الباحث القرآني
﴿الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَماواتٍ طِباقًا ما تَرى في خَلْقِ الرَّحْمَنِ مِن تَفاوُتٍ فارْجِعِ البَصَرَ هَلْ تَرى مِن فُطُورٍ﴾ ﴿ثُمَّ ارْجِعِ البَصَرَ كَرَّتَيْنِ يَنْقَلِبْ إلَيْكَ البَصَرُ خاسِئًا وهْوَ حَسِيرٌ﴾ صِفَةٌ ثانِيَةٌ لِلَّذِي بِيَدِهِ المُلْكُ، أُعْقِبَ التَّذْكِيرُ بِتَصَرُّفِ اللَّهِ بِخَلْقِ الإنْسانِ وأهَمِّ أعْراضِهِ بِذِكْرِ خَلْقِ أعْظَمِ المَوْجُوداتِ غَيْرِ الإنْسانِ وهي السَّماواتُ، ومُفِيدَةٌ وصْفًا مِن عَظِيمِ صِفاتِ الأفْعالِ الإلَهِيَّةِ ولِذَلِكَ أُعِيدَ فِيها اسْمُ المَوْصُولِ لِتَكُونَ الجُمَلُ الثَّلاثُ جارِيَةً عَلى طَرِيقَةٍ واحِدَةٍ.
والسَّماواتُ تَكَرَّرَ ذِكْرُها في القُرْآنِ. والظّاهِرُ أنَّ المُرادَ بِها الكَواكِبُ الَّتِي هي مَجْمُوعُ النِّظامِ الشَّمْسِيِّ ما عَدا الأرْضَ. كَما تَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعالى ﴿فَسَوّاهُنَّ سَبْعَ سَماواتٍ﴾ [البقرة: ٢٩] في سُورَةِ البَقَرَةِ فَإنَّها هي المُشاهَدَةُ بِأعْيُنِ المُخاطَبِينَ، فالِاسْتِدْلالُ بِها اسْتِدْلالٌ بِالمَحْسُوسِ.
والطِّباقُ يَجُوزُ أنْ يَكُونَ مَصْدَرَ طابَقَ وُصِفَتْ بِهِ السَّماواتُ لِلْمُبالَغَةِ، أيْ شَدِيدَةُ المُطابَقَةِ، أيْ مُناسِبَةٌ بَعْضُها لِبَعْضٍ في النِّظامِ.
ويَجُوزُ أنْ تَكُونَ طِباقًا جَمْعَ طَبَقٍ، والطَّبَقُ المُساوِي في حالَةٍ ما، ومِنهُ قَوْلُهم في المَثَلِ: ”وافَقَ شَنٌّ طَبَقَهُ“ .
والمَعْنى: أنَّها مُرْتَفِعٌ بَعْضُها فَوْقَ بَعْضٍ في الفَضاءِ السَّحِيقِ، أوِ المَعْنى: أنَّها مُتَماثِلَةٌ في بَعْضِ الصِّفاتِ مِثْلُ التَّكْوِيرِ والتَّحَرُّكِ المُنْتَظِمِ في أنْفُسِها وفي تَحَرُّكِ كُلِّ واحِدَةٍ مِنها بِالنِّسْبَةِ إلى تَحَرُّكِ بَقِيَّتِها بِحَيْثُ لا تَرْتَطِمُ ولا يَتَداخَلُ سَيْرُها.
ولَيْسَ في قَوْلِهِ طِباقًا ما يَقْتَضِي أنَّ بَعْضَها مَظْرُوفٌ لِبَعْضٍ؛ لِأنَّ ذَلِكَ لَيْسَ مِن مُفادِ مادَّةِ الطِّباقِ ”فَلا تَكُنْ طَباقاءَ“ .
(p-١٧)وجاءَتْ جُمْلَةُ ﴿ما تَرى في خَلْقِ الرَّحْمَنِ مِن تَفاوُتٍ﴾ تَقْرِيرًا لِقَوْلِهِ ﴿خَلَقَ سَبْعَ سَماواتٍ طِباقًا﴾ .
فَإنَّ نَفْيَ التَّفاوُتِ يُحَقِّقُ مَعْنى التَّطابُقِ، أيِ التَّماثُلِ. والمَعْنى: ما تَرى في خَلْقِ اللَّهِ السَّماواتِ تَفاوُتًا. وأصْلُ الكَلامِ: ما تَرى فِيهِنَّ ولا في خَلْقِ الرَّحْمَنِ مِن تَفاوُتٍ، فَعَبَّرَ بِخَلْقِ الرَّحْمَنِ لِتَكُونَ الجُمْلَةُ تَذْيِيلًا لِمَضْمُونِ جُمْلَةِ (﴿خَلَقَ سَبْعَ سَماواتٍ طِباقًا﴾)؛ لِأنَّ انْتِفاءَ التَّفاوُتِ عَمّا خَلَقَهُ اللَّهُ مُتَحَقِّقٌ في خَلْقِ السَّماواتِ وغَيْرِها، أيْ كانَتِ السَّماواتُ طِباقًا؛ لِأنَّها مِن خَلْقِ الرَّحْمَنِ، ولَيْسَ فِيما خَلَقَ الرَّحْمَنُ مِن تَفاوَتٍ، ومِن ذَلِكَ نِظامُ السَّماواتِ.
والتَّفاوُتُ بِوَزْنِ التَّفاعُلِ: شِدَّةُ الفَوْتِ، والفَوْتُ: البُعْدُ، ولَيْسَتْ صِيغَةُ التَّفاعُلِ فِيهِ لِحُصُولِ فِعْلٍ مِن جانِبَيْنِ، ولَكِنَّها مُفِيدَةٌ لِلْمُبالَغَةِ.
ويُقالُ: تَفَوَّتَ الأمْرُ أيْضًا، وقِيلَ: إنْ تَفَوَّتَ، بِمَعْنى حَصَلَ فِيهِ عَيْبٌ.
وقَرَأ الجُمْهُورُ ﴿مِن تَفاوُتٍ﴾، وقَرَأهُ حَمْزَةُ والكِسائِيُّ وخَلَفٌ (مِن تَفَوُّتٍ) بِتَشْدِيدِ الواوِ دُونَ ألِفٍ بَعْدَ الفاءِ، وهي مَرْسُومَةٌ في المُصْحَفِ بِدُونِ ألِفٍ كَما هو كَثِيرٌ في رَسْمِ الفَتَحاتِ المُشْبَعَةِ.
وهُوَ هُنا مُسْتَعارٌ لِلتَّخالُفِ وانْعِدامِ التَّناسُقِ؛ لِأنَّ عَدَمَ المُناسَبَةِ يُشَبِّهُ البُعْدَ بَيْنَ الشَّيْئَيْنِ تَشْبِيهَ مَعْقُولٍ بِمَحْسُوسٍ. والخِطابُ لِغَيْرِ مُعَيَّنٍ، أيْ لا تَرى أيُّها الرّائِي تَفاوُتًا.
والمَقْصُودُ مِنهُ التَّعْرِيضُ بِأهْلِ الشِّرْكِ، إذْ أضاعُوا النَّظَرَ والاسْتِدْلالَ بِما يَدُلُّ عَلى وحْدانِيَّةِ اللَّهِ تَعالى بِما تُشاهِدُهُ أبْصارُهم مِن نِظامِ الكَواكِبِ، وذَلِكَ مُمْكِنٌ لِكُلِّ مَن يُبْصِرُ، قالَ تَعالى: ﴿أفَلَمْ يَنْظُرُوا إلى السَّماءِ فَوْقَهم كَيْفَ بَنَيْناها وزَيَّنّاها وما لَها مِن فُرُوجٍ﴾ [ق: ٦] فَكَأنَّهُ قالَ: ما تَرَوْنَ في خَلْقِ الرَّحْمَنِ مِن تَفاوُتٍ، فَيَجُوزُ أنْ يَكُونَ ﴿خَلْقِ الرَّحْمَنِ﴾ بِمَعْنى المَفْعُولِ كَما في قَوْلِهِ تَعالى ﴿هَذا خَلْقُ اللَّهِ فَأرُونِي ماذا خَلَقَ الَّذِينَ مِن دُونِهِ﴾ [لقمان: ١١]، ويُرادُ مِنهُ السَّماواتُ، والمَعْنى: ما تَرى في السَّماواتِ مِن تَفاوُتٍ، فَيَكُونُ العُدُولُ عَنِ الضَّمِيرِ لِتَتَأتّى الإضافَةُ إلى اسْمِهِ (الرَّحْمانِ) المُشْعِرِ بِأنَّ تِلْكَ المَخْلُوقاتِ فِيها رَحْمَةٌ بِالنّاسِ كَما سَيَأْتِي.
(p-١٨)ويَجُوزُ أنْ يَكُونَ (خَلْقِ) مَصْدَرًا فَيَشْمَلُ خَلْقَ السَّماواتِ وخَلْقَ غَيْرِها فَإنَّ صُنْعَ اللَّهِ رَحْمَةٌ لِلنّاسِ لَوِ اسْتَقامُوا كَما صَنَعَ لَهم وأوْصاهم، فَتُفِيدُ هَذِهِ الجُمْلَةُ مُفادَ التَّذْيِيلِ في أثْناءِ الكَلامِ عَلى وجْهِ الاعْتِراضِ، ولا يَكُونُ إظْهارًا في مَقامِ الإضْمارِ.
والتَّعْبِيرُ بِوَصْفِ (الرَّحْمانِ) دُونَ اسْمِ الجَلالَةِ إيماءٌ إلى أنَّ هَذا النِّظامَ مِمّا اقْتَضَتْهُ رَحْمَتُهُ بِالنّاسِ لِتَجْرِيَ أُمُورُهم عَلى حالَةٍ تُلائِمُ نِظامَ عَيْشِهِمْ؛ لِأنَّهُ لَوْ كانَ فِيما خَلَقَ اللَّهُ تَفاوُتٌ لَكانَ ذَلِكَ التَّفاوُتُ سَبَبًا لِاخْتِلالِ النِّظامِ فَيَتَعَرَّضُ النّاسُ بِذَلِكَ لِأهْوالٍ ومَشاقٍّ، قالَ تَعالى ﴿وهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ النُّجُومَ لِتَهْتَدُوا بِها في ظُلُماتِ البَرِّ والبَحْرِ﴾ [الأنعام: ٩٧] وقالَ ﴿هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِياءً والقَمَرَ نُورًا وقَدَّرَهُ مَنازِلَ لِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ والحِسابَ ما خَلَقَ اللَّهُ ذَلِكَ إلّا بِالحَقِّ﴾ [يونس: ٥] .
وأيْضًا في ذَلِكَ الوَصْفِ تَوَرُّكٌ عَلى المُشْرِكِينَ إذْ أنْكَرُوا اسْمَهُ تَعالى (الرَّحْمانِ) ﴿وإذا قِيلَ لَهُمُ اسْجُدُوا لِلرَّحْمَنِ قالُوا وما الرَّحْمَنُ أنَسْجُدُ لِما تَأْمُرُنا وزادَهم نُفُورًا﴾ [الفرقان: ٦٠] .
وفُرِّعَ عَلَيْهِ قَوْلُهُ ﴿فارْجِعِ البَصَرَ﴾ إلْخَ. والتَّفْرِيعُ لِلتَّسَبُّبِ، أيِ انْتِفاءُ رُؤْيَةِ التَّفاوُتِ، جُعِلَ سَبَبًا لِلْأمْرِ بِالنَّظَرِ لِيَكُونَ نَفْيُ التَّفاوُتِ مَعْلُومًا عَنْ يَقِينٍ دُونَ تَقْلِيدٍ لِلْمُخْبِرِ.
ورَجْعُ البَصَرِ: تَكْرِيرُهُ، والرَّجْعُ: العَوْدُ إلى المَوْضِعِ الَّذِي يُجاءُ مِنهُ، وفِعْلُ: رَجَعَ يَكُونُ قاصِرًا ومُتَعَدِّيًا إلى مَفْعُولٍ بِمَعْنى: أرْجَعَ، فارْجِعْ هُنا فِعْلُ أمْرٍ مِن رَجَّعَ المُتَعَدِّي.
والرَّجْعُ يَقْتَضِي سَبْقَ حُلُولٍ بِالمَوْضِعِ، فالمَعْنى: أعِدِ النَّظَرَ، وهو النَّظَرُ الَّذِي دَلَّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ ﴿ما تَرى في خَلْقِ الرَّحْمَنِ مِن تَفاوُتٍ﴾ أيْ أعِدْ رُؤْيَةَ السَّماواتِ وأنَّها لا تَفاوُتَ فِيها إعادَةَ تَحْقِيقٍ وتَبَصُّرٍ، كَما يُقالُ: أعِدْ نَظَرًا.
والخِطابُ في قَوْلِهِ (﴿ما تَرى في خَلْقِ الرَّحْمَنِ مِن تَفاوُتٍ﴾) وقَوْلِهِ ﴿فارْجِعِ البَصَرَ﴾ إلْخَ. خِطابٌ لِغَيْرِ مُعَيَّنٍ. وصِيغَةُ الأمْرِ مُسْتَعْمَلَةٌ في الإرْشادِ لِلْمُشْرِكِينَ مَعَ دَلالَتِهِ عَلى الوُجُوبِ لِلْمُسْلِمِينَ، فَإنَّ النَّظَرَ في أدِلَّةِ الصِّفاتِ واجِبٌ لِمَن عُرِضَ لَهُ داعٍ إلى الِاسْتِدْلالِ.
(p-١٩)والبَصَرُ مُسْتَعْمَلٌ في حَقِيقَتِهِ. والمُرادُ بِهِ البَصَرُ المَصْحُوبُ بِالتَّفَكُّرِ والاعْتِبارِ بِدَلالَةِ المَوْجُوداتِ عَلى مُوجِدِها.
وهَذا يَتَّصِلُ بِمَسْألَةِ إيمانِ المُقَلِّدِ وما اخْتَلَفَ فِيهِ مِنَ الرِّوايَةِ عَنِ الشَّيْخِ أبِي الحَسَنِ الأشْعَرِيِّ.
والاسْتِفْهامُ في ﴿هَلْ تَرى مِن فُطُورٍ﴾ تَقْرِيرِيٌّ ووَقَعَ بِ (هَلْ)؛ لِأنَّ هَلْ تُفِيدُ تَأْكِيدَ الِاسْتِفْهامَ؛ إذْ هي بِمَعْنى (قَدْ) في الاسْتِفْهامِ، وفي ذَلِكَ تَأْكِيدٌ وحَثٌّ عَلى التَّبَصُّرِ والتَّأمُّلِ، أيْ لا تَقْنَعْ بِنَظْرَةٍ ونَظْرَتَيْنِ، فَتَقُولُ: لَمْ أجِدْ فُطُورًا، بَلْ كَرِّرِ النَّظَرَ وعاوِدْهُ باحِثًا عَنْ مُصادَفَةِ فُطُورٍ لَعَلَّكَ تَجِدُهُ.
والفُطُورُ: جَمْعُ فَطْرٍ بِفَتْحِ الفاءِ وسُكُونِ الطّاءِ، وهو الشَّقُّ والصَّدْعُ، أيْ لا يَسَعُكَ إلّا أنْ تَعْتَرِفَ بِانْتِفاءِ الفُطُورِ في نِظامِ السَّماواتِ فَتَراها مُلْتَئِمَةً مَحْبُوكَةً لا تَرى في خِلالِها انْشِقاقًا، ولِذَلِكَ كانَ انْفِطارُ السَّماءِ وانْشِقاقُها عَلامَةً عَلى انْقِراضِ هَذا العالَمِ ونِظامِهِ الشَّمْسِيِّ، قالَ تَعالى ﴿وفُتِحَتِ السَّماءُ فَكانَتْ أبْوابًا﴾ [النبإ: ١٩] وقالَ: ﴿إذا السَّماءُ انْشَقَّتْ﴾ [الإنشقاق: ١] ﴿إذا السَّماءُ انْفَطَرَتْ﴾ [الإنفطار: ١] .
وعَطْفُ ﴿ثُمَّ ارْجِعِ البَصَرَ كَرَّتَيْنِ﴾ دالٌّ عَلى التَّراخِي الرُّتَبِيِّ كَما هو شَأْنُ (ثُمَّ) في عَطْفِ الجُمَلِ، فَإنَّ مَضْمُونَ الجُمْلَةِ المَعْطُوفَةِ بِ (ثُمَّ) هُنا أهَمُّ وأدْخَلُ في الغَرَضِ مِن مَضْمُونِ الجُمْلَةِ المَعْطُوفِ عَلَيْها؛ لِأنَّ إعادَةَ النَّظَرِ تَزِيدُ العِلْمَ بِانْتِفاءِ التَّفاوُتِ في الخَلْقِ رُسُوخًا ويَقِينًا.
و(كَرَّتَيْنِ) تَثْنِيَةُ كَرَّةٍ. وهي المَرَّةُ، وعَبَّرَ عَنْها هُنا بِالكَرَّةِ مُشْتَقَّةً مِنَ الكَرِّ، وهو العَوْدُ؛ لِأنَّها عَوْدٌ إلى شَيْءٍ بَعْدَ الانْفِصالِ عَنْهُ كَكَرَّةِ المُقاتِلِ يَحْمِلُ عَلى العَدْوِ بَعْدَ أنْ يَفِرَّ فِرارًا مَصْنُوعًا. وإيثارُ لَفْظِ كَرَّتَيْنِ في هَذِهِ الآيَةِ دُونَ مُرادَفِهِ نَحْوِ مَرَّتَيْنِ وتارَتَيْنِ؛ لِأنَّ كَلِمَةَ كَرَّةَ لَمْ يَغْلِبْ إطْلاقَها عَلى عَدَدِ الاثْنَيْنِ، فَكانَ إيثارُها في مَقامٍ لا يُرادُ فِيهِ اثْنَيْنِ أظْهَرَ في أنَّها مُسْتَعْمَلَةٌ في مُطْلَقِ التَّكْرِيرِ (p-٢٠)دُونَ عَدَدِ اثْنَيْنِ أوْ زَوْجٍ، وهَذا مِن خَصائِصِ الإعْجازِ، ألا تَرى أنَّ مَقامَ إرادَةِ عَدَدِ الزَّوْجِ كانَ مُقْتَضِيًا تَثْنِيَةَ مَرَّةَ في قَوْلِهِ تَعالى ﴿الطَّلاقُ مَرَّتانِ﴾ [البقرة: ٢٢٩] لِأنَّهُ أظْهَرُ في إرادَةِ العَدَدِ؛ إذْ لَفْظُ مَرَّةٍ أكْثَرُ تَداوُلًا.
وتَثْنِيَةُ (كَرَّتَيْنِ) لَيْسَ المُرادُ بِها عَدَدَ الاثْنَيْنِ الَّذِي هو ضِعْفُ الواحِدِ، إذْ لا يَتَعَلَّقُ غَرَضٌ بِخُصُوصِ هَذا العَدَدِ، وإنَّما التَّثْنِيَةُ مُسْتَعْمَلَةٌ كِنايَةً عَنْ مُطْلَقِ التَّكْرِيرِ فَإنَّ مِنِ اسْتِعْمالاتِ صِيغَةِ التَّثْنِيَةِ في الكَلامِ أنْ يُرادَ بِها التَّكْرِيرُ وذَلِكَ كَما في قَوْلِهِمْ: ( لَبَّيْكَ وسَعْدَيْكَ، يُرِيدُونَ تَلْبِيّاتٍ كَثِيرَةً وإسْعادًا كَثِيرًا، وقَوْلُهم: دَوالَيِكَ، ومِنهُ المَثَلُ: دُهْدُرَّيْنِ، سَعْدُ القَيْنِ، الدُّهْدُرُّ: الباطِلُ، أيْ: باطِلًا عَلى باطِلٍ، أيْ أتَيْتَ يا سَعْدُ القَيْنِ دُهْدُرَّيْنِ، وهو تَثْنِيَةُ دُهْدُرٍّ الدّالُ مُهْمَلَةٌ في أوَّلِهِ مَضْمُومَةٌ فَهاءٌ ساكِنَةٌ فَدالٌ مُهْمَلَةٌ مَضْمُومَةٌ فَراءٌ مُشَدَّدَةٌ. وأصْلُهُ كَلِمَةٌ فارِسِيَّةٌ نَقَلَها العَرَبُ وجَعَلُوها بِمَعْنى الباطِلِ. وسَبَبُ النَّقْلِ مُخْتَلَفٌ فِيهِ، وتَثْنِيَتُهُ مُكَنًّى بِها عَنْ مُضاعَفَةِ الباطِلِ، وكانُوا يَقُولُونَ هَذا المَثَلَ عِنْدَ تَكْذِيبِ الرَّجُلِ صاحِبَهُ، وأمّا سَعْدُ القَيْنِ فَهو اسْمُ رَجُلٍ كانَ قَيْنًا، وكانَ يَمُرُّ عَلى الأحْياءِ لِصَقْلِ سُيُوفَهم وإصْلاحِ أسْلِحَتَهم، فَكانَ يُشِيعُ أنَّهُ راحِلٌ غَدًا لِيُسْرِعَ أهْلُ الحَيِّ بِجَلْبِ ما يَحْتاجُ لِلْإصْلاحِ، فَإذا أتَوْهُ بِها أقامَ ولَمْ يَرْحَلْ، فَضُرِبَ بِهِ المَثَلُ في الكَذِبِ فَكانَ هَذا المَثَلُ جامِعًا لِمَثَلَيْنِ، وقَدْ ذَكَرَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ في المُسْتَقْصى، والمَيْدانِيُّ في مَجْمَعِ الأمْثالِ وأطالَ.
وأصْلُ اسْتِعْمالِ التَّثْنِيَةَ في مَعْنى التَّكْرِيرِ أنَّهُمُ اخْتَصَرُوا بِالتَّثْنِيَةِ تَعْدادَ ذِكْرِ الاسْمِ تَعْدادًا مُشِيرًا إلى التَّكْثِيرِ.
وقَرِيبٌ مِن هَذا القَبِيلِ قَوْلُهم: وقَعَ كَذا غَيْرَ مَرَّةٍ، أيْ مَرّاتٍ عَدِيدَةٍ.
فَمَعْنى ﴿ثُمَّ ارْجِعِ البَصَرَ كَرَّتَيْنِ﴾ عاوِدِ التَّأمُّلَ في خَلْقِ السَّماواتِ وغَيْرِها غَيْرَ مَرَّةٍ. والِانْقِلابُ: الرُّجُوعُ يُقالُ: انْقَلَبَ إلى أهْلِهِ، أيْ رَجَعَ إلى مَنزِلِهِ قالَ تَعالى: ﴿وإذا انْقَلَبُوا إلى أهْلِهِمُ انْقَلَبُوا فاكِهِينَ﴾ [المطففين: ٣١] وإيثارُ فِعْلُ (يَنْقَلِبْ) هُنا دُونَ: يَرْجِعُ، لِئَلّا يَلْتَبِسَ بِفِعْلِ (ارْجِعِ) المَذْكُورِ قَبْلَهُ. وهَذا مِن خَصائِصِ الإعْجازِ، نَظِيرُ إيثارِ كَلِمَةَ كَرَّتَيْنِ كَما ذَكَرْناهُ آنِفًا.
والخاسِئُ: الخائِبُ، أيِ الَّذِي لَمْ يَجِدْ ما يَطْلُبُهُ. وتَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعالى ﴿قالَ اخْسَئُوا فِيها﴾ [المؤمنون: ١٠٨] في سُورَةِ المُؤْمِنِينَ.
والحَسِيرُ: الكَلِيلُ، وهو كَلَلٌ ناشِئٌ عَنْ قُوَّةِ التَّأمُّلِ والتَّحْدِيقِ مَعَ التَّكْرِيرِ، أيْ يَرْجِعُ البَصَرُ غَيْرَ واجِدٍ ما أُغْرِيَ بِالحِرْصِ عَلى رُؤْيَتِهِ بَعْدَ أنْ أدامَ التَّأمُّلَ والفَحْصَ حَتّى عَيِيَ وكَّلَ، أيْ لا تَجِدْ بَعْدَ اللَّأْيِ فُطُورًا في خَلْقِ اللَّهِ.
{"ayahs_start":3,"ayahs":["ٱلَّذِی خَلَقَ سَبۡعَ سَمَـٰوَ ٰتࣲ طِبَاقࣰاۖ مَّا تَرَىٰ فِی خَلۡقِ ٱلرَّحۡمَـٰنِ مِن تَفَـٰوُتࣲۖ فَٱرۡجِعِ ٱلۡبَصَرَ هَلۡ تَرَىٰ مِن فُطُورࣲ","ثُمَّ ٱرۡجِعِ ٱلۡبَصَرَ كَرَّتَیۡنِ یَنقَلِبۡ إِلَیۡكَ ٱلۡبَصَرُ خَاسِئࣰا وَهُوَ حَسِیرࣱ"],"ayah":"ٱلَّذِی خَلَقَ سَبۡعَ سَمَـٰوَ ٰتࣲ طِبَاقࣰاۖ مَّا تَرَىٰ فِی خَلۡقِ ٱلرَّحۡمَـٰنِ مِن تَفَـٰوُتࣲۖ فَٱرۡجِعِ ٱلۡبَصَرَ هَلۡ تَرَىٰ مِن فُطُورࣲ"}
- أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.
أمّهات
جامع البيان
تفسير الطبري
نحو ٢٨ مجلدًا
تفسير القرآن العظيم
تفسير ابن كثير
نحو ١٩ مجلدًا
الجامع لأحكام القرآن
تفسير القرطبي
نحو ٢٤ مجلدًا
معالم التنزيل
تفسير البغوي
نحو ١١ مجلدًا
جمع الأقوال
منتقاة
عامّة
عامّة
فتح البيان
فتح البيان للقنوجي
نحو ١٢ مجلدًا
فتح القدير
فتح القدير للشوكاني
نحو ١١ مجلدًا
التسهيل لعلوم التنزيل
تفسير ابن جزي
نحو ٣ مجلدات
موسوعات
أخرى
لغة وبلاغة
معاصرة
الميسر
نحو مجلد
المختصر
المختصر في التفسير
نحو مجلد
تيسير الكريم الرحمن
تفسير السعدي
نحو ٤ مجلدات
أيسر التفاسير
نحو ٣ مجلدات
القرآن – تدبّر وعمل
القرآن – تدبر وعمل
نحو ٣ مجلدات
تفسير القرآن الكريم
تفسير ابن عثيمين
نحو ١٥ مجلدًا
مركَّزة العبارة
تفسير الجلالين
نحو مجلد
جامع البيان
جامع البيان للإيجي
نحو ٣ مجلدات
أنوار التنزيل
تفسير البيضاوي
نحو ٣ مجلدات
مدارك التنزيل
تفسير النسفي
نحو ٣ مجلدات
الوجيز
الوجيز للواحدي
نحو مجلد
تفسير القرآن العزيز
تفسير ابن أبي زمنين
نحو مجلدين
آثار
غريب ومعاني
السراج في بيان غريب القرآن
غريب القرآن للخضيري
نحو مجلد
الميسر في غريب القرآن الكريم
الميسر في الغريب
نحو مجلد
تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن قتيبة
نحو مجلد
التبيان في تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن الهائم
نحو مجلد
معاني القرآن وإعرابه
معاني الزجاج
نحو ٤ مجلدات
معاني القرآن
معاني القرآن للنحاس
نحو مجلدين
معاني القرآن
معاني القرآن للفراء
نحو مجلدين
مجاز القرآن
مجاز القرآن لمعمر بن المثنى
نحو مجلد
معاني القرآن
معاني القرآن للأخفش
نحو مجلد
أسباب النزول
إعراب ولغة
الإعراب الميسر
نحو ٣ مجلدات
إعراب القرآن
إعراب القرآن للدعاس
نحو ٤ مجلدات
الجدول في إعراب القرآن وصرفه وبيانه
الجدول في إعراب القرآن
نحو ٨ مجلدات
الدر المصون
الدر المصون للسمين الحلبي
نحو ١٠ مجلدات
اللباب
اللباب في علوم الكتاب
نحو ٢٤ مجلدًا
إعراب القرآن وبيانه
إعراب القرآن للدرويش
نحو ٩ مجلدات
المجتبى من مشكل إعراب القرآن
مجتبى مشكل إعراب القرآن
نحو مجلد
إعراب القرآن
إعراب القرآن للنحاس
نحو ٣ مجلدات
تحليل كلمات القرآن
نحو ٩ مجلدات
الإعراب المرسوم
نحو ٣ مجلدات
المجمّع
بالرسم الجديد
بالرسم القديم
حفص عن عاصم
شُعْبة عن عاصم
قالون عن نافع
ورش عن نافع
البَزِّي عن ابن كثير
قُنبُل عن ابن كثير
الدُّوري عن أبي عمرو
السُّوسِي عن أبي عمرو
نستعليق