الباحث القرآني

﴿اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَماواتٍ ومِنَ الأرْضِ مِثْلَهُنَّ يَتَنَزَّلُ الأمْرُ بَيْنَهُنَّ لِتَعْلَمُوا أنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وأنَّ اللَّهَ قَدْ أحاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْمًا﴾ . (p-٣٣٩)اسْمُ الجَلالَةِ خَبَرُ مُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ، تَقْدِيرُهُ: هو اللَّهُ. وهَذا مِن حَذْفِ المُسْنَدِ إلَيْهِ لِمُتابَعَةِ الِاسْتِعْمالِ كَما سَمّاهُ السَّكّاكِيُّ، فَإنَّهُ بَعْدَ أنْ جَرى ذِكْرُ شُئُونٍ مِن عَظِيمِ شُئُونِ اللَّهِ تَعالى ابْتِداءً مِن قَوْلِهِ (﴿واتَّقُوا اللَّهَ رَبَّكُمْ﴾ [الطلاق: ١]) إلى هُنا، فَقَدْ تَكَرَّرَ اسْمُ الجَلالَةِ وضَمِيرُهُ والإسْنادُ إلَيْهِ زُهاءَ ثَلاثِينَ مَرَّةً فاقْتَضى المَقامُ عَقِبَ ذَلِكَ أنْ يُزادَ تَعْرِيفُ النّاسِ بِهَذا العَظِيمِ، ولَمّا صارَ البِساطُ مَلِيئًا بِذِكْرِ اسْمِهِ صَحَّ حَذْفُهُ عِنْدَ الإخْبارِ عَنْهُ إيجازًا وقَدْ تَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعالى (﴿رَبُّ السَّماواتِ والأرْضِ وما بَيْنَهُما﴾ [مريم: ٦٥]) في سُورَةِ مَرْيَمَ، وكَذَلِكَ عِنْدَ قَوْلِهِ (﴿صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ﴾ [البقرة: ١٨])، وقَوْلِهِ (﴿مَقامِ إبْراهِيمَ﴾ [البقرة: ١٢٥]) في سُورَةِ البَقَرَةِ. فالجُمْلَةُ عَلى هَذا الوَجْهِ مُسْتَأْنَفَةٌ اسْتِئْنافًا ابْتِدائِيًّا. والمَوْصُولُ صِفَةٌ لِاسْمِ الجَلالَةِ وقَدْ ذُكِرَتْ هَذِهِ الصِّلَةُ لِما فِيها مَن الدَّلالَةِ عَلى عَظِيمِ قُدْرَتِهِ تَعالى، وعَلى أنَّ النّاسَ وهم مِن جُمْلَةِ ما في الأرْضِ عَبِيدُهُ، فَعَلَيْهِمْ أنْ يَتَّقُوهُ، ولا يَتَعَدَّوْا حُدُودَهُ، ويُحاسِبُوا أنْفُسَهم عَلى مَدى طاعَتِهِمْ إيّاهُ فَإنَّهُ لا تَخْفى عَلَيْهِ خافِيَةٌ، وأنَّهُ قَدِيرٌ عَلى إيصالِ الخَيْرِ إلَيْهِمْ إنْ أطاعُوهُ وعِقابِهِمْ إنْ عَصَوْهُ. وفِيهِ تَنْوِيهٌ بِالقُرْآنِ لِأنَّهُ مِن جُمْلَةِ الأمْرِ الَّذِي يَتَنَزَّلُ بَيْنَ السَّماءِ والأرْضِ. والسَّبْعُ السَّماواتِ تَقَدَّمَ القَوْلُ فِيها غَيْرَ مَرَّةٍ، وهي سَبْعٌ مُنْفَصِلٌ بَعْضُها عَنِ الآخَرِ لِقَوْلِهِ تَعالى في سُورَةِ نُوحٍ (﴿ألَمْ تَرَوْا كَيْفَ خَلَقَ اللَّهُ سَبْعَ سَماواتٍ طِباقًا﴾ [نوح: ١٥]) . وقَوْلُهُ (﴿ومِنَ الأرْضِ مِثْلَهُنَّ﴾) عَطْفٌ عَلى (﴿سَبْعَ سَماواتٍ﴾) وهو يَحْتَمِلُ وجْهَيْنِ: أحَدُهُما أنْ يَكُونَ المَعْطُوفُ قَوْلَهُ (﴿مِنَ الأرْضِ﴾) عَلى أنْ يَكُونَ المَعْطُوفُ لَفْظَ الأرْضِ ويَكُونُ حَرْفُ (مِن) مَزِيدًا لِلتَّوْكِيدِ بِناءً عَلى قَوْلِ الكُوفِيِّينَ والأخْفَشِ أنَّهُ لا يُشْتَرَطُ لِزِيادَةِ (مِن) أنْ تَقَعَ في سِياقِ النَّفْيِ والنَّهْيِ والِاسْتِفْهامِ والشَّرْطِ وهو الأحَقُّ بِالقَبُولِ وإنْ لَمْ يَكُنْ كَثِيرًا في الكَلامِ، وعَدَمُ الكَثْرَةِ لا يُنافِي الفَصاحَةَ، والتَّقْدِيرُ: وخَلَقَ الأرْضَ، ويَكُونُ قَوْلُهُ (﴿مِثْلَهُنَّ﴾) حالًا مِن (﴿الأرْضِ﴾) . ومُماثَلَةُ الأرْضِ لِلسَّماواتِ في دَلالَةِ خَلْقِها عَلى عَظِيمِ قُدْرَةِ اللَّهِ تَعالى، أيْ أنَّ خَلْقَ الأرْضِ لَيْسَ أضْعَفَ دَلالَةً عَلى القُدْرَةِ مِن خَلْقِ السَّماواتِ لِأنَّ لِكُلٍّ مِنهُما خَصائِصَ دالَّةً عَلى عَظِيمِ القُدْرَةِ. (p-٣٤٠)وهَذا أظْهَرُ ما تُئَوَّلُ بِهِ الآيَةُ. وفِي إفْرادِ لَفْظِ (﴿الأرْضِ﴾) دُونَ أنْ يُؤْتى بِهِ جَمْعًا كَما أُتِيَ بِلَفْظِ السَّماواتِ إيذانٌ بِالِاخْتِلافِ بَيْنَ حالَيْهِما. الوَجْهُ الثّانِي: أنْ يَكُونَ المَعْطُوفُ (﴿مِثْلَهُنَّ﴾) ويَكُونُ قَوْلُهُ (﴿ومِنَ الأرْضِ﴾) بَيانًا لِلْمِثْلِ فَماصَدَقَ (﴿مِثْلَهُنَّ﴾) هو (﴿الأرْضِ﴾) . وتَكُونُ (مِن) بَيانِيَّةً وفِيهِ تَقْدِيمُ البَيانِ عَلى المُبَيَّنِ، وهو وارِدٌ غَيْرُ نادِرٍ. فَيَجُوزُ أنْ تَكُونَ مُماثِلَةً في الكُرَوِيَّةِ، أيْ مِثْلَ واحِدَةٍ مِنَ السَّماواتِ، أيْ مِثْلَ كَوْكَبٍ مِنَ الكَواكِبِ السَّبْعَةِ في كَوْنِها تَسِيرُ حَوْلَ الشَّمْسِ مِثْلَ الكَواكِبِ فَيَكُونُ ما في الآيَةِ مِنَ الإعْجازِ العِلْمِيِّ الَّذِي قَدَّمْنا ذِكْرَهُ في المُقَدِّمَةِ العاشِرَةِ. وجُمْهُورُ المُفَسِّرِينَ جَعَلُوا المُماثَلَةَ في عَدَدِ السَّبْعِ وقالُوا: إنِ الأرْضَ سَبْعُ طَبَقاتٍ فَمِنهم مَن قالَ هي سَبْعُ طَبَقاتٍ مُنْبَسِطَةٍ تَفْرُقُ بَيْنَها البِحارُ. وهَذا مَرْوِيٌّ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ مِن رِوايَةِ الكَلْبِيِّ عَنْ أبِي صالِحٍ عَنْهُ، ومِنهم مَن قالَ هي سَبْعُ طِباقٍ بَعْضُها فَوْقَ بَعْضٍ وهو قَوْلُ الجُمْهُورِ. وهَذا يَقْرُبُ مِن قَوْلِ عُلَماءِ طَبَقاتِ الأرْضِ (الجُيُولُوجْيا)، مِن إثْباتِ طَبَقاتٍ أرْضِيَّةٍ لَكِنَّها لا تَصِلُ إلى سَبْعِ طَبَقاتٍ. وفِي الكَشّافِ قِيلَ ما في القُرْآنِ آيَةٌ تَدُلُّ عَلى أنَّ الأرَضِينَ سَبْعٌ إلّا هَذِهِ اهـ. وقَدْ عَلِمْتَ أنَّها لا دَلالَةَ فِيها عَلى ذَلِكَ. وقالَ المازِرِيُّ في كِتابِهِ (المُعْلِمِ عَلى صَحِيحِ مُسْلِمٍ) عِنْدَ قَوْلِ النَّبِيءِ ﷺ في كِتابِ الشُّفْعَةِ: «مَنِ اقْتَطَعَ شِبْرًا مِنَ الأرْضِ ظُلْمًا طُوِّقَهُ مِن سَبْعِ أرَضِينَ يَوْمَ القِيامَةِ» ) . كانَ شَيْخُنا أبُو مُحَمَّدٍ عَبْدُ الحَمِيدِ كَتَبَ إلَيَّ بَعْدَ فِراقِي لَهُ: هَلْ وقَعَ في الشَّرْعِ عَمّا يَدُلُّ عَلى كَوْنِ الأرْضِ سَبْعًا، فَكَتَبْتُ إلَيْهِ قَوْلَ اللَّهِ تَعالى (﴿اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَماواتٍ ومِنَ الأرْضِ مِثْلَهُنَّ﴾) وذَكَرْتُ لَهُ هَذا الحَدِيثَ فَأعادَ كِتابَهُ إلَيَّ يَذْكُرُ فِيهِ أنَّ الآيَةَ مُحْتَمَلَةٌ هَلْ مِثْلَهُنَّ في الشَّكْلِ والهَيْئَةِ أوْ مِثْلَهُنَّ في العَدَدِ. وأنَّ الخَبَرَ مِن أخْبارِ الآحادِ، والقُرْآنُ إذا احْتُمِلَ والخَبَرُ إذا لَمْ يَتَواتَرْ لَمْ يَصِحَّ القَطْعُ بِذَلِكَ، والمَسْألَةُ لَيْسَتْ مِنَ العَمَلِيّاتِ فَيُتَمَسَّكُ فِيها بِالظَّواهِرِ وأخْبارِ الآحادِ، فَأعَدْتُ (p-٣٤١)إلَيْهِ المُجاوَبَةَ أحْتَجُّ لِبُعْدِ الِاحْتِمالِ عَنِ القُرْآنِ وبَسَطْتُ القَوْلَ في ذَلِكَ وتَرَدَّدْتُ في آخِرِ كِتابِي في احْتِمالِ ما قالَ. فَقَطَعَ المُجاوَبَةَ اهـ. وأنْتَ قَدْ تَبَيَّنْتَ أنَّ إفْرادَ الأرْضِ مُشْعِرٌ بِأنَّها أرْضٌ واحِدَةٌ وأنَّ المُماثَلَةَ في قَوْلِهِ (﴿مِثْلَهُنَّ﴾) راجِعَةٌ إلى المُماثَلَةِ في الخَلْقِ العَظِيمِ، وأمّا الحَدِيثُ فَإنَّهُ في شَأْنٍ مِن شُئُونِ الآخِرَةِ وهي مُخالَفَةٌ لِلْمُتَعارَفِ، فَيَجُوزُ أنْ يُطَوَّقَ الغاصِبُ بِالمِقْدارِ الَّذِي غَصَبَهُ مُضاعَفًا سَبْعَ مَرّاتٍ في الغِلَظِ والثِّقَلِ، عَلى أنَّ عَدَدَ السَّبْعِ يَجُوزُ أنْ يُرادَ بِهِ المُبالَغَةُ في المُضاعَفَةِ. ولَوْ كانَ المُرادُ طَبَقاتٍ مَعْلُومَةً لَقالَ: طَوَّقَهُ مِنَ السَّبْعِ الأرَضِينَ بِصِيغَةِ التَّعْرِيفِ. وكَلامُ عَبْدِ الحَمِيدِ أدْخَلُ في التَّحْقِيقِ مِن كَلامِ المازِرِيِّ. وعَلى مُجاراةِ تَفْسِيرُ الجُمْهُورِ لِقَوْلِهِ (﴿ومِنَ الأرْضِ مِثْلَهُنَّ﴾) مِنَ المُماثَلَةِ في عَدَدِ السَّبْعِ، فَيَجُوزُ أنْ يُقالَ: إنَّ السَّبْعَ سَبْعُ قِطَعٍ واسِعَةٍ مِن سَطْحِ الأرْضِ يَفْصِلُ بَيْنَها البِحارُ نُسَمِّيها القارّاتِ ولَكِنْ لا نَعْنِي بِهَذِهِ التَّسْمِيَةِ المَعْنى الِاصْطِلاحِيَّ في كُتُبِ الجُغْرافِيا القَدِيمَةِ أوِ الحَدِيثَةِ بَلْ هي قارّاتٌ طَبِيعِيَّةٌ كانَ يَتَعَذَّرُ وصُولُ سُكّانِ بَعْضِها إلى بَعْضِها الآخَرِ في الأزْمانِ الَّتِي لَمْ يَكُنْ فِيها تَنَقُّلٌ بَحَرِيٌّ وفِيما بَعْدَها مِمّا كانَ رُكُوبُ البَحْرِ فِيها مَهُولًا. وهي أنَّ آسْيا مَعَ أُورُوبّا قارَّةٌ، وإفْرِيقِيا قارَّةٌ، وأُسْتُراليا قارَّةٌ، وأمِيرِيكا الشَّمالِيَّةُ قارَّةٌ، وأمِيرِيكا الجَنُوبِيَّةُ قارَّةٌ، وجِرُولَنْدَةُ في الشَّمالِ، والقارَّةُ القُطْبِيَّةُ الجَنُوبِيَّةُ. ولا التِفاتَ إلى الأجْزاءِ المُتَفَرِّقَةِ مِنَ الأرْضِ في البِحارِ، وتَكُونُ (مِن) تَبْعِيضِيَّةً لِأنَّ هَذِهِ القارّاتِ الِاصْطِلاحِيَّةَ أجْزاءٌ مِنَ الأرْضِ. وقَرَأ الجَمِيعُ (﴿مِثْلَهُنَّ﴾) بِالنَّصْبِ. وقَرَأهُ عاصِمٌ في غَيْرِ المُتَواتِرِ بِالرَّفْعِ عَلى أنَّهُ مُبْتَدَأٌ. ومَعْنى (﴿يَتَنَزَّلُ الأمْرُ بَيْنَهُنَّ﴾) أمْرُ اللَّهِ بِالتَّكْوِينِ أوْ بِالتَّكْلِيفِ يُبَلَّغُ إلى الَّذِينَ يَأْمُرُهُمُ اللَّهُ بِهِ مِنَ المَلائِكَةِ لِيُبَلِّغُوهُ. أوْ لِمَن يَأْمُرُهُمُ اللَّهُ مِنَ الرُّسُلِ لِيُبَلِّغُوهُ عَنْهُ، أوْ مِنَ النّاسِ لِيَعْلَمُوا بِما فِيهِ، كُلُّ ذَلِكَ يَقَعُ فِيما بَيْنَ السَّماءِ والأرْضِ. واللّامُ في قَوْلِهِ (﴿لِتَعْلَمُوا﴾) لامُ كَيْ وهي مُتَعَلِّقَةٌ بِ (خَلَقَ) . والمَعْنى: أنَّ مِمّا أرادَهُ اللَّهُ مِن خَلْقِهِ السَّماواتِ والأرْضَ، أنْ يَعْلَمَ النّاسُ قُدْرَةَ اللَّهِ عَلى كُلِّ شَيْءٍ وإحاطَةَ عِلْمِهِ بِكُلِّ شَيْءٍ. لِأنَّ خَلْقَ تِلْكَ المَخْلُوقاتِ العَظِيمَةِ (p-٣٤٢)وتَسْخِيرَها وتَدْبِيرَ نِظامِها في طُولِ الدَّهْرِ يَدُلُّ أفْكارَ المُتَأمِّلِينَ عَلى أنَّ مُبْدِعَها يَقْدِرُ عَلى أمْثالِها فَيَسْتَدَلُّوا بِذَلِكَ عَلى أنَّهُ قَدِيرٌ عَلى كُلِّ شَيْءٍ لِأنَّ دَلالَتَها عَلى إبْداعِ ما هو دُونَها ظاهِرَةٌ، ودَلالَتَها عَلى ما هو أعْظَمُ مِنها وإنْ كانَتْ غَيْرَ مُشاهَدَةٍ، فَقِياسُ الغائِبِ عَلى الشّاهِدِ يَدُلُّ عَلى أنَّ خالِقَ أمْثالِها قادِرٌ عَلى ما هو أعْظَمُ. وأيْضًا فَإنَّ تَدْبِيرَ تِلْكَ المَخْلُوقاتِ بِمِثْلِ ذَلِكَ الإتْقانِ المُشاهَدِ في نِظامِها، دَلِيلٌ عَلى سِعَةِ عِلْمِ مُبْدِعِها وإحاطَتِهِ بِدَقائِقِ ما هو دُونَها، وأنَّ مَن كانَ عِلْمُهُ بِتِلْكَ المَثابَةِ لا يُظَنُّ بِعِلْمِهِ إلّا الإحاطَةُ بِجَمِيعِ الأشْياءِ. فالعِلْمُ المُرادُ مِن قَوْلِهِ (﴿لِتَعْلَمُوا﴾) صادِقٌ عَلى عِلْمَيْنِ: عِلْمٌ يَقِينِيٌّ مُسْتَنِدٌ إلى أدِلَّةٍ يَقِينِيَّةٍ مُرَكَّبَةٍ مِنَ الدَّلالَةِ الحِسِّيَّةِ والعَقْلِيَّةِ، وعِلْمٌ ظَنِّيٌّ مُسْتَنِدٌ إلى الأدِلَّةِ الظَّنِّيَّةِ والقَرائِنِ. وكِلا العِلْمَيْنِ مُوَصِّلٌ إلى الِاسْتِدْلالِ في الِاسْتِدْلالِ الخَطابِيِّ (بِفَتْحِ الخاءِ) . * * * (p-٣٤٣)بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ سُورَةُ التَّحْرِيمِ سُورَةُ (( ﴿يا أيُّها النَّبِيءُ لِمَ تُحَرِّمُ ما أحَلَّ اللَّهُ لَكَ﴾ [التحريم: ١]) ) إلَخْ سُمِّيَتْ (سُورَةَ التَّحْرِيمِ) في كُتُبِ السُّنَّةِ وكُتُبِ التَّفْسِيرِ. ووَقَعَ في رِوايَةِ أبِي ذَرٍّ الهَرَوُيِّ لِصَحِيحِ البُخارِيِّ تَسْمِيَتُها باسْمِ (سُورَةِ اللِّمَ تُحَرِّمُ) بِتَشْدِيدِ اللّامِ، وفي الإتْقانِ وتُسَمّى (سُورَةَ اللِّمَ تُحَرِّمُ)، وفي تَفْسِيرِ الكَواشِيِّ أيْ بِهَمْزَةِ وصْلٍ وتَشْدِيدِ اللّامِ مَكْسُورَةً وبِفَتْحِ المِيمِ وضَمِّ التّاءِ مُحَقَّقَةً وتَشْدِيدِ الرّاءِ مَكْسُورَةً بَعْدَها مِيمٌ عَلى حِكايَةِ جُمْلَةِ (﴿لِمَ تُحَرِّمُ﴾ [التحريم: ١]) وجَعْلِها بِمَنزِلَةِ الِاسْمِ وإدْخالِ لامِ تَعْرِيفِ العَهْدِ عَلى ذَلِكَ اللَّفْظِ وإدْغامِ اللّامَيْنِ. وتُسَمّى (سُورَةَ النَّبِيءِ) ﷺ وقالَ الآلُوسِيُّ: إنَّ ابْنَ الزُّبَيْرِ سَمّاها (سُورَةَ النِّساءِ) . قُلْتُ ولَمْ أقِفْ عَلَيْهِ ولَمْ يَذْكُرْ صاحِبُ الإتْقانِ هَذَيْنِ في أسْمائِها. واتَّفَقَ أهْلُ العَدَدِ عَلى أنَّ عِدَّةَ آيِها اثْنَتا عَشْرَةَ. وهِيَ مَدَنِيَّةٌ. قالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: بِإجْماعِ أهْلِ العِلْمِ وتَبِعَهُ القُرْطُبِيُّ. وقالَ في الإتْقانِ عَنْ قَتادَةَ: إنَّ أوَّلَها إلى تَمامِ عَشْرِ آياتٍ وما بَعْدَها مَكِّيٌّ، كَما وقَعَتْ حِكايَةُ كَلامِهِ. ولَعَلَّهُ أرادَ إلى عَشْرِ آياتٍ، أيْ أنَّ الآيَةَ العاشِرَةَ مِنَ المَكِّيِّ إذْ مِنَ البَعِيدِ أنْ تَكُونَ الآيَةُ العاشِرَةُ مَدَنِيَّةً والحادِيَةَ عَشَرَ مَكِّيَّةً. وهِيَ مَعْدُودَةٌ الخامِسَةُ بَعْدَ المِائَةِ في عِدادِ نُزُولِ سُوَرِ القُرْآنِ نَزَلَتْ بَعْدَ سُورَةِ الحُجُراتِ وقَبْلَ سُورَةِ الجُمُعَةِ. (p-٣٤٤)ويَدُلُّ قَوْلُهُ (﴿قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكم تَحِلَّةَ أيْمانِكُمْ﴾ [التحريم: ٢]) أنَّها نَزَلَتْ بَعْدَ سُورَةِ المائِدَةِ كَما سَيَأْتِي. وسَبَبُ نُزُولِها حادِثَتانِ حَدَثَتا بَيْنَ أزْواجِ النَّبِيءِ ﷺ . إحْداهُما: ما ثَبَتَ في الصَّحِيحِ عَنْ عائِشَةَ أنَّ النَّبِيءَ ﷺ كانَ شَرِبَ عَسَلًا عِنْدَ إحْدى نِسائِهِ اخْتُلِفَ في أنَّها زَيْنَبُ بِنْتُ جَحْشٍ، أوْ حَفْصَةُ، أوْ أُمُّ سَلَمَةَ، أوْ سَوْدَةُ بِنْتُ زَمْعَةَ. والأصَحُّ أنَّها زَيْنَبُ. فَعَلِمَتْ بِذَلِكَ عائِشَةُ فَتَواطَأتْ هي وحَفْصَةُ عَلى أنَّ أيَّتَهُما دَخَلَ عَلَيْها تَقُولُ لَهُ (إنِّي أجِدُ مِنكَ رِيحَ مَغافِيرَ أكَلْتَ مَغافِيرَ) (والمَغافِيرُ صَمْغُ شَجَرِ العُرْفُطِ ولَهُ رائِحَةٌ مُخْتَمِرَةٌ) وكانَ النَّبِيءُ ﷺ يَكْرَهُ أنْ تُوجَدَ مِنهُ رائِحَةٌ وإنَّما تَواطَأتا عَلى ذَلِكَ غَيْرَةً مِنهُما أنْ يَحْتَبِسَ عِنْدَ زَيْنَبَ زَمانًا يَشْرَبُ فِيهِ عَسَلًا. فَدَخَلَ عَلى حَفْصَةَ فَقالَتْ لَهُ ذَلِكَ، فَقالَ: «بَلْ شَرِبَتُ عَسَلًا عِنْدَ فُلانَةٍ ولَنْ أعُودَ لَهُ»، أرادَ بِذَلِكَ اسْتِرْضاءَ حَفْصَةَ في هَذا الشَّأْنِ وأوْصاها أنْ لا تُخْبِرَ بِذَلِكَ عائِشَةَ لِأنَّهُ يَكْرَهُ غَضَبَها فَأخْبَرَتْ حَفْصَةُ عائِشَةَ فَنَزَلَتِ الآياتُ. هَذا أصَحُّ ما رُوِيَ في سَبَبِ نُزُولِ هَذِهِ الآياتِ. والتَّحْرِيمُ هو قَوْلُهُ: ولَنْ أعُودَ لَهُ، لِأنَّ النَّبِيءَ ﷺ لا يَقُولُ إلّا صِدْقًا وكانَتْ سَوْدَةُ تَقُولُ لَقَدْ حَرَمْناهُ. والثّانِيَةُ ما رَواهُ ابْنُ القاسِمِ في المُدَوَّنَةِ عَنْ مالِكٍ عَنْ زَيْدِ بْنِ أسْلَمَ قالَ: حَرَّمَ رَسُولُ اللَّهِ أُمَّ إبْراهِيمَ جارِيَتَهُ فَقالَ (واللَّهِ لا أطَؤُكِ) ثُمَّ قالَ: هي عَلَيَّ حَرامٌ فَأنْزَلَ اللَّهُ تَعالى (﴿يا أيُّها النَّبِيءُ لِمَ تُحَرِّمُ ما أحَلَّ اللَّهُ لَكَ تَبْتَغِي مَرْضاةَ أزْواجِكَ﴾ [التحريم: ١]) . وتَفْصِيلُ هَذا الخَبَرِ ما رَواهُ الدّارَقُطْنِيُّ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ عَنْ عُمَرَ قالَ: «دَخَلَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ بِأُمِّ ولَدِهِ مارِيَةَ في بَيْتِ حَفْصَةَ فَوَجَدَتْهُ حَفْصَةُ مَعَها، وكانَتْ حَفْصَةُ غابَتْ إلى بَيْتِ أبِيها. فَقالَتْ حَفْصَةُ: تُدْخِلُها بَيْتِي ما صَنَعْتَ بِي هَذا مِن بَيْنَ نِسائِكَ إلّا مِن هَوانِي عَلَيْكَ. فَقالَ لَها: لا تَذْكُرِي هَذا لِعائِشَةَ فَهي عَلَيَّ حَرامٌ إنْ قَرِبْتُها. قِيلَ: فَقالَتْ لَهُ حَفْصَةُ: كَيْفَ تَحْرُمُ عَلَيْكَ وهي جارِيَتُكَ فَحَلِفَ لَها أنْ لا يَقْرَبَها فَذَكَرَتْهُ حَفْصَةُ لِعائِشَةَ فَآلى أنْ لا يَدْخُلَ عَلى نِسائِهِ شَهْرًا (p-٣٤٥)فَأنْزَلَ اللَّهُ تَعالى (﴿يا أيُّها النَّبِيءُ لِمَ تُحَرِّمُ ما أحَلَّ اللَّهُ لَكَ﴾ [التحريم»: ١]) . وهو حَدِيثٌ ضَعِيفٌ. * * * أغْراضُ هَذِهِ السُّورَةِ ما تَضَمَّنُهُ سَبَبُ نُزُولِها أنَّ أحَدًا لا يُحَرِّمُ عَلى نَفْسِهِ ما أحَلَّ اللَّهُ لَهُ لِإرْضاءِ أحَدٍ إذْ لَيْسَ ذَلِكَ بِمَصْلَحَةٍ لَهُ ولا لِلَّذِي يَسْتَرْضِيهِ فَلا يَنْبَغِي أنْ يُجْعَلَ كالنَّذْرِ إذْ لا قُرْبَةَ فِيهِ وما هو بِطَلاقٍ لِأنَّ الَّتِي حَرَّمَها جارِيَةً لَيْسَتْ بِزَوْجَةٍ، فَإنَّما صَلاحُ كُلِّ جانِبٍ فِيما يَعُودُ بِنَفْعٍ عَلى نَفْسِهِ أوْ يَنْفَعُ بِهِ غَيْرَهُ نَفْعًا مُرْضِيًا عِنْدَ اللَّهِ. وتَنْبِيهُ نِساءِ النَّبِيءِ ﷺ إلى أنَّ غَيْرَةَ اللَّهِ عَلى نَبِيئِهِ أعْظَمُ مِن غَيْرَتِهِنَّ عَلَيْهِ وأسْمى مَقْصِدًا. وأنَّ اللَّهَ يُطْلِعُهُ عَلى ما يَخُصُّهُ مِنَ الحادِثاتِ. وأنَّ مَن حَلَفَ عَلى يَمِينٍ فَرَأى حِنْثَها خَيْرًا مِن بِرِّها أنْ يُكَفِّرَ عَنْها ويَفْعَلَ الَّذِي هو خَيْرٌ. وقَدْ ورَدَ التَّصْرِيحُ بِذَلِكَ في حَدِيثِ وفْدِ عَبْدِ القَيْسِ عَنْ رِوايَةِ أبِي مُوسى الأشْعَرِيِّ، وتَقَدَّمَ في سُورَةِ (بَراءَةٌ) . وتَعْلِيمُ الأزْواجِ أنْ لا يُكْثِرْنَ مِن مُضايَقَةِ أزْواجِهِنَّ فَإنَّها رُبَّما أدَّتْ إلى المَلالِ فالكَراهِيَةِ فالفِراقِ. ومَوْعِظَةُ النّاسِ بِتَرْبِيةِ بَعْضِ الأهْلِ بَعْضًا ووَعْظِ بَعْضِهِمْ بَعْضًا. وأُتْبِعَ ذَلِكَ بِوَصْفِ عَذابِ الآخِرَةِ ونَعِيمِها وما يُفْضِي إلى كِلَيْهِما مِن أعْمالِ النّاسِ صالِحاتِها وسَيِّئاتِها. وذُيِّلَ ذَلِكَ بِضَرْبِ مَثَلَيْنِ مِن صالِحاتِ النِّساءِ وضِدِّهِنَّ لِما في ذَلِكَ مِنَ العَظَمَةِ لِنِساءِ المُؤْمِنِينَ ولِأُمَّهاتِهِمْ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب