْعَلُ كَذا.
(p-٨٤)وجُمْلَةُ ﴿وغَدَوْا عَلى حَرْدٍ قادِرِينَ﴾ في مَوْضِعِ الحالِ بِتَقْدِيرِ (قَدْ)، أيِ انْطَلَقُوا في حالِ كَوْنِهِمْ غادِينَ قادِرِينَ عَلى حَرْدٍ.
وذُكِرَ فِعْلُ (غَدَوْا) في جُمْلَةِ الحالِ لِقَصْدِ التَّعْجِيبِ مِن ذَلِكَ الغُدُوِّ النَّحْسِ كَقَوْلِ امْرِئِ القَيْسِ:
؎وباتَ وباتَتْ لَـهُ لَـيْلَةٌ كَلَيْلَةِ ذِي العائِرِ الأرْمَدِ
بَعْدَ قَوْلِهِ:
؎تَطاوَلَ لَيْلُكَ بِالأثْمُـدِ ∗∗∗ وباتَ الخَلِيُّ ولَمْ تَرْقُدْ
يُخاطِبُ نَفْسَهُ عَلى طَرِيقَةٍ فِيها التِفاتٌ أوِ التِفاتانِ.
والحَرْدُ: يُطْلَقُ عَلى المَنعِ وعَلى القَصْدِ القَوِيِّ، أيِ السُّرْعَةِ وعَلى الغَضَبِ.
وفِي إيثارِ كَلِمَةِ (حَرْدٍ) في الآيَةِ نُكْتَةٌ مِن نُكَتِ الإعْجازِ المُتَعَلِّقِ بِشَرَفِ اللَّفْظِ ورَشاقَتِهِ مِن حَيْثُ المَعْنى، ومِن جِهَةِ تَعَلُّقِ المَجْرُورِ بِهِ بِما يُناسِبُ كُلَّ مَعْنى مِن مَعانِيهِ، أيْ بِأنْ يَتَعَلَّقَ (عَلى حَرْدٍ) بِ (قادِرِينَ)، أوْ بِقَوْلِهِ (غَدَوْا)، فَإذا عَلَّقَ بِ (قادِرِينَ)، فَتَقْدِيمُ المُتَعَلِّقِ يُفِيدُ تَخْصِيصًا، أيْ قادِرِينَ عَلى المَنعِ، أيْ مَنعِ الخَيْرِ أوْ مَنعِ ثَمَرِ جَنَّتِهِمْ غَيْرَ قادِرِينَ عَلى النَّفْعِ.
والتَّعْبِيرُ بِقادِرِينَ عَلى حَرْدٍ دُونَ أنْ يَقُولَ: وغَدَوْا حادِرِينَ تَهَكُّمٌ؛ لِأنَّ شَأْنَ فِعْلِ القُدْرَةِ أنْ يُذْكَرَ في الأفْعالِ الَّتِي يَشُقُّ عَلى النّاسِ إتْيانُها قالَ تَعالى ﴿لا يَقْدِرُونَ عَلى شَيْءٍ مِمّا كَسَبُوا﴾ [البقرة: ٢٦٤] وقالَ ﴿بَلى قادِرِينَ عَلى أنْ نُسَوِّيَ بَنانَهُ﴾ [القيامة: ٤] فَقَوْلُهُ ﴿عَلى حَرْدٍ قادِرِينَ﴾ عَلى هَذا الاحْتِمالِ مِن بابِ قَوْلِهِمْ: فُلانٌ لا يَمْلِكُ إلّا الحِرْمانَ أوْ لا يَقْدِرُ إلّا عَلى الخَيْبَةِ.
وإذا حُمِلَ الحَرْدُ عَلى مَعْنى السُّرْعَةِ والقَصْدِ كانَ عَلى حَرْدٍ مُتَعَلِّقًا بِ (غَدَوْا) مُبَيِّنًا لِنَوْعِ الغُدُوِّ، أيْ غَدَوْا غُدُوَّ سُرْعَةٍ واعْتِناءٍ، فَتَكُونُ (عَلى) بِمَعْنى باءِ المُصاحَبَةِ، والمَعْنى: غُدُوًّا بِسُرْعَةٍ ونَشاطٍ، ويَكُونُ قادِرِينَ حالًا مِن ضَمِيرِ (غَدَوْا) حالًا مُقَدَّرَةً، أيْ مُقَدِّرِينَ أنَّهم قادِرُونَ عَلى تَحْقِيقِ ما أرادُوا.
وفِي الكَلامِ تَعْرِيضٌ بِأنَّهم خابُوا، دَلَّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ بَعْدَهُ ﴿فَلَمّا رَأوْها قالُوا إنّا لَضالُّونَ﴾ [القلم: ٢٦]، وقَوْلُهُ قَبْلَهُ ﴿فَطافَ عَلَيْها طائِفٌ مِن رَبِّكَ وهم نائِمُونَ﴾ .
(p-٨٥)وإذا أُرِيدَ بِالحَرْدِ الغَضَبُ والحَنَقُ فَإنَّهُ يُقالُ: حَرَدٌ بِالتَّحْرِيكِ وحَرْدٌ بِسُكُونِ الرّاءِ ويَتَعَلَّقُ المَجْرُورُ بِ (قادِرِينَ) وتَقْدِيمُهُ لِلْحَصْرِ، أيْ غَدَوْا لا قُدْرَةَ لَهم إلّا عَلى الحَنَقِ والغَضَبِ عَلى المَساكِينِ لِأنَّهم يَقْتَحِمُونَ عَلَيْهِمْ جَنَّتَهم كُلَّ يَوْمٍ فَتَحَيَّلُوا عَلَيْهِمْ بِالتَّبْكِيرِ إلى جِذاذِها، أيْ لَمْ يَقْدِرُوا إلّا عَلى الغَضَبِ والحَنَقِ ولَمْ يَقْدِرُوا عَلى ما أرادُوهُ مِنِ اجْتِناءِ ثَمَرِ الجَنَّةِ.
وعَنِ السُّدِّيِّ: أنَّ (حَرْدٍ) اسْمُ قَرْيَتِهِمْ، أيْ جَنَّتُهم. وأحْسَبُ أنَّهُ تَفْسِيرٌ مُلَفَّقٌ وكَأنَّ صاحِبَهُ تَصَيَّدَهُ مِن فِعْلَيْ (اغْدُوا) و(غَدَوْا) .
{"ayahs_start":17,"ayahs":["إِنَّا بَلَوۡنَـٰهُمۡ كَمَا بَلَوۡنَاۤ أَصۡحَـٰبَ ٱلۡجَنَّةِ إِذۡ أَقۡسَمُوا۟ لَیَصۡرِمُنَّهَا مُصۡبِحِینَ","وَلَا یَسۡتَثۡنُونَ","فَطَافَ عَلَیۡهَا طَاۤىِٕفࣱ مِّن رَّبِّكَ وَهُمۡ نَاۤىِٕمُونَ","فَأَصۡبَحَتۡ كَٱلصَّرِیمِ","فَتَنَادَوۡا۟ مُصۡبِحِینَ","أَنِ ٱغۡدُوا۟ عَلَىٰ حَرۡثِكُمۡ إِن كُنتُمۡ صَـٰرِمِینَ","فَٱنطَلَقُوا۟ وَهُمۡ یَتَخَـٰفَتُونَ","أَن لَّا یَدۡخُلَنَّهَا ٱلۡیَوۡمَ عَلَیۡكُم مِّسۡكِینࣱ","وَغَدَوۡا۟ عَلَىٰ حَرۡدࣲ قَـٰدِرِینَ"],"ayah":"فَتَنَادَوۡا۟ مُصۡبِحِینَ"}
- أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.
أمّهات
جامع البيان
تفسير الطبري
نحو ٢٨ مجلدًا
تفسير القرآن العظيم
تفسير ابن كثير
نحو ١٩ مجلدًا
الجامع لأحكام القرآن
تفسير القرطبي
نحو ٢٤ مجلدًا
معالم التنزيل
تفسير البغوي
نحو ١١ مجلدًا
جمع الأقوال
منتقاة
عامّة
عامّة
فتح البيان
فتح البيان للقنوجي
نحو ١٢ مجلدًا
فتح القدير
فتح القدير للشوكاني
نحو ١١ مجلدًا
التسهيل لعلوم التنزيل
تفسير ابن جزي
نحو ٣ مجلدات
موسوعات
أخرى
لغة وبلاغة
معاصرة
الميسر
نحو مجلد
المختصر
المختصر في التفسير
نحو مجلد
تيسير الكريم الرحمن
تفسير السعدي
نحو ٤ مجلدات
أيسر التفاسير
نحو ٣ مجلدات
القرآن – تدبّر وعمل
القرآن – تدبر وعمل
نحو ٣ مجلدات
تفسير القرآن الكريم
تفسير ابن عثيمين
نحو ١٥ مجلدًا
مركَّزة العبارة
تفسير الجلالين
نحو مجلد
جامع البيان
جامع البيان للإيجي
نحو ٣ مجلدات
أنوار التنزيل
تفسير البيضاوي
نحو ٣ مجلدات
مدارك التنزيل
تفسير النسفي
نحو ٣ مجلدات
الوجيز
الوجيز للواحدي
نحو مجلد
تفسير القرآن العزيز
تفسير ابن أبي زمنين
نحو مجلدين
آثار
غريب ومعاني
السراج في بيان غريب القرآن
غريب القرآن للخضيري
نحو مجلد
الميسر في غريب القرآن الكريم
الميسر في الغريب
نحو مجلد
تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن قتيبة
نحو مجلد
التبيان في تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن الهائم
نحو مجلد
معاني القرآن وإعرابه
معاني الزجاج
نحو ٤ مجلدات
معاني القرآن
معاني القرآن للنحاس
نحو مجلدين
معاني القرآن
معاني القرآن للفراء
نحو مجلدين
مجاز القرآن
مجاز القرآن لمعمر بن المثنى
نحو مجلد
معاني القرآن
معاني القرآن للأخفش
نحو مجلد
أسباب النزول
إعراب ولغة
الإعراب الميسر
نحو ٣ مجلدات
إعراب القرآن
إعراب القرآن للدعاس
نحو ٤ مجلدات
الجدول في إعراب القرآن وصرفه وبيانه
الجدول في إعراب القرآن
نحو ٨ مجلدات
الدر المصون
الدر المصون للسمين الحلبي
نحو ١٠ مجلدات
اللباب
اللباب في علوم الكتاب
نحو ٢٤ مجلدًا
إعراب القرآن وبيانه
إعراب القرآن للدرويش
نحو ٩ مجلدات
المجتبى من مشكل إعراب القرآن
مجتبى مشكل إعراب القرآن
نحو مجلد
إعراب القرآن
إعراب القرآن للنحاس
نحو ٣ مجلدات
تحليل كلمات القرآن
نحو ٩ مجلدات
الإعراب المرسوم
نحو ٣ مجلدات
المجمّع
بالرسم الجديد
بالرسم القديم
حفص عن عاصم
شُعْبة عن عاصم
قالون عن نافع
ورش عن نافع
البَزِّي عن ابن كثير
قُنبُل عن ابن كثير
الدُّوري عن أبي عمرو
السُّوسِي عن أبي عمرو
نستعليق