الباحث القرآني

﴿ومَن يَتَوَكَّلْ عَلى اللَّهِ فَهْوَ حَسْبُهُ إنَّ اللَّهَ بالِغٌ أمْرَهُ﴾ . تَكْمِلَةٌ لِلَّتِي قَبْلَها فَإنَّ تَقْوى اللَّهِ سَبَبُ تَفْرِيجِ الكُرَبِ والخَلاصِ مِنَ المَضائِقِ، ومُلاحَظَةُ المُسْلِمِ ذَلِكَ ويَقِينُهُ بِأنَّ اللَّهَ يَدْفَعُ عَنْهُ ما يَخْطُرُ بِبالِهِ مِنَ الخَواطِرِ الشَّيْطانِيَّةِ الَّتِي تُثَبِّطُهُ عَنِ التَّقْوى ويُحَقِّقُ وعْدَ اللَّهِ إيّاهُ بِأنْ يَجْعَلَ لَهُ مَخْرَجًا ويَرْزُقَهُ مِن حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ. وحَسْبُ: وصَفٌ بِمَعْنى كافٍ. وأصْلُهُ اسْمُ مَصْدَرٍ أوْ مَصْدَرٌ. (p-٣١٣)وجُمْلَةُ (﴿إنَّ اللَّهَ بالِغُ أمْرِهِ﴾) في مَوْضِعِ العِلَّةِ لِجُمْلَةِ (﴿ومَن يَتَوَكَّلْ عَلى اللَّهِ فَهو حَسْبُهُ﴾)، أيْ لا تَسْتَبْعِدُوا وُقُوعَ ما وعَدَكُمُ اللَّهُ حِينَ تَرَوْنَ أسْبابَ ذَلِكَ مَفْقُودَةً فَإنَّ اللَّهَ إذا وعَدَ وعَدًا فَقَدْ أرادَهُ وإذا أرادَ اللَّهُ أمْرًا يَسَّرَ أسْبابَهُ. ولَعَلَّ قَوْلَهُ ﴿قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْرًا﴾ إشارَةٌ إلى هَذا المَعْنى، أيْ: عَلِمَ اللَّهُ أنْ يَكْفِيَ مَن يَتَوَكَّلُ عَلَيْهِ مُهِمَّةً فَقَدَّرَ لِذَلِكَ أسْبابَهُ كَما قَدَّرَ أسْبابَ الأشْياءِ كُلِّها فَلا تَشُكُّوا في إنْجازِ وعْدِهِ فَإنَّهُ إذا أرادَ أمْرًا يَسَّرَ أسْبابَهُ مِن حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ النّاسُ وتَصارِيفُ اللَّهِ تَعالى خَفِيَّةٌ عَجِيبَةٌ. ومَعْنى (﴿بالِغُ أمْرِهِ﴾): واصَلٌ إلى مُرادِهِ. والبُلُوغُ مُجازٌ مَشْهُورٌ في الحُصُولِ عَلى المُرادِ. والأمْرُ هُنا بِمَعْنى الشَّأْنِ. وعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ رافِعٍ لَمّا نَزَلَ قَوْلُهُ تَعالى ﴿ومَن يَتَوَكَّلْ عَلى اللَّهِ فَهو حَسْبُهُ﴾ قالَ أصْحابُ النَّبِيءِ ﷺ أيْ بَعْضَهم: فَنَحْنُ إذا تَوَكَّلْنا نُرْسِلُ ما كانَ لَنا ولا نَحْفَظُهُ فَنَزَلَتْ ( ﴿إنَّ اللَّهَ بالِغُ أمْرِهِ﴾، أيْ فِيكم وعَلَيْكم اهـ. وقَرَأ الجُمْهُورُ (بالِغٌ) بِالتَّنْوِينِ و(أمْرَهُ) بِالنَّصْبِ. وقَرَأهُ حَفْصٌ عَنْ عاصِمٍ (﴿بالِغُ أمْرِهِ﴾) بِإضافَةِ (بالِغُ) إلى (أمْرِهِ) . * * * ﴿قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْرًا﴾ . لِهَذِهِ الجُمْلَةِ مَوْقِعٌ تَتَجَلّى فِيهِ صُورَةٌ مِن صُوَرِ إعْجازِ القُرْآنِ في تَرْتِيبِ مَواقِعِ الجُمَلِ بَعْضِها بَعْدَ بَعْضٍ كَما نَبَّهْتُ عَلَيْهِ في مَواقِعَ سَلَفَتْ. فَهَذِهِ الجُمْلَةُ لَها مَوْقِعُ الِاسْتِئْنافِ البَيانِيِّ ناشِئِ عَمّا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ جُمَلُ (﴿ومَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا﴾ [الطلاق: ٢])، إلى قَوْلِهِ (﴿إنَّ اللَّهَ بالِغُ أمْرِهِ﴾) لِأنَّ اسْتِعْدادَ السّامِعِينَ لِلْيَقِينِ بِما تَضَمَّنَتْهُ تِلْكَ الجُمَلُ مُتَفاوِتٌ فَقَدْ يَسْتَبْعِدُ بَعْضُ السّامِعِينَ تَحَقَّقَ الوَعْدِ لِأمْثالِهِ بِما تَضَمَّنَتْهُ تِلْكَ الجُمَلُ بِعَرْضِها عَلى ارْتِباكِ أحْوالِهِ، أوْ يَتَرَدَّدُ يَقِينُهُ فَيَقُولُ: أيْنَ أنا مِن تَحْصِيلِ هَذا، حِينَ يُتْبِعُ نَظَرَهُ فَيَرى بَوْنًا عَنْ حُصُولِ المَوْعُودِ بِسَبَبِ انْعِدامِ وسائِلِهِ لَدَيْهِ فَيَتَمَلَّكُهُ اليَأْسُ. (p-٣١٤)فَهَذا الِاسْتِئْنافُ البَيانِيُّ وقَعَ عَقِبَ الوَعْدِ تَذْكِيرًا بِأنَّ اللَّهَ عَلِمَ مَواعِيدَهُ وهَيَّأ لَها مَقادِيرَ حُصُولِها لِأنَّهُ جَعَلَ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْرًا. ولَها مَوْقِعُ التَّعْلِيلِ لِجُمْلَةِ (﴿وأحْصُوا العِدَّةَ﴾ [الطلاق: ١]) فَإنَّ العِدَّةَ مِنَ الأشْياءِ فَلَمّا أمَرَ اللَّهُ بِإحْصاءِ أمْرِها عَلَّلَ ذَلِكَ بِأنَّ تَقْدِيرَ مُدَّةِ العِدَّةِ جَعَلَهُ اللَّهُ، فَلا يُسَوَّغُ التَّهاوُنَ فِيهِ. ولَها مَوْقِعُ التَّذْيِيلِ لِجُمْلَةِ ( ﴿وتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ ومَن يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ﴾ [الطلاق: ١]، أيِ الَّذِي وضَعَ تِلْكَ الحُدُودَ قَدْ جَعَلَ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْرًا لا يَعْدُوهُ كَما جَعَلَ الحُدُودَ. ولَها مَوْقِعُ التَّعْلِيلِ لِجُمْلَةِ (﴿فَإذا بَلَغْنَ أجَلَهُنَّ فَأمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أوْ فارِقُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ﴾ [الطلاق: ٢])، لِأنَّ المَعْنى إذا بَلَغْنَ القَدْرَ الَّذِي جَعَلَهُ اللَّهُ لِمُدَّةِ العِدَّةِ فَقَدْ حَصَلَ المَقْصِدُ الشَّرْعِيُّ الَّذِي أشارَ إلَيْهِ قَوْلُهُ تَعالى ﴿لا تَدْرِي لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذَلِكَ أمْرًا﴾ [الطلاق: ١] فالمَعْنى: فَإنَّ لَمْ يُحْدِثِ اللَّهُ أمْرَ المُراجَعَةِ فَقَدْ رَفُقَ بِكم وحَطَّ عَنْكُمُ امْتِدادَ العِدَّةِ. ولَها مَوْقِعُ التَّعْلِيلِ لِجُمْلَةِ (﴿وأقِيمُوا الشَّهادَةَ لِلَّهِ﴾ [الطلاق: ٢]) فَإنَّ اللَّهَ جَعَلَ الشَّهادَةَ قَدْرًا لِرَفْعِ النِّزاعِ. فَهَذِهِ الجُمْلَةُ جُزْءُ آيَةٍ وهي تَحْتَوِي عَلى حَقائِقَ مِنَ الحِكْمَةِ. ومَعْنى (﴿لِكُلِّ شَيْءٍ﴾) لِكُلِّ مَوْجُودٍ، أيْ لِكُلِّ حادِثٍ فالشَّيْءُ المَوْجُودُ سَواءً كانَ ذاتًا أوْ مَعْنًى مِنَ المَعانِي قالَ تَعالى ﴿وكُلُّ شَيْءٍ فَعَلُوهُ في الزُّبُرِ﴾ [القمر: ٥٢] . فَعُمُومُ قَوْلِهِ (﴿لِكُلِّ شَيْءٍ﴾) صَرِيحٌ في أنَّ ما وعَدَ اللَّهُ بِهِ يَجْعَلُ لَهُ حِينَ تَكْوِينِهِ قَدْرًا. قالَ الرّاغِبُ في مُفْرَداتِهِ: وذَلِكَ أنَّ فِعْلَ اللَّهِ ضَرْبانِ: ضَرْبٌ أوْجَدَهُ بِالفِعْلِ، ومَعْنى إيجادِهِ بِالفِعْلِ أنَّهُ أبْدَعَهُ كامِلًا دَفْعَةً لا تَعْتَرِيهِ الزِّيادَةُ والنُّقْصانُ إلى أنْ يَشاءَ أنْ يُغْنِيَهُ أوْ يُبَدِّلَهُ كالسَّماواتِ وما فِيها. ومِنها ما جَعَلَ أُصُولَهُ مَوْجُودَةً بِالفِعْلِ وأجْزاءَهُ بِالصَّلاحِيَّةِ وقَدَّرَهُ عَلى وجْهٍ لا يَتَأتّى مِنهُ غَيْرُ ما قَدَّرَهُ فِيهِ كَتَقْدِيرِهِ في النَّواةِ أنْ يَنْبُتَ مِنها النَّخْلُ دُونَ أنْ يَنْبُتَ مِنها تُفّاحٌ أوْ زَيْتُونٌ. وتَقْدِيرِهِ نُطْفَةَ الإنْسانِ لِأنْ يَكُونَ مِنها إنْسانٌ دُونَ حَيَوانٍ آخَرَ. فَتَقْدِيرُ اللَّهِ عَلى وجْهَيْنِ: أحَدُهُما بِالحُكْمِ (p-٣١٥)مِنهُ أنْ تَكُونَ كَذا أوْ لا يَكُونَ كَذا: إمّا عَلى سَبِيلِ الوُجُوبِ وإمّا عَلى سَبِيلِ الإمْكانِ. وعَلى ذَلِكَ قَوْلُهُ ﴿قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْرًا﴾ . والثّانِي بِإعْطاءِ القُدْرَةِ عَلَيْهِ، وعَلى ذَلِكَ قَوْلُهُ (﴿فَقَدَرْنا فَنِعْمَ القادِرُونَ﴾ [المرسلات: ٢٣]) أوْ يَكُونَ مِن قَبِيلِ قَوْلِهِ ﴿قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْرًا﴾ اهـ. والقَدْرُ: مُصْدَرُ (قَدَرَهُ) المُتَعَدِّي إلى مَفْعُولٍ بِتَخْفِيفِ الدّالِ الَّذِي مَعْناهُ وضَعَ فِيهِ بِمِقْدارٍ كِمِّيَّةً ذاتِيَّةً أوْ مَعْنَوِيَّةً تُجْعَلُ عَلى حَسَبِ ما يَتَحَمَّلُهُ المَفْعُولُ. فَقَدْرُ كُلِّ مَفْعُولٍ لِفِعْلٍ قَدْرُ ما تَتَحَمَّلُهُ طاقَتُهُ واسْتِطاعَتُهُ مِن أعْمالٍ، أوْ تَتَحَمَّلُهُ مِساحَتُهُ مِن أشْياءَ أوْ يَتَحَمَّلُهُ وعْيُهُ لِما يَكِدُّ بِهِ ذِهْنُهُ مِن مَدارِكَ وأفْهامٍ. ومِن فُرُوعِ هَذا المَعْنى ما في قَوْلِهِ تَعالى (﴿لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إلّا وُسْعَها﴾ [البقرة: ٢٨٦]) في سُورَةِ البَقَرَةِ. وقَوْلِهِ هُنا (﴿لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إلّا ما آتاها﴾ [الطلاق: ٧]) . ومِن جُزْئِيّاتِ مَعْنى القَدْرِ ما يُسَمّى التَّقْدِيرُ: مَصْدَرُ (قَدَّرَ) المُضاعَفِ إذا جَعَلَ شَيْئًا أوْ أشْياءَ عَلى مِقْدارٍ مُعَيَّنٍ مُناسِبٍ لِما جُعِلَ لِأجْلِهِ كَقَوْلِهِ تَعالى (﴿وقَدِّرْ في السَّرْدِ﴾ [سبإ: ١١]) في سُورَةِ سَبَأٍ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب