الباحث القرآني
﴿وإذْ أسَرَّ النَّبِيءُ إلى بَعْضِ أزْواجِهِ حَدِيثًا فَلَمّا نَبَّأتْ بِهِ وأظْهَرَهُ اللَّهُ عَلَيْهِ عَرَّفَ بَعْضَهُ وأعْرَضَ عَنْ بَعْضٍ فَلَمّا نَبَّأها بِهِ قالَتْ مَن أنْبَأكَ هَذا قالَ نَبَّأنِيَ العَلِيمُ الخَبِيرُ﴾
(p-٣٥٠)هَذا تَذْكِيرٌ ومَوْعِظَةٌ بِما جَرى في خِلالِ تَيْنِكَ الحادِثَتَيْنِ ثُنِيَ إلَيْهِ عِنانُ الكَلامِ بَعْدَ أنْ قُضِيَ ما يُهِمُّ مِنَ التَّشْرِيعِ لِلنَّبِيءِ ﷺ بِما حَرَّمَ عَلى نَفْسِهِ مِن جَرّائِهِما.
وهُوَ مَعْطُوفٌ عَلى جُمْلَةِ (﴿يا أيُّها النَّبِيءُ لِمَ تُحَرِّمُ ما أحَلَّ اللَّهُ لَكَ﴾ [التحريم: ١]) بِتَقْدِيرِ واذْكُرْ.
وقَدْ أُعِيدَ ما دَلَّتْ عَلَيْهِ الآيَةُ السّابِقَةُ ضِمْنًا بِما تَضَمَّنَتْهُ هَذِهِ الآيَةُ بِأُسْلُوبٍ آخَرَ لِيُبْنى عَلَيْهِ ما فِيهِ مِن عِبَرٍ ومَواعِظَ وأدَبٍ ومَكارِمَ وتَنْبِيهٍ وتَحْذِيرٍ.
فاشْتَمَلَتْ هَذِهِ الآياتُ عَلى عِشْرِينَ مِن مَعانِي ذَلِكَ إحْداها ما تَضَمَّنَهُ قَوْلُهُ (﴿إلى بَعْضِ أزْواجِهِ﴾) .
الثّانِي: قَوْلُهُ (﴿فَلَمّا نَبَّأتْ بِهِ﴾) .
الثّالِثُ: (﴿وأظْهَرَهُ اللَّهُ عَلَيْهِ﴾) .
الرّابِعُ: (﴿عَرَّفَ بَعْضَهُ﴾) .
الخامِسُ: (﴿وأعْرَضَ عَنْ بَعْضٍ﴾) .
السّادِسُ: (﴿قالَتْ مَن أنْبَأكَ هَذا﴾) .
السّابِعُ: (﴿قالَ نَبَّأنِيَ العَلِيمُ الخَبِيرُ﴾) .
الثّامِنُ والتّاسِعُ والعاشِرُ: (﴿إنْ تَتُوبا إلى اللَّهِ﴾ [التحريم: ٤]) إلى (﴿فَإنَّ اللَّهَ هو مَوْلاهُ﴾ [التحريم: ٤]) .
الحادِي عَشَرَ والثّانِي عَشَرَ والثّالِثَ عَشَرَ: (﴿وجِبْرِيلُ وصالِحُ المُؤْمِنِينَ والمَلائِكَةُ﴾ [التحريم: ٤]) .
الرّابِعَ عَشَرَ والخامِسَ عَشَرَ: (﴿عَسى رَبُّهُ إنْ طَلَّقَكُنَّ أنْ يُبْدِلَهُ أزْواجًا﴾ [التحريم: ٥]) .
السّادِسَ عَشَرَ: (﴿خَيْرًا مِنكُنَّ﴾ [التحريم: ٥]) .
السّابِعَ عَشَرَ: (﴿مُسْلِماتٍ﴾ [التحريم: ٥]) إلَخْ.
الثّامِنَ عَشَرَ: (﴿سائِحاتٍ﴾ [التحريم: ٥]) .
التّاسِعَ عَشَرَ: (﴿ثَيِّباتٍ وأبْكارًا﴾ [التحريم: ٥])، وسَيَأْتِي بَيانُها عِنْدَ تَفْسِيرِ كُلِّ آيَةٍ مِنها.
(p-٣٥١)العِشْرُونَ: ما في ذِكْرِ حَفْصَةَ أوْ غَيْرِها بِعُنْوانِ (﴿بَعْضِ أزْواجِهِ﴾) دُونَ تَسْمِيَتِهِ مِنَ الِاكْتِفاءِ في المَلامِ بِذِكْرِ ما تَسْتَشْعِرُ بِهِ أنَّها المَقْصُودَةُ بِاللَّوْمِ.
وإنَّما نَبَّأها النَّبِيءُ ﷺ بِأنَّهُ عَلِمَ إفْشاءَها الحَدِيثَ بِأمْرٍ مِنَ اللَّهِ لِيَبْنِيَ عَلَيْهِ المَوْعِظَةَ والتَّأْدِيبَ فَإنَّ اللَّهَ ما أطْلَعَهُ عَلى إفْشائِها إلّا لِغَرَضٍ جَلِيلٍ.
والحَدِيثُ هو ما حَصَلَ مِنِ اخْتِلاءِ النَّبِيءِ ﷺ بِجارِيَتِهِ مارِيَةَ وما دارَ بَيْنَهُ وبَيْنَ حَفْصَةَ وقَوْلُهُ لِحَفْصَةَ هي عَلَيَّ حَرامٌ ولا تُخْبِرِي عائِشَةَ وكانَتا مُتَصافِيَتَيْنِ وأطْلَعَ اللَّهُ نَبِيئَهُ ﷺ عَلى أنَّ حَفْصَةَ أخْبَرَتْ عائِشَةَ بِما أسَرَّ إلَيْها.
والواوُ عاطِفَةٌ قِصَّةً عَلى قِصَّةٍ لِأنَّ قِصَّةَ إفْشاءِ حَفْصَةَ السِّرَّ غَيْرُ قِصَّةِ تَحْرِيمِ النَّبِيءِ ﷺ عَلى نَفْسِهِ بَعْضَ ما أُحِلَّ لَهُ.
ولَمْ يَخْتَلِفْ أهْلُ العِلْمِ في أنَّ الَّتِي أسَرَّ إلَيْها النَّبِيءُ ﷺ الحَدِيثَ هي حَفْصَةُ ويَأْتِي أنَّ الَّتِي نَبَّأتْها حَفْصَةُ هي عائِشَةُ. وفي الصَّحِيحِ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ قالَ: مَكَثْتُ سَنَةً وأنا أُرِيدُ أنْ أسْألَ عُمَرَ بْنَ الخَطّابِ عَنْ آيَةٍ فَما أسْتَطِيعُ أنْ أسْألَهُ هَيْبَةً لَهُ حَتّى خَرَجَ حاجًّا فَخَرَجْتُ مَعَهُ فَلَمّا رَجَعَ بِبَعْضِ الطَّرِيقِ قُلْتُ: يا أمِيرَ المُؤْمِنِينَ مَنِ اللَّتانِ تَظاهَرَتا عَلى رَسُولِ اللَّهِ مِن أزْواجِهِ ؟ فَقالَ: تِلْكَ حَفْصَةُ وعائِشَةُ وساقَ القِصَّةَ بِطُولِها.
وأصْلُ إطْلاقِ الحَدِيثِ عَلى الكَلامِ مَجازٌ لِأنَّهُ مُشْتَقٌّ مِنَ الحَدَثانِ فالَّذِي حَدَثَ هو الفِعْلُ ونَحْوَهُ شاعَ حَتّى صارَ حَقِيقَةً في الخَبَرِ عَنْهُ وصارَ إطْلاقُهُ عَلى الحادِثَةِ هو المَجازُ فانْقَلَبَ حالُ وضْعِهِ واسْتِعْمالِهِ.
و(أسَرَّ) أخْبَرَ بِما يُرادُ كِتْمانُهُ عَنْ غَيْرِ المُخْبِرِ أوْ سَألَهُ عَدَمَ إفْشاءِ شَيْءٍ وقَعَ بَيْنَهُما وإنْ لَمْ يَكُنْ إخْبارًا وذَلِكَ إذا كانَ الخَبَرُ أوِ الفِعْلُ يُرادُ عَدَمُ فَشَوِّهِ فَيَقُولُهُ صاحِبُهُ سِرًّا والسِّرُّ ضِدُّ الجَهْرِ، قالَ تَعالى (﴿ويَعْلَمُ ما تُسِرُّونَ وما تُعْلِنُونَ﴾ [التغابن: ٤]) فَصارَ (أسَرَّ) يُطْلَقُ بِمَعْنى الوِصايَةِ بِعَدَمِ الإفْشاءِ، أيْ عَدَمِ الإظْهارِ قالَ تَعالى (﴿فَأسَرَّها يُوسُفُ في نَفْسِهِ ولَمْ يُبْدِها لَهُمْ﴾ [يوسف: ٧٧]) .
وأسَرَّ: فِعْلٌ مُشْتَقٌّ مِنَ السِّرِّ فَإنَّ الهَمْزَةَ فِيهِ لِلْجَعْلِ، أيْ جَعَلَهُ ذا سِرًّ، يُقالُ: أسَرَّ في نَفْسِهِ، إذا كَتَمَ سِرَّهُ. ويُقالُ: أسَرَّ إلَيْهِ، إذا حَدَّثَهُ بِسِرٍّ فَكَأنَّهُ (p-٣٥٢)أنْهاهُ إلَيْهِ، ويُقالُ: أسَرَّ لَهُ إذا أسَرَّ أمْرًا لِأجْلِهِ، وذَلِكَ في إضْمارِ الشَّرِّ غالِبًا وأسَرَّ بِكَذا، أيْ أخْبَرَ بِخَبَرٍ سِرٍّ، إذا وضَعَ شَيْئًا خَفِيًّا. وفي المَثَلِ: (يُسِرُّ حَسْوًا في ارْتِغاءِ) .
و(﴿بَعْضِ أزْواجِهِ﴾) هي حَفْصَةُ بِنْتُ عُمَرَ بْنِ الخَطّابِ. وعَدَلَ عَنْ ذِكْرِ اسْمِها تَرَفُّعًا عَنْ أنْ يَكُونَ القَصْدُ مَعْرِفَةَ الأعْيانِ وإنَّما المُرادُ العِلْمُ بِمَغْزى القِصَّةِ وما فِيها مِمّا يُجْتَنَبُ مِثْلُهُ أوْ يُقْتَدى بِهِ. وكَذَلِكَ طَيُّ تَعْيِينِ المُنَبَّأةِ بِالحَدِيثِ وهي عائِشَةُ.
وذُكِرَتْ حَفْصَةُ بِعُنْوانِ أزْواجِهِ لِلْإشارَةِ إلى أنَّ النَّبِيءَ ﷺ وضَعَ سِرَّهُ في مَوْضِعِهِ لِأنَّ أوْلى النّاسِ بِمَعْرِفَةِ سِرِّ الرَّجُلِ زَوْجُهُ. وفي ذَلِكَ تَعْرِيضٌ بِمَلامِها عَلى إفْشاءِ سِرِّهِ لِأنَّ واجِبَ المَرْأةِ أنْ تَحْفَظَ سِرَّ زَوْجِها إذا أمَرَها بِحِفْظِهِ أوْ كانَ مِثْلُهُ مِمّا يُحِبُّ حِفْظَهُ.
وهَذا المَعْنى الأوَّلُ مِنَ المَعانِي التَّهْذِيبِيَّةِ الَّتِي ذَكَرْناها آنِفًا.
ونَبَّأ: بِالتَّضْعِيفِ مُرادِفُ أنْبَأ بِالهَمْزِ ومَعْناهُما: أخْبَرَ، وقَدْ جَمَعَهُما قَوْلُهُ (﴿فَلَمّا نَبَّأها بِهِ قالَتْ مَن أنْبَأكَ هَذا قالَ نَبَّأنِيَ العَلِيمُ الخَبِيرُ﴾) .
وقَدْ قِيلَ: السِّرُّ أمانَةٌ، أيْ وإفْشاؤُهُ خِيانَةٌ.
وفِي حَدِيثِ أُمِّ زَرْعٍ مِن آدابِهِمُ العَرَبِيَّةِ القَدِيمَةِ «قالَتِ الحادِيَةَ عَشْرَةَ: جارِيَةُ أبِي زَرْعٍ فَما جارِيَةُ أبِي زَرْعٍ لا تَبُثُّ حَدِيثَنا تَبْثِيثًا ولا تَنْفِثُ مِيرَثَنا تَنْفِيثًا» .
وكَلامُ الحُكَماءِ والشُّعَراءِ في السِّرِّ وحِفْظِهِ أكْثَرُ مِن أنْ يُحْصى. وهو المَعْنى الثّانِي مِنَ المَعانِي التَّهْذِيبِيَّةِ الَّتِي ذَكَرْناها.
ومَعْنى (﴿وأظْهَرَهُ اللَّهُ عَلَيْهِ﴾) أطْلَعَهُ عَلَيْهِ وهو مُشْتَقٌّ مِنَ الظُّهُورِ بِمَعْنى التَّغَلُّبِ.
اسْتُعِيرَ الإظْهارُ إلى الإطْلاعِ لِأنَّ إطْلاعَ اللَّهِ نَبِيئَهُ ﷺ عَلى السِّرِّ الَّذِي بَيْنَ حَفْصَةَ وعائِشَةَ كانَ غَلَبَةً لَهُ عَلَيْهِما فِيما دَبَّرَتاهُ فَشُبِّهَتِ الحالَةُ الخاصَّةُ مِن تَآمُرِ حَفْصَةَ وعائِشَةَ عَلى مَعْرِفَةِ سِرِّ النَّبِيءِ ﷺ ومِن عِلْمِهِ بِذَلِكَ بِحالِ مَن يُغالِبُ (p-٣٥٣)غَيْرَهُ فَيَغْلِبُهُ الغَيْرُ ويَكْشِفُ أمْرَهُ. فالإظْهارُ هُنا مِنَ الظُّهُورِ بِمَعْنى الِانْتِصارِ. ولَيْسَ هو مِنَ الظُّهُورِ ضِدَّ الخَفاءِ، لِأنَّهُ لا يَتَعَدّى بِحَرْفِ (عَلى) .
وضَمِيرُ (عَلَيْهِ) عائِدٌ عَلى الإنْباءِ المَأْخُوذِ مِن (نَبَّأتْ بِهِ) أوْ عَلى الحَدِيثِ بِتَقْدِيرِ مُضافٍ يَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ (نَبَّأتْ بِهِ) تَقْدِيرُهُ: أظْهَرَهُ اللَّهُ عَلى إفْشائِهِ.
وهَذا تَنْبِيهٌ إلى عِنايَةِ اللَّهِ بِرَسُولِهِ ﷺ وانْتِصارِهِ لَهُ لِأنَّ إطْلاعَهُ عَلى ما لا عِلْمَ لَهُ بِهِ مِمّا يُهِمُّهُ عِنايَةٌ ونُصْحٌ لَهُ.
وهَذا حاصِلُ المَعْنى الثّالِثِ مِنَ المَعانِي الَّتِي اشْتَمَلَتْ عَلَيْها الآياتُ وذَكَرْناها آنِفًا.
ومَفْعُولُ (عَرَّفَ) الأوَّلُ مَحْذُوفٌ لِدَلالَةِ الكَلامِ عَلَيْهِ، أيْ عَرَّفَها بَعْضَهُ، أيْ بَعْضَ ما أطْلَعَهُ اللَّهُ عَلَيْهِ، وأعْرَضَ عَنْ تَعْرِيفِها بِبَعْضِهِ. والحَدِيثُ يَحْتَوِي عَلى أشْياءَ: اخْتِلاءُ النَّبِيءِ بِسُرِّيَّتِهِ مارِيَةَ، وتَحْرِيمُها عَلى نَفْسِهِ، وتَناوُلُهُ العَسَلَ في بَيْتِ زَيْنَبَ، وتَحْرِيمُهُ العَوْدَةَ إلى مِثْلِ ذَلِكَ، ورُبَّما قَدْ تَخَلَّلَ ذَلِكَ كَلامٌ في وصْفِ عُثُورِ حَفْصَةِ عَلى ذَلِكَ بَغْتَةً، أوْ في التَّطاوُلِ بِأنَّها اسْتَطاعَتْ أنْ تُرِيحَهُنَّ مِن مَيْلِهِ إلى مارِيَةَ. وإنَّما عَرَّفَها النَّبِيءُ ﷺ بِذَلِكَ لِيُوقِفُها عَلى مُخالَفَتِها واجِبَ الأدَبِ مِن حَفْظِ سِرِّ زَوْجِها.
وهَذا هو المَعْنى الرّابِعُ مِنَ المَعانِي الَّتِي سَبَقَتْ إشارَتِي إلَيْها.
وإعْراضُ الرَّسُولِ ﷺ عَنْ تَعْرِيفِ زَوْجِهِ بِبَعْضِ الحَدِيثِ الَّذِي أفْشَتْهُ مِن كَرَمِ خُلُقِهِ ﷺ في مُعاتَبَةِ المُفْشِيَةِ وتَأْدِيبِها إذْ يَحْصُلُ المَقْصُودُ بِأنْ يُعْلِمَ بَعْضَ ما أفْشَتْهُ فَتُوقِنَ أنَّ اللَّهَ يَغارُ عَلَيْهِ.
قالَ سُفْيانُ: ما زالَ التَّغافُلُ مِن فِعْلِ الكِرامِ، وقالَ الحَسَنُ: ما اسْتَقْصى كَرِيمٌ قَطُّ، وما زادَ عَلى المَقْصُودِ بِقَلْبِ العِتابِ مِن عِتابٍ إلى تَقْرِيعٍ.
وهَذا المَعْنى الخامِسُ مِن مَقاصِدِ ذِكْرِ هَذا الحَدِيثِ كَما أشَرْنا إلَيْهِ آنِفًا.
وقَوْلُها (﴿مَن أنْبَأكَ هَذا﴾) يَدُلُّ عَلى ثِقَتِها بِأنَّ عائِشَةَ لا تُفْشِي سِرَّها وعَلِمَتْ أنَّهُ لا قِبَلَ لِلرَّسُولَ ﷺ بِعِلْمِ ذَلِكَ إلّا مِن قِبَلِ عائِشَةَ أوْ مِن طَرِيقِ الوَحْيِ فَرامَتِ التَّحَقُّقَ مِن أحَدِ الِاحْتِمالَيْنِ.
(p-٣٥٤)والِاسْتِفْهامُ حَقِيقِيٌّ ولَكَ أنْ تَجْعَلَهُ لِلتَّعْجِيبِ مِن عِلْمِهِ بِذَلِكَ.
وفِي هَذا كِفايَةٌ مِن تَيَقُّظِها بِأنَّ إفْشاءَها سِرَّ زَوْجِها زَلَّةٌ خُلُقِيَّةٌ عَظِيمَةٌ حَجَبَها عَنْ مُراعاتِها شِدَّةُ الصَّفاءِ لِعائِشَةَ وفَرْطُ إعْجابِها بِتَحْرِيمِ مارِيَةَ لِأجْلِها، فَلَمْ تَتَمالَكْ عَنْ أنْ تُبَشِّرَ بِهِ خَلِيلَتَها ونَصِيرَتَها ولَوْ تَذَكَّرَتْ لَتَبَيَّنَ لَها أنَّ مُقْتَضى كَتْمِ سِرِّ زَوْجِها أقْوى مِن مُقْتَضى إعْلامِها خَلِيلَتَها فَإنَّ أواصِرَ الزَّوْجِيَّةِ أقْوى مِن أواصِرَ الخُلَّةِ وواجِبُ الإخْلاصِ لِرَسُولِ اللَّهِ أعْلى مِن فَضِيلَةِ الإخْلاصِ لِلْخَلائِلَ.
وهَذا هو الأدَبُ السّادِسُ مِن مَعانِي الآدابِ الَّتِي اشْتَمَلَتْ عَلَيْها القِصَّةُ وأجْمَلْنا ذِكْرَها آنِفًا.
وإيثارُ وصْفَيِّ (﴿العَلِيمُ الخَبِيرُ﴾) هُنا دُونَ الِاسْمِ العَلَمِ لِما فِيهِما مِنَ التَّذْكِيرِ بِما يَجِبُ أنْ يَعْلَمَهُ النّاسُ مِن إحاطَةِ اللَّهِ تَعالى عِلْمًا وخَبَرًا بِكُلِّ شَيْءٍ.
والعَلِيمُ: القَوِيُّ العِلْمِ وهو في أسْمائِهِ تَعالى دالٌّ عَلى أكْمَلِ العِلْمِ، أيِ العِلْمِ المُحِيطِ بِكُلِّ مَعْلُومٍ.
والخَبِيرُ: أخَصُّ مِنَ العَلِيمِ لِأنَّهُ مُشْتَقٌّ مِن خَبِيرِ الشَّيْءِ إذا أحاطَ بِمَعانِيهِ ودَخائِلِهِ ولِذَلِكَ يُقالُ: خَبَرْتُهُ، أيْ بَلَوْتُهُ وتَطَلَّعْتُ بَواطِنَ أمْرِهِ، قالَ ابْنُ بُرُجّانَ بِضَمِّ المُوَحَّدَةِ وبِجِيمٍ مُشَدَّدَةٍ في شَرْحِ الأسْماءِ: الفَرْقُ بَيْنَ الخُبْرِ والعِلْمِ وسائِرِ الأشْياءِ الدّالَّةِ عَلى صِفَةِ العِلْمِ أنْ تَتَعَرَّفَ حُصُولَ الفائِدَةِ مِن وجْهٍ، وأضِفْ ذَلِكَ إلى تِلْكَ الصِّفَةِ وسَمِّ الفائِدَةَ بِذَلِكَ الوَجْهِ الَّذِي عَنْهُ حَصَلَتْ فَمَتى حَصَلَتْ مِن مَوْضِعِ الحُضُورِ سُمِّيَتْ مُشاهَدَةً والمُتَّصِفُ بِها هو الشّاهِدُ والشَّهِيدُ. وكَذَلِكَ إنْ حَصَلْتَ مِن وجْهِ سَمْعٍ أوْ بَصَرٍ فالمُتَّصِفُ بِها سَمِيعٌ وبَصِيرٌ. وكَذَلِكَ إنْ حَصَلَتْ مِن عِلْمٍ أوْ عَلامَةٍ فَهو العِلْمُ والمُتَّصِفُ بِهِ العالِمُ والعَلِيمُ، وإنْ حَصَلَتْ عَنِ اسْتِكْشافِ ظاهِرِ المَخْبُورِ عَنْ باطِنِهِ بِبَلْوى أوِ امْتِحانٍ أوْ تَجْرِبَةٍ أوْ تَبْلِيغٍ فَهو الخَبَرُ. والمُسَمّى بِهِ الخَبِيرُ اهـ. وقالَ الغَزالِيُّ في المَقْصِدِ الأسْنى: العِلْمُ إذا أُضِيفَ إلى الخَفايا الباطِنَةِ سُمِّيَ خِبْرَةً وسُمِّيَ صاحِبُها خَبِيرًا اهـ.
فَيَتَّضِحُ أنَّ اتِّباعَ وصْفِ (العَلِيمِ) بِوَصْفِ الخَبِيرِ إيماءٌ إلى أنَّ اللَّهَ عَلِمَ دَخِيلَةَ المُخاطَبَةِ وما قَصَدَتْهُ مِن إفْشاءِ السِّرِّ لِلْأُخْرى.
(p-٣٥٥)وقَدْ حَصَلَ مِن هَذا الجَوابِ تَعْلِيمُها بِأنَّ اللَّهَ يُطْلِعُ رَسُولَهُ ﷺ عَلى ما غابَ إنْ شاءَ قالَ تَعالى (﴿عالِمُ الغَيْبِ فَلا يُظْهِرُ عَلى غَيْبِهِ أحَدًا﴾ [الجن: ٢٦] ﴿إلّا مَنِ ارْتَضى مِن رَسُولٍ﴾ [الجن: ٢٧]) وتَنْبِيهًا عَلى ما أبْطَنَتْهُ مِنَ الأمْرِ.
وهُوَ الأدَبُ السّابِعُ مَعَ آدابِ هَذِهِ الآياتِ.
واعْلَمْ أنَّ نَبَّأ وأنْبَأ مُتَرادِفانِ وهُما بِمَعْنى أخْبَرَ وأنَّ حَقَّهُما التَّعْدِيَةُ إلى مَفْعُولٍ واحِدٍ لِأجْلِ ما فِيهِما مِن هَمْزَةِ تَعْدِيَةٍ أوْ تَضْعِيفٍ. وإنْ كانَ لَمْ يُسْمَعْ فِعْلٌ مُجَرَّدٌ لَهُما وهو مِمّا أُمِيتَ في كَلامِهِمُ اسْتِغْناءً بِفِعْلِ عَلِمَ. والأكْثَرُ أنْ يَتَعَدَّيا إلى ما زادَ عَلى المَفْعُولِ بِحَرْفِ جَرٍّ نَحْوَ: نَبَّأتُ بِهِ. وقَدْ يُحْذَفُ حَرْفُ الجَرِّ فَيُعَدَّيانِ إلى مَفْعُولَيْنِ، كَقَوْلِهِ هُنا (﴿مَن أنْبَأكَ هَذا﴾) أيْ بِهَذا، وقَوْلِ الفَرَزْدَقِ:
؎نُبِّئْتُ عَبْدَ اللَّهِ بِالجَوِّ أصْبَحَتْ كِرامًا مَوالِيها لِآمًا ما صَمِيمُها
حَمَلَهُ سِيبَوَيْهِ عَلى حَذْفِ الحَرْفِ.
وقَدْ يُضَمَّنانِ مَعْنى: اعْلَمْ، فَيُعَدَّيانِ إلى ثَلاثَةِ مَفاعِيلَ كَقَوْلِ النّابِغَةِ:
؎نَبِئْتُ زُرْعَةَ والسَّفاهَةُ كاسْمِها ∗∗∗ يُهْدِي إلَيَّ غَرائِبَ الأشْعارِ
ولِكَثْرَةِ هَذا الِاسْتِعْمالِ ظُنَّ أنَّهُ مَعْنًى لَهُما وأُغْفِلَ التَّضْمِينُ فَنُسِبَ إلْحاقُهُما بِ (اعْلَمْ) إلى سِيبَوَيْهِ والفارِسِيِّ والجُرْجانِيِّ وألْحَقَ الفَرّاءُ خَبَّرَ وأخْبَرَ، وألْحَقَ الكُوفِيُّونَ حَدَّثَ.
قالَ زَكَرِيّاءُ الأنْصارِيُّ: لَمْ تُسْمَعْ تَعْدِيَتُها إلى ثَلاثَةٍ في كَلامِ العَرَبِ إلّا إذا كانَتْ مَبْنِيَّةً إلى المَجْهُولِ.
وقَرَأ الجُمْهُورُ عَرَّفَ بِالتَّشْدِيدِ. وقَرَأهُ الكِسائِيُّ (عَرَفَ) بِتَخْفِيفِ الرّاءِ، أيْ عَلِمَ بَعْضَهُ وذَلِكَ كِنايَةٌ عَنِ المُجازاةِ، أيْ جازى عَنْ بَعْضِهِ الَّتِي أفْشَتْهُ بِاللَّوْمِ أوْ بِالطَّلاقِ عَلى رِوايَةِ أنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ طَلَّقَ حَفْصَةَ ولَمْ يَصِحَّ وقَدْ يُكَنّى عَنِ التَّوَعُّدِ بِفِعْلِ العِلْمِ ونَحْوِهِ كَقَوْلِهِ تَعالى (﴿أُولَئِكَ الَّذِينَ يَعْلَمُ اللَّهُ ما في قُلُوبِهِمْ﴾ [النساء: ٦٣]) . وقَوْلُ العَرَبِ لِلْمُسِيءِ: لَأعْرِفَنَّ لَكَ هَذا. وقَوْلُكَ: لَقَدْ عَرَفْتُ ما صَنَعْتَ.
{"ayah":"وَإِذۡ أَسَرَّ ٱلنَّبِیُّ إِلَىٰ بَعۡضِ أَزۡوَ ٰجِهِۦ حَدِیثࣰا فَلَمَّا نَبَّأَتۡ بِهِۦ وَأَظۡهَرَهُ ٱللَّهُ عَلَیۡهِ عَرَّفَ بَعۡضَهُۥ وَأَعۡرَضَ عَنۢ بَعۡضࣲۖ فَلَمَّا نَبَّأَهَا بِهِۦ قَالَتۡ مَنۡ أَنۢبَأَكَ هَـٰذَاۖ قَالَ نَبَّأَنِیَ ٱلۡعَلِیمُ ٱلۡخَبِیرُ"}
- أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.
أمّهات
جامع البيان
تفسير الطبري
نحو ٢٨ مجلدًا
تفسير القرآن العظيم
تفسير ابن كثير
نحو ١٩ مجلدًا
الجامع لأحكام القرآن
تفسير القرطبي
نحو ٢٤ مجلدًا
معالم التنزيل
تفسير البغوي
نحو ١١ مجلدًا
جمع الأقوال
منتقاة
عامّة
عامّة
فتح البيان
فتح البيان للقنوجي
نحو ١٢ مجلدًا
فتح القدير
فتح القدير للشوكاني
نحو ١١ مجلدًا
التسهيل لعلوم التنزيل
تفسير ابن جزي
نحو ٣ مجلدات
موسوعات
أخرى
لغة وبلاغة
معاصرة
الميسر
نحو مجلد
المختصر
المختصر في التفسير
نحو مجلد
تيسير الكريم الرحمن
تفسير السعدي
نحو ٤ مجلدات
أيسر التفاسير
نحو ٣ مجلدات
القرآن – تدبّر وعمل
القرآن – تدبر وعمل
نحو ٣ مجلدات
تفسير القرآن الكريم
تفسير ابن عثيمين
نحو ١٥ مجلدًا
مركَّزة العبارة
تفسير الجلالين
نحو مجلد
جامع البيان
جامع البيان للإيجي
نحو ٣ مجلدات
أنوار التنزيل
تفسير البيضاوي
نحو ٣ مجلدات
مدارك التنزيل
تفسير النسفي
نحو ٣ مجلدات
الوجيز
الوجيز للواحدي
نحو مجلد
تفسير القرآن العزيز
تفسير ابن أبي زمنين
نحو مجلدين
آثار
غريب ومعاني
السراج في بيان غريب القرآن
غريب القرآن للخضيري
نحو مجلد
الميسر في غريب القرآن الكريم
الميسر في الغريب
نحو مجلد
تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن قتيبة
نحو مجلد
التبيان في تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن الهائم
نحو مجلد
معاني القرآن وإعرابه
معاني الزجاج
نحو ٤ مجلدات
معاني القرآن
معاني القرآن للنحاس
نحو مجلدين
معاني القرآن
معاني القرآن للفراء
نحو مجلدين
مجاز القرآن
مجاز القرآن لمعمر بن المثنى
نحو مجلد
معاني القرآن
معاني القرآن للأخفش
نحو مجلد
أسباب النزول
إعراب ولغة
الإعراب الميسر
نحو ٣ مجلدات
إعراب القرآن
إعراب القرآن للدعاس
نحو ٤ مجلدات
الجدول في إعراب القرآن وصرفه وبيانه
الجدول في إعراب القرآن
نحو ٨ مجلدات
الدر المصون
الدر المصون للسمين الحلبي
نحو ١٠ مجلدات
اللباب
اللباب في علوم الكتاب
نحو ٢٤ مجلدًا
إعراب القرآن وبيانه
إعراب القرآن للدرويش
نحو ٩ مجلدات
المجتبى من مشكل إعراب القرآن
مجتبى مشكل إعراب القرآن
نحو مجلد
إعراب القرآن
إعراب القرآن للنحاس
نحو ٣ مجلدات
تحليل كلمات القرآن
نحو ٩ مجلدات
الإعراب المرسوم
نحو ٣ مجلدات
المجمّع
بالرسم الجديد
بالرسم القديم
حفص عن عاصم
شُعْبة عن عاصم
قالون عن نافع
ورش عن نافع
البَزِّي عن ابن كثير
قُنبُل عن ابن كثير
الدُّوري عن أبي عمرو
السُّوسِي عن أبي عمرو
نستعليق