الباحث القرآني
﴿فاتَّقُوا اللَّهَ ما اسْتَطَعْتُمْ واسْمَعُوا وأطِيعُوا وأنْفِقُوا خَيْرًا لِأنْفُسِكم ومَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ المُفْلِحُونَ﴾ .
فاءٌ فَصِيحَةٌ وتَفْرِيعٌ عَلى ما تَقَدَّمَ، أيْ إذا عَلِمْتُمْ هَذا فاتَّقُوا اللَّهَ فِيما يَجِبُ مِنَ التَّقْوى في مُعامَلَةِ الأوْلادِ والأزْواجِ ومَصارِفَ في الأمْوالِ فَلا يَصُدُّكم حُبُّ ذَلِكَ والشُّغْلُ بِهِ عَنِ الواجِباتِ، ولا يُخْرِجُكُمُ الغَضَبُ ونَحْوُهُ عَنْ حَدِّ العَدْلِ المَأْمُورِ بِهِ، ولا حُبُّ المالِ عَنْ أداءِ حُقُوقِ الأمْوالِ وعَنْ طَلَبِها مِن وُجُوهِ الحَلالِ. فالأمْرُ بِالتَّقْوى شامِلٌ لِلتَّحْذِيرِ المُتَقَدِّمِ ولِلتَّرْغِيبِ في العَفْوِ كَما تَقَدَّمَ ولِما عَدا ذَلِكَ.
والخِطابُ لِلْمُؤْمِنِينَ.
وحَذْفُ مُتَعَلِّقِ (اتَّقُوا) لِقَصْدِ تَعْمِيمِ ما يَتَعَلَّقُ بِالتَّقْوى مِن جَمِيعِ الأحْوالِ المَذْكُورَةِ وغَيْرِها وبِذَلِكَ يَكُونُ هَذا الكَلامُ كالتَّذْيِيلِ لِأنَّ مَضْمُونَهُ أعَمُّ مِن مَضْمُونِ ما قَبْلَهُ.
ولَمّا كانَتِ التَّقْوى في شَأْنِ المَذْكُوراتِ وغَيْرِها قَدْ يَعْرِضُ لِصاحِبِها التَّقْصِيرُ في إقامَتِها حِرْصًا عَلى إرْضاءِ شَهْوَةِ النَّفْسِ في كَثِيرٍ مِن أحْوالِ تِلْكَ الأشْياءِ زِيدَ تَأْكِيدُ الأمْرِ بِالتَّقْوى بِقَوْلِهِ (﴿ما اسْتَطَعْتُمْ﴾) .
وما مَصْدَرِيَّةٌ ظَرْفِيَّةٌ، أيْ مُدَّةَ اسْتِطاعَتِكم لِيَعُمَّ الأزْمانَ كُلَّها ويَعُمَّ الأحْوالَ (p-٢٨٨)تَبَعًا لِعُمُومِ الأزْمانِ ويَعُمَّ الِاسْتِطاعاتِ، فَلا يَتَخَلَّوْا عَنِ التَّقْوى في شَيْءٍ مِنَ الأزْمانِ. وجُعِلَتِ الأزْمانُ ظَرْفًا لِلِاسْتِطاعَةِ لِئَلّا يُقَصِّرُوا بالتَّفْرِيطِ في شَيْءٍ يَسْتَطِيعُونَهُ فِيما أُمِرُوا بِالتَّقْوى في شَأْنِهِ ما لَمْ يَخْرُجْ عَنْ حَدِّ الِاسْتِطاعَةِ إلى حَدِّ المَشَقَّةِ قالَ تَعالى ﴿يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ اليُسْرَ ولا يُرِيدُ بِكُمُ العُسْرَ﴾ [البقرة: ١٨٥] .
فَلَيْسَ في قَوْلِهِ ﴿ما اسْتَطَعْتُمْ﴾ تَخْفِيفٌ ولا تَشْدِيدٌ ولَكِنَّهُ عَدْلٌ. وإنْصافٌ. فَفِيهِ ما عَلَيْهِمْ وفِيهِ ما لَهم.
رَوى البُخارِيُّ عَنْ جابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ قالَ: «بايَعْتُ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ عَلى السَّمْعِ والطّاعَةِ فَلَقَّنَنِي: فِيما اسْتَطَعْتُ»، وعَنِ ابْنِ عُمَرَ «كُنّا إذا بايَعْنا النَّبِيءَ ﷺ عَلى السَّمْعِ والطّاعَةِ يَقُولُ لَنا فِيما اسْتَطَعْتُ» .
وعَطْفُ (﴿واسْمَعُوا وأطِيعُوا﴾) عَلى اتَّقُوا اللَّهَ مِن عَطْفِ الخاصِّ عَلى العامِّ لِلِاهْتِمامِ بِهِ، ولِأنَّ التَّقْوى تَتَبادَرُ في تَرْكِ المَنهِيّاتِ فَإنَّها مُشْتَقَّةٌ مِن وقى. فَتَقْوى اللَّهِ أنْ يَقِيَ المَرْءُ نَفْسَهُ مِمّا نَهاهُ اللَّهُ عَنْهُ، ولَمّا كانَ تَرْكُ المَأْمُوراتِ فَيُئَوَّلُ إلى إتْيانِ المَنهِيّاتِ، لِأنَّ تَرْكَ الأمْرِ مَنهِيٌّ عَنْهُ إذِ الأمْرُ بِالشَّيْءِ نَهْيٌ عَنْ ضِدِّهِ. كانَ التَّصْرِيحُ بِهِ بِخُصُوصِهِ اهْتِمامًا بِكِلا الأمْرَيْنِ لِتَحْصُلَ حَقِيقَةُ التَّقْوى الشَّرْعِيَّةِ وهي اجْتِنابُ المَنهِيّاتِ وامْتِثالُ المَأْمُوراتِ.
والمُرادُ: اسْمَعُوا اللَّهَ، أيْ أطِيعُوا بِالسَّمْعِ لِلرَّسُولِ ﷺ وطاعَتِهِ.
والأمْرُ بِالسَّمْعِ أمْرٌ يَتَلَقّى الشَّرِيعَةَ والإقْبالَ عَلى سَماعِ مَواعِظِ النَّبِيءِ ﷺ وذَلِكَ وسِيلَةُ التَّقْوى قالَ تَعالى ﴿فَبَشِّرْ عِبادِي﴾ [الزمر: ١٧] ﴿الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ القَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أحْسَنَهُ﴾ [الزمر: ١٨] .
وعُطِفَ عَلَيْهِ (﴿وأطِيعُوا﴾ [التغابن: ١٢]): أيْ أطِيعُوا ما سَمِعْتُمْ مِن أمْرٍ ونَهْيٍ.
وعَطْفُ (﴿وأنْفِقُوا﴾) تَخْصِيصٌ بَعْدَ تَخْصِيصٍ فَإنَّ الإنْفاقَ مِمّا أمَرَ اللَّهُ بِهِ فَهو مِنَ المَأْمُوراتِ.
وصِيغَةُ الأمْرِ تَشْتَمِلُ واجِبَ الإنْفاقِ والمَندُوبَ فَفِيهِ التَّحْرِيضُ عَلى الإنْفاقِ بِمَرْتَبَتِيهِ وهَذا مِنَ الِاهْتِمامِ بِالنَّزاهَةِ مِن فِتْنَةِ المالِ الَّتِي ذُكِرَتْ في قَوْلِهِ ﴿إنَّما أمْوالُكم وأوْلادُكم فِتْنَةٌ﴾ [التغابن: ١٥] .
(p-٢٨٩)وانْتَصَبَ (﴿خَيْرًا﴾) عَلى الصِّفَةِ لِمَصْدَرٍ مَحْذُوفٍ دَلَّ عَلَيْهِ (أنْفِقُوا) . والتَّقْدِيرُ: إنْفاقًا خَيْرًا لِأنْفُسِكم. هَذا قَوْلُ الكِسائِيِّ والفَرّاءِ فَيَكُونُ خَيْرٌ اسْمَ تَفْضِيلٍ. وأصْلُهُ: أخْيَرُ، وهو مَحْذُوفُ الهَمْزَةِ لِكَثْرَةِ الِاسْتِعْمالِ، أيِ الإنْفاقُ خَيْرٌ لَكم مِنَ الإمْساكِ. وعَنْ سِيبَوَيْهِ أنَّهُ مَنصُوبٌ عَلى أنَّهُ مَفْعُولٌ بِهِ لِفِعْلٍ مُضْمَرٍ دَلَّ عَلَيْهِ (أنْفِقُوا) . والتَّقْدِيرُ: ائْتُوا خَيْرًا لِأنْفُسِكم.
وجُمْلَةُ (﴿ومَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ المُفْلِحُونَ﴾) تَذْيِيلٌ.
و(مَن) اسْمُ شَرْطٍ وهي مِن صِيَغِ العُمُومِ: أيْ كُلُّ مَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ، والعُمُومُ يَدُلُّ عَلى أنَّ (مَن) مُرادٌ بِها جِنْسٌ لا شَخْصٌ مُعِيَّنٌ ولا طائِفَةٌ، وهَذا حُبٌّ اقْتَضاهُ حِرْصُ أكْثَرِ النّاسِ عَلى حِفْظِ المالِ وادِّخارِهِ والإقْلالِ مِن نَفْعِ الغَيْرِ بِهِ وذَلِكَ الحِرْصُ يُسَمّى الشُّحُّ.
والمَعْنى: أنَّ الإنْفاقَ يَقِي صاحِبَهُ مِنَ الشُّحِّ المَنهِيِّ عَنْهُ فَإذا يُسِّرَ عَلى المَرْءِ الإنْفاقُ فِيما أمَرَ اللَّهُ بِهِ فَقَدْ وُقِيَ شُحَّ نَفْسِهِ وذَلِكَ مِنَ الفَلاحِ.
ولَمّا كانَ ذَلِكَ فَلاحًا عَظِيمًا جِيءَ في جانِبِهِ بِصِيغَةِ الحَصْرِ بِطَرِيقَةِ تَعْرِيفِ المُسْنَدِ، وهو قَصْرُ جِنْسِ المُفْلِحِينَ عَلى جِنْسِ الَّذِينَ وُقُوا شُحَّ أنْفُسِهِمْ، وهو قَصْرٌ ادِّعائِيٌّ لِلْمُبالَغَةِ في تَحَقُّقِ وصْفِ المُفْلِحِينَ الَّذِينَ وُقُوا شُحَّ أنْفُسِهِمْ نَزَلَ الآنَ فَلاحُ غَيْرِهِمْ بِمَنزِلَةِ العَدَمِ.
وإضافَةُ (﴿شُحَّ﴾) إلى النَّفْسِ لِلْإشارَةِ إلى أنَّ الشُّحَّ مِن طِباعِ النَّفْسِ فَإنَّ النُّفُوسَ شَحِيحَةٌ بِالأشْياءِ المُحَبَّبَةِ إلَيْها قالَ تَعالى ﴿وأُحْضِرَتِ الأنْفُسُ الشُّحَّ﴾ [النساء: ١٢٨] .
وفِي الحَدِيثِ لَمّا سُئِلَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ عَنْ أفْضَلِ الصَّدَقَةِ قالَ: «أنْ تَصَدَّقَ وأنْتَ صَحِيحٌ شَحِيحٌ تَخْشى الفَقْرَ وتَأْمُلُ الغِنى. وأنْ لا تَدَعَ حَتّى إذا بَلَغَتِ الحُلْقُومَ قُلْتَ لِفُلانٍ كَذا ولِفُلانٍ كَذا وقَدْ كانَ لِفُلانٍ» وتَقَدَّمَ نَظِيرُ ﴿ومَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ المُفْلِحُونَ﴾ [الحشر: ٩] في سُورَةِ الحَشْرِ.
{"ayah":"فَٱتَّقُوا۟ ٱللَّهَ مَا ٱسۡتَطَعۡتُمۡ وَٱسۡمَعُوا۟ وَأَطِیعُوا۟ وَأَنفِقُوا۟ خَیۡرࣰا لِّأَنفُسِكُمۡۗ وَمَن یُوقَ شُحَّ نَفۡسِهِۦ فَأُو۟لَـٰۤىِٕكَ هُمُ ٱلۡمُفۡلِحُونَ"}
- أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.
أمّهات
جامع البيان
تفسير الطبري
نحو ٢٨ مجلدًا
تفسير القرآن العظيم
تفسير ابن كثير
نحو ١٩ مجلدًا
الجامع لأحكام القرآن
تفسير القرطبي
نحو ٢٤ مجلدًا
معالم التنزيل
تفسير البغوي
نحو ١١ مجلدًا
جمع الأقوال
منتقاة
عامّة
عامّة
فتح البيان
فتح البيان للقنوجي
نحو ١٢ مجلدًا
فتح القدير
فتح القدير للشوكاني
نحو ١١ مجلدًا
التسهيل لعلوم التنزيل
تفسير ابن جزي
نحو ٣ مجلدات
موسوعات
أخرى
لغة وبلاغة
معاصرة
الميسر
نحو مجلد
المختصر
المختصر في التفسير
نحو مجلد
تيسير الكريم الرحمن
تفسير السعدي
نحو ٤ مجلدات
أيسر التفاسير
نحو ٣ مجلدات
القرآن – تدبّر وعمل
القرآن – تدبر وعمل
نحو ٣ مجلدات
تفسير القرآن الكريم
تفسير ابن عثيمين
نحو ١٥ مجلدًا
مركَّزة العبارة
تفسير الجلالين
نحو مجلد
جامع البيان
جامع البيان للإيجي
نحو ٣ مجلدات
أنوار التنزيل
تفسير البيضاوي
نحو ٣ مجلدات
مدارك التنزيل
تفسير النسفي
نحو ٣ مجلدات
الوجيز
الوجيز للواحدي
نحو مجلد
تفسير القرآن العزيز
تفسير ابن أبي زمنين
نحو مجلدين
آثار
غريب ومعاني
السراج في بيان غريب القرآن
غريب القرآن للخضيري
نحو مجلد
الميسر في غريب القرآن الكريم
الميسر في الغريب
نحو مجلد
تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن قتيبة
نحو مجلد
التبيان في تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن الهائم
نحو مجلد
معاني القرآن وإعرابه
معاني الزجاج
نحو ٤ مجلدات
معاني القرآن
معاني القرآن للنحاس
نحو مجلدين
معاني القرآن
معاني القرآن للفراء
نحو مجلدين
مجاز القرآن
مجاز القرآن لمعمر بن المثنى
نحو مجلد
معاني القرآن
معاني القرآن للأخفش
نحو مجلد
أسباب النزول
إعراب ولغة
الإعراب الميسر
نحو ٣ مجلدات
إعراب القرآن
إعراب القرآن للدعاس
نحو ٤ مجلدات
الجدول في إعراب القرآن وصرفه وبيانه
الجدول في إعراب القرآن
نحو ٨ مجلدات
الدر المصون
الدر المصون للسمين الحلبي
نحو ١٠ مجلدات
اللباب
اللباب في علوم الكتاب
نحو ٢٤ مجلدًا
إعراب القرآن وبيانه
إعراب القرآن للدرويش
نحو ٩ مجلدات
المجتبى من مشكل إعراب القرآن
مجتبى مشكل إعراب القرآن
نحو مجلد
إعراب القرآن
إعراب القرآن للنحاس
نحو ٣ مجلدات
تحليل كلمات القرآن
نحو ٩ مجلدات
الإعراب المرسوم
نحو ٣ مجلدات
المجمّع
بالرسم الجديد
بالرسم القديم
حفص عن عاصم
شُعْبة عن عاصم
قالون عن نافع
ورش عن نافع
البَزِّي عن ابن كثير
قُنبُل عن ابن كثير
الدُّوري عن أبي عمرو
السُّوسِي عن أبي عمرو
نستعليق











